الإهداءات |
|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
#1 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() ![]() كتـــاب: " المهنــــــدس " الشهيد يحيى عياش رمز الجهاد وقائد المقاومة في فلسطين تأليف : غسان دوعر صدر عن المركز الفلسطيني للاعلام. ------------------------------------------------------------------------- رسالة من يحيى عياش إلى الأجيال "على الكريم أن يختار الميتة التي يجب أن يلقى الله بها. فنهاية الإنسان لابد أن تأتي ما دام قدر الله قد نفذ". "مستحيل أن أغادر فلسطين، فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين إما نصر أو استشهاد. إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين". "بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين، غير أنني أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه". "لا تنزعجوا فلست وحدي مهندس التفجيرات، فهناك عدد كبير قد أصبح كذلك، وسيقضون مضاجع اليهود وأعوانهم بعون الله" "بالنسبة للمبلغ الذي أرسلتموه، فهل هو أجر لما أقوم به؟ إن أجري إلا على الله وأسأله أن يتقبل منا. وأهلي ليسوا بحاجة، وأسأل الله وحده أن يكفيهم وأن لا يجعلهم يحتاجون أحداً من خلقه. ولتعلموا بأن هدفي ليس مادياً ولو كان كذلك، لما اخترت هذا الطريق. فلا تهتموا بي كثيراً واهتموا بأسر الشهداء والمعتقلين، فهم أولى مني ومن أهلي". "لا شك بأن العائلة تعاني، ولكن هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى وهو القائل : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونعلم الصابرين ونبلوا خياركم) أسأل الله أن يكتبنا في الصابرين". "إنهم – أي السلطة – يحاولون بكل جدية اعتقالي أو قتلي فهم بالنسبة لي لا يختلفون عن اليهود سوى أننا لا نحاربهم، لأننا نعتبرهم من بني جلدتنا وهم يحاربوننا بالنيابة عن اليهود". "لسه الحبل على الجرار، والله، إن شاء الله، ما أخليهم يناموا الليل ولا يعرفوا الأرض من السماء". يحيى عياش فلسطين – كانون أول (ديسمبر) 1990م كلمات شهيد الأمة "يحيى عياش" ------------------------------------------------------------------------- فهرس الكتاب ،، - تقديم - مقدمة الفصل الأول: البيئة والرمز أولاً : القرية والعائلة ثانياً : مسيرة التاريخ ورحلة الحياة ثالثاً معالم وعبر الفصل الثاني :"مهندس في ورشة المقاومة" أولاً: الانطلاقة المباركة ثانياً : إنتشار الإبداع ثالثاً : قيادة القافلة رابعاً : تسديد حساب الحرم الإبراهيمي خامساً : جولات غزية سادساً : المعلم والتلاميذ الفصل الثالث: المطاردة المتبادلة أولاً : الآثار ثانياً : إجراءات الحرب المضادة الفصل الرابع: خالد بجهاده أولاً : جمعة الشهادة ثانياً : البيعة لأمير الجند ثالثاً : أصداء "إسرائيلية" - الهوامش. ------------------------------------------------------------------------- تقديم الكتاب لا يوجد جنس من المخلوقات تتفاوت أفراده، كما يتفاوت بنو الإنسان، الواحد منهم قد يحسب بمائة، وقد يعتبر بألف. وفي الحديث الصحيح: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة». وفي حديث آخر «ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان»(1). وقديما قال الشاعر: (والناس ألف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمر دهى) وقد قيل: فرد ذو همة يُحيي أمة. وقال الشاعر: (وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد!) وقال تعالى: (^إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين). وقال ابن مسعود في معاذ: إن معاذاً: «كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين». وإنما يتفاوت الناس ويتفاضلون بما يعيشون له من أهداف، فيصغرون أو يكبرون، ويعلون أو يهبطون حسب هذه الأهداف. فمن الناس من يعيش لشهوة بطنه أو فرجه، وقد قال حكيم: من كان همه بطنه وفرجه فنتيجته ما يخرج منهما! وقال تعالى: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم). وينشدون لأبي نواس قوله: (إنما الدنيا طعام وشراب ومنام) (فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام) ومن الناس من يعيش لهدف دنيوي، فوق شهوة البطن والفرج، ولكن لشهوة أخرى، شهوة الاستعلاء على الخلق، والوصول إلى النفوذ والجاه والتحكم في عباد الله، ليعز من يحب، ويذل من يكره. وهذه لا تخرج عن كونها شهوة من شهوات النفس، بل هي شر من الأولى ، وهذه هي آفة إبليس: الكبر والغرور، إذ أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين، وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. ومن الناس من جعل أكبر همه المال، أو الغنى، يريد أن يجمعه من حلال أو من حرام، لا يبالي في سبيله أن يدوس كل القيم، وأن يتعدى كل الحدود، يَذِل لمن فوقه، ويطغى على من دونه، لأن المال هو وسيلته لإشباع شهواته الظاهرة والباطنة، وأداته للحصول على المجد الزائف إن كان من هواته، وهيهات أن يسعده المال، بل هو أداة تعذيب له كما قال تعالى في شأن قوم: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) وقال سبحانه: (أيحسبون أن ما نمددهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون). ومن الناس من يعيش في الدنيا ميتاً أشبه بالحي، وغائباً أشبه بالحاضر، ومعدوماً أشبه بموجود، لم يعرف له هدفاً، ولم يحدد له غاية، يميل حيث تميل الريح، وتجري به الأمواج يميناً وشمالاً. ولا يعرف له براً يرسو عليه، ولا منزلاً يأوي له، غافلاً عن نفسه وما حوله، كالذين قال الله تعالى فيهم: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل أضل، أولئك هم الغافلون). ومن الناس صنف متميز ، لم يجعل الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، ولم تشغله نفسه ولا شهواته، ولا مصالحه الذاتية، بل هو يعيش لهدف كبير، ولرسالة عظيمة، نذر نفسه لها، ووهب حياته وجهوده وقدراته لتحقيقها، لا يضن عليها بنفس ولا نفيس، ولا يبخل عليها بغال ولا خسيس، هي شغل نهاره، وحلم ليله، فيها يفكر، وبها يهيم، وإليها يسعى، عليها يحرص، ومن أجلها يحب ويبغض، ويصل ويقطع، ويسالم ويحارب، وهو الذي قال الله تعالى في مثله: (^ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد). وقال سبحانه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ليجزي الله الصادقين بصدقهم). وأحسب أن من هؤلاء الذين باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه: المهندس الموهوب، المجاهد الشهيد يحيى عياش، الذي نذر نفسه ومواهبه ووقته وجهده، وكل ما يملك: لقضية كبيرة خطيرة، هي قضية المسلمين الأولى: قضية أرض النبوات التي بارك الله فيها للعالمين، أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. نذر ذلك، وهو في ريعان الشباب، ومقتبل العمر، في السن التي يلهو فيها اللاهون، ويعبث فيها العابثون، ولكن أخانا الحبيب يحيى كان أمامه مُثُل أخرى: مصعب بن عمير، أسامة بن زيد، وأمثالهما من شباب هذه الأمة. لقد سماه إخوانه (مهندس الأجيال) لأنه استغل مواهبه وخبراته في الهندسة والتخطيط للعمليات البطولية الاستشهادية، ضد بطش الكيان الصهيوني وجبروته، تلك العمليات التي أرقت على إسرائيل ليلها، وكدرت عليها نهارها، وجعلتها تبيت مفزَّعة، وتصحو قلقة خائفة، من أولئك الشباب الذين باعوا أرواحهم لله ولم يبالوا بما يصيبهم في سبيل الله (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم بها عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين). ولقد عرفت إسرائيل العقل المدبّر وراء هذه العمليات، فجندت كل القوى العسكرية والمادية والتآمرية للانتقام منه، حتى استطاعت أن تنال ما تريد منه، ونال هو ما أراد أيضاً، فقد كان يريد الشهادة، ويعرف أنها مصيره اليوم أو غداً. (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم). لقد كان يحيى من ذلك الصنف الذي وصفه الله تعالى بقوله: (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) وهو كان غيظاً لليهود في حياته، وكان وسيظل دمه نقمة عليهم بعد مماته. في هذا الكتاب، عن سيرة الشهيد يحيى عياش، وقصص بطولاته الفذة، نلمس أثر النشأة الصالحة، والهداية المبكرة، في صناعة يحيى الشاب المؤمن ومن ثم المجاهد الصلب، والمتطلع بإخلاص عز نظيره لإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، حتى أن المتابع لفصول بطولاته المتلاحقة يحس بوضوح أن يحيى بلغ من إيمانه بالله عز وجل، وتوكله عليه حدوداً أدرك معها، أن الله معه وهو إن شاء الله ناصره ومعزه. ونود أن نقول للصهاينة القتلة: أن يحيى لم يمت. إنه موجود في إخوان له، يسيرون على خطه، ويعملون لهدفه، كل منهم يحيى عياش إن شاء الله. إن المصنع الذي صنع البطل يحيى، ما زال يصنع الأبطال، وإن المعهد الذي خرجه ما برح يخرّج كرام الرجال. إنه الإسلام بعقيدته وشريعته وقيمه العليا، إنه الإسلام بقرآنه وسنته وسيرة رجاله الأطهار، الذين كلما غاب منهم كوكب طلع كوكب آخر أو أكثر. (إذا مات منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول!) رحم الله شهيدنا الحبيب يحيى، وتقبله في عباده المرضيين، ونصر الله إخوانه السائرين على دربه من بعده.... آمين.... |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#2 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() مقدمة
حين يُكتب تاريخ فلسطين -الشعب والقضية- بأيد منصفة وأمينة، ستدرك الأجيال المتعاقبة أن يحيى عياش أو (المهندس) كما عرف في حياته يحتل مكاناً بارزاً بعد أن سطر ملحمة تاريخية خالدة من أجل فلسطين ومات في سبيل الله وفلسطين فوق أرضية صلبة من الفهم العميق بطبيعة القضية الفلسطينية. فقد أدرك يحيى معادلة التعامل مع العدو منذ أن لمست يداه أول سيارة مفخخة أعدها لاستنهاض الشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته ومختلف تياراته نحو مقاومة شاملة للاحتلال الذي لا يفهم إلا لغة المقاومة ومفردات القوة، ولذلك أعلن زعماءه وقادته يأسهم واعترفوا قائلين: ماذا نفعل لشاب يريد الموت. «المهندس» هو عنوان الأسطورة الفلسطينية الحقيقية التي جددت الأمل وقتلت اليأس وأعادت الحياة إلى روح الجهاد والمقاومة في فلسطين بما كتبته من صفحات مشرقة في حكاية الصمود والجهاد البطولي في ظل أسوأ الظروف. وقصة المهندس معروفة، ومحفوظة بمداد الحب في قلوب معاصريه، واسمه تردد بشكل دائم في كل منتدى وبيت وعلى كل شفه ولسان من المغرب وحتى اليمن. وذكره مئات الملايين من العرب والمسلمين عندما أظلمت الدنيا واشتدت الأزمات، وفاضت على وجوههم مظاهر الألم والقهر والإحباط. لقد عرف يحيى عياش موطن ضعف عدوه، ومكمن قوة شعبه، فاستغل معرفته لإعادة جزء من التوازن المفقود للقوى بين شعبه الأعزل وعدوه المدجج بالأسلحة، عن طريق نقل الصراع من ساحة المادة الضيقة إلى ميدان المعنويات الأرحب. فأصبح الصراع بين عدو مكبل بالخوف من الموت وشعب يعشق التضحية في سبيل حريته. ولأن للبطولة طعم آخر في اللحظات الحاسمة فإن يحيى عياش يكاد يتفرد بين أبطال الشعب الفلسطيني، فقد جاء في ذروة الانهيار ليعلن أن الشعب الذي تحفر القبور لدفن قضيته ما زال مفعماً بالحياة، وأن مقولات اليأس الرسمية ليست أكثر من رماد يواري الجمر المتقد في صفوف الشعب. في عمره القصير صنع يحيى عياش الكثير، فقد أدرك منذ البداية أنه يسابق الزمن حين قرر العمل على نسف جدار الأمن الشاهق الذي أقامه الصهاينة مستغلين ترسانتهم العسكرية وخبراتهم المتراكمة في مواجهة شعب أعزل محاصر، فكان مبادراً حيث لا فائض من الوقت لدى شعب يحيا واحدة من أكثر مراحل تاريخه المعاصر حرجاً. وعاش لشعبه ومن أجله رحل، في وقت يتصارع المهزومون على فتات يظنون أنه مغانم حرب وضعت أوزارها. إن هذه الشخصية المتميزة في عطائها وقدرتها على المبادرة والتجديد تستحق أن نقف عندها وقفة متأملة، فاحصة نستطلع حياتها ومكامن العظمة في شخصيتها، ونقوم تجربتها الرائدة ونستخلص العبر من مسيرة عطائها الحافلة بالتضحيات في سبيل الرسالة التي آمنت بها ونذرت نفسها وحياتها لتحقيقها. ولئن جسد يحيى عياش، حالة الشاب القروي البسيط، الذي كان من الممكن أن يكون كغيره من الآلاف الذين يحملون الشهادة الجامعية مهندساً عادياً يعمل في إحدى الشركات أو الورش ويتقاضى راتباً مرتفعاً في إحدى الدول ويعيش في أفخم الشقق وأرقى الأحياء والمدن، إلا أن بطلنا تغاضى عن هذا كله وقفز فوق كل الحواجز وتمسك بإسلامه وقضيته. فكانت المقاومة والجهاد حبه الكبير الذي أعطاه عصارة أفكاره وعاطفته مجسداً في الوقت نفسه القدرة على الفعل الحقيقي من دون خطابة أو إعلام، فهو لم يظهر متحدثاً وراء الكاميرات ولا كاتباً عن إنجازاته وأعماله في صحف أو وسائل إعلام. ولم يكن يقلقه أبداً أن يعلن الآخرون عن أعمال قام بها، ولا حتى أن يختلفوا فيما بينهم حول هذه الأعمال ونسبتها، فقد تربى على يد والديه البسيطين، ونهل من منهل الإسلام، فنشأ بسيطاً ومتواضعاً تواضع المؤمنين بغير ادعاء، الذين يعطون بغير تفاخر. ولعله لاحظ أن الإعلان عن فعل العطاء يفقده الأثر، كما يفقد الجهر بالإحسان الثواب. واطمأنت نفس مهندسنا إلى ضرورة التمويه والاختفاء، إذ أن العدو المحتل يقف بالمرصاد، يجمع فتات المعلومات، محاولاً الوصول إلى من تحول بالنسبة إليه العدو رقم (1) باعتبار أنه «مخرب خطير وشبح مفزع». وهكذا عرف الناس من البيانات الإسرائيلية وتعليقات الصحف العبرية من هو يحيى عياش دون أن يتحدث هو أو يتكلم وإنما كان يجتهد في وضع الخطط الجديدة وإعداد التعليمات التي تناسب المرحلة في ورش صناعة الشهداء. فترسخت صوره في العقول والقلوب والأذهان كشخصية أسطورية وبطلاً قومياً نشر الموت في دروب الاحتلال وهزم الأسطورة المزيفة من جيش وأجهزة أمن في الدولة العبرية. لم يكن المهندس يبحث عن دور تاريخي بقدر ما كان الدور التاريخي يبحث عن قائد، ولم يكن يحيى نجومياً يبحث عن الشهرة والشعبية بقدر ما كانت الجماهير تائقة إلى بطل تلتف حوله يعيد للأيام بهجتها وللحياة طعمها وللإسلام انتصاراته وشموخه. ولأن نماذج القادة الأبطال الذين تنتجهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لا يركبون موج الصدفة ولا يتسلقون حبال العشوائية أو يركبون أحضان المستجدات، بل هم دائماً على موعد دقيق مع أقدارهم وعلى أهبة الاستعداد لأداء دورهم في حيز الوجود والفعل ثم الرحيل بشموخ مع إشراقة الشمس، كان ألم محبيه من مشرق الوطن العربي ومغربه فاجعاً حين أفاقت عيون الملايين ذات صباح على صورته وهي تتصدر مئات المطبوعات والدوريات على اختلاف لغاتها ولهجاتها ولكناتها معلنة أن المهندس الذي أثار غيظ الصهاينة وسكن ساحة الرعب الهستيري لدى الجمهور الإسرائيلي قد استشهد وترك شعبه فجأة. ولكنها ليست مفاجأة على الإطلاق أن ينضم المهندس إلى طابور أبطال المقاومة والقادة والشهداء، ويتبع بلا خوف ولا تردد أو انقطاع هتاف صلاح الدين الأيوبي وعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني. فالذي يعيش زهرة شبابه وحياته كلها مجاهداً تكون الشهادة نصب عينيه دائماً بل إنه اشتكى مراراً بأن هذه الأمنية التي كانت تراوده دائماً قد تأخرت. وحين جاءت، جاءت كجزء من العمل، بل كرمز لهذا الجهاد المشرف، تماماً مثل الرمز الذي حمله منذ أن أعد عمليته الأولى. وكل ما فعله المهندس الأسطورة أنه أكمل الرمز حتى النهاية، وأكمل حلقة الحياة التي بدأها منذ أن صرخ في أذن الدنيا ومسمع الحياة في السادس من آذار (مارس) عام 1966. أما إسرائيلياً، فإن الكيان الصهيوني لم يبد اهتماماً بمقاتل أو شخص يفوق الاهتمام الذي أبداه تجاه المهندس يحيى عياش. فقد جند الآلاف من العسكريين لملاحقته وجعله رئيس مصلحة المخابرات العامة (الشاباك) هدفه الأول منذ تعينه في منصبه وسخر كل طاقاته وتفكيره وجهود جهازه وعملائه. وأُرسلت الوحدات الخاصة في أثره ونُصبت كمائن له في كل مكان، في الجبال والكهوف والبيوت المهجورة ومخيمات اللاجئين، ولم تعد تقريباً قرية إلا وداهمتها وحدة مختارة من الجيش الإسرائيلي وفيما اقتفى العشرات من ضباط المخابرات وقوات المستعربين وجنود المظلات الذين يحملون صورة الشاب صاحب الكوفية الحمراء أثاره لأكثر من ثلاث سنوات، أضحى يحيى عياش الهاجس الأساس لاسحق رابين الذي أصبح يسأل عنه في كل اجتماع لمجلس الوزراء، وفي كل مرة يلتقي هيئة الأركان وقادة الشاباك. ولهذا، كان يحيى عياش محور العديد من الدراسات الإسرائيلية التي حاولت حل لغز الشاب الذي ينتقل دون كلل أو ملل يجند وينظم الشبان ويصنع الأبطال والشهداء منهكاً دولة وحكومة وأجهزة استخبارات تعد من أشد الأجهزة العالمية. ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن مشكلة سلطات الاحتلال مع المهندس، شكلت أعقد المشاكل الأمنية التي واجهتها المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية منذ قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين. فالرجل الأسطورة قد سن سنة غريبة عن بني صهيون تتمثل في العمليات الاستشهادية، والتي يستحيل مقاومتها حسبما قال رابين نفسه. فقد برع المهندس بتصنيع المتفجرات من أدوات ومواد متاحة، مما أوجد مشكلة كبيرة لدى أجهزة الاحتلال في تتبع مصادر الأسلحة، كما أن عياش ابتكر نموذج حقائب المتفجرات والقنابل البشرية (تفخيخ الاستشهاديين)، وهي مشكلة أعقد من السيارات المفخخة. وكأن المهندس أراد أن ينقل رسالة اعتبارية قبل أن يفوز بلذة النظر إلى وجه ربه الكريم وهي أن رجلاً واحداً -مخلصاً لهدفه ومعتقداته- وبعدة متاحة لكل من يشاء يستطيع أن يمرغ غطرسة الكيان الصهيوني في التراب ويرعب قياداته وجنوده ويجعلهم يحفظون صورته ويعلقونها في مكاتبهم ويحملونها في دورياتهم وينسجون حولها الأساطير الغريبة. وإذا ترجل المهندس واستراح من عناء الملاحقة، فإن الأسطورة لم تنته. وإنما ترسخت، فالمهندس الذي استشهد في انفجار دبرته أجهزة الإرهاب ورحل بعد سنوات من الحرب بكل المقاييس بينه وبين جيوش وأجهزة الاحتلال في كل مكان، خط لجميع المجاهدين في فلسطين درباً لن يزول. فقد أمضى يحيى عياش العام الأخير من حياته في تدريب وإعداد عشرات الخلفاء له، إذ يؤكد المقربون له بأن المهندس الذي كان يتوقع الموت مع كل طرفة عين كان دائماً يردد: «بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين غير أني أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه». هذا الكتاب مجرد محاولة للإبقاء على يحيى الرمز بعد أن غاب يحيى الإنسان، وللحفاظ على جزء من الذاكرة الفلسطينية التي تتعرض لمحاولات طمس وتشويه استعداداً للدخول إلى عهد جديد تنقرض فيه البطولة ونماذج الفداء كما يريد أحبار هذا العصر وصناعه. |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#3 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() الفصل الأول
البيئة والرمز توطئة يعتمر القلب شرف عظيم ويشعر المرء في الوقت نفسه بالتضاؤل حين يهم باسترجاع صفحات من قصة عاشق الجهاد الذي اختار البندقية وجاهد بدون ادعاء وقدم دون أن يأخذ وعاش من أجل أن يعيش الوطن وتبقى القضية. ومع أن رحيل الشهيد القائد يحيى عياش نخر العظم وأدمى الفؤاد وأوجع الأمة التي حفظت اسمه كمعلم من معالم فلسطين وتاريخ ناطق يحكي عن عبقرية رجل كان على موعد مع الأقدار، فركل زخرف الدنيا بقدميه وأقسم على مواصلة الدرب حتى الشهادة، إلا أن عزاءنا أن المهندس لم يكن في حياته والتزامه مجرد شخص اختار طريق العزة، بل كان إلى جانب ذلك نموذجاً بارزاً لجيل فلسطيني كامل. ومن خلال تمثيله لهذا الجيل، ومن خلال تعبيره عنه، اكتسب قيمته كمجاهد وقائد. والذين يعرفون يحيى عياش، يقولون بأنه ينتمي إلى طبقة أولئك الناس البسطاء الذين يشكلون القاعدة العريضة لمجتمعنا. ولأنه من هذه الطبقة، فقد تربى على الإيمان والصدق والوفاء والبساطة والتواضع، وعلى البر بالأهل والوطن. وجسد هذا الفتى القروي البسيط، تلك الشخصية المتميزة والرائدة التي تركت مهنة الهندسة وما تمثله من إغراءات وحوافز دنيوية وكرست نفسها وحياتها وحياة عائلتها لصناعة المجد في ربوع الوطن ونثر عطر الشهادة وسط عتمة الليل. وظل شهيدنا حتى آخر نبض في عروقه مخلصاً لعقيدته، ممتطياً صهوة جواده في ميادين الجهاد والمقاومة، لا يكل ولا يمل ولا توقفه أكذوبة (الأمر الواقع) أو (الظروف)، يتقدم جماهير الشرفاء في دك حصون الأعداء ويلقن جنودهم وقطعان مستوطنيهم طعم الرعب والموت. وهو بذلك يستحق أن نقف عنده وقفة متأملة، فاحصة، نستطلع حياته والبيئة التي عاش فيها والتربية التي تلقاها، محاولين استخلاص العبر ومكامن العظمة في مسيرة عطائه الحافلة بالعمل والجهد الخلاق. واليوم، وقد غادرنا المهندس مبحراً بعيداً عن شواطىء الحياة، راحلاً إلى الفردوس الأعلى وجنات النعيم بعد أن قضى عمره بأفضل ما تقضى به الأعمار، وأضيف اسمه إلى لائحة أبطال هذه الأمة وغدا رمزاً يقتدي به الفتيان ويتربى على سيرته الأطفال وتردد الصبايا اسمه في أناشيدهن وأغانيهن. فإن افتقار الذاكرة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية إلى مثل هذه الشخصية، يدفعنا إلى اختراق الجدار الذي أقامه الشهيد حول حياة الشموخ والعزة التي عاشها ومسيرة التاريخ منذ أن تفتح الفجر في عينيه. فقد كان -رحمه الله- كما سنرى مدرسة كاملة في الخلق والتضحية والجهاد والإيثار الذي يسمو بصاحبه فوق الأغراض والأشخاص والمآرب الذاتية الضيقة. |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#4 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() أولاً: القرية والعائلة
1- رافات تدخل التاريخ تقع قرية رافات، على قمة هضبة مرتفعة ضمن سفح عرق الجبال التي تشكل رأس المثلث بالنسبة لمدن نابلس ورام الله وقلقيلية. وعلى الرغم أنها تبعد عن مدينة طولكرم (27) كيلومتراً، إلا أنها تتبع من الناحية الإدارية لواء سلفيت في محافظة نابلس، لأن مدينة نابلس التي تقع على مسافة (38) كيلومتراً شمال شرق القرية ذات نشاط تجاري أوسع وأكبر من مدينة طولكرم إلى جانب توفر المواصلات والطرق إليها بشكل أفضل. وتحيط مجموعة من قرى العرقيات برافات، فالزاوية تقع إلى الشمال، ومسحة إلى الشمال الشرقي وتجاورها بديا وسرطه من الشرق، في حين تقع دير بلوط في الجنوب وبروقين وكفر الديك في الجنوب الشرقي. وتمتد الأراضي المحتلة منذ عام 1948 بانبساط واضح في الاتجاه الغربي حيث التجمعات الاستيطانية الواسعة مثل مستوطنات (عيليه زهاف) و(بدوئيل). واسم (رافات) مشتق من جذر (رفا) سامي مشترك يفيد اللين والتراخي والرفاه والشفاء، وبذلك يكون معناها مكان الراحة والاستسقاء(1). تبلغ مساحة أراضي رافات (8125) دونماً من بينها (24) دونماً مخصصة للبناء ودونمان للطرق والوديان، والباقي تعتبر أراضي زراعية يزرع فيها القمح والشعير والكرسنة والخضار. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو (634) دونماً من أراضي القرية مزروعة بأشجار الزيتون ونحو (200) دونماً أخرى مزروعة بأشجار الفواكه كالتين والعنب وغيرها. كما تحتوي أراضي القرية على أساسات مبان تاريخية وأرضيات مرصوفة بالفسيفساء والبلاط ومداخن منحوتة في الصخر وصهاريج تعود إلى العصور القديمة وبخاصة القرن السادس الهجري(2). الحياة في رافات لم تكن يوماً سهلة، فالقرية تفتقر إلى مصادر المياه الجارية والكهرباء والاتصالات، إذ تشرب رافات من مياه الأمطار وتعتمد معظم العائلات على بطاريات السيارات ومولدات الكهرباء المتنقلة لتشغيل الأجهزة الكهربائية. وحتى عام ،1967 لم يكن بالقرية مسجد، إذ أن المسجد القديم الذي بناه المماليك عام 672هـ هدمته القنابل خلال الحرب العالمية الأولى نظراً لوقوع القرية على خط التماس بين الجيش العثماني والجيوش البريطانية الغازية. وتعاني القرية من صعوبة وصول السيارات إليها بسبب تدهور وضع الشارع الرئيسي الذي تم تعبيده عام ،1985 كما أن عدم وجود شبكة للهاتف تربط القرية بالعالم الخارجي زاد من معاناة أهل القرية(3). وفي ضوء هذه الأوضاع، لا غرابة أن تتأخر مسيرة التعليم في القرية، إذ لم يكن في رافات سوى خمسة رجال يلمون بالقراءة والكتابة حتى العام 1948. وهو العام الذي تم فيه تأسيس مدرستان، واحدة للبنين، أعلى صفوفها الخامس الابتدائي، وثانية للبنات ضمت الصفين الأول والثاني الابتدائي فقط(4). أما بالنسبة لعدد سكان رافات، فإنه لا تتوفر إحصاءات دقيقة حول هذا الموضوع. إذ تشير الوثائق القديمة بأن (92) نفساً كانوا يسكنون القرية عام ،1922 ما لبث عددهم أن ارتفع في عام 1931 إلى (127) يسكنون (31) بيتاً. وفي نيسان1945 قدرت المصادر البريطانية عدد سكان رافات بنحو (180) شخصاً. وفي التعداد العام للسكان الذي أجرته المملكة الأردنية الهاشمية في الضفة الغربية بتشرين ثاني/ نوفمبر 1961 كان عدد سكان القرية (375) شخصاً، بينهم 167 من الذكور و 208 من الإناث(5). ومنذ الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية لم يجر أي تعداد للسكان، وإن كانت معظم المصادر الصحفية تقدر عدد سكان رافات اليوم بين 1500 و 1700 نسمة معظمهم من الفتيان والشباب. ويعتمد هؤلاء في معيشتهم على الزراعة والعمل في ورش البناء في فلسطين المحتلة منذ عام 1948. ظلت رافات قرية مغمورة حتى خلال سنوات الانتفاضة، إذ لم تذكرها وسائل الإعلام سوى مرة واحدة فقط حين اقتحمت قوات الاحتلال مسجد القرية بسبب نشاطات الشباب المسلم في مواجهة الدوريات العسكرية، غير أنها أضحت محط أنظار وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية والعالمية. فمنذ عام ،1992 تعرضت قرية رافات وسكانها للحصار والمراقبة والتفتيش والاقتحام المستمر فيما انتشر جنود المستعربين والوحدات الخاصة على مداخل قرى الزاوية ودير بلوط المؤديتين لرافات بالإضافة إلى إقامة حواجز عسكرية دائمة في محيط القرية. وذلك بسبب شاب واحد من أهل القرية طاردته سلطات الاحتلال وأصبح فيما بعد المطلوب رقم (1) للدولة العبرية التي نشطت كل أجهزتها للكشف عن مكانه ومحاولة إلقاء القبض عليه. 2- عائلة عياش ينحدر يحيى عياش من عائلة عرفت بتدينها وبساطة أفرادها وماضيها الجهادي. فآل عياش، شاركوا في الانتفاضات والثورات الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني منذ وعد بلفور وحتى الثورة العربية الكبرى عام 1936(6). عبد اللطيف ساطي محمود عياش، والد الشهيد، ظل ملتصقاً بأرض الآباء والأجداد يعمل في الزراعة تارة وفي أعمال نقش الحجارة تارة أخرى. وفي عام ،1955 تطوع عبد اللطيف في الجيش العربي الأردني حيث خدم كجندي بسلاح المشاة في عدة مواقع عسكرية، وعلى وجه التحديد تلك المواجهة لبلدة كفر قاسم على خط الهدنة بين الكيان الصهيوني والضفة الغربية. وحين ترك الجيش عام ،1963 عاد عبد اللطيف إلى مهنة الزراعة ونقش الحجارة في قريته وتزوج من قريبته عائشة عياش(7). بنى عبد اللطيف وعائشة بيتهما المتواضع، وكونا عائلة صغيرة ضمت بالإضافة إليهما ثلاثة أبناء: يحيى الذي ولد في عام ،1966 ومرعي الذي ولد عام ،1969 وأخيراً يونس الذي ولد في عام 1975. |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#5 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() ثانياً: مسيرة التاريخ ورحلة الحياة
1- أيام الصبا والطفولة في يوم الأحد الموافق 6 آذار (مارس) من عام ،1966 زفت القابلة البشرى للشيخ عبد اللطيف ساطي محمود عياش بولادة ابنه البكر الذي أسماه يحيى تيمناً بنبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام. وتقول والدته: «كانت ولادته سهلة رغم أنه كان المولود البكر، إذ لم يكن هناك أي تعسر أو ألم أثناء ولادته لأنه ولد صغير الحجم. فقد كان وزنه عند ولادته كيلو غراماً ونصف فقط. وكل من رآه أثناء ولادته لم يكن يتصور بأن هذا الطفل سيعيش ويكبر ويصبح رجلاً»(8). وبين أزقة رافات، وفي كنف بيت متدين، عاش يحيى طفولة هادئة. ويؤكد شبان رافات وشيوخها اليوم أن يحيى كان مثالاً للطفل المؤدب الهادىء، حتى أن أحد أعمامه يقول «كان هادئاً أكثر من اللزوم، ولا يحب الاختلاط كثيراً بغيره من أطفال الحي، حتى أنني كنت أعده انطوائياً بعض الشيء»(9). وتضيف والدته: «كان يحيى طفلاً هادئاً جداً وخجولاً، ولم يكن يبكي كالأطفال الذين في مثل سنه، وهو في الرابعة من عمره ذهب مع الرجال يوم الجمعة إلى المسجد يصلي معهم ومن يومها بدأ يرتاد المسجد، وهو في هذه السن المبكرة، حفظ يحيى الكثير من سور القرآن القصيرة والآيات القرآنية التي كان يستمع إليها من المقرىء في المسجد»(10). ويتابع والده الحديث: «كان يحيى طفلاً صغيراً لم يتجاوز أربعة أعوام حين توجه إلي مراراً طالباً مني السماح له بمصاحبتي إلى المسجد لأداء الصلاة.. كان يلح بالطلب ويشدني من ملابسي لكي آخذه معي. ونظراً لإلحاحه، ورغبة مني في تلبية طلبه، وهو الابن البكر، فقد بدأت باصطحابه إلى المسجد القديم في القرية، وهو قريب من بيتنا. وكثيراً ما دهش الحضور وأبدوا استغرابهم من الطفل الصغير. وكانوا يقولون لي هذا صبي صغير، ولا يتقن الوضوء فكيف يتقن فرائض الصلاة وسننها؟»(11). ويؤكد أحد المصلين في مسجد القرية الصغير ما ذكره والدا يحيى فيقول: «يحيى كان من الشباب الذين داوموا على صلاة المسجد، وكان يحب أن يصلي في الصف الأول. وأذكره عندما كان يجلس في الجهة الغربية للمسجد ليقرأ القرآن»(12). كبر الطفل يحيى، ودخل المدرسة الابتدائية في قريته عند بلوغه السادسة من عمره، وبرز يحيى بذكائه الذي لفت إليه أنظار معلميه، إذ أنه لم يكن يكتفي بحفظ الدروس المقررة للصف الأول، بل كان يحفظ دروس الصف الثاني أيضاً. فقد كانت الصفوف في مدرسة القرية مجمعة بحيث تكون كل مرحلتين دراسيتين في غرفة واحدة نظراً لمحدودية عدد الغرف الدراسية في المدرسة. وعليه، التقطت إذنا يحيى المعلومات والدروس التي كان المعلم يشرحها للصف الثاني حتى أنه حفظ دروس القراءة في كتاب الصف الثاني من قراءة التلاميذ أمامه في الحصص. ويتحدث الشيخ عبد اللطيف عن ذكاء يحيى فيقول: «أيام المدرسة كان معروفاً بتفوقه في دراسته وخصوصاً في مادة الرياضيات لدرجة أنه كان متقدماً على صفه سنة وأحياناً سنتين في مادة الرياضيات»(13). ورافق التفوق يحيى منذ الصف الأول وحتى إنهائه المرحلة الثانوية وحصوله على شهادة (التوجيهي)، فقد نال المرتبة الأولى دائماً خلال دراسته لاثنتي عشرة سنة في رافات والزاوية وبديا. وكان يحيى قد انتقل إلى مدرسة الزاوية الإعدادية بعد إنهائه الصف السادس الابتدائي في مدرسة رافات نظراً لكون مدرسة قريته لا تستوعب أكثر من هذه المرحلة. ودرس يحيى المرحلة الإعدادية والأول ثانوي في مدرسة الزاوية، ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية بديا حيث درس الثاني والثالث ثانوي (الفرع العلمي) في مدرسة بديا الثانوية، وحصل على شهادة الدراسة الثانوية بمعدل (92.8%)(14). وهنا نتوقف عند قصة نادرة حدثت مع يحيى أثناء دراسته في مدرسة رافات، إذ تقول والدته: «كان يحيى في الصف الثاني الابتدائي، وكان الصف الأول الابتدائي يدرس في نفس الغرفة. وحدث أن تجمع طلاب الصفين مرة داخل الغرفة وتدافعوا من غير قصد، فوقع أحد التلاميذ على زاوية الدرج وجرح رأسه. وعندما جاءت المعلمة وسألت: من فعل ذلك؟ فقال أحد التلاميذ رأساً: إنه يحيى. فقامت المعلمة بضرب يحيى وتأنيبه، فعاد إلى البيت متأثراً لأنه ضرب دون أن يقترف أي ذنب. وفي صباح اليوم التالي طرق الباب، وعندما نهضت وفتحت الباب كانت المعلمة أمامي، فاستقبلتها مرحبة. وعندما دخلت أخذت تعتذر وتبدي أسفها الشديد، وهي خجلة لأنها ضربت يحيى بدون سبب. فقد اكتشفت بعد نهاية اليوم الدراسي، عندما حققت مع الطلاب أن يحيى كان مظلوماً، وأنه لم يكن له أي ضلع فيما حدث حتى أنه كان بعيداً عن التجمع الطلابي.. كانت المعلمة قد جاءت إلى بيتنا قبل توجهها إلى المدرسة كي تعتذر ليحيى، وكانت تشعر بالخجل والأسف الشديدين، وتأنيب الضمير. ولكن يحيى طلب منها ألا تعتذر، لأن الأمر لا يستحق وليس هناك أي مشكلة، وأنه ليس غاضباً. ثم ترك البيت متوجهاً إلى المدرسة»(15). ويروي الشيخ عبد اللطيف قصة أخرى تعبر عن جانب آخر من أخلاق يحيى الصغير فيقول: «كتب معلم الرياضيات بالصف الأول الثانوي في مدرسة الزاوية الإعدادية مسألة على السبورة، وقال للتلاميذ: من يستطيع أن يحل هذه المسألة؟ فلم يجبه أحد، وجلس طلاب الصف عاجزين عن حل المسألة… جن جنون المعلم من ضعف التلاميذ في هذا الصف، فذهب يشتكي إلى مدير المدرسة. وبالصدفة، كان هناك المعلم الذي يدرس الصف الأول الإعدادي الذي كان فيه يحيى، فقال: أنا مستعد أن أحضر لكما طالباً من الصف الأول الإعدادي ليحل المسألة. وفعلاً، ذهب وأحضر يحيى ثم توجه الجميع إلى الصف الأول الثانوي. وبالفعل، قام يحيى بحل المسألة وسط دهشة المدير والمعلمين والتلاميذ»(16). وعلى أثر هذه الحادثة، بعث مدير مدرسة الزاوية الإعدادية في ذلك الوقت رسالة تقدير واحترام إلى والد الطالب يحيى عياش، يهنئه فيها على ذلك الشاب الذكي، صاحب الأخلاق الرفيعة. وقال المدير في نهاية رسالته: «إنني أتوقع أن يكون لهذا الفتى شأن عظيم في حياته المستقبلية»(17). 2- في جيل الشباب لم يكن يحيى عياش اجتماعياً بالمفهوم المتداول، إذ أنه تميز بصمته وعدم مخالطته لعموم شباب القرية بشكل عام. ورغم ذلك، فقد كان معروفاً بين أوساط شباب رافات وبخاصة أبناء جيله وأقرانه بتفوقه المتواصل وتمتعه بقدر كبير من الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي، ولم يكن يقبل أي تهاون في ذلك. وقد أتم يحيى عياش حفظ القرآن الكريم كاملاً عن ظهر قلب، وحصل على شهادة تقدير من مديرية الأوقاف الإسلامية بالقدس لتفوقه في دراسة العلوم الشرعية وتجويد القرآن الكريم ما تزال محفوظة في صالة منزل والديه(18). يقول والده: «يحيى كان ولداً هادئاً منذ طفولته، سواء في المدرسة والجامعة، أو البيت والبلد.. وكان مشهوداً له بأنه لم يتسبب في مشكلة مع أحد، والله يرضى عليه كان حنوناً على أمه وأخوته.. وكان عندما يسمع الآذان كان يترك كل شيء بيده ويذهب مباشرة للصلاة في الجامع. وكذلك، كان يحيى هادئاً جداً وقليل الكلام، ويمكن أن تجلس معه ساعات طويلة دون أن تسمع منه شيء وإذا سألته يجيب على قدر السؤال وبدون زيادة»(19). وتضيف أم يحيى: «يحيى.. أنتم لا تعرفونه.. أطهر القلوب يحيى.. يحيى لم يرتكب جهالة في حياته، ولم يتعرض لبنات الناس لا بالكلمة ولا بالفعل.. حتى عندما كان في جيل الشباب، كان خلقه رفيعاً وسريرته نظيفة، ولم يأت بأفعال تغضب الخالق أو الخلق. ولم يحاول مرة أن يعمل مشكلة مع شباب القرية أو أهلها»(20) ويؤكد شباب القرية هذا الكلام، حيث تحدث أحدهم قائلاً: «كان يحيى ذلك الشاب النموذجي الذي يقتدي به الشباب.. كان هادئاً، رزيناً، متديناً، حسن الأخلاق، يحب الخير للناس ولا يؤذي أحداً ولا يغضب أحداً ولا يغضب من أحد. وكان يذهب إلى المسجد وهو شاب ويؤدي فرائض الصلاة الخمس كل يوم»(21). أما هوايات يحيى عياش في بداية شبابه فكانت فك وتركيب وتصليح الأجهزة الكهربائية، إذ اعتاد أهل القرية إرسال أجهزتهم المنزلية التي تتعطل إلى بيت الشيخ عبد اللطيف حتى يقوم يحيى بإصلاحها وإعادتها إليهم. وقد بدأ الأمر هذا مع يحيى كهواية سرعان ما تطورت فيما بعد لتتحول إلى ولع دفعه لدراسة الهندسة الكهربائية(22). وتضيف أم يحيى قائلة عن كفاءة يحيى في ممارسة هوايته: «كانت لديه عقلية متفوقة ونبوغ منذ صغره، والكل كان يلحظ ذلك عليه. فما أن يرى أحدهم يقوم بعمل حتى يحفظه، وعندما يمارسه، كان يتقنه بمهارة تدهش الجميع»(23). 3- ابن نموذجي تتحدث أم البطل عن تصرفات يحيى في البيت وعلاقته بوالديه وشقيقاه، فتقول: «إن الله قد حرمني من إنجاب البنات، وكان -الله يرضى عليه- لا يفارقني عندما أصاب بمرض، ويتمتم فوق رأسي داعياً الله أن يمن علي بالشفاء. وكان يطبخ الطبيخ ويذبح الدجاج، ويحضر الطعام، وينظف البيت.. قلبي وربي راضيان عنك يا يحيى.. الله والسماء تحرسك يا يحيى»(24). وتتنهد الأم وتنهمر الدموع من عينيها، ثم تضيف: «كان هادئاً ومؤدباً، ولم يحاول مرة أن يغضبني أو يغضب والده. ولم يكن يضرب أخوته أو يزعلهم»(25). ولأن يحيى كان دائماً يداعبها قائلاً: «أنا لا أحب إلا طعامك، وليس هناك امرأة في العالم تطبخ طعاماً لذيذاً مثلك»، فإنه نادراً ما تناول طعاماً من عند أحد -ولا حتى أقاربه- وفق ما أشارت والدته(26). 4- طالب في كلية الهندسة حصل يحيى عياش على شهادة الدراسة الثانوية من مدرسة بديا الثانوية عام ،1984 وكان معدله 8.92%، وعند إمعان النظر في كشف الدرجات التي حصل عليها، نجد أنه حصل على معدل 95% في مبحثي الفيزياء والرياضيات، وكان هذا مؤشر واضح على ذكاء وعبقرية متوقعة في مجالات ستترك آثاراً واضحة للعيان على مستقبل يحيى عياش. وما هي إلا أسابيع قليلة، حتى غادر يحيى الضفة الغربية متوجهاً إلى عمان لفحص إمكانية الدراسة، وبعد تسعة أيام فقط، قضاها المهندس في ضيافة أحد أعمامه، عاد يحيى أدراجه إلى رافات على الرغم أن إعلان أسماء المقبولين تضمن قبول يحيى في كلية العلوم بالجامعة الأردنية وكلية الهندسة بجامعة اليرموك. وعبثاً حاول الوالد إقناع ابنه بالموافقة على الدراسة في جامعة اليرموك وعدم الالتفات إلى المصاريف المالية المترتبة، إذ رفض يحيى هذا العرض رفضاً قاطعاً، وأصر على الالتحاق بجامعة بيرزيت* [جامعة بيرزيت: جامعة خاصة تأسست عام 1972 ككلية تملكها عائلة (ناصر) التي تقطن في قرية بيرزيت، ما لبثت عام 1976 أن تحولت إلى جامعة. وتعتبر هذه الجامعة من أهم جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أنها تستقبل عادة النخب الأكاديمية من أوائل الطلاب والمتفوقين.] لدراسة الهندسة الكهربائية. وأخبر الابن والده بأنه قرر الدراسة بتلك الجامعة كونها قريبة على رافات، وبالتالي يستمر التواصل بينه وبين عائلته إلى جانب أن تكاليفها المادية منخفضة نسبياً(27). سافر يحيى في شهر أيلول (سبتمبر) من عام 1984 إلى مدينة رام الله للتسجيل في جامعة بيرزيت، ورافقه والده في تلك الرحلة التي شكلت حدثاً مفصلياً في حياة الشهيد. وجاءت رغبة الوالد في مشاركة ابنه أعباء عملية التسجيل والبحث عن سكن مناسب بهدف الاطمئنان على الحياة الجامعية الجديدة للطالب القروي الطيب. ونتوقف هنا، ليحدثنا رئيس سابق للكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت وهو صديق شخصي ليحيى عياش حيث قضى معه ثلاث سنوات على مقاعد الدراسة، إذ يقول الأستاذ أبو محمد: «بدا يحيى للوهلة الأولى مثل معظم أبناء القرى حيث أن مدينة بيرزيت تعتبر من المناطق البعيدة التي ذهب إليها خارج قريته الصغيرة. ولا غرابة في ذلك، إذ تنحصر معرفة ابن قرى نابلس فقط بمدينة نابلس التي يزورها في المناسبات. وقد كانت سمة البساطة والطيبة والتدين وعدم المعرفة بتعقيدات أمور الدنيا وتداخلاتها واضحة تماماً سواء على الوالد أو الابن»(28). أما الأستاذ إبراهيم، الذي شارك الشهيد الغرفة في قرية أبو قش القريبة من الجامعة عند بداية العام الدراسي الأول (1984/1985)، فيقول عن طبيعة يحيى وأخلاقه وعلاقاته: «كنت أسكن مع أخي في قرية أبو قش قرب الحرم الجديد لجامعة بيرزيت. وعندما تخرج أخي، تقدم الشهيد يحيى عارضاً عليَّ أن يسكن معي في البيت حيث كنت وحيداً، وكنت أدفع 25 ديناراً كأجرة للبيت وهو مبلغ بسيط في حينه. لذلك، لم أرغب في استقدام طالباً آخر ليشاركني السكن في نفس الغرفة حتى تقدم يحيى عياش، عندها غيرت موقفي، ووافقت على طلب ذلك الشاب السمح ذو الأدب الرفيع والذي عرفته من خلال نشاطات الكتلة الإسلامية داخل الحرم الجامعي. فقد كان متميزاً بحسن سلوكه وتسامحه وتواضعه إلى جانب حيائه الشديد». ويضيف زميل الشهيد: «كان يحيى لطيف المعشر، حسن السلوك، لين الجانب إلا في الحق، متسامحاً، صادق الكلام أبداً، ومحقاً في المعاملات المالية، وفي الحقيقة، إن أكثر ما يميز سيرة الشهيد، أنه كان مسلماً غيوراً على إسلامه بالفطرة الربانية، حتى أنه كثيراً ما كان ينتهز أي عطلة أسبوعية أو إضراب داخل الجامعة ليعود إلى قريته، ليكون بعيداً عن جو الفساد. وكثيراً ما كان يبدي لي اشمئزازه من التبرج السافر والانحلال الخلقي لبعض طلاب وطالبات الجامعة. وكنت أحس من خلال مناقشاتنا الليلية قبل النوم أن هذا الشخص لا يمكن أن تنفع معه كل إغراءات الدنيا. فتمسكه بالدين كان بالفطرة الربانية الشديدة الصفاء، القوية الثبات. وقد أيقنت مع مرور الأيام معه في السكن أن هذا الشخص يعيش ويحيى لدينه فقط.. إن قناعتي هذه مبنية على استنتاجات أكيدة من خلال نقاشاتنا المتبادلة يومياً حول كل الأمور الأكاديمية والسياسية المحلية والخارجية». ويلخص الأستاذ إبراهيم تحليله لشخصية يحيى عياش، بالقول: «عرفت يحيى بالابتسامة التي لا تفارقه وصمته الطويل وطبعه الهادىء. وعلى الرغم أنه كان رقيق الصوت، ولا يتحدث في الجلسات العامة إلا أنه لم يكن ليبقى ساكتاً عندما يكون الأمر يخص الإسلام والمسلمين. فتراه يهب بفطرته السليمة وحبه للدين منافحاً عن الحق. ولهذا لم يكره أحد عدا أعداء الفطرة الإسلامية، ولم يكن له أعداء من الطلاب أو أصحاب السكن أو الأهالي عموماً»(29). أما فيما يتعلق بالطالب يحيى عياش داخل أسوار الجامعة، فإن زميل الشهيد يعرج على هذه النقطة باختصار معبراً عن واقع تلك الفترة. إذ أن يحيى «كان دائماً يغض الطرف داخل أسوار الجامعة، وبقي بعيداً عن أجواء الصخب والعبث. وكثيراً ما شاهدته منشغلاً بتلاوة القرآن وطاعة الرحمن بالذكر والمأثورات»(30). ويؤكد الأستاذ إبراهيم أن ذكاء يحيى ونبوغه وتفوقه قد رافقه في دراسته الجامعية، ويستشهد على ذلك بأن الشهيد حصل على العلامات الجيدة رغم أنه لم يكن يطيل السهر حيث تميز باستيعابه الممتاز للمادة العلمية وتثبيته للمعلومات التي يلقيها الدكتور والتي لفتت أنظار كل من الطلاب والأساتذة على حد سواء. وبعد هذه الصورة التي رسمها زميل الشهيد في السكن، يستكمل الصحفي فايد أبو شمالة الذي عاصر الشهيد أثناء فترة الدراسة في جامعة بيرزيت عن قرب تشكيل كلمات الرسالة التي تركها المهندس للأجيال: «هناك الكثير من الأشياء التي يمكن الحديث عنها في موضوع الشهيد يحيى عياش. وقد تحدث الناس الكثير، والصورة في الذاكرة مشرقة وبراقة. وتدور في مخيلتي دائماً صورة شاب ودود ولطيف، له جاذبية خاصة، مميز في هيئته وحركته ويلفت النظر لكونه شديد الحياء، إذا تحدث بصعوبة تسمع صوته، خلوق وحساس المشاعر يتأثر بالحسن ويفرح له ويتأثر بالقبيح ويتضايق منه، وأذكر أنني كنت أعجب كثيراً من شدة إيمانه وإخلاصه، وأتذكر مقولة (الأتقياء الأخفياء) الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا.. وحقيقة كان منهم، فقد كان يشارك في كل شيء ولا يبرز في أي شيء.. وكان يتفاعل مع الأحداث بشكل قوي دون أن يصدر عن تفاعله أي ضجيج أو صخب». ويضيف أبو شمالة: «لست أذكر أن أحداً من إخوانه قد تضايق يوماً منه أو اشتكى أو أظهر امتعاضه من السكن معه، رغم أن مشاكل السكن كانت كثيرة بين الطلاب لأن مجال الاحتكاك على مدار اليوم وكان كل اثنان يسكنان في غرفة واحدة، وهذا يجعل مجال الاحتكاك أكبر، ولم يكن رحمه الله يظهر امتعاضاً حيثما سكن»(31). وفي نفس سياق الحديث وموضوعه، نقل رئيس الكتلة الإسلامية بالجامعة انطباعاته عن يحيى بنقاط محددة وعبارات نقتبس منها التالي: «شاب بسيط ومتواضع تميز ببساطة ما يرتديه من ثياب وأحذية. وهو شاب ورع وتقي، حرص على عدم البقاء في الجامعة في أيام العطل الأسبوعية حتى يبتعد عن الفساد. ولم يُعرف أنه شكا من أحد أو انتقد أحداً، أو أن أحداً زعل منه، فقد أحب زملاءه وأساتذته واحترمهم، وكانت معاملته مع الجميع حسنة للغاية وبالتالي احترمه الناس وأحبوه. وعلى الرغم أنه كان من أنشط الشباب في كلية الهندسة، إلا أنه كان حريصاً على الابتعاد عن الأضواء، ويتشدد في ذلك»(32). تخرج يحيى عياش مهندساً كهربائياً من جامعة بيرزيت في شهر آذار (مارس) من عام 1993م، وهذا يعني أنه قضى ثمان سنوات على مقاعد الدراسة الجامعية. ويعود السبب في ذلك إلى الإضرابات والإغلاقات المستمرة لجامعة تعتبرها سلطات الاحتلال «جامعة تخريج الكوادر القيادية» لمختلف الفصائل الفلسطينية. ففي شهري كانون أول (ديسمبر) من عام ،1986 وكانون الثاني (يناير) من عام 1988 أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي عدة قرارات بتعطيل الدراسة وإغلاق الجامعة لمدد متعاقبة أدت إلى خسارة الطلبة أكثر من سنتين أكاديميتين. ولئن، جاءت اللحظة التاريخية وتحقق حلم الشيخ عبد اللطيف بحصول فلذة كبده على الشهادة الجامعية بتفوق، إلا أنه لم يشاهد ذلك على أرض الواقع ولم يكحل عينيه برؤية يحيى ضمن فوج الخريجين في الاحتفال الذي أقامته الجامعة. فقد غاب يحيى عن الحفل ولم يحضر مراسم تسليم الشهادات، لأنه كان وقتها مطلوباً لجهاز الشاباك وتطارده قوات الاحتلال بسبب دوره في التخطيط لعملية رامات افعال بتل أبيب في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1992. 5- في سفينة الكتلة الإسلامية تعتبر هذه المحطة من أهم المحطات في حياة الشهيد القائد يحيى عياش، إن لم تكن الأهم، باعتبار أن الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت والتي عاش فيها ما يزيد عن خمس سنوات شكلت محضناً ومدرسة قامت بصقل شخصية المهندس ووجهتها نحو المسار الذي عرفت به. ففي إطار الكتلة الإسلامية التي انتمى إليها، بنى يحيى علاقاته وتصوراته، وطور ثقافته واطلاعه، وفهم الصراع الذي يحاك ضد الإسلام والحركة الإسلامية سواء في داخل الجامعة، وحتى في خارجها حيث الصراع المباشر مع الاحتلال الصهيوني. فالحواجز العسكرية على الطرق المؤدية إلى الجامعة ومداخلها والإغلاقات المتواصلة للجامعة إلى جانب المواجهات المباشرة والمظاهرات المناهضة للاحتلال وسياساته، تركت بصمات متكررة على وشغلت حيزاً كبيراً في يوميات يحيى عياش. بداية علاقة يحيى مع الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت تعود إلى يوم 2 تشرين أول (أكتوبر) 1984. إذ جرت العادة عند الكتلة الإسلامية أن تقيم حفل تعارف يضم الطلبة من أبناء الكتلة وجميع الطلبة الجدد الذين يلبون الدعوة ويظهرون موافقة مبدئية على الانضمام إلى صفوف الكتلة. وتم خلال هذا اللقاء، الذي عقد في مسجد بيرزيت القريب من الحرم الجامعي القديم، التعارف بين الطلاب القدامى والجدد، وعرف الشهيد وقتها بنفسه قائلاً: «أخوكم في الله يحيى عياش من رافات - سنة أولى هندسة». وكانت عبارة (أخوكم في الله) هي عنوان المحبة بين كل أبناء الكتلة الإسلامية، وأثبتت الأيام أنهم جميعاً حقاً أخوة في الله(33). وشارك المهندس إخوانه في كافة المواقع ومراحل الصراع والاحتكاكات المباشرة سواء كانت مع سلطات الاحتلال وحتى مع الكتل الطلابية المنافسة. وحققت الكتلة بروزاً وحضوراً سياسياً فاعلاً، وغدت تجمعاً طلابياً له وزنه ومكانته في العمل النقابي داخل الجامعة. ولعل أهم الأحداث التي شارك فيها شهيدنا تمثلت بتنظيم الكتلة الإسلامية مظاهرة طلابية عارمة يوم5 كانون أول (ديسمبر) من عام ،1986 ما لبثت أن تحولت إلى مواجهات عنيفة بين الطلاب وقوات الاحتلال الصهيوني أسفرت عن استشهاد اثنان من شباب الكتلة الإسلامية هما جواد أبو سلمية وصائب ذهب. وتركت هذه المواجهات آثارها البالغة على المهندس الذي شاهد أخاه وزميله جواد يسقط بالقرب منه إثر إصابته بوابل من نيران جنود العدو. ويؤكد الأستاذان إبراهيم وأبو محمد بأن يحيى لم يتخلف يوماً عن أي اجتماع للكتلة أو نشاط أو مسيرة داخل الجامعة. ويشدد الأستاذ أبو محمد في استعراضه لطبيعة يحيى ومآثره داخل الكتلة الطلابية الإسلامية على تميز المهندس باقتراحاته لرفع مستوى الكتلة وتطوير أدائها. ويضيف: «لا يذكر نفسه أو يمتدحها أثناء حديثه، ويتحدث بصوت خفيض دون أن يرفع صوته على أحد قط، وينسحب من أي نقاش تعلو فيه الأصوات. ولهذا، حرص يحيى على الطرح التوفيقي في تناوله للمواضيع أثناء النقاش، والابتعاد عن الثرثرة في المواضيع الجدلية. ومع كل هذا، كان يحيى لا يتكلم في المجموع ولا يتحدث بشكل مباشر إلا مع شخص واحد فقط ولا يزيد على ذلك»(34). كان يحيى يمتاز بهدوءه المعروف وصمته دون أن يسهب في الكلام إذا ما طلب منه أن يبدي رأياً في موضوع معين. وعلى الرغم من ذلك، يقول مسؤول الكتلة الإسلامية: «كثيراً ما كان يطرح يحيى أموراً نشعر أنها أكبر من حجمنا أو أنها لا تتناسب مع هدوء شخصيته، مثل مطالبته الكتلة الإسلامية بالتشدد وميله إلى التلويح بالقوة لأخذ حق الكتلة والمحافظة على مكتسباتها في ظل الأجواء التي كانت تعترض الشباب المسلم»(35). 6- شيخ الإخوان في رافات كشف أقطاب الحركة الإسلامية في الضفة الغربية، بأن يحيى عياش لبى دعوة الإخوان المسلمين وبايع الجماعة في بداية العام الدراسي الثاني (1985/1986)، وأصبح جندياً مطيعاً وعضواً عادياً بإحدى أسر (مجموعات) الإخوان المسلمين في مدينة رام الله. ويضيف هؤلاء بأن يحيى عمل بجد ونشاط وقام بكافة تكاليف وأعباء الدعوة الإسلامية سواء داخل الجامعة أو في مدينة رام الله وحتى في قريته. ووظف المهندس السيارة التي اشتراها والده في خدمة الحركة الإسلامية، حين دأب على السفر إلى رافات، وقام بإرساء الأساسات وشكل أنوية لمجموعات من الشباب المسلم الملتزم. وحينما انفتح الأفق على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كانت هذه المجموعات في طليعة السواعد الرامية ورماة القنابل الحارقة التي واجهت قوات الاحتلال خلال سنوات الانتفاضة المباركة. ونظراً للدور الريادي الذي قام به، وحكمته في حل المشاكل وتصفية الخلافات بين الشباب من مختلف الانتماءات السياسية والأيدلوجية، فقد اعتبرته الفصائل الفلسطينية (شيخ الإخوان في رافات)، رجعت إليه في كافة الأمور التي تتعلق بالفعاليات أو الإشكالات خلال الأعوام (1988 - 1992). وتعد سنوات الانتفاضة الأربعة الأولى، من أكثر الفترات غموضاً في حياة المهندس. فباستثناء حادث واحد تمكنا من رصده، وهو قيام سلطات الاحتلال بفرض منع التجول على القرية يوم 12/10/،1991 ومن ثم شن هجوم تحت وابل من الأسلحة الرشاشة على مسجد رافات بحجة أن حماس تستخدم المسجد في التحريض على مقاومة الاحتلال، فإننا لم نستطع أن نعثر على مشهد آخر أو مظهر ثان يدل على آثار القرية وشبابها أثناء الانتفاضة. وهذا إن دل على شيء، فإنه -بلا شك- يدل أن تلك الفترة كانت الأكثر أهمية في حياة يحيى السرية والخاصة والتي ظهرت آثارها لاحقاً، غير أن جميع زملائه يتذكرون حادثاً وقع له أثناء عودته مع عدد من رفاقه بعد أدائهم لصلاة العشاء في مسجد أبو قش، إذ اعترضهم مجموعة من جنود الاحتلال في عدة سيارات عسكرية. وبعد عدة مداولات بين الجنود الإسرائيليين، أطلق العدو سراح الشباب باستثناء يحيى الذي قيدت يداه ورجلاه واقتيد في إحدى السيارات العسكرية إلى منطقة جبلية وعرة ومعزولة خارج القرية. وقد شعر يحيى بما يدبره الجنود حين توغلوا به في إحدى الأودية المعتمة، خاصة وأنه سمع عن استشهاد العديد من الشباب خلال الانتفاضة بمثل هذه الطريقة. وتوقع يحيى أن يطلق جنود الاحتلال النار عليه ليبدو الأمر وكأنه مقتل هارب من وجه السلطات، ولهذا رفض يحيى الانصياع لإرادة الجنود بمغادرة السيارة والابتعاد قليلاً، وبدلاً من الفرار، ظل يحيى ملاصقاً للجنود الذين راحوا يدفعونه بعيداً عنهم، إلى أن ظهرت فجأة ثلاث نساء يرتدين لباساً أبيض وبشكل غير متوقع توقفن لمشاهدة ما يحدث، الأمر الذي أربك الجنود وجعلهم يسرعون إلى سيارتهم ومغادرة المكان دون أن يقتلوا المهندس(36). وتؤكد صحيفة معاريف هذه الحادثة، حيث أشارت إليها في سياق تعليقها الذي نشرته تحت عنوان (القضاء على الأسطورة) يوم الأحد 7 كانون ثاني (يناير) 1996. وعلقت الصحيفة العبرية على الحادثة بالقول: «كانت هذه برهاناً على أن عياش محمي من قبل الله وأن أجهزة المخابرات الإسرائيلية غير قادرة على إصابته»(37). ويكشف أبو الفداء -أحد المقربين من الشهيد قبل مطاردته، والذي شارك معه في تأسيس حركة حماس في رافات- بأن يحيى جاءه بعد صلاة يوم الجمعة في كانون الثاني (يناير) من عام ،1988 وطلب منه أن يرافقه إلى المسجد الأثري القديم الذي بني بأمر من الظاهر بيبرس. وعند وصولهما المسجد، قال له يحيى: «أيرضيك ألا يكون للإسلام صوت في انتفاضة القرية؟؟ لماذا لا نؤسس حركة حماس في القرية كما في غيرها». واتفق الاثنان وتعاهدا، فكانت شرارة حماس الأولى وانطلاقتها في القرية. ويضيف أبو الفداء، أنه خرج ويحيى ملثمين لإغلاق الشارع الرئيسي للقرية في يوم إضراب أعلنته حركة حماس، وفجأة ظهرت دورية عسكرية صهيونية على نفس الشارع. فاختبأ خلف الجدار الحجري القريب، وحين نظر أبو الفداء إلى يحيى، فإذا به يقرأ القرآن، ثم يقول له: «أبا الفداء، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(38). ويروي أبو الفداء حادثة أخرى، تعبر عن أخلاق يحيى وشخصيته القيادية، فيقول: «اجتمعنا في منزل يحيى ذات يوم لتدارس أوضاع الحركة والانتفاضة، فغضبت من شقيقي وصحت فيه لسبب ما، فزجرني يحيى وقال: نحن دعاة، لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»(39). 7- خطبة وبيت وزواج بدأت العائلة القروية الصغيرة تلمس بدايات التحول في شخصية الابن البكر وغموض تحركاته، وبخاصة مع مطلع عام 1991. ويبدو أن رحلة المهندس بالإعداد والتجهيز لملاحم البطولة قد شغلت تفكيره وأخذت حيزاً كبيراً من وقته وجهده. وتتحدث والدته التي كانت من أقرب الناس إليه حول التغير الذي لمسته في حياة يحيى بتلك الفترة، فتقول: «في السنة الأخيرة لدراسته الجامعية، كان يبدو دائماً ساهماً، واجماً، شارد الذهن، مطرق الرأس.. يبدو عليه الانشغال والتفكير.. أسأله: ما بك يا يحيى، فيجيب لا شيء. وعندما ألح عليه يقول: إنني مشغول بموضوع التخرج والعمل بعد أن أتخرج. وبعد تخرجه من الجامعة، كان يبدو دائماً غامضاً وفي حياته سر. ولم أعلم بأنه يخفي عليّ أنه يدبر لشيء ما»(40). ولأن حنان الأم يطغى في مثل هذه الحالات، وعاطفة الأب تقوده في اتخاذ القرارات، وبعد مداولات بين الوالدين، واعتقاداً منهما بأن ابنهما يمكن أن ينشغل في أمور الحياة الدنيا كغيره من أبناء جيله ويبتعد عما يمكن أن يشوش على تحصيله العلمي، قرر الوالد أن يغريه ببناء منزل مستقل ويزوجه إحدى قريباته. ويقول الشيخ عبد اللطيف متذكراً تلك اللحظات: «أثناء دراسة يحيى في الجامعة، ورغبة مني ترغيبه بالحياة، قمت بتشييد بيت له ووضعت الأساس وهو غائب عن المنزل. وعندما عاد من الجامعة وشاهد الأساسات، اعترض عليها وقال أنه يكتفي بغرفتين فقط ولا حاجة لبناء بيت كبير.. ثم خطبنا له عروساً وهي ابنة خالته، وفيما بعد اشتريت له حاسوباً وزوجته». ويشير الأب إلى أن قلقه على ابنه بدأ «بعد انتظام يحيى في دراسته، ففي السنة الدراسية الأولى في جامعة بيرزيت وقعت مظاهرات طلابية احتجاجاً على ممارسات الاحتلال مما أدى إلى استشهاد طالبين. وبعد استشهاد الشابين، وكان أحدهما صديقاً ليحيى، سارعت بالسفر إلى الجامعة رغم حظر التجول. وسرت مشياً على الأقدام لكي أصل إلى نور العين حتى التقيت بيحيى، فعانقته وقبلته كثيراً»(41). تزوج المهندس ابنة خالته، هيام عياش، بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) من عام 1991م. ولكن، سرعان ما طرق زوار الفجر منزله، وأصبحت القوات الخاصة وأعتى رجال الأمن والمخابرات الصهاينة من رواد البيت. فمضى يحيى في طريق العزة والكرامة تاركاً وراءه زوجة وابناً أسماه (براء) تفتحت عيناه على الحياة في 1 كانون الثاني (يناير) 1993. ولم يلتم الشمل مرة أخرى، إلا بعد نحو عام ونصف حين نجح المهندس في تخطي جيش المخبرين وضباط الشاباك والوحدات الخاصة التي كانت تداهم المنزل باستمرار، وانتقلت هيام مع براء إلى قطاع غزة، لتعيش الزوجة مع زوجها، ويتعرف الابن على أبيه المجاهد. وقد رزق المهندس قبل استشهاده بيومين فقط، بابنه الثاني الذي أسماه (عبد اللطيف) تيمناً بوالده، غير أن العائلة أعادت اسم يحيى إلى البيت حين أطلقت على الطفل عبد اللطيف اسم (يحيى). 8- ابن كتائب عز الدين القسام الشهادة الجامعية وبخاصة في فرع الهندسة التي تؤهل صاحبها للمناصب والوظيفة المرموقة، إلى جانب الاستقرار والزوجة والابن والمنزل والسيارة وغيرها من المغريات النفسية والحسية التي توفرت للشهيد يحيى عياش لم تنل ممن قرر أن يعمل في سبيل الله مجاهداً محتسباً الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى. فمضى المهندس بهدوء وبدون أضواء متفرغاً وبشكل كلي إلى الهدف الذي لم يغب عن وجدانه يوماً واحداً: أن يعود علمه وذكاءه وقدرته وعمله إلى فلسطين وأن تعود فلسطين إليه. وأنشغل الشهيد منذراً نفسه لله ثم لهذا الدين، واشتعلت فلسطين بعملياته المتميزة نوعاً وعدداً، وعندها أيقنت الدوائر الإسرائيلية من سياسية وعسكرية وأمنية بأن يحيى عياش ليس رجلاً فلسطينياً عادياً. وبكلمات تفيض فخراً واعتزازاً بيحيى، يتحدث الشيخ عبد اللطيف عن أهداف المهندس ومبتغاه، قائلاً: «الله سبحانه وتعالى يكرم الشهيد بأن يجعله خالداً في قلوب الناس، ولو أراد إنسان أن يفعل ذلك فلا تكفيه فلوس الدنيا كلها لينال هذا الحب والتكريم. ويحيى كان يعمل لله، وليس طمعاً في منصب أو دينار. وكنت أكرر عليه مراراً: هل تريد من وراء هذا العمل أن تصبح مشهوراً أو مهماً أو أن تصبح رئيساً مثلاً. فكان الله يرحمه، يجيب، أعوذ بالله، أنا أريد فقط أن أبقى مجاهداً في سبيل الله حتى استشهد»(42). بدايات المهندس مع العمل العسكري ترجع إلى أيام الانتفاضة الأولى، وعلى وجه التحديد عامي 1990 و 1991. فقد استقر لدى يحيى رأي ما لبث أن ترسخ لديه كقناعة وهدف، حيث بدأ يسعى لتحويل الحجر إلى قنبلة تنفجر في صدور المحتلين وتقض مضاجعهم. وبإلهام من الله سبحانه وتعالى وعون منه، توصل صاحب الحق إلى مخرج لمشكلة شح الإمكانات المتوفرة وندرة المواد المتفجرة، وذلك بتصنيع هذه المواد من المواد الكيماوية الأولية التي تتوفر بكثرة في الصيدليات ومحلات بيع الأدوية والمستحضرات الطبية. فكانت العملية الأولى بتجهيز السيارة المفخخة في رامات افعال بتل أبيب، وبدأت أثر ذلك المطاردة المتبادلة بين يحيى عياش ودولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية والعسكرية. قدر الله سبحانه وتعالى أن يكتشف العدو السيارة المفخخة في رامات افعال بطريق الصدفة، ويومها عرف خبراء المتفجرات الصهاينة أن عبقرية فذة في عمليات التفجير ستكون في مواجهتهم. وبعد تحقيق شديد وقاس مع المجاهدين اللذين اعتقلا أثر العثور على السيارة المفخخة، طبعت الشاباك اسم يحيى عبد اللطيف عياش في قائمة المطلوبين لديها للمرة الأولى. ولأن المجاهدين المعتقلين، لم يكونا على اطلاع بدور المهندس في تجهيز العملية والتخطيط لها، فإن ضباط الشاباك وضعوا اسم يحيى في المرتبة الخامسة من حيث الخطورة. ولذلك، داهمت قوات كبيرة من الجيش وحرس الحدود يرافقها ضباط ومحققين من الشاباك سلفيت وقراوة بني حسان بحثاً عن زاهر جبارين وعلى عاصي اعتقاداً بأن أحدهما قد نجح في التوصل إلى المعادلات الكيميائية المفزعة لهم. وأما يحيى عياش، الذي عد نفسه مطارداً ومطلوباً لسلطات الاحتلال منذ ساعة اعتقال البطلين عماد عبد الرحيم وأحمد حسن، فإن الشاباك لم تكلف نفسها عناء تجهيز قوة لمداهمة قريته واعتقاله. ولعل اعترافات المجاهدين وملف يحيى في الإدارة المدنية وما يتوفر من معلومات لدى ضباط المخابرات أيام دراسته الجامعية أوحت للمحققين أنهم أمام شاب بسيط لا تتعدى تهمته توفير الخدمات أو تقديم المساعدة لكتائب الشهيد عز الدين القسام. حين جلس يحيى يستعرض بهدوء شريط الأحداث التي أعقبت عثور جنود الاحتلال على السيارة التي أعدها، واستمرار عمليات المداهمة والتفتيش التي تركزت على المجاهدين الأربعة، زاهر وعلي وعدنان وعبد الفتاح، دون أن يبدو من سلطات الاحتلال وأجهزتها ما يدل على خططها تجاه المهندس، جمع الشهيد المعادلات المتوقعة وأخذ يقلب الاحتمالات الأرجح. وبعد تفكير عميق، وبفضل ذكاءه ورباطة جأشه، قرر المهندس أن يبادر بجس النبض عن طريق الإدارة المدنية الإسرائيلية في سلفيت. فطلب من خاله الذي يريد السفر إلى السعودية أن يقدم له طلباً لتصريح خروج إلى عمان موحياً لعائلته بأنه يريد مرافقة خاله للعمل هناك. وبعد يومين، ذهب الخال لإحضار التصاريح حيث تبين بأن الإدارة الإسرائيلية قد رفضت إعطاء الخال تصريح ابن أخته وطلبت أن يأتي يحيى بنفسه ليأخذه. ولكن المهندس رفض في اليوم التالي أن يذهب لمقر الإدارة المدنية، وطلب من والده أن يذهب بدلاً منه. وبعد مقابلة المسؤولين الإسرائيليين عاد الشيخ عبد اللطيف من سلفيت ومعه كتاب من المخابرات العامة (الشاباك) تطلب من يحيى الحضور، بزعم أن شخصاً قد اشتكى عليه ويجب أن يحضر إلى مقر الإدارة المدنية، وإذا لم يثبت عليه أي شيء، فإنهم -أي الإسرائيليين- سوف يعطونه التصريح ويعود إلى البيت(43). وفي ظل إلحاح ومناشدة الوالد لابنه بالمثول أمام المحققين في مكاتب الإدارة المدنية الإسرائيلية، لثقته بأن يحيى لم يرتكب أي خطأ أو مخالفة يستحق عليها العقاب أو السجن. وبعد الضغط الشديد الذي تعرض له الشهيد القائد، يحسم المهندس أمره، ويقول لوالده مفصلاً موقفه بشكل حاسم: «إذا ذهبت إليهم، عمرك ما بتشوفني، لأني سأعيش بين أربع حيطان ولا تقدر على رؤيتي ولا أقدر على رؤيتك.... (ويصمت الشهيد برهة ثم يستأنف حديثه)... أنا لا أريد أن أخرج، أنا أريد أن أستشهد في وطني فلسطين»(44). وقبل أن يغادر المهندس المنزل، عانق والده وشقيقيه ثم توجه نحو والدته مودعاً: «يا أماه، إما النصر أو الشهادة ولا ثالث لهما بإذن الله»(45). يعتبر يوم الأحد الموافق 25 نيسان (إبريل) من عام ،1993 بداية المطاردة الرسمية ليحيى عياش. ففي ذلك التاريخ، غادر المهندس منزله، ملتحقاً برفاق الجهاد والمقاومة، الذين كانوا يتخذون من كهوف ومغارات فلسطين قواعد انطلاق لهم في رحلاتهم المظفرة ضد جنود ودوريات الاحتلال. وفي مساء ذلك اليوم، داهمت قوات كبيرة من الجيش والمخابرات المنزل وقامت بتفتيشه والعبث بالأثاث وتحطيم بعض الممتلكات الشخصية للمهندس. وبعد أن أخذ ضباط الشاباك صورة الشهيد جواد أبو سلمية التي كان المهندس يحتفظ بها، توجه أحدهم لوالده مهدداً: «يجب على يحيى أن يسلم نفسه، وإلا فإنه سوف يموت، وسوف نهدم المنزل على رؤوسكم»(46). وتواصلت المداهمات والاستفزازات من قبل جيش الاحتلال وأجهزته، بهدف إشاعة جو الخوف والرعب بين العائلة القروية، اعتقاداً بأن ذلك يؤثر في معنوياتهم ويثني المهندس عن مسيرته المباركة. ولكن هيهات لهم ذلك، فقد واصل المهندس طباعة عناوين المجد والحرية وأعاد للحياة الفلسطينية طعمها، وخلال ثلاث سنوات، كان الشهد لفلسطين والعلقم لبني صهيون. وخاب ظن سلطات الاحتلال وأجهزتها القمعية التي حصدت الفشل في مخططاتها، وتخبطت في رحلة البحث عن المهندس، بينما وقفت أم يحيى في فخر واعتزاز تواجه محققي الشاباك وجنود الاحتلال حيث نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية والتي رافقت قوات الجيش التي داهمت منزل العائلة بعد عملية البطل صالح صوي في تل أبيب عن أم المهندس: «لقد تركنا جميعاً دون أن نشبع منه وداس على الشهادة الجامعية.. منذ أن أصبح يحيى مطلوباً، فإنه لم يعد ابناً لي، إنه ابن كتائب عز الدين القسام»(47). |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#6 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() ثالثاً: معالم وعبر
1- قاعدة عقائدية وإيمانية البيئة العقائدية والإيمان الراسخ في أعماق النفس البشرية هي التي تبدع وتفرز ظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل الله مثل القائد يحيى عياش. ومن خلال تجذر هذه الأصول وصلابة حاملها، تتفجر مدخرات الطاقة في خلايا الجسم، ويتألق كل ما أودعه الخالق سبحانه وتعالى في هذه النفس من خلق وتجرد وإخلاص وصدق وتوكل وغيرها من خصائص الشهادة ومعاني البقاء والاقتداء. ولئن غادرنا المهندس بعد نجاحه في الوصول إلى قمة هرم الصاعدين في زمن الهبوط وانتصاره في مسيرته الحياتية نحو الخلود، فإننا ما زلنا نمتلك التمسك بمبادئه وثوابته وتجربته التاريخية الزاخرة بمدلولات تبشر بدروس من السهل الاقتداء بها وتقليد العملاق الخالد على أرض فلسطين وتكرار مسيرته والتبشير بقدرات الأمة على إنجاب العظماء وصنع المستقبل المشرق. ونستطيع في تفصيل أن نورد إضاءات من القاعدة العقائدية والإيمانية التي حملت أعمدة العملاق الخالد: أ- امتزاج الورع والتقوى بصفاء الروح وبساطة النفس. إذ أن يحيى كان ملتزماً ومطيعاً لله فيما أمر به أو نهى عنه. وهذ المفهوم لمعنى التدين ظهر عند المهندس من خلال إكثاره من قراءة القرآن الكريم وتلاوته وحفظه، ومن هنا يظهر لنا سبب إصراره بعناد وإقدامه الذي لم يعرف التردد في مسيرة الجهاد رغم تفوق العدو وقسوته. ب- الجدية في الحياة وصلة الرحم وحب الناس وأداء الواجب. وهذا لا يعني بأي حال، أن الشهيد لم يكن صاحب مزاح أو مرح نظيف، وإنما كان يتجنب الصخب والعبث ويبتعد عن الأجواء الملوثة. ج- توجيه وتكريس الحياة الدنيا لعمل الخير واعتبار ذلك وسيلة لبلوغ رضوان الله. ومن هنا، كان عطوفاً على الناس، يقدم المساعدة التي يقدر عليها لكل من يلجأ إليه. د- كان التسامح سمة من سمات المهندس في علاقاته سواء في البيت أو القرية أو الجامعة، إذ كان يسامح من يسيء له ولم يحمل حقداً على أحد حتى ولو أساء إليه. هـ- الهدوء والاتزان وعمق التفكير وكأنه كان يحلق في آفاق البحث عن رضوان الله مما ساقه إلى مبتغاه مع الأنبياء والصديقين، وعلى الرغم من هذا الهدوء الذي كان يصل إلى حد الفلسفة، إلا أن الكلمات سرعان ما تخرج من فمه كالحمم كبركان ثائر أو كالقنابل الزمنية تنفجر عند حدود فمه إذا ما سمع أو رأى أي تطاول على شريعة الله سبحانه وتعالى. د- كان رجلاً ليس لذاته نصيب من الدنيا ومتاعها، إذ عرفه أصدقاءه ومعارفه وحركته عفيف اليد، زاهداً، لا يبتغي سوى مرضاة ربه. وعندما قامت حركة حماس بإرسال مبلغ من المال لإعانته على شؤون عائلته، أرسل إلى قيادته معاتباً: «بالنسبة للمبلغ الذي أرسلتموه، فهل هو أجر لما أقوم به؟ إن أجري إلا على الله وأسأله أن يتقبل منا. وأهلي ليسوا بحاجة وأسأل الله وحده أن يكفيهم، وألا يجعلهم يحتاجون أحداً من خلقه، ولتعلموا بأن هدفي ليس مادياً، ولو كان كذلك لما اخترت هذا الطريق، فلا تهتموا بي كثيراً واهتموا بأسر الشهداء والمعتقلين فهم أولى مني ومن أهلي»(48). ولأنه لا يريد سوى مرضاة الله وجنته، فقد عمل الشهيد البطل بصمت في الخفاء مستعلياً على شهوات النفس والأضواء ووسائل الإعلام مما زاد في قدرته على المواجهة وإفشال عمليات الاستفزاز والاستدراج، وكل ذلك يفصح عن وعي عميق بطبيعة المعركة ومتطلباتها وعن التجرد والإخلاص للهدف والقضية. ولئن أحب يحيى العمل الجهادي بطريقة عاصفة، ملكت عليه كل جوارحه مؤثراً أن تتحدث عنه أعماله -لا أقواله- باعتبار أنه يمثل حركة وتاريخ وليس نفسه فقط، إلا أنه لم يكن يحب تضخيم أعماله ودوره، ويرجع الفضل إلى رب العزة سبحانه وتعالى مردداً وبشكل دائم الآية الكريمة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. وقد أكدت أم البراء -زوجة المهندس- هذه الحقيقة، فقالت: «كان كتوم جداً تجاه هذه الأمور، ولم يكن يتحدث بالتفصيل عن الجهاد أو العمل الذي يقوم به.. الشهيد أبو البراء لم يكن يحب أن يسمع المبالغة في الكلام عنه، وكان يرفض الاستماع إلى الأناشيد التي تذكره أو تعمل دعاية له، وكان يقول لي إن هذا فيه تضخيم ومبالغة»(49). 2- الكتمان والسرية استهداءً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، تعمل كتائب الشهيد عز الدين القسام بطريقة سرية منظمة، جعلت من مخططات أجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية لاختراق بنية الجهاز العسكري لحركة حماس ومحاولات رصد عملياته قبل وقوعها أمراً في غاية الصعوبة. وليس سراً أن كتائب الشهيد عز الدين القسام تفتخر بطريقة عملها ومنهجها في تكوين الخلايا وتنظيم عملها، فالجهاد مرصود وإجهاضه استراتيجية صهيونية وعالمية، خاصة بعد أن أصبح الإسلام هو العدو الأول لمعسكر النظام العالمي الجديد وأدواته. وفي حالة الشهيد القائد، تتجاوز طبيعة (الكتمان والسرية) الحدث الطارىء أو الحاجة الآنية، لتصبح خلقاً راسخاً وعادة متمكنة، إذ يقول أصدقاء المهندس ورفقاء دربه بأن حساسية يحيى تجاه السرية لا مثيل لها. ويضيف أحد الذين عملوا في الخلايا التابعة لقيادته: «مضت عدة شهور قبل أن اكتشف أن المرأة التي كانت تجلس في أحد الحقول في منطقتنا هي في الحقيقة المهندس يحيى عياش»(50). في البرنامج الأسبوعي (ندوة مفتوحة) الذي بثته التلفزة الإسرائيلية على الهواء بصورة حية ومباشرة وضم خبراء وأساتذة جامعات متخصصين في الشؤون العربية والإسلامية، حاول هؤلاء إجهاد أنفسهم طوال (30) دقيقة لتقديم إجابات منطقية وموضوعية عن أسئلة مقدم البرنامج الذي استهل الحديث قائلاً: «المطلوب يحيى عياش يعيش في سباق مع الزمن، فمسلسل الهجمات العنيفة التي نفذها جعلت منه هدفاً رئيساً ذو أولوية أولى لجهاز الشاباك.. المهندس الذي احترف الدمار والقتل يمثل أكثر من أي شيء آخر التعصب الإسلامي المتطرف ومنظماته التي وضعت نصب عينيها تقويض مسيرة السلام.. أجهزة الأمن درست شخصيته وتركيبته الفسيولوجية بعناية في محاولة للعثور على نقطة ضعف واحدة تقود إلى إلقاء القبض عليه، ولكن هذه السمات الفسيولوجية تشكل أيضاً منطلقاً أساسياً لفهم ظاهرة التعصب الديني لأناس من طراز المهندس.. فكيف يعمل؟.. من الذي يوجهه؟.. من يختار الانتحاريين؟.. لماذا لم تفلح أجهزة الأمن الإسرائيلية حتى الآن في إلقاء القبض عليه؟». وعلى أثر هذه المقدمة، بدأ شمعون رومح -أحد كبار قادة الشاباك السابقين- حديثه قائلاً: «إن الصورة المرسومة للمهندس ليست مجرد وهم أو خيال صنعته وسائل الإعلام من العدم، فلهذا الرجل سر في النجاح. وسر نجاحه يكمن بادىء ذي بدء في السرية المتناهية التي يعمل بها ويسلكها في تحركاته، فهو يعمل مع عدد مقلص جداً من الأشخاص الذين يقومون بدور حلقة الاتصال ما بينه وبين الجهات التي يعمل معها.. وهو في الغالب لا يطلعهم سوى على الحد الأدنى اللازم من المعلومات المتعلقة بنشاطاته وتحركاته، فضلاً أن اتصاله بهم يتم بوجه عام بمبادرة منه وليس منهم، وذلك حتى لا تتوفر بحوزة أحد منهم معلومات قد تقود في حال تعرضهم للاعتقال إلى الوصول إليه أو إلى مأواه السري. ولا يعلم أي من أعضاء الخلايا الذين يعملون تحت أمرته، وعادة يمنحون أسماء حركية، من أين تأتي المتفجرات أو من الجهة التي تصدر الأوامر». ولاحظ ضابط المخابرات السابق تأكيداً على ذلك أنه حدث في العديد من الحالات أن اعتقل أشخاصاً عملوا مع المهندس طوال ثلاث سنوات، إلا أن اعتقال هؤلاء حتى في الحالات التي أرغم فيها بعضهم تحت التعذيب على الإدلاء بمعلومات لم يقد إلى اعتقال المهندس نفسه(51). كما أن اسم المهندس لم يظهر في لائحة الاتهام التي وجهت لسعيد بدارنه وطاهر كبها اللذين اتهمتهما سلطات الاحتلال بالتخطيط لعملية الخضيرة وتجنيد عمار عمارنه لتنفيذ تلك العملية، إلا أن المخابرات الإسرائيلية تجزم بأن المهندس كان وراء العملية على الرغم أنه لم يقم بتجنيد عمار أو تدريبه وربما لم يره أبداً ولكن الاتصالات بين الاثنين تمت بواسطة سعيد وطاهر(52). وكمثال حي على حساسية المهندس تجاه السرية، تروي لنا والدته قصة لقاءها به في شهر أيلول (سبتمبر) من عام ،1995 ومن خلال هذه الرواية يتجلى حرص الشهيد القائد على سرية العمل حتى عن أقرب المقربين إليه وأحبهم إلى قلبه. فتقول الأم الصابرة المحتسبة: «في أحد الأيام جاء شاب إلى البيت وقال لي: هل تريدين رؤية يحيى؟.. فوجئت بالسؤال ولم أصدقه، ولكن الشاب أخرج من جيبه صورة حديثة يظهر فيها يحيى مع ذلك الشاب.. وبدون تردد قلت له: خذني إلى ابني، أريد أن أراه مهما كانت العواقب. وبعد ذلك، أركبني في سيارة على نوافذها ستائر سميكة حتى لا أرى شيئاً في الخارج. ومشت بنا السيارة مدة من الزمن ثم توقفت، وقبل أن أنزل من السيارة عصبوا عيوني ثم اقتادوني إلى مكان يحيى. وعندما أزالوا العصبة عن عيني، شاهدت يحيى أمامي، فبكيت من الفرحة واحتضنت ابني الحبيب وشاهدت زوجته وابنه، واطمأن قلبي أنهم جميعهم بخير.. مكثت في ضيافة يحيى أسبوعين، وطلب مني يحيى البقاء عنده والعيش معه وقال لي أن اليهود سوف يعتقلونك ويحققون معك، لأن العملاء كثيرون وسوف يعلمون أنك غبت عن البيت طوال هذه المدة. ولكني رفضت أن أكون مطاردة مع ابني، وقلت له أنني سأعود إلى بيتي وزوجي وولداي اللذان سيخرجان من السجن قريباً، ثم ودعت ولدي يحيى وزوجته وابنه براء وعدت إلى بيتي كما أتيت دون أن أعلم أين ذهبت ولا في أي طريق سارت بي السيارة في الذهاب أو الإياب.. أثناء وجودي عند يحيى، كان شاب يحضر لنا الأكل ويدخله من الباب ثم يغلق الباب ويذهب»(53). 3- التخلص من أعين الأعداء لم يتأثر أحد بحساسية مفرطة تجاه القائد الشهيد يحيى عياش بقدر ما تأثر رئيس الوزراء الإسرائيلي، اسحق رابين الذي كان يضطلع بالمسؤولية المباشرة عن أنشطة الموساد والشاباك بحكم توليه منصب وزير الدفاع أيضاً. فقد شكلت أسطورة المهندس شبحاً متعباً وثقلاً كبيراً جثم على صدر اسحق رابين الذي خصص جيشاً برمته لإطلاق النار على يحيى عياش دون إنذار بمجرد وقوع أنظارهم عليه، لما كان يسببه من الهلع والفزع في أوساط قادة الصهاينة وجمهورهم. ولكن براعة المهندس الفائقة في مواجهة مطارديه وعبقريته في التخفي والمراوغة والإفلات من الكمائن التي كانت تنصب له من قبل عدة آلاف من جنود الوحدات المختارة من الجيش الإسرائيلي وقوات حرس الحدود والشرطة بالإضافة إلى عدة مئات من أفراد جهاز المخابرات العامة (الشاباك) ووحدات استخبارية عسكرية خاصة كلفت بالمشاركة في أوسع وأكبر حملة مطاردة تنظمها الدولة العبرية في تاريخها، جعلت ملاحقيه يطلقون عليه لقب (العبقري) و(كارلوس الثعلب) و (الرجل ذو ألف وجه) وينسبون إليه صفات الرجل المقدس، والإنسان الذي يمتلك سبعة أرواح، ومن يرى ولا يُرى، وهي أمور حاولت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية إخفاء عجزها وراءها(54). فقد بحثت سلطات الاحتلال عن المهندس طوال أربع سنوات، وخلال تلك المدة، استمر القائد في عملياته بدون توقف أو هدوء. فجند الخلية تلو الأخرى، وبعث فيها روح المبادرة والنشاط بعد كل ضربة كان الصهاينة يوجهونها للمجموعات الجهادية. وبعد كل عملية، تعترف سلطات الاحتلال بأن -حتى أخباره- تختفي اختفاءً متقناً مما أصاب قيادة الشاباك في حيرة إزاء لغز المهندس. ويقول مسؤول في الشاباك تولى مسؤولية ملاحقة (المهندس) فترة من الزمن: «إن يحيى عياش يبرهن على قدرة عالية جداً في البقاء، وقد تبين أنه ذكي ومتملص بارع ويحرص على استبدال مخبئه بوتيرة عالية، وهذا ما جعل مسألة العثور عليه بالغة الصعوبة. وبلا ريب أنه كالسحر أو الكابوس كلما اقتربنا منه تنشق الأرض وتبتلعه»(55). وفي ضوء الفشل الذي منيت به الشاباك لأكثر من ثلاث سنوات، اضطر اسحق رابين إلى إعفاء الجنرال يعقوب بيري من مسؤوليته على رأس جهاز المخابرات العامة واستبداله بالجنرال كارمي غيلون الذي تعهد لدى تسلمه منصبه بأن تكون مهمته هي تصفية المهندس يحيى عياش. أما أصدقاء المهندس الذين عرفوه عن كثب فيقولون بأنه من أكثر الناس حباً في التخفي والسرية لدرجة أنه يفضل إخفاء وتغيير ملامحه حتى أمام أصدقائه واخوته في كتائب الشهيد عز الدين القسام. ويتضح من حديث الذين لازموه خلال رحلته الجهادية بأنه يبدل يومياً، وإذا ما اقتضت الضرورة عدة مرات في اليوم الواحد، هيأته التنكرية وهويته، ولم يكن ينام أكثر من ليلة واحدة في نفس المكان. ومن القصص التي ترويها المجموعات الأمنية التي عملت تحت قيادة المهندس، أن يحيى لجأ في أحد الأيام إلى إحدى المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948 متخفياً كحاخام يرتدي الملابس التقليدية للحاخامات اليهود بما في ذلك القبعة السوداء ومن تحتها تنطلق ذوائب مستعارة تناسب لونها شعر ذقنه الأسود الكثيف، بينما تدلى رشاش العوزي على كتفه مما زاد في عملية التضليل، وفي المساء عاد المهندس إلى الضفة الغربية متنكراً على هيئة رجل دين مسلم(56). ويضيف سعيد أبو طه، الذي قدمته أسبوعية يروشلايم العبرية في حزيران (يونيو) 1995 على أنه عضو في إحدى الخلايا التي عمل معها المهندس بأن يحيى اعتاد استبدال الأماكن التي يأوي إليها نحو عشر مرات يومياً، كما أنه لا يكثر من الحديث ولا ينفعل إزاء الاهتمام المكرس له في الصحف المحلية والعالمية. ولعل هذا الحرص الشديد الذي ميز تحركات المهندس هو الذي أتاح له النجاح في مواجهة حملة الملاحقة المكثفة التي استهدفته طوال أربع سنوات. والحقيقة التي يؤكدها ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي والشاباك أن المهندس كان بارعاً جداً في التنكر وأساليب التخفي حتى أن أساليبه فاقت أساليب عمل الوحدات الإسرائيلية الخاصة المعروفة باسم (المستعربين) والتي يتنكر أفرادها بهدف اغتيال نشطاء الانتفاضة. ويؤكد هؤلاء الضباط بأن يحيى تمكن من التنقل بسهولة داخل المناطق ذات الأكثرية اليهودية في وضح النهار مستخدماً عدة بطاقات هوية منها ما هو حقيقي ومنها ما هو مزور إلى جانب الحرص على قيادة سيارة بلوحة إسرائيلية مليئة بالملصقات التي يضعها المتطرفون اليهود في العادة مثل: «الجولان لنا» و«الخليل مدينة يهودية إلى الأبد» و«الله أعطى هذه الأرض لليهود» و«استعدوا لقيامة المسيح» وغيرها من الملصقات(57). ومع هذا الغموض وجدت الدولة العبرية نفسها في دوامة خانقة حين انهالت البلاغات والمكالمات من المستوطنين الذين تحدثوا عن مشاهدة (المهندس) في الحافلات أو سائراً في أحد الشوارع في عدة مدن وفي نفس الوقت، وكانت صحيفة معاريف المسائية الإسرائيلية قد نشرت يوم 24 كانون ثاني (يناير) 1995 صورتين ليحيى عياش يظهر في أحدهما بذقن كبيرة وفي الأخرى حليقاً وتحتهما سألت بخط كبير: «أين يختبىء؟» على أمل أن يساهم ذلك في زيادة إمكانية التعرف عليه بالصدفة إذا كان يلتجىء حقاً إلى المناطق ذات الأكثرية اليهودية(58). إن نجاح المهندس في الوصول إلى قطاع غزة يعتبر في حد ذاته ضربة قاسية للكيان الصهيوني، جعلت اسحق رابين في اجتماع القيادة المشتركة للموساد والشاباك وآمان (المخابرات العسكرية) يضرب الطاولة بغضب شديد، مطالباً بتفسيرات واضحة حول الكيفية التي استطاع المهندس خلالها أن يتجاوز آلاف المخبرين الإسرائيليين الذين كانوا يطاردونه وتضليل كافة أجهزة الأمن الإسرائيلية. 4- جهاد نصر أو استشهاد البعد الآخر في شخصية يحيى عياش أو (المهندس) يتمثل في إصراره على مواصلة العمل والنشاط واستعداده الدائم للاستشهاد والموت في سبيل الله ورفض الخروج أو الهرب خارج فلسطين المحتلة على الرغم من إمكانية ذلك. فالرجل الذي أرعب قيادات الاحتلال وجنوده ومستوطنيه، وجعلهم يحفظون صورته عن ظهر قلب ويعلقونها في مكاتبهم كان يدرك أن يومه سيأتي لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقضي متى تصل حياة الإنسان إلى نهايتها. ولكن هذا الإدراك لا يمنع الإنسان المؤمن أو يحول دون استمراره في الجهاد وتوريث خبرته وعلمه لإخوانه. ولهذا، كان وجه يحيى يحمر غضباً حين يحدثه إخوانه عن مغادرة الوطن لفترة ويرد عليهم: «مستحيل فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين إما نصر أو استشهاد، إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين»(59). تقول زوجة الشهيد القائد: «عهدته دائماً غير مهتم بالدنيا وكثير الحديث عن الآخرة والجنة والشهادة. ويذكر الشهداء جميعاً وبخاصة علي عاصي وعدنان مرعي وصالح نزال، وحدثني في المدة الأخيرة عن إحساسه باقتراب موعد استشهاده، بل إنه تذمر واشتكى لأن هذه الأمنية تأخرت». وتضيف أم البراء: «أخبرني يحيى أن بعض الشهداء أمثال علي عاصي وعدنان مرعي جاؤوه في المنام ليسلموا عليه. وقبل عدة أيام من استشهاده، رأى يحيى الشهيد أبو جهاد -علي عاصي- في المنام وقال له: السلام عليكم، وسأله عن الجهاد بينما سأله يحيى عن الشهيد عدنان مرعي ثم سلم عليه ومشى»(60). وتؤكد زوجة المهندس رغبة زوجها بالموت شهيداً، فقد غضب واستاء من سؤالها وطلب منها عدم تكرار الحديث حين توجهت إليه مرة بالسؤال: «لماذا لا تسلم نفسك؟ فهذا على الأقل سيمكننا من زيارتك في السجن»، بل أنه قال لها عندما سألته عن سبب تجوله بقنابل على جسمه بأنه يريد أن يفجر نفسه في اللحظة التي يحاول فيها أحد اعتقاله(61). ثمة هدف أو أمنية لا تقل أهمية عن أمنية المهندس أن ينال الشهادة كما نالها رفاقه من قبل، وهي أن يترك بعد موته فرساناً آخرين يحملون الراية. ففي رسالته الأخيرة والتي كتبها قبل استشهاده لقيادته في حركة حماس، قال: «لا تنزعجوا، فلست وحدي مهندس التفجيرات، فهناك عدد كبير قد أصبح كذلك، وسيقضون مضاجع اليهود وأعوانهم بعون الله»(62). |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#7 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() الفصل الثاني
مهندس في ورشة المقاومة أولاً: الانطلاقة المباركة ابتداءً، إن عملية جمع المادة الإعلامية عن كتائب الشهيد عز الدين القسام التي تشكل عملياً الجهاز العسكري لحركة حماس ليست مهمة سهلة، وبالتالي فإن عمليات التحقيق والتثبيت والإحاطة بكافة الجوانب المتعلقة بجهاد المهندس ومشاركته في الكتائب القسامية لم تكن مهمة سهلة. فالشهيد القائد، لم يكن يعمل لوحده، وبالتالي فإن بعض أسراره قد لا تذاع أو يكشف عنها الستار. والأمر الثاني يتعلق بأسلوب المهندس وسريته المتميزة، إذ أنه لم يكن يترك وراءه خيطاً واحداً يقود أعدائه إلى مخبأ أو خطة من خطط المستقبل. وأما الأمر الثالث الذي جعل مهمتنا صعبة، فهو يتعلق بكتائب عز الدين القسام. فهذا الجهاز، وبحكم طبيعته ومهماته، جهاز سري وعناصره معرضون للاستشهاد أو الاعتقال الفوري لمدد طويلة جداً. ولذلك، فإن المعلومات المتوفرة عنه تعتبر قليلة جداً. وبناء على ما سبق، فإن ما يمكن أن ينشر عن جهاد المهندس يحيى عياش يستند إلى أمرين: الأول: تغطية وسائل الإعلام وبخاصة العبرية منها حين يتعلق الموضوع بإحدى العمليات العسكرية التي تنفذها حركة حماس، أو عند إلقاء القبض على مجموعة مجاهدة لكتائب القسام ينسب إليها تنفيذ عمليات محددة. الثاني: لوائح الاتهام التي توجه للمجاهدين المعتقلين حين يتم تقديمهم للمحاكم العسكرية تمهيداً لإصدار الأحكام عليهم. المتابع لوضع حركة (حماس) في فلسطين المحتلة عموماً، وجهازها العسكري على وجه التحديد، يلمس أن عملية تنظيم المناطق والمجموعات العسكرية قد سارت بانتظام وبوتيرة سريعة في قطاع غزة بسبب محدودية المساحة الجغرافية والكثافة السكانية العالية، بينما شكل الانتشار الجغرافي الكبير للتجمعات السكانية في الضفة الغربية عقبة أمام عملية تنظيم الصفوف وتكوين الخلايا. كما أن عملية إقامة وترسيخ البنى التنظيمية في الضفة استلزمت عدداً أكبر بكثير من الكوادر وأجهزة أكثر اتساعاً وتعقيداً. وعلى الرغم من هذه الصعوبات،إلا أنه يمكن القول بأن حيوية الجهاز العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية وكفاءة قيادته أبقت الأطر التنظيمية متماسكة حيث قسمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق عمل رئيسة، وقفت على رأس كل منطقة منها قيادة مستقلة: منطقة الشمال وتضم نابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية - منطقة الوسط وتشمل القدس ورام الله والبيرة - ومنطقة الجنوب وتضم الخليل وبيت لحم وحلحول. وهذه المناطق قسمت بدورها إلى مناطق فرعية لتسهيل عمليات التجنيد والتوجيه والتدريب والدعم الميداني (اللوجستي). واعتمدت المناطق الرئيسة في تشكيل خلاياها ومجموعاتها على الشكل العنقودي أو الانشطاري، وهذا الشكل يتيح مجالاً أوسع في حرية العمل والحفاظ على أمن كل من الأفراد والتنظيم على حد سواء. عند التركيز على منطقة الشمال وهي المنطقة التي عمل المهندس من خلالها في بداية تنظيمه للعمل العسكري نلاحظ فعالية هذا الأسلوب، فقد تعرضت المنطقة لضربة عنيفة في الربع الثاني من عام 1992 أثر اعتقال الشيخ محمد أبو طير ومجموعته. وعلى الرغم من الآثار التي خلفها هذا الاعتقال وغياب شخصية رئيسة مثل الشيخ أبو طير، إلا أن ذلك الاعتقال لم يكشف الخلايا والمجموعات العسكرية العاملة إذ انتقل مقر القيادة الميدانية للمنطقة إلى مدينة نابلس واختير المجاهد الرمز زاهر جبارين (أبو إسلام) قائداً لمنطقة الشمال في كتائب الشهيد عز الدين القسام. وقد أجمع المحللون والخبراء العسكريون الصهاينة أن الهيئة القيادية التي جمعها المجاهد أبو إسلام لمعاونته في تولي المسؤولية العسكرية وتوجيه المجموعات بشكل جماعي قد ساهم مساهمة فعالة ومؤثرة في الانتقال بكتائب الشهيد عز الدين القسام من مرحلة البداية إلى مرحلة العمل النوعي المتميز والدائم ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه. وكان لارتفاع مستوى الفهم التنظيمي والوعي السياسي لدى أعضاء الهيئة القيادية التي عرفت باسم (الفريق الرباعي) الدور الأكبر في ارتفاع مستوى التدقيق في نوعية الأهداف التي استهدفتها العمليات العسكرية لمجموعات شمال الضفة والتي ركزت في مراحلها الأولى على الجنود باعتبارهم جزءاً من المؤسسة الحربية الإسرائيلية. وأما المستوطنين الذين استهدفتهم العمليات في مرحلة لاحقة، فهم إما يخدمون في وحدات نظامية أو في قوات الاحتياط أو في وحدات الدفاع اللوائية والحرس المدني. ولهذا، فإنهم، أي المستوطنين، يحملون سلاحاً ويحصلون عليه بصورة منظمة من الجيش ويستطيعون بالتوقيع على نموذج معين أن يأخذوا هذا السلاح معهم إلى منازلهم. ولكن الأمر الأهم، هو أن هؤلاء يشكلون موقعاً متقدماً في خطة الحرب وآلة القمع الموجهة ضد أبناء الشعب الفلسطيني. 1- الفريق الرباعي خلافاً لما كان يتوقعه جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك) وضباط القيادة في هيئة الأركان الحربية الإسرائيلية، جاءت عملية انتقال القيادة الميدانية للفريق الرباعي وكأنها عملية تبديل اعتيادية روتينية تجريها قيادات الجيوش عادة بين فترة وأخرى. ويعزى هذا الأمر إلى سببين، الأول صفاء وإخلاص القادة الأربعة للتضحية والجهاد في سبيل الله. والثاني، حالة التجانس والتوافق التي ظهرت بين أعضاء هذا الفريق مما جعله يعمل بحق كقيادة جماعية مسؤولة وفق برنامج العمل الجهادي المنظم الذي يقوم على مجموعات فدائية مهيئة تربوياً ومعنوياً ومجهزة بكافة وسائل الاستعداد الضرورية من مخابىء وأسلحة ووسائل مواصلات واتصالات إلى جانب متابعة وضع القواعد ورصد المشبوهين وعملاء الشاباك. ولم يكن هذا التجانس وليد الصدفة، فالأربعة تربوا في المحضن التربوي لجماعة الإخوان المسلمين، وهم ينحدرون من ثلاثة قرى متجاورة: رافات، وقراوة بنى حسان، و سلفيت. ومن خلال النشاطات الدعوية والتنظيمية التي كانت تنظم على مستوى القرية أو مجموعة القرى، تعرف الشهيد يحيى عياش على إخوانه الثلاثة، وتوثقت تلك المعرفة إلى علاقة أخوية حميمة جمعت بين الأقطاب الأربعة. ومع تفجير الانتفاضة الفلسطينية المباركة في كانون أول (ديسمبر) عام ،1987 شهدت القرى الثلاثة فعاليات جهادية جماهيرية بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كان للتنسيق بين الفريق الرباعي الدور الريادي في نجاح وفعالية تلك المواجهات. وقبل أن ننتقل لشرح الواقع الذي كانت عليه منطقة الشمال حين استلم الفريق الرباعي دفة المسؤولية العسكرية، لا بد من تقديم استعراض مختصر عن أعضاء هذا الفريق الذي نقل كتائب الشهيد عز الدين القسام في وقت قصير نسبياً باتجاه تصعيد العمليات العسكرية المسلحة نحو الذروة ليس في منطقة الشمال فحسب وإنما في مختلف أرجاء فلسطين المحتلة: القائد يحيى عبد اللطيف ساطي عياش (أبو البراء). القائد زاهر علي موسى جبارين (أبو إسلام): ولد في بلدة سلفيت بقضاء نابلس عام 1968م لعائلة فلسطينية معروفة، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي. وخلال دراسته الثانوية، انتظم مع جماعة الإخوان المسلمين حيث عمل في مجال الدعوة والتنظيم. وبعد تفجر الانتفاضة المباركة، انهمك في النشاطات الميدانية الجماهيرية حتى عام 1989. ففي ذلك العام، جرى فرزه للعمل في نطاق الجهاز العسكري (المجاهدون الفلسطينيون). وأستمر في عمله حتى مطلع عام ،1992 حين كلف بقيادة الخلية الأولى في كتائب عز الدين القيام في شمال الضفة الغربية. وكان وقتها يدرس في جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس. القائد علي عثمان محمد عاصى (أبو جهاد): ولد في قرية قرواة بنى حسان عام ،1964 وشارك في فعاليات الانتفاضة كأحد قادة حركة حماس في المنطقة. وكان يقوم على خدمة المطاردين من نشطاء الحركة، ثم فرز للعمل الجهادي وأصبح لجرأته وذكائه عضواً قيادياً في الجهاز العسكري، وهو متزوج وله خمسة أطفال. القائد عدنان عزيز أحمد مرعي(أبو مجاهد): ولد في قرية قراوة بنى حسان عام 1968: وبدأ حياته الجهادية في مرحلة مبكرة من عمره حيث شارك في مظاهرة عارمة عام 1978 ضد مظاهر الانحلال والفساد، فاعتقلته الشرطة الإسرائيلية. ولكنه لم يجزع، بل زاده ذلك إصراراً على مواصلة طريق الجهاد والتصدي للعملاء والمتساقطين، وفي بداية عام ،1987 التحق بركب الدعوة الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين)، وكان شديد الحب والحرص على الجهاد. ومع انطلاقة الانتفاضة المباركة، كان أبو مجاهد في طليعة السواعد المجاهدة في حركة حماس حيث اعتقل في تموز/ يوليو ،1988 لمدة خمسة عشر يوماً، وعاد الشهيد بعدها لقيادة المواجهات من جديد، ولم ترهبه العيارات المطاطية التي أصابته عدة مرات ولا العيارات النارية التي أصابت فخذه الأيمن في أيلول / سبتمبر ،1988 إذ أنه عاد مرة أخرى لمقارعة الاحتلال حتى اعتقل في 27أيلول/ سبتمبر1989 وصدر عليه حكم جائر بالسجن لمدة عامين ونصف بتهمة العضوية في حركة حماس والمشاركة في فعالياتها الجهادية وإلقاء زجاجات حارقة وتفجير خزان مياه المستوطنات القريبة من قريته. وفي السجن كان أبو مجاهد من أنشط المجاهدين في مجال الأمن، فقد حقق مع العديد من العملاء وتاب على يديه الكثيرين. وبعد خروجه من السجن في 27أذار/ مارس ،1992 التقى مع إخوانه في كتائب عز الدين القسام. 2- منطقة شمال الضفة الغربية تمتاز منطقة الشمال بالضفة الغربية باتساع الرقعة الجغرافية والكثافة السكانية مقارنة بمنطقتي الجنوب والوسط. وهذه الميزة، جعلت العمل العسكري لحركة المقاومة الإسلامية يتفاوت بالقوة والطبيعة بين المدن الثلاث الرئيسة: نابلس وجنين وطولكرم. فمدينة نابلس، ضمت مجموعة من المطاردين المنتمين إلى حركة حماس أصلاً، ولذلك سارت عملية تجنيد وتنظيم المجموعات بشكل أسرع مما سارت عليه مدينتي جنين وطولكرم، ولئن كان هؤلاء المطاردين قد انتظموا في السابق على هيئة خلايا عملت بشكل منفرد بسبب ضعف الاتصالات بين الأجهزة التنظيمية، إلا أن الفريق الرباعي تمكن من معالجة هذه السلبية في غضون وقت قصير بعد استلامه دفة القيادة. وخلافاً لما كان عليه الحال في مدينة نابلس، فإن عملية تشكيل الخلايا في مدينتي جنين وطولكرم سارت ببطء. ولذلك نشط الفريق الرباعي وبشكل حثيث بإجراء الاتصالات منذ منتصف عام 1992 لرفد الكتائب القسامية الناشئة بالعناصر المؤهلة إلى جانب الاتصال مع المطاردين الذين كانت تغص بهم مدينة جنين والقرى المحيطة بها لاختيار المؤهل منهم للعمل في صفوف الجهاز العسكري لحركة حماس. وبرز من المطاردين الذين جرى الاتصال بهم كل من الشهيدين إبراهيم سليمان سليم جلامنه (20 عاما) وإبراهيم سعيد إبراهيم زريقي (21 عاماً) اللذين عملا في السابق في إطار الفهد الأسود التابع لحركة فتح ضمن خلية واحدة قامت بنصب كمائن لدوريات الاحتلال حيث اتفق القائد علي عاصي معهما على العمل في إطار الكتائب، ولكن التطبيق العملي لهذا الاتفاق لم ير النور، إذ تعرض المنزل الذي كان يختبىء فيه الشهيدين في الضاحية الشرقية لمدينة جنين لحصار من قبل الوحدة الخاصة بحرس الحدود بعد يوم واحد من إبلاغهما قيادتهما السابقة قرارهما الانضمام لحركة حماس. ولم يكد يمضي وقت طويل على استشهاد البطلين في مدينة جنين، حتى نجح المهندس يحيى عياش في استقطاب المجاهد عصام عبد العزيز موسى براهمة الذي كان له دور مميز في الدفاع عن نشطاء وأنصار حركة حماس في منطقته(1). استكمل الفريق الرباعي مستلزمات الانتقال بالجهاد نحو مرحلة الدفع بقوة باتجاه تنفيذ العمليات العسكرية وتحديد الأهداف في الربع الأخير من عام ،1992 وذلك بعد أن وصل المهندس بالهام من الله وسعيه الذاتي وبعون وتدريب من الشيخ صبري حسين موقدة* [الشيخ صبري حسين موقدة: ولد في قرية الزاوية القريبة من مدينة نابلس عام 1939م وهو عضو في جماعة الإخوان المسلمين منذ فترة طويلة وتعرف الشيخ الذي يعمل إماماً لمسجد القرية على المهندس أثناء دراسة الأخير في الزاوية، و ومن خلال النشاطات الدعوية في المنطقة. وقد اعتقلته سلطات الاحتلال في تشرين الثاني ،1994 ووجهت له تهمة تدريب المهندس.] إلى مبتغاه الذي كان يبحث عنه وهو تحويل المواد الكيماوية والأولية إلى متفجرات. 3- المهمة الأولى تواكب إضراب الحركة الأسيرة في الوقت الذي كان فيه أسرى المقاومة في المعتقلات والسجون الصهيونية يعلنون إضرابهم عن الطعام مطالبين بحقوقهم الإنسانية، كان المهندس يقوم بالتحضير لهجوم مسلح للإعراب عن تضامن حركة حماس مع المعتقلين. فبعد أن قامت مجموعة استطلاع في منطقة الوسط (القدس ورام الله) بتجميع كافة المعلومات المتعلقة بتنقلات دوريات الاحتلال وسيارات المستوطنين في منطقة قرى غرب رام الله، حددت قيادة المنطقة الطريق المؤدي لمستوطنة متتياهو الواقعة على قمة جبل يطل على قرية خربتا بنى حارث كمكان ملائم لنصب كمين على هذا الطريق الذي يشهد عادة حركة كثيفة للسيارات. وفي ضوء الاتصالات بين رام الله ونابلس، انتدب القائد أبو إسلام «المهندس» للتنسيق والتخطيط وتجهيز العبوات اللازمة. لم تكن المنطقة مجهولة بالنسبة بالمهندس الذي كان ما يزال يتردد على جامعة بيرزيت لإنهاء مشروع التخرج، فقد اعتاد على التنقل بين قرى المنطقة برفقة إخوانه في الحركة الإسلامية. ولهذا، لم يكن المهندس بحاجة إلى جولات استطلاعية عديدة حتى يستقر رأيه على نقطة في أعلى الطريق المؤدي للمستوطنة حيث يمكن الوصول إلى هناك والانسحاب بسهولة بعد وضع عبوات ناسفة تربط باسطوانات غاز تنفجر حال اصطدام السيارات بالسلك الكهربائي الممدود على عرض الشارع والمتصل بالعبوات الناسفة. ولتنفيذ الخطة، أسند المهندس إلى المجاهد عصام براهمة قيادة العملية وتوجيه المجاهدين محمد فلنه وعطا فلنه من قرية صفا المجاورة. وفي مساء يوم السبت الموافق 17 تشرين أول (أكتوبر) من عام ،1992قامت المجموعة بزرع العبوات الناسفة في النقطة المحددة وهي مفترق بلعين الذي يدخل إلى المستوطنة واختار أفراد المجموعة موقع العبوة ليكون تحت شجرة خروب كبيرة تغطى أغصانها جزءاً من الشارع، حيث قام عصام بتنفيذ توجيهات المهندس وزرع العبوة الناسفة وغطاها بأغصان الشجرة ثم مد السلك الكهربائي على عرض الشارع قبل أن يعود أفراد المجموعة بعد ذلك إلى قاعدتهم. وفي نحو الساعة الثامنة والنصف من مساء ذلك اليوم، انفجرت العبوات الناسفة إثر اصطدام حافلة ركاب صغيرة كانت تقل عشرة مستوطنين بالسلك الكهربائي. واندلعت النار في الحافلة واختلط صراخ المستوطنين فيها بدوي الانفجار الشديد الذي هز المنطقة بأكملها. وقد أسفرت العملية عن مقتل مستوطنة تدعى يهوديت أوسترن (57 عاماً) وأصابت تسعة آخرين بجروح وحروق مختلفة وفق ما اعترف به المتحدث باسم الشرطة الإسرائيلية(2). ولم يؤد اعتقال جهاز الشاباك المجاهدين محمد فلنه وعطا فلنه وتقديمهما إلى المحكمة العسكرية التي أصدرت عليهما حكماً بالسجن المؤبد، إلى أي خيط يربط بين المجموعة الفدائية والشهيد يحيى عياش. وباعتراف القادة العسكريين الصهاينة الذين هرعوا إلى المنطقة برفقة خبراء المتفجرات لفحص شظايا العبوة وبقايا السيارة المدمرة، فإن إعداد متفجرات عالية الإتقان كتلك التي تم استخدامها يتطلب مهارة وتدريباً عالي المستوى(3). 4- تشكيل الوحدة الخاصة وربطها بامام اليامون لم تكن عملية التفجير هي المهمة الوحيدة التي حرص المهندس على إنجازها، إذ أن قضية الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية كانت تشغل حيزاً كبيراً من وقت المهندس ومداولاته مع المسؤولين عن كتائب الشهيد عز الدين القسام في مدينتي القدس ورام الله. وخلال النقاش الذي دار بين القيادات العسكرية، جرى استعراض الإمكانات والأوضاع التنظيمية التي كانت تمر بها منطقة الوسط وبخاصة بعد اعتقال قائد المنطقة وحجز خليفته في الاعتقال الإداري. وفي نهاية الأمر، اتفق المهندس مع هؤلاء المسؤولين على تشكيل خلية خاصة من أربع مقدسيين تكون مهمتها الرئيسة أسر ضباط أو جنود من الجيش أو الشرطة أو حرس الحدود والمساومة عليهم في مقابل الإفراج عن عدد من المعتقلين والأسرى. ونظراً لحساسية هذه المهمة، فقد عمد المهندس إلى ربط هذه الخلية مع منطقة الشمال عبر الشيخ إبراهيم نواهضة (إمام مسجد قرية اليامون القريبة من مدينة جنين). كما اتفق أيضاً على تزويد الخلية بالأسلحة اللازمة ومبلغ من المال لشراء سيارة فورد تحمل لوحات إسرائيلية كتلك التي تستخدمها الشرطة. 5- الصدفة تجمع بين المهندس والشاباك كان الموضوع الأول على جدول أعمال الفريق الرباعي بعد عودة المهندس من رام الله هو ترتيب طبيعة العلاقة بين الفريق والشيخ إبراهيم نواهضة. وقد اتفق المجتمعون على أن يكون الاتصال خيطياً بين أبو إسلام والشيخ دون أن تظهر شخصية أي من القادة الآخرين أو يذكر اسمهم خلال أي من الاتصالات التي تجري مع إمام مسجد اليامون. وفي ذلك الاجتماع أبلغ القائد أبو إسلام إخوانه بأنه أجرى اتصالاً مع قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسام في قطاع غزة عبر القائد عماد عقل الذي كان يتواجد في ذلك الوقت في مدينة الخليل. وبناء على هذا الاتصال أوفد عماد عقل ضابط ارتباطه مع قطاع غزة المجاهد محمد دخان* [محمد دخان: من مواليد مخيم النصيرات عام 1972 وهو ابن المجاهد الشيخ عبد الفتاح دخان، القائد التاريخي في جماعة الإخوان المسلمين وأحد المؤسسين السبعة لحركة حماس، وشقيق الشهيد طارق دخان، أحد قادة كتائب القسام. وقد اشترك المجاهد محمد دخان في عدة عمليات عسكرية في الخليل وقطاع غزة، أسفرت عن قتل وجرح العديد من جنود الاحتلال. واستمر في جهاده المبارك حتى اعتقل بتاريخ 11/4/1993 بعد اشتباك عنيف في مخيم النصيرات (راجع كتابنا موعد مع الشاباك).] للقاء أبو إسلام ليعرض على الفريق الرباعي التعاون والتنسيق. وعندئذ، تناول المهندس هذه القضية التي على ما يبدو أنها جاءت في سياقها الموضوعي، حيث طرح أمام إخوانه الثلاثة الخطوط العريضة لعملية كبيرة في قلب مدينة تل أبيب على أن يتزامن التنفيذ مع الذكرى السنوية الثالثة لاستشهاد الشيخ الدكتور عبد الله عزام. وبعد تداول تفاصيل العملية، أقر المجلس تنفيذ العملية بحيث يقوم أبو إسلام بشراء المواد الكيماوية اللازمة لتصنيع العبوات الناسفة، وتوفير السيارة الملائمة للتفخيخ، واختيار ثلاثة مجاهدين لنقل السيارة إلى مدينة تل أبيب بعد أن يقوم المهندس بتجهيزها وتركيب العبوات داخلها. كما أوعز القادة إلى أبو إسلام بأن يقوم بالاتصال مع المجاهد محمد دخان الذي كان ينتظر التعليمات لتبليغ قطاع غزة بتجهيز أنفسهم لاستقبال المجاهدين الثلاثة الذين سيتولون تنفيذ العملية وترتيب أمور مغادرتهم إلى خارج فلسطين عبر القطاع(4). المهندس قام بتركيب العبوات التي قدر وزنها بأربعين كيلو غراماً من المواد المتفجرة ربطت بجهاز التفجير وأربع اسطوانات غاز لزيادة قوة التأثير. وحسب الخطة، وضع المهندس بمساعدة أبو إسلام، العبوات في حافلة صغيرة من طراز (فان- فولكسفاغن) تحمل لوحات معدنية صفراء استولى عليها أحد المجاهدين من مدينة تل أبيب مساء يوم الجمعة الموافق 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992. وعليه، يعد هذا التاريخ بداية (قصة الحب التي يعيشها المهندس مع الحافلات الإسرائيلية)، كما يقول ألكس فيشمان في مقاله الطويل الذي نشره في صحيفة معاريف تحت عنوان (أعرف عدوك: المهندس هو المطلوب الأول) في تشرين أول (أكتوبر) من عام 1994م. وفي منتصف ليلة الجمعة، غادر المجاهدون الثلاثة (عبد الفتاح أمين علي وعماد عبد الرحيم عبد الحافظ حسين وأحمد حسن أحمد حسان) بلدة سلفيت لاستلام الحافلة المفخخة من أبو إسلام والمهندس تمهيداً لنقلها إلى مدينة تل أبيب بعد أن حدد المهندس لهم الموقع المراد تفجيره، وهو تجمع عسكري كبير لجنود الاحتلال في منطقة غوش دان. ولكن المجموعة لم تصل إلى هدفها، ففي نحو الساعة الثانية من فجر يوم السبت، لاحظ اثنان من رجال الشرطة الإسرائيلية كانا يشرفان على تنظيم الجمهور أثناء قيام سيارات الدفاع المدني بإطفاء حريق شب في تلك الفترة بمنطقة أور يهودا الحافلة المفخخة تعود أدراجها وقد أطفأت أنوارها حين تفاجأ المجاهدون الثلاثة بكثافة سيارات الإطفاء والشرطة. وعلى الفور، قام الشرطيان بإبلاغ قيادتهما التي لبت النداء وأرسلت قوات معززة من الشرطة وحرس الحدود بحثاً عن السيارة المشبوهة. وبعد مطاردة طويلة، أغلقت خلالها سلطات الاحتلال الشوارع الرئيسة ومفترقات الطرق في مختلف ضواحي تل أبيب بسيارات الشرطة والحواجز، وصلت الحافلة المفخخة إلى طريق مسدود في أحد شوارع رامات أفعال بعد أن صدمت سيارة الشرطة التي كانت تغلق الشارع وأصابتها بأضرار(5). أخلت الشرطة الإسرائيلية السكان من حي رامات أفعال وطلبت منهم النزول إلى الملاجيء، فيما هرع خبراء المتفجرات نحو الحافلة لتفكيك العبوات الناسفة، إلا أن براعة المهندس في تركيب المتفجرات أعجزت الخبراء الذين اضطروا إثر ذلك إلى تفجير الحافلة المفخخة في مكانها الذي ضبطت فيه مما أحدث خسائر مادية جسيمة سواء في السيارات القريبة، وحتى في واجهات وجدران البنايات المجاورة(6). وفي نحو الساعة الثامنة وخمس دقائق من صباح يوم السبت، تمكنت وحدات الشرطة وحرس الحدود التي قامت بتمشيط المنطقة مستعينة بكلاب بوليسية وطائرات عمودية من اعتقال المجاهدين أحمد حسان (23 عاماً) وعماد عبد الرحيم (26 عاماً)، بينما تمكن المجاهد الثالث من العودة إلى قاعدته بسلام.ويومها ذعر رجال المخابرات لسببين، الأول من قدرة المهندس على إعداد عبوات فعالة من مواد كيماوية متوفرة في المحلات العامة. كما ذعر رجال الشاباك باعتبار أن مجرد التفكير بالوصول إلى قلب تل أبيب لتنفيذ عملية من هذا النوع يعد أمراً في غاية الخطورة(7). البطش والتعذيب الذي مارسه جهاز الشاباك مكن المحققين من انتزاع الاعترافات من المعتقلين، وسرعان ما أصبح الفريق الرباعي وعدد من المجاهدين مطارداً ومطلوباً لسلطات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة الانتماء لكتائب الشهيد عز الدين القسام، ولكن هذه الاعترافات لم تكشف من الذي يحضر المتفجرات ويعد السيارات المفخخة من بين أعضاء الفريق الرباعي. وبسبب الدور الكبير الذي ظهر عليه أبو إسلام من خلال ما أدلى به المجاهدان المعتقلان ظن ضباط الشاباك أنه مهندس هذا النوع من العمليات. وحول هذا الأمر، كتب الصحفيان تسفى غيلات وموشيه زوندر تحت عنوان (يوميات مطاردة): «تم التحقيق مع نشطاء حماس، وهؤلاء ليسوا أسخياء لإعطاء المعلومات خلال التحقيق، غير أن اسم يحيى عياش طرح لأول مرة، وكان ذلك بالنسبة للمحققين مجرد ورقة فهو لم يعتقل سابقاً ولم يعرف كنشيط في الانتفاضة»(8). ويضيف الجنرال جدعون عيزرا ، النائب السابق لرئيس الشاباك والمسؤول عن عملية مطاردة المهندس خلال عامي 1993 و1994 معلقاً: «كان عياش حريصاً جداً، فهو لم يكن شخص من أي زمان ومكان، وإنما كان يختار بنفسه إلى من يصل ومتى. وحينما كان يعتقل أحد من معارفه، كان يستعرض فوراً في فكره ما الذي يعرفه المعتقل، وماذا بقدرته أن يقول، وكان يغير وفقاً لذلك نشاطاته»(9). 6- الاحتفال بالعيد الخامس للانتفاضة المباركة ليس سراً أن الطريقة التي عملت بها كتائب الشهيد عز الدين القسام جعلت من الصعب على المخابرات الإسرائيلية الوصول إلى كافة الخلايا والقيادات الفاعلة، حتى وأن ألقت هذه المخابرات القبض على أحد المجاهدين وأجبرته تحت وطأة التعذيب الشديد على الاعتراف. وفي حالة المجاهدين أحمد وعماد، فإن اعترافهما على أسماء أعضاء الفريق الرباعي، جاء بعد صمود على المعاناة مكن المهندس وإخوانه الثلاثة من مغادرة قراهم والأماكن التي كانوا يستخدمونها. ومما ساعد الفريق الرباعي على الاختفاء والتواري هو اتخاذهم الاحتياطات الأمنية منذ أن غادرت الحافلة المفخخة إلى تل أبيب. فقد انتقل زاهر وعلي ويحيى وعدنان إلى قواعدهم السرية لإدارة العمل بوتيرة لم يؤثر فيها معرفة الشاباك لشخصياتهم ومهامهم. وبعد فترة زمنية قصيرة، عاود الفريق الرباعي نشاطه وتنظيمه للعمليات العسكرية حيث جلس المجاهدون الأربعة للتخطيط لتصعيد الجهاد في ذكرى انطلاقة الانتفاضة المباركة. فتم الاتفاق مع المجاهد محمد دخان الذي عاد إلى مدينة الخليل على إيصال رسالة بهذا المضمون إلى القائد حاتم المحتسب الذي تولى القيادة خلفاً لعماد عقل، فيما عكف المهندس على إعداد عبوتين ناسفتين وتجهيز سيارة مفخخة. كما أوعز أبو إسلام إلى الوحدة الخاصة بالتخطيط لعملية أسر عسكري إسرائيلي مع الأخذ بعين الاعتبار الابتعاد عن مدينة القدس، نظراً لكون المهندس قد خطط بدوره لتفجير السيارة المفخخة هناك. الوحدة الخاصة نفذت عمليتها في مدينة اللد المحتلة منذ عام ،1948 وأبطال الخليل وغزة أوقعوا سيارة جيب في كمين عند الحاووز بمدينة الخليل حيث قتل جنديان وأصيب الضابط. وأما المهندس، فقد سبق هذه الفعاليات بتجهيزه السيارة المفخخة بعبوتين ناسفتين وصلتا باسطوانتي غاز لزيادة قوة التفجير وجهاز توقيت. وقام مجاهدان بقيادة السيارة في منتصف ليل الخميس الموافق10 كانون أول (ديسمبر) 1992م وأوقفاها في مرآب إحدى البنايات الواقعة على طريق الخليل في القدس، إلا أن هذه العملية أيضاً لم يكتب لها النجاح، إذ شاهد أحد سكان البناية المجاهدين الملثمين يغادران المرآب بعد أن تركا السيارة فيه، فقام خبراء المتفجرات بتفجير السيارة في مكانها مما أدى إلى حدوث أضرار مادية فقط(10). 7- هدايا إلى الصامدين في مرج الزهور عاشت الضفة الغربية وقطاع غزة أجواء حرب حقيقية في أعقاب سلسلة العمليات التي نفذتها حركة حماس احتفالاً بالذكرى الخامسة لانطلاقة الحركة وتفجر الانتفاضة المباركة. فقد ألغت الحكومة الإسرائيلية إجازات جميع أفراد الشرطة وحرس الحدود، ووضعت قوات الجيش والشرطة في حالة استنفار شامل. ولم تكن حملات الاعتقال والتنكيل التي شنتها القوات الإسرائيلية سوى البدايات في سلسلة من الإجراءات التعسفية وعدت الحكومة الإسرائيلية مواطنيها بتنفيذها عقب نجاح عملية أسر الرقيب أول نيسيم طوليدانو. إذ جمع اسحق رابين، رئيس الوزراء ووزير الدفاع آنذاك مجلس وزرائه المصغر في جلسة سرية لمناقشة قائمة طويلة جداً من الإجراءات القاسية والفورية ضد حماس على حد تعبير وزير الإسكان، بنيامين بن اليعازر. وقرر مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر قبول اقتراح رئيس هيئة الأركان العامة بإبعاد جماعي لفترة محددة. وبالفعل، غادرت ثمان حافلات الأراضي المحتلة يوم الخميس الموافق 17 كانون أول (ديسمبر) 1992 نحو جنوب لبنان وهي تقل (415) معتقلاً، وهم الذين افترضت سلطات الاحتلال أن إبعادهم سيؤدي إلى توجيه ضربة قاسية لبنية حركة حماس. ظن رابين أن إبعاد المئات إلى مرج الزهور كفيل بتعطيل عمليات الجهاد والمقاومة ضد جنوده وآلته العسكرية. ولكن ظنه خاب، فقد تصاعدت العمليات الجهادية في غزة وخان يونس والقدس ونابلس والخليل. وبلغ هذا التصعيد ذروته بتعاون الخلايا في مناطق الضفة الغربية الثلاث من أجل توسيع نطاق العمل العسكري، وأثمر هذا التعاون بتصفية الكابتن حاييم نحمانى، ضابط الشاباك المسؤول عن منطقة بيت لحم في مدينة القدس وقتل جنديين عن مفترق طرق قرب مدينة الخضيرة أثناء محاولة الوحدة الخاصة أسرهما. ولم يكن قطاع غزة بأقل فاعلية، فقد صال القساميون وجالوا في كمائنهم وهجماتهم ضد الدوريات العسكرية، برز منها العملية البطولية، ضد سيارة الجيب التي كانت تقوم بأعمال الدورية في مستوطنة جاني طال والتي أسفرت عن مقتل جنديين وهروب ثالث بعد إصابته والاستيلاء على رشاش يعود لأحد الجنود القتلى. ولئن تلقى الفريق الرباعي كتاباً من القيادة المركزية العليا لكتائب الشهيد عز الدين القسام جاء فيها: «عليكم الابتعاد من الآن عن أية أعمال تتصل بالتحقيق مع العملاء والتركيز على العمل ضد الجنود الإسرائيليين... نطالبكم بتنفيذ عمليتين كهدية للمجاهدين الذين ابعدوا إلى لبنان، إحدى العمليتين متروكة لاختياركم، والثانية عليكم بتنفيذها بواسطة سيارة ملغومة»(11) ، إلا أن مساهمة منطقة شمال الضفة الغربية وبخاصة خلال شهر آذار (مارس) 1993 كانت الأبرز والأوسع والأعنف من بين مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي ذلك الشهر، جهز المهندس عبوتين ناسفتين ألقاهما المجاهد أحمد حسن مرشود* [أحمد حسن مرشود: ولد في مخيم بلاطة عام ،1971 وفيه تلقى تعليمه حتى حصل على الشهادة الثانوية ليلتحق بعدها في جامعة النجاح الوطنية لدراسة الشريعة الإسلامية. وقد عمل أحمد مساعداً للمهندس حتى اعتقاله في 11/4/،1993 حيث أصدرت المحكمة العسكرية في نابلس بتاريخ 10/1/1994 عليه حكماً بالسجن الفعلي سبعة أعوام وثلاثة أعوام مع وقف التنفيذ بتهمة حيازة مواد متفجرة وإجراء اتصالات لتفجير سيارة مفخخة بعد تنظيم شاب من منطقة الرام بالقدس لهذه المهمة.] على دورية عسكرية قرب مركز شرطة نابلس(12). وفي مفترق مستوطنة شيلو، دهس المجاهد ساهر التمام ضابطي صف كانا في طريقهما لمعسكر الجيش الإسرائيلي القريب من مدينة نابس فقتلهما. كما خطط الفريق الرباعي لعمليتين جريئتين، الأولى استهدفت سيارة جيب عسكرية تقوم بحراسة حافلة تقل طلاباً في طريقهم من مستوطنة (عيلى زاهف) إلى مستوطنة (اريئيل) وتمر بانتظام عبر مفترق بروقين، بينما استهدفت الثانية سيارة جيب عسكرية أيضاً كانت تقوم بأعمال الدورية وسط سوق الخضار القديم في مدينة طولكرم. وقد تزامنت العملية الأولى مع ذكرى معركة الكرامة الخالدة، إذ قامت مجموعات الاستطلاع برصد ومراقبة المفترق تمهيداً لاختيار المكان الملائم لنصب الكمين. وفي نحو الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم السبت الموافق 20 آذار (مارس) ،1993 مرت الحافلة تتقدمها سيارة الجيب، وما أن أضحت السيارة بمحاذاة المجاهدين الثلاثة (سلامة عزيز أحمد مرعي، وأشرف تيسير وادي، وعبد الفتاح أمين علي)، حتى فتح القساميون نيران أسلحتهم الرشاشة (أم - 16 وكلاشنكوف) باتجاه ركابها مما أدى إلى مقتل قائدها وأصابت الجنديين الآخرين بجروح بليغة(13). وفي العملية الثانية ، أرسل القائد أبو إسلام أحد المجاهدين ببندقية أوتوماتيكية من نوع عوزي إلى مدينة طولكرم حيث كمن لدورية تابعة لقوات حرس الحدود في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم السبت الموافق 27 آذار (مارس) ،1993 وأطلق الرصاص من بعد خمسة أمتار فقط، فقتل جندياً قبلا أن يتوارى عن الأنظار منسحباً إلى قاعدته بسلام(14). ومع توالي عمليات الفريق الرباعي النوعية في نابلس وجنين وطولكرم، لم يكتف المهندس بتجهيز سيارة مفخخة واحدة، بل قام بإعداد وتركيب كمية كبيرة من المتفجرات واسطوانات الغاز في ثلاث سيارات أخفيت في المخزن الكائن في شارع القدس بمدينة نابلس. بعد تجهيز السيارات الثلاث، عقد المهندس وإخوانه أبو إسلام وأبو مجاهد وأبو جهاد اجتماعاً مشتركاً مع عبد الكريم حنيني، قائد جهاز الأمن، للتشاور ووضع الخطط لتنفيذ ثلاث عمليات كبيرة داخل المناطق المحتلة منذ عام 1948. وبناء على تنسيب من المهندس، أقر المجتمعون أن تكون العمليات الثلاث استشهادية بهدف إيقاع أكبر عدد من الإصابات في صفوف الإسرائيليين، وبعد تكليف مجموعات الاستطلاع بدراسة ومراقبة أماكن وتجمعات الجنود والمستوطنين، عكف المهندس على وضع تفاصيل العمليات الثلاث وطريقة التنفيذ، وعرض على إخوانه الأماكن الثلاث المقترحة، وهي: 1- مفترق بيت ليد حيث تكون محطة السفر مليئة بالجنود في يوم الأحد من كل أسبوع. 2- مقر هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع في تل أبيب. 3- متجر (كول بو) التابع لسوق (همشبير لتسرخان) التجاري في شارع الملك جورج بمدينة القدس. ولكن خطط العمليات الثلاث لم تخرج إلى حيز التنفيذ، على الرغم من إعداد السيارات وتجهيز الشباب الاستشهاديين، فقد فرضت سلطات الاحتلال العسكرية الحصار الأمني الشامل على الضفة الغربية وقطاع غزة إثر الهجوم الجريء للوحدة الخاصة عند مدخل مستوطنة تلمي اليعيزر القريبة من مدينة الخضيرة صباح يوم الثلاثاء الموافق 30 آذار (مارس) 1993 والذي أسفر عن مصرع شرطيين والاستيلاء على سلاحهما الشخصي(15). ولأن فكرة الوصول في السيارة المفخخة إلى مدينة القدس في ظل هذا الحصار وعشرات الحواجز العسكرية التي أقيمت على طول الطريق وعند مفترقات الطرق، أصبحت صعبة وتعد نوعاً من المغامرة غير مضمونة النتائج، عدل المهندس الخطة بحيث يذهب المجاهد المقدسي الذي كان مكلفاً بعملية القدس بسيارته المفخخة إلى مدينة جنين بهدف تفجيرها الإمكانات الحافلات العسكرية التي كانت تنقل جنود الاحتلال على طريق (العفولة-جنين). وعلى نحو سريع، اتصل أبو إسلام بالشيخ إبراهيم طاهر نواهضة* [الشيخ إبراهيم طاهر نواهضة: من مواليد قرية اليامون بقضاء جنين عام 1965. وواصل تعليمه في مدارس القرية حتى حصل على شهادة الثانوية العامة، ليلتحق بعدها بكلية الدعوة وأصول الدين في بيت حنينا. وأثناء دراسته عمل في إطار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في منطقة القدس ورام الله، مشاركاً في فعالياتها الجماهيرية والدعوية. ولدى انتهاء دراسته، عين إبراهيم معلماً في مدرسة اليامون وإماماً لمسجد الحي الشرقي في مدينة جنين. وقد انضم الشيخ إبراهيم إلى كتائب عز الدين القسام في أواسط عام ،1992 وأضحى مسؤول جنين حتى اعتقاله في 1/6/1993 حيث أصدرت المحكمة العسكرية حكماً بسجنه عشر سنوات.]، ضابط ارتباط الوحدة الخاصة الذي أضحى مسؤولاً لكتائب الشهيد عز الدين القسام في مدينة جنين، وطلب منه استطلاع حركة السيارات والحافلات العسكرية الإسرائيلية في منطقة جنين وبخاصة على طريق (العفولة- جنين)، وبعد قيام أحد المجاهدين بعملية المراقبة والاستطلاع، أبلغ الشيخ إبراهيم قائده أن حركة السيارات الإسرائيلية في المنطقة ضعيفة، ونصحه بعدم إرسال السيارة المفخخة(16). |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#8 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() ثانياً : انتشار الإبداع
تعرضت منطقة شمال الضفة الغربية في كتائب الشهيد عز الدين القسام إلى ضربة قاسية على مدى شهري نيسان وأيار، وإن كان تأثير هذه الضربة قد اقتصر على غياب قيادات رئيسة من ساحة العمل الجهادي دون أن تترك أثراً كبيراً على فعالية العمليات الجهادية. ففي يوم الثلاثاء الموافق 23 شباط (فبراير) ،1993 اعتقلت قوة من الجيش الإسرائيلي موسى محمد حسين باري (25 عاماً) المطلوب منذ عامين بتهمة إلقاء زجاجات حارقة باتجاه سيارات إسرائيلية وخطف عملاء يتعاونون مع الشاباك وحيازة وسائل قتالية وهو من قرية أماتين بقضاء نابلس، ورياض توفيق مرعي (21 عاماً) المطلوب أيضاً منذ عامين بتهمة المشاركة في المظاهرات باعتباره أحد نشطاء حركة حماس في قرية قراوة بني حسان أثناء محاولتهما عبور نهر الأردن واجتياز الحدود. وبعد جهود مضنية من قبل المخابرات الإسرائيلية وتحقيق وتعذيب مكثف وشديد مارسه ضباط الشاباك على الشابين، اعترف موسى ورياض في نهاية شهر آذار (مارس) عن اتصالهما بالقائد أبو إسلام الذي وفر لهما الملجأ. وكشف المجاهدان المعتقلان أمام المحققين عن حقيقة وجود شقتين كانتا تحت تصرف الكتائب، واحدة في نابلس والأخرى في طوباس بقضاء جنين. ومن خلال هذه المعلومات، كثف ضباط وعملاء الشاباك مراقبتهم للشقتين الآمنتين بهدف رصد من يتردد عليهما واختيار أنسب الأوقات لمداهمتهما. وفي الأول من نيسان (إبريل)، هاجمت الوحدات الخاصة الإسرائيلية يرافقها ضباط من جهاز الشاباك الشقتين حيث اعتقل اثنان من طوباس وأربعة من نابلس. وكانت المفاجأة السارة بالنسبة لسلطات الاحتلال وجود القائد زاهر جبارين (أبو إسلام) والمجاهد سلامة عزيز مرعي من بين المعتقلين في البناية السكنية الواقعة في طلوع شارع 24 بمدينة نابلس، حيث آثر المجاهدان تسليم نفسيهما حفاظاً على حياة السكان بعد أن أنذر جنود العدو المواطنين الفلسطينيين بضع دقائق فقط قبل أن يفجروا البناية على من فيها(17). خيب القائد أبو إسلام توقعات ضباط الشاباك الذين تناوبوا على التحقيق معه، وصمد في أقبية الزنازين. فلم يدْلِ بأي معلومات تفيد العدو وتؤثر على خطط المهندس وأخويه أبو جهاد وأبو مجاهد على الرغم من التحقيق معه نحو سبعة أشهر متواصلة ظل فيها معزولاً عن بقية المعتقلين في سجن طولكرم، وهي أطول مدة تحقيق يقضيها معتقل فلسطيني. ولم يكتف العدو بذلك، إذ أخضع القائد أبو إسلام لتعذيب شديد أدى إلى سوء أوضاعه الصحية وانخفاض وزنه ليصل إلى أربعين كيلو غراماً، كما سحب ضباط الشاباك أبو إسلام أكثر من مرة بعد صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد إضافة إلى ثلاثين عاماً للتحقيق معه وممارسة تعذيب جسدي ونفسي بحقه كلما نفذ المهندس عملية جديدة(18). ورغم أوضاعه الصحية والنفسية الصعبة، إلا أن أبو إسلام ضرب مثالاً رائعاً في التحدي أرغم المحللين العسكريين الصهاينة على الاعتراف بصلابة المجاهد القسامي أمام محققيه. فها هو عمنوئيل روزان يكتب في صحيفة معاريف: «كان زاهر جبارين يعلم الكثير لكنه عرف كيف يسكت، وعندما اعتقل في الأول من نيسان الماضي أبلغ الشاباك بالتفصيل عن الأمور والقضايا التي يدرك جيداً بأن الشاباك يعلمها تماماً، لكنه لم يتطرق مثلاً إلى المقدسيين الأربعة الذين يعرفهم جيداً». ويضيف: «في مطلع نيسان الماضي اعتقل الشاباك ناشطاً في حركة حماس من قرية طمون وكان هذا الشاب يعلم بالإعداد للسيارة المفخخة التي انفجرت بعد عدة أيام في مستوطنة ميحولا، وعلى الرغم من ممارسة ضغوط جسدية عليه إلا أنه لم يتكلم ولم يقل كلمة واحدة ولو تحدث هذا الشاب لكان بالإمكان إحباط عملية ميحولا»(19). 1- ساهر التمام يحمل هدية المبعدين الحصار العسكري والأمني حال دون وصول الاستشهاديين لأهدافهم في تل أبيب وبيت ليد والقدس، ولكنه لم ينل من عزيمة وتصميم المهندس. فبعد عدة عمليات رصد واستطلاع، وبحث عن منافذ من هذا الطوق، توصل جهاز الأمن إلى طريق آمن يستطيع من خلاله المهندس أن يُخرج السيارة المفخخة من مخازن الحركة المستأجرة. ومرة أخرى، يثبت المهندس وفريقه قدرتهم على التأقلم والتكيف مع الأوضاع الأمنية والإجراءات العسكرية الإسرائيلية، بل والمبادرة لابتكار أساليب مناسبة لمواجهة النشاط الاستخباري لأجهزة الاحتلال. فقد ركب المهندس العبوات الناسفة التي ربطت بثلاثة اسطوانات غاز في سيارة الجيب التي كانت تحمل لوحة ترخيص إسرائيلية وتم تكليف المجاهد ساهر حمد الله التمام النابلسي* [ساهر حمد الله تمام النابلسي: ولد في منطقة الجبل الشمالي بمدينة نابلس عام 1971 لعائلة تمتلك مصنعاً للحلاوة والطحينة قرب مخيم بلاطة. وعرف ساهر طريقه مبكراً لمسجد عقبة بن نافع ومسجد مخيم بلاطة بعد انتقال عائلته للسكن في عمارة بنتها فوق المصنع الخاص بها. وقدم المجاهد كل ما يملك من وقت وجهد وإمكانيات لهذا الدين ودعوة الإخوان المسلمين التي آمن بها وأخلص لها. وقد أنهى الشهيد عام 1990 تعليمه في المدرسة الثانوية، ومنذ ذلك الوقت انتظم في جامعة النجاح الوطنية إلى جانب مساعدته لوالده كموزع بضائع.] بقيادتها. وسوياً، مع جهاز الأمن، اختار المهندس هدفاً عسكرياً جديداً وهو مقهى (فيلج إن) الذي يعج عادة بالجنود الصهاينة، وهو يقع في مستوطنة ميحولا القريبة من منطقة العين البيضاء على بعد (15) كيلو متر من نهر الأردن. ويُعد هذا الاختيار، مؤشر هام على النقلة التكنولوجية والتطور النوعي، إذ أنها المرة الأولى -على مستوى جميع الفصائل والمنظمات الفلسطينية- تضع مجموعة مقاتلة نصب أعينها اختراق مستوطنة تضم مصانع حربية تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية وتهاجم بنجاح كبيرالأهداف العسكرية المقررة لها مستخدمة سيارة مفخخة. وهو ما فاجأ الأجهزة العسكرية والدوائر السياسية الإسرائيلية، وجعل الجنرال يهودا باراك يسرع إلى المنطقة ويضع قواته التي قامت بتمشيط المنطقة تساندها الطائرات المروحية في حالة استنفار(20). بدأ الهجوم الاستشهادي، الذي تزامن مع مسيرة (الأكفان) التي بدأها المبعدون باتجاه حاجز الجيش الإسرائيلي عند معبر زمريا على بعد كيلو مترين اثنين من مخيمهم في مرج الزهور، بعمليات رصد ومراقبة مكثفة من قبل أبطال سرية شهداء عيون قارة شارك في بعض مراحلها القادة الثلاث (أبو البراء وأبو جهاد وأبو مجاهد). وفي نحو الساعة الثانية عشر من بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 16 نيسان (إبريل) ،1993 انطلق الشهيد ساهر التمام بسيارته المفخخة التي اخترقت كل الحواجز والإجراءات الصهيونية، واتجه بأقصى سرعته نحو المستوطنة الإسرائيلية حيث انفجرت في ساحة المقهى بين حافلتين عسكريتين الأولى مستأجرة من شركة ايجد (خط 96) وتقل جنوداً إسرائيليين في طريقهم من طبريا إلى القدس، بينما أقلت الثانية جنوداً من غور الأردن إلى وسط فلسطين المحتلة. وقد أسفر الانفجار الهائل عن سقوط عشرات القتلى والجرحى واحتراق الحافلتين كلياً وإلحاق أضرار كبيرة بالمطعم (21). وعلى الأثر، أغلقت قوات الاحتلال الطريق الرئيس في منطقة غور الأردن وقامت بأعمال التمشيط والتحقيق، فيما هبطت طائرتان مروحيتان بجانب الموقع لنقل القتلى والمصابين بجراح خطيرة، وحضرت عدة سيارات إسعاف في وقت لاحق لنقل بقية المصابين إلى مستشفى (هعيمك) في العفولة لتلقي العلاج. لم يستطع يهودا باراك الذي هرع إلى مكان العملية برفقة قائد المنطقة الوسطى تحمل منظر جنوده المحترقين ونجاح كتائب القسام في اختراق إجراءاته وحواجزه العسكرية وتوجيه ضربة موجعة إليه في أكثر الأماكن أمناً بالنسبة للدولة العبرية. ولذلك أوعز للرقيب العسكري بمنع الصحفيين من دخول المنطقة نهائياً لتغطية تفاصيل العملية وقصر أخبارها على ما ينشره الناطق العسكري في محاولة لمراعاة مقتضيات الأمن والتوازن بين معطيات الموقف السياسي والعسكري والنفسي في تحديد حجم الخسائر التي يعترف بها. وانسجاماً مع هذه السياسة فقد حرص الناطق العسكري في هذه العملية على تقليص حجم خسائره بغية الحفاظ على الروح المعنوية للصهاينة، فأعلن أن جنديين فقط قتلا وأصيب ثمانية آخرين بجروح مع أن شاهدة العيان (يزيت ريس) قالت في حديث لراديو الجيش الإسرائيلي: «إن أشخاصاً كثيرين كانوا يقفون على مسافة قريبة جداً من السيارة الملغومة، إن كانت بالفعل سيارة، وكل المنطقة بين الحافلتين كانت مزدحمة بالناس»(22). ومهما يكن من أمر الخسائر البشرية التي مني بها جيش الاحتلال فإن هذه العملية التي تمثل باكورة العمليات الاستشهادية التي خطط وجهز لها المهندس ألقت ظلالاً من الشك حول جدوى الانطلاقة الأمنية الإسرائيلية. إذ صرح المحلل السياسي الإسرائيلي أهارون كلاين عقب العملية بأنه يتوجب على الإسرائيليين وأجهزتهم الأمنية «الاستعداد لمواجهة مرحلة جديدة من عمليات المنظمات الإسلامية المتطرفة». واعترف كلاين وغيره من المحللين الإسرائيليين بأن عملية ميحولا تعيد إلى أذهان الإسرائيليين العمليات الاستشهادية التي نفذتها المقاومة الإسلامية والوطنية اللبنانية ضد التجمعات والأهداف العسكرية الإسرائيلية بعد احتلال الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان(23). 2- مفاجآت المطاردة المتبادلة كثفت قوات الاحتلال ووحدات المخابرات جهودها لوضع اليد على المهندس وأخويه، فقامت قوات ضخمة بمداهمة قريتي قراوة بنى حسان ورافات وحاصرت منازل القادة الثلاثة وعائلاتهم. وكانت أول مداهمة لقرية رافات، مسقط رأس المهندس، بتاريخ 25 نيسان (إبريل) ،1993 حيث يعتبر هذا التاريخ بداية مطاردته الرسمية.واستمرت المداهمات وعمليات التفتيش والبحث عن يحيى في كل مكان، عشرات العملاء جندوا من أجل تصيّد أي معلومة عنه وعوقب أبناء رافات واعتقل أشقاء المهندس وأصدقائه ومعارفه، وبات ضباط الشاباك وجنود الوحدات الخاصة في منزله أملاً أن يحضر يحيى للقاء عائلته. المطاردة المتبادلة بين القادة الثلاثة وقوات الاحتلال وأجهزتها الاستخبارية تواصلت وأضحت معلماً رئيساً وحدثاً اعتاد المواطنون الفلسطينيون في قريتي رافات وقراوة بنى حسان على مشاهدته ومعايشته بشكل يومي تقريباً. ومع تطور جهود ووسائل الشاباك وتحقيقاته، حقق العدو اندفاعاً مخابراتياً في الثلاثين من نيسان (إبريل) حين اعتقل الكابتن جميل وهو من ضباط المخابرات المسؤولين عن متابعة المهندس القائد عبد الحكيم حنيني وعثر في منزله بقرية بيت دجن على بعض الوثائق العائدة لجهاز الأمن في منطقة شمال الضفة الغربية. وكانت تلك الوثائق مفصلة وواضحة، بحيث لم تترك للمجاهد أي فرصة لإنكار صلته بالمهندس. ومع موجة المداهمات، توالت الاعتقالات التي طالت نحو (124) من أعضاء حركة حماس، اشتبه العدو بضلوع نحو عشرين منهم بتقديم مساعدة وخدمات لجهازي الأمن وكتائب الشهيد عز الدين القسام، وبعد تحقيقات مكثفة اتضح لجهاز الشاباك بأن أبو إسلام يعد القائد الكبير لمنطقة شمال الضفة الغربية. ولكن المعركة لم تكن من طرف واحد، ومثلما حققت الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بعض الاختراقات في جبهة الحرب ضد حركة حماس، كان مجاهدو الحركة يكيلون الصاع بصاعين عبر عدة عمليات عسكرية جريئة تميزت بالعنف وشدة الأثر على الجانب الإسرائيلي. فبعد نحو أسبوع من اعتقال قائد جهاز الأمن لحركة حماس في بيت دجن، عادت الوحدة الخاصة مرة أخرى إلى المناطق المحتلة منذ عام ،1948 وهي تحمل تعليمات جديدة من القادة الثلاث بتوجيه ضربة قاسية لأجهزة الأمن الإسرائيلية. وكان الهدف الذي نقل للوحدة عبر الشيخ إبراهيم نواهضة واضح، وهو أسر جندي والمحافظة عليه للمطالبة بالإفراج عن عدد من المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وفي نحو الساعة الرابعة من فجر يوم الخميس الموافق 6/5/،1993 رصدت الوحدة الخاصة سيارة شرطة متوقفة عند تقاطع للطرق في (بيلو) التي تبعد خمسة كيلومترات عن مستوطنة رحوفوت القريبة من تل أبيب وبداخلها ضابط شرطة برتبة كولونيل يدعى شالوم جيوتا (43 عاماً) كان على ما يبدو يستريح من عمله. وفوجيء قائد الوحدة الذي اقترب من الضابط الإسرائيلي شاهراً رشاش (عوزي) بأن باب السيارة مغلق من الداخل مما اضطره إلى إطلاق النار عبر النافذة. وفي هذه الأثناء اقتربت سيارات إسرائيلية من المفترق مما حال دون إكمال العملية وأسر العقيد جيوتا. وعندئذ، قررت الوحدة الفدائية الانسحاب بعد أن أطلق قائدها النار باتجاه الضابط وأصابه بجراح بالغة الخطورة(24). وزاد جلادي الشاباك من ضغوطهم الجسدية والنفسية على المعتقلين حتى قاد التحقيق معهم في نهاية شهر أيار (مايو) إلى الخلاصة الواضحة: زاهر جبارين يعرف جيداً شخصية المقدسيين الأربعة، أعضاء الوحدة الخاصة، ومن المحتمل وجود علاقة له بعملية أسر نيسيم طوليدانو وقتل الشرطيين في مدينة الخضيرة. فاعتقل إبراهيم نواهضة، ومن ثم أعضاء الوحدة الخاصة، وبعد أقل من مائة ساعة على الاعتقال سارع اسحق رابين الذي كان يشغل منصبي رئيس الحكومة ووزير الدفاع في نفس الوقت إلى عقد مؤتمر صحفي (زف) فيه للشعب الإسرائيلي خبر الاعتقالات والضربة القاسية التي اعتقد أنها أنهت منطقة الشمال في كتائب الشهيد عز الدين القسام(25). وخاب ظن رابين إذ عاد المهندس إلى المواجهة المباشرة مع جنود الاحتلال من جديد مستهدفاً هذه المرة موقعاً عسكرياً حرص اسحق رابين على زيارته أثناء تفقده للوحدات الإسرائيلية العاملة في مدينة نابلس قبل بضعة أيام من العملية التي نفذها القادة الثلاث. ويومها، لم يكن أمام رئيس الأركان الإسرائيلي (يهودا باراك) سوى الاعتراف بأن «هذا الحادث خطير جداً وله نتائج أخطر، وسنجري تحقيقات كاملة لمعرفة كيف وقع الحادث بالضبط»(26). وتتلخص تفاصيل هذه المواجهة، بقيام القادة الثلاث بوضع الخطة التفصيلية لعملية الشهيد ساهر التمام اعتماداً على المعلومات التي جمعتها مجموعة الاستطلاع المكلفة بمراقبة تحركات الجنود في الموقع العسكري فوق عمارة العنبتاوي التي تطل على ساحة الساعة بوسط مدينة نابلس. وعلى الأثر، تحرك ثلاثة مجاهدين نحو الموقع العسكري الإسرائيلي صبيحة يوم الأربعاء الموافق 12/5/،1993 حيث باغت اثنان منهم جنديان وانهالا عليهما بالسكاكين دون أن يقوما بأية حركة حيث قتل أحدهما وأصيب الآخر بجروح خطيرة في رأسه، ثم استولى المجاهدان على بندقيتي الجنديين وهما من نوع (إم - 16). وعاد المجاهدون الثلاثة إلى قاعدتهم بسلام بعد أن ظن جنود الاحتلال الذين يقومون بأعمال الدورية في المدينة أنهم من «المستعربين» فتركوهم(27). ومع أن اشتداد الهجمة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية ضد حركة حماس، وتواصل حملات الاعتقال والمداهمة للمنازل يضغط على المجموعات الفدائية ويجعلها تقلص نشاطها مؤقتاً وتركز على إجراءات الطوارىء وترتيب المخابىء، إلا أن المهندس وإخوانه وإن لم يهملوا هذا الأمر، فإنهم استمروا في وضع الخطط التفصيلية للأهداف المنتخبة. فمنذ اللحظة الأولى لإعلان المتحدث العسكري الإسرائيلي نبأ إعدام مجاهدي القسام الستة* [الشهداء: حسين أبو لبن وحسن حموده وعماد نصار وبسام الكرد وخالد العالم وأنور أبو لبن.] أثناء محاولتهم اجتياز الحدود المصرية- الفلسطينية عند مدينة رفح، أعد المهندس خطة للرد على الجريمة والثأر لدماء الشهداء بضرب المراكز والمجمعات التجارية والاقتصادية باعتبار أن هذه المراكز تمثل أهدافاً استراتيجية بالنسبة للكيان الصهيوني والتعرض لها يعد ضربة موجعة بشرياً ومعنوياً ومادياً. وبسبب طبيعة الهدف، فقد قرر المهندس أن تكون العملية هذه المرة باستخدام المواد المتفجرة المتصلة بساعة وجهاز تفجير، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نشر حالة مستديمة من التوتر والقلق لدى سلطات الاحتلال والمستوطنين وتستنزف قدرتهم على الاحتمال كونهم لا يعرفون متى وأين وكيف ستأتيهم الضربة. وبعد تصنيع المواد المتفجرة، غادر المهندس قاعدته في صباح يوم الأحد الموافق 16 أيار (مايو) ،1993 ووضع عبواته الناسفة في أحد مطاعم الوسط التجاري بالطابق الأول من مجمع (لندن مينيستور) المؤلف من (12) طابقاً سكنياً وتجارياً، ويقع هذا المجمع في شارع رئيسي وسط مدينة تل أبيب يسمى (شارع بن غفيرول). وقد انفجرت العبوات عند الساعة السادسة والربع من صباح ذلك اليوم محدثة دوياً هائلاً وحريقاً كبيراً أتى على جزء كبير من المجمع، حيث هرعت فرق الدفاع المدني وسيارات الإسكان لنقل المصابين وإخلاء الطوابق العليا، بينما قامت الشرطة بإغلاق منطقة الانفجار. وقد اعترفت سلطات الاحتلال بمقتل إسرائيلي واحد وإصابة خمسة وثلاثين آخرين بجروح وحروق مختلفة، إلى جانب خسائر مادية بالغة في المكاتب والشقق التي يضمها المجمع قدرت بملايين الدولارات(28). بعد ذلك وبناء على الاتفاق بين القادة الثلاثة، جهز المهندس عبوة ناسفة كبيرة وجهاز تفجير بحيث تنفجر العبوة حين تكون محطة انتظار الجنود على الشارع الرئيس (نابلس – القدس) قرب قرية حوارة مليئة بالجنود. وسلم المهندس العبوة للقائد أبو جهاد الذي قام بدوره بنقلها لمجاهد قسامي تدرب على تشغيل جهاز التفجير ودرس موقع محطة انتظار الحافلات العسكرية. ولئن سمع أهالي مدينة نابلس صوت الانفجار الضخم الذي دمر المحطة وحاجز قريب للجيش الإسرائيلي بشكل كامل في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 19 أيار (مايو) ،1993 إلا أن الناطق العسكري الإسرائيلي الذي اعترف بخسائره المادية لم يشر إلى حجم الإصابات التي لحقت بجنوده، بل إن الإذاعة الإسرائيلية زعمت أن الانفجار لم يوقع إصابات في صفوف الجنود الإسرائيليين. 3- لقاء في ربوع المدينة المقدسة الانطباعات التي عكستها تحليلات العسكريين الصهاينة حول كتائب عز الدين القسام ووجود أجهزة أو غرف عمليات عسكرية ذات كفاءة متقدمة تشرف على وضع الخطط واختيار الأهداف وترشيح المجاهدين لهذه العملية أو تلك، تعود إرهاصاتها إلى ذلك اللقاء التاريخي بين قادة المطاردين في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة في كتائب الشهيد عز الدين القسام لتقييم الأوضاع ووضع الخطط الكفيلة بتصعيد الجهاد في كافة المناطق حسب ما سربته وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلاً عن مصادر استخبارية تولت التحقيق مع عدد من معتقلي الحركة الإسلامية. وما يهمنا من هذا اللقاء هو ما يخص المهندس تحديداً، إذ جرى انتداب القادة محمد عزيز رشدي وخالد الزير ويحيى عياش للعمل سوياً في منطقة وسط الضفة الغربية (القدس ورام الله) ومساعدة الشيخ عبد الرحمن العاروري (قائد المنطقة) لتفعيل وتنشيط المقاومة وربط الخلايا والمجموعات القائمة وتنظيم مجموعات جديدة. وعلى أهمية هذا الانتقال نستطيع القول بأن تبني القيادات الميدانية لرغبة المهندس بأن يتولى تدريب مجموعات قسامية منتقاة على تحضير وتجهيز العبوات الناسفة وتركيب السيارات المفخخة والقنابل البشرية كان له أثار وانعكاسات كبيرة على مسيرة الجهاز العسكري لحركة حماس و ظهور ما يسمى (تلاميذ المهندس). ولعل اهتمام المهندس بتوريث علمه وخبرته في هذا المجال جعلته يضع اللبنة الأولى لهذا المشروع الجهادي الكبير قبل أن يباشر مهامه في مدينتي القدس ورام الله. 4- الميجر حيون يقع في المصيدة المصيدة هي سلاح بسيط لكنها خطرة نظراً لاعتمادها على الحيلة والذكاء. وهي تختلف عن العبوات الناسفة التي اعتاد المهندس تركيبها وتجهيزها، غير أن ما تخلقه في نفوس العدو من الاضطراب وإضعاف المعنويات شيء له قيمته في الحرب. ولكي تقوم المصيدة بعملها المطلوب، يجب أن يتوفر فيها عنصر المفاجأة، إذ أنه لا يصبح لها أي قيمة إن علم العدو مكانها أو توقع وجودها في مكان ما. وهذا يتناسب تناسباً طردياً مع التقدم في الابتكار والاجتهاد الشخصي في عمل المصيدة ووضعها ضمن أشياء جذابة لا بد من معالجتها عند رؤيتها. وكما أشرنا في السابق، انتقل المهندس إلى مدينة خليل الرحمن والتقى قائداً منطقة الجنوب (محمد عزيز رشدي وخالد الزير)* [ محمد عزيز رشدي عيسى: ولد في مخيم العروب عام 1969 لعائلة فلسطينية هاجرت عام 1948 من مدينة الفالوجة. ونشأ منذ صغره في المسجد وتربى على مائدة القرآن وعلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وتميز بالذكاء والفطنة والحركة المكثفة. وبعد إتمامه الثانوية العامة، التحق بمعهد المعلمين في رام الله حيث أصبح لقوة شخصيته وذكائه وتربيته أميراً للكتلة الإسلامية في المعهد. ورغم حداثة سنه، كان مثالاً في القيادة والإدارة وفي لم الشمل وتجاوز التحديات والصعوبات. وقد اعتقل أكثر من مرة ولكنه كان صلباً. خالد محمود مصطفى الزير: ولد في قرية حرملة عام 1969 لعشيرة معروفة بالإيمان والصلاح من عشائر التعامرة. تلقى تعليمه في إحدى مدارس قريته ثم أتم الإعدادية في مدرسة تقوع. وانتقل بعد ذلك إلى المدرسة الشرعية في المسجد الأقصى المبارك. وبين جنبات الأقصى وعلى مصاطبه، كانت البيعة لجماعة الإخوان المسلمين في عام 1984. وسار خالد في هذه الدعوة جندياً مخلصاً لا يعرف التعب ولا الكلل حيث أضحى إماماً وواعظاً ومحاضراً في مسجد قريته. وبعد تفجر الانتفاضة المباركة، لعب دوراً رئيساً في فعاليات حركة حماس بمنطقة بيت لحم، أصيب في إحداها بقدمه. وقد اعتقل أربع مرات كان آخرها في نوفمبر من عام 1992.]. وسوياً أقام القادة القساميون ثلاث خلايا ضمت أربعة عشر مجاهداً بالإضافة إلى ضابطي الارتباط، أمجد أبو خلف ممثلاً للقائد محمد عزيز رشدي ومحمد صالح أكميل ممثلاً للمهندس. ويستدل من التحقيق الذي أجرته سلطات الاحتلال مع أفراد هذه الخلايا بعد اعتقالهم في نيسان (إبريل)من عام ،1995 بأن مهمة هذه الخلايا كانت تتمحور حول التعلم على تركيب العبوات الناسفة والمواد المتفجرة وتجهيز السيارات المفخخة(29). وإن كنا سنعود مرة أخرى لهذه الخلايا عند حديثنا عن تلاميذ المهندس، إلا أن ذلك لا يمنع من الحديث عن مشاركة إحدى هذه الخلايا في المصيدة التي نصبتها كتائب الشهيد عز الدين القسام للإيقاع بكبير خبراء المتفجرات في الشرطة الإسرائيلية التي كانت صحف العدو تتحدث عنه وعن كفاءته في تعطيل العبوات الناسفة، ولم يكن الميجر يوسي حيون (35) عاماً صيداً سهلاً نظراً لخبرته الطويلة في مجال عمله. قام المهندس بتجارب عديدة على أنواع العبوات، وصولاً إلى تصميم عبوة لا يستطيع الميجر حيون النجاة منها. وفي نهاية الأمر، جهز المهندس عبوة خاصة بيوسي حيون كانت عبارة عن أنبوب معدني (3 أنش) مغلق من أحد طرفيه بينما الطرف الأخر مسنن ويغلق بواسطة غطاء مسنن بعد حشو الأنبوب بحوالي خمسين جرام من المواد المتفجرة يتم وصلها ببطارية صغيرة وصاعق تفجير. وفي الوقت الذي تنفجر فيه العبوة لحظة إزالة غطاء الأنبوب، أخرج المهندس سلكين متصلين ببطارية من طرفي الأنبوب، ولم يكن لهذين السلكين أو البطارية علاقة بالعبوة، بل وضعها لإيهام خبير المتفجرات بأنه مع قص السلك يبطل العبوة ومن ثم يقوم بفتحها لتنفجر به. وبعد إعداده وتركيبه لهذه المصيدة، جهز المهندس أربع عبوات أخرى تنفجر في أوقات مختلفة، وقد استهدف المهندس من ذلك، أن تنفجر إحدى هذه العبوات، فيقوم جنود الاحتلال بتمشيط المنطقة فيعثرون على العبوات الأربعة الأخرى ومن بينها المصيدة. وعند استدعاء خبير المتفجرات، الميجر يوسي لتفكيك العبوات التقليدية، تنفجر المصيدة في وجهة فتقضي عليه. وطبقاً للخطة المعدة، قام أحد المجاهدين بنقل العبوات الخمس ووضعها في أماكن متفرقة على طريق جانبي يؤدي إلى موشاف شيكيف الذي يقع على منحدرات جبال الخليل الغربية القريبة من فلسطين المحتلة منذ عام 1948. وفي الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم السبت الموافق 5 يونيو (حزيران) ،1993 وعند مرور سيارة جيب تابعة لجهاز الدوريات الخضراء المكلف بالسهر على المحميات الطبيعية، انفجرت عبوتان ناسفتان مما أدى إلى تدمير السيارة وجرح اثنان من ركابها وفق ما اعترف به الناطق العسكري الإسرائيلي. وعلى الإثر، دفع جيش الاحتلال وقوات الشرطة بقوات معززة من الجنود وحرس الحدود لتمشيط المنطقة حيث عثرت هذه القوات على العبوات الثلاث الأخرى. فتم الاتصال بقيادة الشرطة، التي أرسلت الميجر يوسي حيون لتفكيك العبوات المكتشفة. وأثناء محاولة الخبير الإسرائيلي تفكيك المصيدة، انفجرت العبوة وإصابته بجروح خطيرة نقل على إثرها بطائرة مروحية عسكرية إلى مستشفى هداسا بمدينة القدس حيث فارق الحياة بعد ثلاثة أيام(30). 5- القدس على خط النار غادر المهندس مدينة خليل الرحمن بصحبة القائد محمد عزيز رشدي، وبين أودية القدس وكهوفها، عكف القائدان يحيى ومحمد على جمع المعلومات والتخطيط لوصول إحدى المجموعات القسامية إلى قلب المدينة المقدسة بعد اختراق الطوق الأمني والحصار العسكري المفروض على المدينة بهدف احتجاز عشرات المستوطنين الصهاينة كرهائن في عملية جريئة لمبادلتهم مع عدد من المجاهدين المعتقلين في سجون الاحتلال ومعتقلاته. ولم يكن نوع هذا العمل جديداً فقد سبق وأن نفذت مثل تلك العمليات داخل فلسطين، في فترة معينة وبخاصة بين عامي 1974 و،1978 إلا أن الجديد هذه المرة هو التخطيط للعملية وانطلاق المجموعة المجاهدة من داخل الأرض المحتلة بعد أن كان التخطيط والتدريب والتسليح والانطلاق يتم من قواعد المنظمات الفلسطينية في جنوب لبنان. المعلق السياسي الإسرائيلي، يوآف كسبي، لخص في التحليل الذي كتبه إلى حد بعيد حجم التأثير النفسي لعملية الشهيدين حاتم المحتسب ويعقوب مطاوع على الحكومة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وقال: «ليس واضحاً حتى الآن كيف ينجح -رغم الحصار والحواجز- ثلاثة مطلوبين في التجول بحرية في شوارع القدس وهم مزودون بكميات كبيرة من البنادق والوسائل القتالية الأخرى. وعلينا ألا ننسى أن ماهر أبو سرور أحد كبار المطلوبين في المناطق التي يحاول أفراد الشاباك منذ نصف عام إلقاء القبض عليه عبثاً. وأبو سرور بالذات، بدل أن يهرب ويختفي يخطط ويخرج لتنفيذ عملية استعراضية على مقربة أمتار من مكتب مفتش عام شرطة إسرائيل»(31). عملية الرصد والاستطلاع التي أجراها القائدان بشكل مكثف، وأشرفا على بعض مراحلها شخصياً، بينت أن أنسب هدف هو حافلة تابعة لشركة (ايجد) تعمل على خط رقم (25) الذي يمر في منطقة التلة الفرنسية باتجاه مقر القيادة العامة للشرطة الإسرائيلية وتكون هذه الحافلة عادة مزدحمة بالمستوطنين المتجهين إلى أعمالهم. وبعد وضع الخطط التفصيلية، جهز المهندس ثلاثة حقائب تحوي كل منها ست قنابل يدوية وعبوة ناسفة تكفي لتدمير الحافلة. ولأن هذا النوع من العمليات يعتبر من أخطر العمليات العسكرية، ذلك أن المجاهد المتجه لحجز الرهائن يعرف سلفاً أن فلسفة العدو العسكرية قائمة على أسطورة التفوق وعدم القدرة على احتمال أي هزيمة مهما كان حجمها، سترفض الرضوخ والقبول بإجراء عملية التبادل والإفراج عن المجاهدين المعتقلين، فقد اتفق القائدان على اختيار ثلاثة من المجاهدين المطاردين الذين يمتازون بالجرأة والتضحية الكبيرة إلى جانب القدرة القتالية العالية. وكان هؤلاء الثلاثة، وهم ماهر أبو سرور ومحمد الهندي وصلاح عثمان بإمرة القائد خالد الزير ويتبعون منطقة بيت لحم. وعلى الفور، أرسل القائد محمد عزيز رشدي أحد مساعديه لترتيب عملية انتقال الأبطال الثلاثة من قاعدتهم الجبلية في الجنوب إلى إحدى المغارات في منطقة القدس. ولحساسية العملية، وأهمية السرية في مثل هذه الحالات، اتفق القائدان على أن يقتصر الاتصال بالمجموعة التي أطلق عليها اسم (سرية الشهيدين حاتم المحتسب ويعقوب مطاوع) على القائد محمد عزيز. فاستلم أسد الكتائب، وهو اللقب الذي عرف به البطل محمد عزيز رشدي، حقائب المتفجرات التي أعدها المهندس، والتقى بالمجاهدين الثلاثة وأطلعهم على تفاصيل الخطة وأهدافها. وبناء على الاتفاق مع المهندس، وزعت على أعضاء السرية بحيث يرتدي ماهر أبو سرور بزة عسكرية إسرائيلية ويتنكر بشخصية جندي ويحمل حقيبة متفجرات وعلى كتفه بندقية من نوع (أم - 16)، ويتولى الإعلان عن العملية ومطالب المجموعة وهي الإفراج عن الشيخين المجاهدين أحمد ياسين وعبد الكريم عبيد بالإضافة إلى خمسين معتقل من حركة حماس وخمسين معتقلا آخر من أسرى حركة فتح والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة). كما تضمنت الخطة أن يرتدي قائد العملية، محمد الهندي بدلة وربطة عنق حتى يظهر على هيئة رجل أعمال ويحمل معه حقيبة دبلوماسية بداخلها ست قنابل وعبوة ناسفة ويجلس في مؤخرة الحافلة. وأما صلاح عثمان فقد تقرر أن يتنكر بشخصية طالب جامعي ويحمل مسدس وحقيبة شبيهة بتلك التي يحملها محمد الهندي، ومهمته السيطرة على قائد الحافلة وتوجيهه بالابتعاد عن خط السير التقليدي(32). انتقلت السرية المجاهدة في ساعات الفجر الأولى من يوم الخميس الموافق 1يوليو (تموز) ،1993 وهو اليوم المقر لتنفيذ العملية إلى موقع قريب من محطة انتظار الحافلات في التلة الفرنسية ريثما تمر الحافلة رقم (25). وفي الساعة السابعة والثلث صباحاً، توقفت الحافلة في المحطة، ليصعد إليها الأبطال الثلاثة ثم تنطلق مجدداً وعلى متنها أكثر من أربعين راكباً. وخلال دقائق معدودة، سيطرت السرية المجاهدة على الحافلة الإسرائيلية حيث وقف المجاهد صلاح عثمان بجانب السائق شاهراً مسدسه فيما تحصن البطلان ماهر ومحمد في وسط ومؤخرة الحافلة. ووزع المجاهدون بياناً كانوا يحملونه معهم تضمن أهداف العملية ومطالبهم العادلة، وهددوا بتفجير الحافلة بمن فيها وتحميل اسحق رابين المسوؤلية عن ذلك في حالة عدم استجابة السلطات العسكرية الإسرائيلية لمطالبهم. كما طالب القساميون في بيانهم بالسماح للحافلة بالتوجه إلى الحدود اللبنانية لتسهيل ترتيبات الإفراج عن الرهائن بعد إطلاق سراح المعتقلين(33). وبدلاً من سماع لغة العقل والحكمة أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي (اسحق رابين) بصفته وزيراً للدفاع الوحدات الخاصة الإسرائيلية بالعمل على إيقاف الحافلة بالقوة ومنعها من مواصلة سيرها. وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، وبعد أن أجبرت الحافلة على التوقف على بعد مائة متر فقط من مقر قيادة الشرطة الإسرائيلية في حي الشيخ جراح، بدأ جنود الاحتلال بإطلاق النار مما أدى إلى سقوط العديد من الركاب الصهاينة برصاص جنودهم، كما أصيب عدد آخر غير محدد من الجنود خلال تبادل إطلاق النار مع المجاهدين. ولكن إصابة المجاهد صلاح عثمان المبكرة برصاصة في رأسه أفقدته الوعي حال دون استكمال العملية كما خطط لها، حيث فقد المجاهدان ماهر أبو سرور ومحمد الهندى السيطرة على الحافلة. وبدأ الركاب بالقفز من النوافذ مستغلين انشغال المجاهدين في مواجهة جنود الاحتلال وحرس الحدود الذين بدأوا بالإطباق على الحافلة ومحاصرتها. وعلى الرغم من ذلك، تمكن البطلان من مغادرة الحافلة واختراق الحصار حيث أوقفا سيارة من طراز (رينو-5) تقودها مهندسة إسرائيلية وآجبراها على التوجه نحو الطريق التي تربط جنوب القدس بالضفة الغربية لتأمين انسحابهما(34). اصطدم المجاهدان أثناء محاولتهما مغادرة المدينة المقدسة متوجهين نحو مدينة بيت لحم بحاجز عسكري أقامته قوات الاحتلال عند أحد الجسور في مستوطنة جيلو (جنوب القدس الشرقية) حيث تبادلا إطلاق النار مع جنود العدو وألقيا قنبلتين يدويتين كانتا بحوزتهما مما أدى إلى سقوط عدد من قوات الاحتلال بين قتيل وجريح. وقد أصيبت المهندسة الإسرائيلية برصاصة قاتلة أطلقها أحد الجنود الإسرائيليين أثناء الاشتباك. وعلى الأثر، تولى المجاهد الذي كان يجلس في المقعد الأمامي القيادة وتمكن من تخطي الحاجز العسكري متابعاً السير نحو بيت لحم، ولكن استمرار إطلاق الرصاص المتبادل بين المجاهد في المقعد الخلفي للسيارة وقوات العدو التي استخدمت مختلف أنواع الأسلحة الآلية والقذائف الصاروخية أدى إلى انفجار سيارة الرينو واندلاع النيران فيها قبل أن تصطدم بجدار حجري على جانب الطريق عند مدخل بيت لحم مما أدى إلى ترجل الفارسين ماهر أبو سرور ومحمد الهندى إلى جنات الخلد(35). 6- حقيبة مفخخة في مفوضية الشرطة لم يسع مجاهدو القسام للقتل من أجل القتل كما حاولت سلطات الاحتلال ترويجه على وسائل الإعلام العالمية، إذ أن الرهائن لاقوا كل معاملة إنسانية من قبل الأبطال الثلاثة. وكان باستطاعة المجاهدين إيقاع عشرات الإصابات القاتلة في صفوف الرهائن إثر الاشتباك المبكر ولكنهم تجنبوا ذلك، وجاءت الإصابات التي وقعت في صفوف الرهائن على يد الجيش الإسرائيلي نفسه رغم إنكار سلطات الاحتلال وتجاهلها المتعمد لهذه الحقيقة. إذ أعلن مفتش عام الشرطة الإسرائيلية أن العملية أسفرت عن مصرع مستوطنتين بالإضافة إلى إصابة سائق الحافلة واثنين من الركاب، مدعياً في نفس الوقت أنه لم تحدث إصابات في صفوف العسكريين الإسرائيليين. وعلى الرغم من إعلان المتحدث العسكري الإسرائيلي عن استشهاد البطلين ماهر أبو سرور ومحمد الهندى ونقل البطل صلاح عثمان فاقداً الوعي إثر إصابته الخطيرة في رأسه إلى أحد المستشفيات، إلا أن فصول هذه العملية لم تنته على هذا الحد. ومرة أخر، تحول الصدفة دون أن يترك المهندس بصماته على مقر قيادة الشرطة الإسرائيلية في حي الشيخ جراح بمدينة القدس. فقد قام رجال الشرطة الذين وصلوا إلى مكان العملية بنقل الأمتعة التي تركها الركاب داخل الحافلة حين فروا مذعورين بما فيها حقيبة صلاح عثمان المفخخة في سيارة (ترانزيت) إلى قسم المفقودات في قيادة الشرطة. وبعد حوالي ساعة، وعندما انفجرت السيارة التي استقلها الشهيدان أبو سرور والهندى، ثارت الشبهات أنه قد يكون بين الأمتعة التي جمعت من الحافلة عبوات شبيهة. وبالفعل، عند فتح الحقائب في قسم المفقودات، عثر خبراء المتفجرات على العبوة وقاموا بإبطال مفعولها بعد أن تم إخلاء المبنى وجرى تحويل الشارع الذي يمر أمام مقر مفوضية الشرطة.(36) 7- يوم الوفاء والجمعة الحزينة النهاية غير المتوقعة لعملية الشهيدين حاتم المحتسب ويعقوب مطاوع، وما آل إليه صلاح عثمان الذي بقي على قيد الحياة، دفع بالقائدين القساميين، يحيى عياش ومحمد عزيز رشدي اللذين لم تكن سلطات الاحتلال على علم أو دراية في وجودهما في المنطقة ووقوفهما خلف العملية، إلى مغادرة المدينة المقدسة والانتقال إلى مدينة رام الله. وهنا، نتوقف لعلنا نعيش لحظات في ذلك المناخ الجبلي الذي ذاق فيه القائدان ومساعديهما حلاوة الجهاد في سبيل الله. فقد كان القساميون يعيشون في إحدى المغارات التي كان ارتفاعها لا يتجاوز المتر وعرضها متر ونصف. ولذلك، كان المجاهدون يصلون وهم جالسون، دون أن يضيئوا إلا شمعة واحدة، يقومون بحجب ضوئها عن الخارج نظراً لأن الضوء مهما كان خافتاً إلا أنه يوحي بوجود أناس في تلك المنطقة الجبلية الموحشة. وعندما كان القساميون يخرجون من تلك المغارة، يقومون بربط الأشجار القريبة من المغارة بشبكة من الخيوط الرفيعة حتى يعرفوا إن كان أحد قد اهتدى إلى ملجأهم أم لا(37). وفي منطقة رام الله، أعد الشيخ عبد الرحمن العاروري* [عبد الرحمن إبراهيم يوسف العاروري: ولد في قرية عارورة بقضاء رام الله عام 1962 وتلقى تعليمه في مدارسها حتى نال شهادة الثانوية العامة، ليعمل بعدها في حقل التجارة. والتزم بجماعة الإخوان المسلمين عام 1979 حيث عمل بنشاط في مجال الدعوة والتنظيم إلى جانب المشاركة في النشاطات العامة. وقد انضم الشيخ عبد الرحمن إلى كتائب عز الدين القسام منذ البدايات الأولى لتأسيس الجناح العسكري لحركة حماس، ورافق تطورات العمل حتى غدا مسؤول الكتائب في منطقة رام الله. فاعتقل في 6/8/1992 إدارياً، وكان من المقرر أن يفرج عنه في 6/3/1993 حين أبعد إلى مرج الزهور في 17/12/1992. ولكنه عاد في يناير 1993 ليقضي بقية مدة محكوميته حيث أفرج عنه في 4/3/1993 وعاد لمزاولة مهماته. وهو متزوج ولديه ثلاثة بنات وولد.] المأوى للمهندس ورفيقه عند المجاهد سليمان زيدان** [سليمان مصطفى حسن زيدان: ولد في قرية قبية عام ،1953 أي في نفس العام الذي ارتكب شارون مذبحته بحق أهل القرية. ونشأ في بيت مسلم، فوقف في وجه مخططات اليهود لإفساد الشباب وساهم في بناء مسجد القرية. ودخل دعوة الإخوان المسلمين وتربى في أحضانها عام 1976 وترقى في الدعوة حتى جاءت الانتفاضة المباركة، فانتظم في صفوف حركة حماس وشارك في فعالياتها. فاعتقل وسجن عام 1991 بتهمة وجود قنابل يدوية لديه، تم اعتقل مرة أخرى في آذار 1993 بتهمة قيادة حركة حماس في منطقة غربي رام الله، ولكنه خرج منها أشد عوداً في مواجهة الأعداء.] في قرية قبية التي تقع إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله. وانضم القائد خالد الزير لرفيقيه في وقت لاحق حيث اتفق القادة على الاستمرار في تصعيد الجهاد والتخطيط لعمليات نوعية باستخدام المواد المتفجرة والأسلحة الرشاشة. وبناء على هذا الاتفاق، أعد المهندس عبوات ناسفة قام أحد المجاهدين بزرعها في حافلة تابعة لشركة (ايجد) حيث انفجرت تلك العبوات يوم الخميس الموافق 29 يونيو (تموز) 1993 أثناء وجود الحافلة في المحطة المركزية بمدينة تل أبيب. وقد زعم العدو، أن انفجار العبوات الناسفة ألحق أضراراً مادية كبيرة في الحافلة دون أن يصيب أحداً من الركاب أو المتواجدين في المحطة. لم يكد يمضي أسبوع على العملية السابقة، حتى غادر القائد خالد الزير متوجهاً إلى المدينة المقدسة للقاء إحدى الخلايا المجاهدة التي أقامها القائدان يحيى ومحمد قبل مغادرتهما للقدس. وكانت الخلية تتكون من خمسة مجاهدين هم: تيسير سليمان (أمير الخلية)، وفهد السلوادي، ومروان أبو ارميلة، ونائل سلهب وعثمان جولاني، حيث نقل الزير للمجموعة التي أطلقت على نفسها (سرية الشيخ تميم العدناني) تفاصيل الخطة التي أعدت في قرية قبية وفاءً للشيخ أحمد ياسين وإخوانه المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وعلى الأثر، تحرك المجاهدون تيسير سليمان وفهد السلوادي ومروان أبو ارميلة في سيارة تجارية (فان) تم تغيير أرقام هيكلها (الشاصي) وتحمل لوحة تسجيل إسرائيلية مزيفة وهم يحملون أنبوبة غاز مسيل للدموع ومسدس بهدف أسر أحد جنود الاحتلال واحتجازه في مكان آمن وإبلاغ القائد خالد الزير الذي سيتولى مع المهندس والقائد محمد عزيز صياغة البيان الذي يحدد مطالب حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وعند الساعة السادسة من مساء يوم الخميس الموافق 5 آب (أغسطس) ،1993 وصلت السيارة إلى مفترق الرام شمال مدينة القدس. وقام المجاهدون بالدوران أربع مرات إلى أن صادفوا أحد جنود سلاح الإشارة في جيش الاحتلال كان في طريقه من قاعدته العسكرية قرب رام الله إلى منزله في حي راموت بالمدينة المقدسة. وأثناء حديث المجاهد فهد مع العريف يارون حيمس (20 عاماً) باللغة العبرية الذي رفض الصعود في البداية، وصل جندي آخر وعندئذ، صعد العريف حيمس إلى السيارة وجلس قرب المجاهد تيسير في المقعد الخلفي. ولكن جندي سلاح الإشارة الذي كان يحمل بندقية آلية من نوع (جاليلي)، ولسبب غير معروف شك في الأمر، وبدأ بالمقاومة ومحاولة النزول بالقوة، فبدأ المجاهد تيسير بمصارعته ورش المجاهد مروان عليه الغاز المسيل للدموع إلا أن ذلك لم يحل دون قيام العريق حيمس بالصراخ طالباً النجدة. وعندها نجح المجاهد تيسير في إخراج المسدس وإطلاق رصاصتين في رأس الجندي(38). شرعت قوات الاحتلال بأعمال تمشيط واسعة النطاق بمساعدة طائرات مروحية بعد فرض نظام منع التجول على رام الله والمنطقة المحيطة بها إثر ورود بلاغ من جندي كان يقف بالقرب من العريف حيمس عند مفترق الرام قام بإطلاق النار وحاول مطاردة المجاهدين بعد أن استقل سيارة جيب عسكرية تصادف مرورها في تلك اللحظة. وقد فشلت كل جهود حملات التمشيط التي أشرف عليها قائد المنطقة الوسطى الميجر جنرال نحيميا تماري وقائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية البريغادير شاؤول موفاز في اعتراض السيارة أو تعقب أفراد المجموعة الذين استولوا على سلاح الجندي وأمتعته الشخصية قبل انسحابهم إلى قاعدتهم، حيث عثرت قوات الاحتلال على السيارة التجارية التي استخدمت في العملية محترقة قرب قرية بيتونيا بقضاء رام الله وبداخلها جثة الجندي المختطف بعد ثماني ساعات من عمليات البحث المكثفة(39). وعلى الرغم من انتهاء العملية دون تحقيق الأهداف المرجوة بالنسبة للمهندس ورفيقيه، إلا أن ذلك لم يحل دون تنفيذ الجزء الثاني من مخططات الوفاء للمجاهدين المعتقلين. فقد كانت الخطة الأصلية تتضمن تحرك إحدى المجموعات القسامية في منطقة شمال الضفة الغربية لضرب هدف عسكري كان المهندس قد رصده أثناء وجودة في تلك المنطقة، ويظهر ذلك الهدف بوضوح من شرفة منزل المهندس في قرية رافات بقضاء نابلس. وطبقاً لما اتفق عليه في قبية، فقد استهدف الهجوم تشتيت جهود قوات الاحتلال التي تقوم بالبحث عن منفذي عملية أسر الجندي عند مفترق الرام. وبالعودة إلى مساء ذلك اليوم، نجد أن المهندس قد أرسل المجاهد محمد ريان بسيارة بيجو (405) تعود للمجاهد سليمان زيدان إلى قراوة بني حسان لتبليغ القائد على العاصي بتفاصيل الهجوم وضرورة التحرك في الوقت المناسب لتحقيق الأهداف المرجوة. ولأن الوقت المتاح لم يكن كافياً لإصدار التعليمات إلى إحدى المجموعات القسامية العاملة في المنطقة، فقد قرر القائدان القساميان، أبو جهاد وأبو مجاهد أن يقوما بنفسيهما بتنفيذ الهجوم بمعاونة المجاهد محمد ريان الذي كلفاه بقيادة السيارة التي جاء فيها نحو الهدف العسكري. الدلائل وتشير إلى أن الهجوم كان مخططاً له بإحكام، وهو يشبه في نمطه وجرأته عملية شهداء خان يونس التي استهدفت دورية عسكرية داخل مستوطنة جاني طال بقطاع غزة، حيث اقترب المجاهدون الثلاثة ببطء من موقع لجيش الاحتلال يقع بالقرب من مستوطنة (القاناة) القريبة من قرى دير بلوط ورافات وكفر الديك وبروقين في نحو الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الجمعة الموافق 6 آب (أغسطس) 1993. وما أن أضحت السيارة على بعد أمتار قليلة من الجنود الثلاثة الذين كانوا يحرسون مدخل الموقع حتى بادر المجاهدان أبو جهاد وأبو مجاهد بإطلاق النار باتجاههم، فقتل جنديان وأصيب الثالث بجروح خطيرة. وعند محاولة المجاهدين الانسحاب، تعرضوا لرصاص القنص من جندي كان يختبىء فوق سطح أحد المنازل القريبة مما أدى إلى استشهاد القائد البطل عدنان مرعي وإصابة المجاهد محمد ريان بجروح بليغة أفقدته الوعي، فيما تمكن القائد على عاصي من التواري تماماً عن الأنظار إذ قفز فوق سور قريب وألقى بكتلة كبيرة من القش كانت على السور فوق جسمه وكمن تحتها أكثر من أربع وعشرين ساعة دون أن تصدر عنه حركة(40). وعلى الرغم من فرض حظر التجول الشامل على قرى كفر الديك ورافات واللبن الغربية وبروقين ودير بلوط لثلاثة أيام متواصلة، قام خلالها نحو (500) جندي من قوات الاحتلال تساندهم أثني عشر طائرة مروحية باقتحام المنازل وتفتيشها بشكل دقيق إلى جانب استخدام القنابل الضوئية بكثافة لإنارة كل القرى والجبال المحيطة بموقع العملية، إلا أن القائد أبو جهاد نجح في نهاية الأمر من العودة إلى قاعدته بسلام. ولم تنفع قوات الاحتلال كلاب تقصي الأثار التي استعانت بها لتعقب المجاهد القسامي في البيارات والجبال(41). 8- وداعاً رامبو الكتائب لم يعد منزل المجاهد سليمان زيدان (أبو ايهاب) ملائماً لإقامة المهندس وإخوانه بعد إصابة واعتقال المجاهد محمد الريان قرب دير بلوط، فقد كانت سيارة المجاهد أبو إيهاب التي ضبطتها سلطات الاحتلال كافية لانكشاف شخصية ودور هذا البطل الذي غادر أيضاً مع المهندس إلى قاعدة سرية أخرى. وعليه لم تجد قوات الاحتلال التي داهمت قرية قبية بعد محاصرتها وفرض حظر التجول سوى بعض المواد الكيماوية الأولية التي تستخدم في صناعة المواد المتفجرة. وفشلت الشاباك التي تولت تفتيش منزل أبو ايهاب في العثور على أية أدلة تقود إلى معرفة شخصية المجاهدين الذين كانوا يختبئون في المنزل. ومع إقدام القيادة الفلسطينية المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية على التوقيع على وثيقة اتفاق الحكم الذاتي (غزة - أريحا) في واشنطن وقرار القيادة المركزية لكتائب الشهيد عز الدين القسام تصعيد العمليات الجهادية رداً على التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني. فكانت عملية الكمين الذي نصبه مقاتلو حركة حماس جنوبي قرية الظاهرية في نحو الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الخميس الموافق 2 أيلول (سبتمبر) 1993 والذي أدى إلى تحطيم سيارة عسكرية ومقتل ضابط صف وإصابة آخر بجراح بليغة أول إعلان على رفض حركة حماس لما أقدمت عليه قيادة (م.ت.ف.). وعلى الرغم من حالة الاستنفار التي أعلنتها سلطات الاحتلال بين قواتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أنها لم تحل دون قدرة كتائب الشهيد عز الدين القسام على تنفيذ ما خطط له المهندس في مدينة القدس ومحمد عزيز رشدي في مدينة الخليل وعماد عقل في مدينة غزة. القادة الثلاثة نفذوا عملياتهم بدقة وبعد تخطيط ورصد مسبقين، إلا أن مشيئة الله وقدره المكتوب أن يترجل القائد البطل محمد عزيز رشدي إلى عليين ويصاب البطل خالد الزير بإصابات بليغة جعلته يبتعد عن تحمل المسؤولية الكبيرة. ولعلنا نبدأ باستعراض بعض تفاصيل العملية التي أثرت في مسيرة المهندس الجهادية، كونها غيبت اثنان من عمالقة الكتائب القسامية وأبقت يحيى عياش وحيداً من بين أبناء جيله من المجاهدين والمطاردين. ففي حوالي الساعة التاسعة والنصف من مساء يوم الثلاثاء الموافق 14 أيلول (سبتمبر) 1993 تتبعت سيارة مسجلة باسم البطل خالد الزير كانت تقل مجموعة شهداء الأقصى المؤلفة من محمد عزيز رشدي وعبد الرحمن حمدان وإبراهيم سلامة وسليم صبيح، سيارة جيب عسكرية تحرس حافلة إسرائيلية تسير على الطريق المؤدي إلى مستوطنة (نتسارا) الواقعة جنوب مدينة الخليل. وأطلق المجاهدون النار من أسلحتهم الرشاشة حين محاذاة سيارتهم الجيب العسكرية فأصابوا جنوده الأربعة بإصابات مباشرة وقاتلة دون أن يتمكنوا من الرد، ثم ألقى الأبطال القنابل اليدوية باتجاه الحافلة الإسرائيلية وغادروا المكان في طريقهم إلى قاعدتهم. وفيما كان القساميون يواصلون مسيرتهم المباركة، اصطدموا بحاجز عسكري عند مدخل المستوطنة الصهيونية، فتبادلوا إطلاق النار مع جنوده الأربعة الذين سقطوا بين قتيل وجريح دون أن يتمكنوا من النيل من المجاهدين. وعاودت سيارة القساميين الانطلاق من جديد بعد أن اقتحمت الحاجز العسكري، غير أنها سرعان ما واجهت قوات عسكرية ضخمة دفعتها السلطات الإسرائيلية في أعقاب العملية البطولية. فانقلبت السيارة إثر إصابة المجاهد خالد الزير خلال الاشتباك، ولكن المجاهدين تمكنوا من إخراج قائدهم من السيارة أثناء محاولة قوات العدو الانتشار ومحاصرتهم، حيث تولى القائد البطل محمد عزيز رشدي حماية إخوانه واستطاع إيقاف التعزيزات الإسرائيلية ومنعها من تعقب المجاهدين عبد الرحمن وسليم اللذان حملا البطلين خالد وإبراهيم. واستمر الاشتباك بين أسد الكتائب وقوات الاحتلال إلى أن ترجل البطل إلى عليين بعد أن صرع وأصاب عددا من الجنود الإسرائيليين(42). وقبل أن نطوي هذه الصفحة الخالدة من حياة الشهيد يحيى عياش، لا بد أن نعرج على الجزء الخاص بمشاركته المباشرة في الملحمة الثلاثية، ألا وهي محاولته تفجير الحافلة رقم (23) التي تسير في منطقة محنى يهودا بمدينة القدس. ففي منتصف أيلول (سبتمبر) من ذلك العام، جهز المهندس حقيبة جانبية في داخلها عبوة ناسفة، وطلب من الخلية المقدسية التي نفذت عملية أسر الجندي الإسرائيلي في شهر آب (أغسطس) 1993 تكليف أحد أعضائها لهذه المهمة الجديدة. فتطوع المجاهد مروان أبو ارميلة، الذي سافر إلى محطة انتظار الحافلات قرب محنى يهودا حيث صعد في الحافلة وجلس في المقعد قبل الأخير. وبعد دقيقة فتح مروان الصمام وضغط الزر، إلا أن العبوات لم تنفجر رغم محاولات مروان المتكررة. ويبدو أن خللاً أصاب جهاز التفجير أو الصاعق. وهكذا، نزل مروان في منطقة باب الخليل، واستقل سيارة أجرة، عائداً إلى بيت حنينا، لتنتهي وبشكل غير متوقع تلك العملية الجريئة دون أن تحدث النتائج المرجوة منها(43). |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#9 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() ثالثاً: قيادة القافلة
تنفست الحكومة الإسرائيلية الصعداء، وأخذ قادة الشاباك والاستخبارات العسكرية يتحدثون بفخر عما أسموه إنجازاً كبيراً كونهم قد أخرجوا ثلاثة من القادة العسكريين لحركة حماس من دائرة الصراع والحرب الفدائية. فقد استشهد مهندس العمليات العسكرية في قطاع غزة، جميل الوادي في أواخر حزيران (يونيو) في اشتباك بطولي على طريق البحر المحاذي لمدينة خان يونس ولحقه القائد البطل عدنان مرعي في آب (أغسطس)، وأخيراً القائد الفذ محمد عزيز رشدي في أيلول (سبتمبر). وفي الوقت ذاته، اشتدت المطاردة وعمليات الحصار على من تبقى من القيادات العسكرية التي واكبت انطلاقة وتشكيل كتائب الشهيد عز الدين القسام. ومع كثافة حملات التفتيش التي نفذت بتنسيق وتخطيط مشترك بين الجيش الإسرائيلي ووحدات الشرطة وقوات حرس الحدود، والتي طالت قطاعات واسعة من أبناء شعبنا بهدف تشديد الخناق على المجاهدين القساميين، تحول المهندس إلى شبح أسطوري، مرعب بالنسبة للإسرائيليين بكافة قطاعاتهم وتصنيفاتهم. ومنذ تلك اللحظة التاريخية، أخذت الحرب بين الكتائب القسامية والكيان الصهيوني بعداً جديداًً عبر الجنرال بنيامين بن اليعازر الذي كان يشغل منصب وزير البناء والإسكان في حكومة حزب العمل عنه بقوله: «إنها حرب عصابات من جانب مجموعات صغيرة متلهفة إلى الموت»حسب تعبيره(44). 1- لو كان غير الجنة لأثرته مع اقتراب الذكرى السنوية الثالثة للجريمة الصهيونية التي ارتكبت في ساحة المسجد الأقصى المبارك، ووفاءً لأرواح الشهداء الأبطال من كتائب الشهيد عز الدين القسام، عكف المهندس على وضع اللمسات الأخيرة في خطة الحملة العسكرية الجديدة ذات الثلاث أذرع. ولأن الشهيدين القائدين عدنان مرعي ومحمد عزيز رشدي لم يغيبا عن فكر وقلب ووجدان المهندس الذي كان دائم الذكر لهما ولسيرتهما الجهادية المباركة. فقد أصر يحيى على المساهمة في اثنتين من تلك العمليات وإطلاق اسمي الشهيدين عدنان ومحمد على المجموعتين المنفذتين. ولذلك، صمم المهندس عبوة ناسفة تنفجر بمجرد اللمس أو الضغط بحيث تؤدي مفعول اللغم الأرضي. وكلف المهندس أحد مساعديه في منطقة القدس بزرع العبوة في إحدى الحقول القريبة من مستوطنة (رامات راحيل) المقامة فوق أرض عربية في الضاحية الجنوبية لمدينة القدس. ولدى تجول خمسة من المستوطنين الصهاينة في ذلك الحقل، صعد أحدهم على العبوة في صبيحة يوم الجمعة الموافق 1 تشرين أول (أكتوبر) ،1993 مما أحدث دوياً هائلاً سقط بعدها الخمسة مضرجين بدمائهم. وقد اعترفت السلطات الإسرائيلية بالعملية، وأعلنت أن مستوطنيها نقلوا إلى مستشفى هداسا حيث فارق أحدهم الحياة متأثراً بجراحه(45). «لا شك أن بصمات أصابع يحيى عياش مطبوعة أيضاً على هذه العملية الصعبة»، عبارة رددها قائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية بعد زيارته لموقع الهجوم الاستشهادي الجريء الذي نفذه شيخ الاستشهاديين، سليمان مصطفى حسن زيدان ضد حافلة عسكرية بالقرب من مقر قيادة القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ونتوقف هنا أمام الشهيد الخالد مع النبيين والصديقين والذي كان يبلغ من العمر زهاء اثنين وأربعين عاماً، ونتساءل: لماذا يشرك المهندس ابن الأربعين في عملية من هذا النوع؟ وهل كان يعاني من نقص في المتطوعين أو الاستشهاديين؟. والحقيقة هي عكس ذلك، فالاستشهاديون عددهم كبير وقوائم المتطوعين تمتليء بالعشرات بل قل بالمئات ممن نذر نفسه لله وللإسلام. ولكن الشهيد سليمان زيدان، الذي رافق المهندس منذ انتقاله إلى منطقة رام الله، ينام ليله في الكهوف ويقضي نهاره بين الجبال ملازماً ليحيى ظل متطلعاً إلى السماء، وحينما سنحت الفرصة ورأى الشيخ سليمان زيدان المهندس يجهز السيارة المفخخة بعبوات ناسفة شديدة الانفجار وقنابل يدوية ومسامير، ناشده بالله أن يكرمه بقيادة السيارة وتحقيق أمنيته بالشهادة. وهذا الإصرار من قبل الشهيد سليمان زيدان، والذي عبر عنه بأساليب وطرق جعلت المهندس ينزل عند رغبة أخيه ويقدمه على المجاهد الذي وقع عليه الاختيار لتنفيذ العملية، يذكرنا بقصة الصحابي خيثمة سيد بني عمرو بن عوف وابنه سعد قبيل غزوة بدر الكبرى، فحين قال خيثمة لابنه: «لا بد لأحدنا أن يقيم فأثرني بالخروج وأقم أنت مع نسائنا»، أجابه سعد على الفور: «لو كان غير الجنة لأثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا». واستجاب الله سبحانه وتعالى لرغبة الابن ولقي ربه في بدر، ثم مضت الأيام وتعاقبت الليالي، وبقيت كلمات الابن تتجاوب أصداؤها في قلب الشيخ الكبير حتى أقبلت غزوة أُحد. فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يستشيرهم في الخروج، وكان من بينهم خيثمة الذي أشار على الرسول برأي رآه ثم قال للرسول متوسلاً: «لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، وقد بلغ من حرصي أن ساهمت وابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت على الشهادة حريصاً - وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا... والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ووهن عظمي، وأحب لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة». فدعا الرسول لخيثمة أن يرزقه الشهادة وتحققت دعوة الرسول وتحققت أمنية خيثمة ولقي الرجل ربه وهو يذب الأعداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد(46). وكان لسليمان ما تمنى، وقاد السيارة المفخخة متتبعاً حافلة عسكرية إسرائيلية تحمل رقم (178) وتنقل جنوداً من القوات الخاصة في طريقهم إلى مقر قيادة القوات الإسرائيلية الذي يقع بالقرب من مستوطنة بيت إيل شمال مدينة رام الله. وبعد أن تخطى سليمان ثمانية حواجز عسكرية أقامتها سلطات الاحتلال بين مدينتي القدس ورام الله مستغلاً لوحة الأرقام الإسرائيلية المثبتة على السيارة، تمكن من اللحاق بالهدف (الحافلة) أثناء اقترابه من المستوطنة عند الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الاثنين الموافق 4 تشرين أول (أكتوبر) 1993. وما هي إلا ثوان معدودة، حتى كانت السيارة المفخخة تصدم الحافلة العسكرية من الجنب لتنفجر السيارتان محدثتا دوياً هائلاً وتناثرت الأشلاء والصفائح المعدنية على مساحة واسعة. وعلى الأثر، طوق جيش الاحتلال المنطقة وهرعت العشرات من سيارات الإسعاف لنقل القتلى والجرحى(47). وإذا كان شهود العيان من المستوطنين اليهود قد أكدوا في حديثهم لوسائل الإعلام العبرية والعالمية أن الحافلة العسكرية التي كانت مكتظة بالجنود قد احترقت جراء الانفجار، إلا أن ذلك لم يثن المتحدث العسكري في جيش الاحتلال عن محاولته التقليل من شأن العملية البطولية التي أودت بحياة ثلاثة من جنوده وأصابت (28) جندياً وسائق الحافلة بالإضافة إلى مستوطن بجروح وحروق وإعاقات متفاوتة(48). وبعد خمسة أيام من العملية الاستشهادية في بيت إيل، بر المهندس بوعده وأكمل حملته العسكرية ذات الثلاث أذرع حين أوعز إلى إحدى المجموعات القسامية العاملة في منطقة القدس بمهاجمة اثنين من جنود الاحتياط كانا يقضيان أجازتهما في منطقة وادي القلط السياحية في محاولة لأسرهما وإرغام حكومة اسحق رابين على الإفراج عن عدد من أبناء شعبنا المعتقلين في السجون وأقبية التعذيب الصهيونية. ولكن المقاومة التي أبداها الجنديان حالت دون تنفيذ هذا الهدف، مما اضطر المجموعة الفدائية إلى إطلاق النار على العسكريين الإسرائيليين وقتلهما ثم مغادرة المكان قبل أن تصل قوات الاحتلال(49). 2- ذكرى وعد بلفور شكلت العملية الاستشهادية التي نفذها البطل سليمان زيدان تحدياً كبيراً لاسحق رابين بصفته وزيراً للدفاع، وكون هذه العملية استهدفت جنوداً مدربين ومدججين بالسلاح، وهذا تحد لم تعتاد عليه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. لم يكن هذا التحدي جديداً على المهندس، إذ استهدفت العملية البطولية التي نفذها الشهيد ساهر التمام حافلتين عسكريتين أيضاً. وعليه، غدا هذا الأسلوب، برنامج عمل ومنهاج سار عليه المهندس ولم يخرج عنه إلا للرد على الجرائم التي يرتكبها المستوطنون بحق أبناء شعبنا كما سنرى. وطالما نحن نتحدث عن هذا المنهاج، وفي إطار السياق التاريخي الذي سرنا عليه في هذا الفصل، نصل إلى العملية الاستشهادية التي شاءت قدرة الله سبحانه وتعالى ألا تكتمل فصولها الأخيرة، وإن كان المهندس وإخوانه في كتائب الشهيد عز الدين القسام قد أعدوا لها كافة المستلزمات الضرورية للنجاح. فقد أعد المهندس سيارة من نوع (سوبارو) وجهز عبوات ناسفة ربطها باسطوانات غاز وعدد من القنابل اليدوية داخل السيارة التي كان من المقرر تفجيرها بمحاذاة حافلة عسكرية تمر يومياً على الطريق المؤدي إلى مستوطنة (شيلو). وفي نحو الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الثلاثاء الموافق 2 تشرين الثاني (نوفمبر) ،1993 الذي يصادف ذكرى وعد بلفور المشؤوم، قاد المجاهد سلامة يوسف سلامة* [سلامة يوسف سلامة: ولد في قرية بدرس بقضاء رام الله عام 1973.] السيارة المفخخة. وما أن خرج الشهيد بسيارته على الطريق المتفرعة من قرية سنجل القريبة من المستوطنة، حتى انفجرت العبوة الناسفة مما أدى إلى استشهاد البطل دون أن يتمكن من إكمال مهمته والاصطدام بالحافلة العسكرية وتفجيرها(50). والحقيقة أنه لم يعرف، هل انفجرت العبوات بسبب خلل فني في أجهزة التفجير أم أن العبوات كانت مؤقتة بحيث تنفجر في وقت معين، وتأخر الشهيد في الوصول إلى هدفه أم أن الحافلة تأخرت ذلك اليوم. ورحم الله الشهيد سلامة يوسف الذي جعل قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال يعلن أمام الصحفيين بعد تفقده مكان العملية: «إن مشكلتنا هي بالأساس مع أولئك الشبان المستعدين لجعل أنفسهم قنابل حية، فمن الصعب جداً مواجهة هذه النوعية من الأشخاص»(51). 3- أطول الناس أعناقاً يوم القيامة اعتاد أهالي قرية حرملة القريبة من بيت لحم على الاستيقاظ في صباح كل يوم على صوت خالد الزير وهو يؤذن داعياً أهل قريته إلى الفلاح. وبعد مطاردة سلطات الاحتلال للقائد القسامي بقي صوته الشجي حاضراً، تردده مئذنة مسجد حرملة خمس مرات في اليوم عبر أشرطة التسجيل التي حفظها أهالي حرملة وتداولوها فيما بينهم. وحين كان صوت الله أكبر يتردد من مئذنة المسجد الذي افتقد خالد دون صوته، كان شيوخ القرية يرفعون أيديهم بالدعاء للقائد القسامي الذي هجر متاع الدنيا وحمل في قلبه وفكره ووجدانه هموم شعبه. في يوم الجمعة الموافق 26 تشرين الثاني (نوفمبر) ،1993 وبعد أقل من يومين فقط على استشهاد القائد عماد عقل في مدينة غزة، فجع المهندس باستشهاد مساعده في حي صور باهر بمدينة القدس على يد الوحدات الإسرائيلية الخاصة. وقد أتضح من خلال الشواهد وتقصي الحقائق أن عميلاً لسلطات الاحتلال قد تمكن من رصد منزل المجاهد إبراهيم عميرة (23 عاماً) الذي كان يختبىء به القائد خالد الزير. وعلى أثر هذه المعلومات، حاصرت الوحدات الخاصة و المستعربين الإسرائيليين المنزل في نحو الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة وطلبت من سكانه الخروج. وعند تجمع سكان المنزل في الساحة المقابلة، حاول المجاهد الابتعاد عن جمهور المواطنين حتى لا يصابوا بأذى في أي تبادل لإطلاق النار وعندئذ، شهر القائد مسدسه وأطلق بضع طلقات نارية باتجاه جنود العدو الذين صوبوا أسلحتهم الرشاشة باتجاه صاحب الإيمان والقرآن مما أدى إلى استشهاده على الفور(52). وهكذا غاب رفيق آخر من رفاق المهندس عن الميدان، بينما أخضع المعتقلين المتهمين بالمشاركة في إيواء القائد الشهيد خالد الزير لعمليات تعذيب شديدة، وضغوط جسدية منتظمة ادعت بعدها سلطات الاحتلال بأن هؤلاء المعتقلين خططوا لأسر جندي إسرائيلي حيث أشارت لائحة الاتهام التي وجهت لأعضاء الخلية الخمسة وجميعهم من صور باهر بأنهم تزودوا بحبل وسكين طويل وجهاز فيه غاز مسيل للدموع وسافروا حتى طبريا بحثاً عن جندي مناسب، وحين لم يعثروا على هدف مناسب عادوا أدراجهم، ثم حاولوا مرة أخرى في منطقة الخان الأحمر ولكنهم لم ينجحوا كذلك. وزعمت الشاباك أيضاً، بأن القائدين يحيى عياش وخالد الزير قد خططا لتفجير سيارة مفخخة في مدينة القدس، إلا أن العملية لم تنفذ لظروف لم تشر إليها تحقيقات الشاباك(53). 4- الوحدة المختارة رقم صفر لاشك أن الضربة التي تعرضت لها كتائب الشهيد عز الدين القسام في أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1993 تعد مؤلمة، ذلك أن فقدان اثنان من القادة العسكريين البارزين خلال أقل من أسبوع ليس بالأمر اليسير على أي حركة مجاهدة تعتمد منهاج الكفاح المسلح برنامجاً رئيساً في مواجهة أعدائها. ولكن معرفتنا بقدرة الجناح العسكري لحركة حماس على إعادة ترتيب أوضاعه والانطلاق بشكل سريع نسبياً خفف من آثار استشهاد القائدين عماد عقل وخالد الزير. فها هو عوديد غرانوت يكتب معلقاً: «إن خلايا حماس التي تتجول في المنطقة قادرة على تنظيم صفوفها بسرعة، وتنفيذ سلسلة من العمليات الانتقامية ضمن حيز زمني قصير بين هجمة وأخرى، وبرغم جهود أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إلا أنه لا يمكن التحدث عن نجاح في تصفية البنية الميدانية التي تستند إليها حركة حماس... يكفي أن تنشر حركة حماس عدة خلايا متفرقة في منطقة حتى تخرب من جديد وبكامل خطورتها، مسألة أمن التنقل على طرق المواصلات الرئيسة في المناطق»(54). وفيما كان الشاباك يزف لحكومة تل أبيب أنباء نجاحاته المحدودة في الشجاعية وصور باهر ويقدم التهاني لضباطه وعناصره، كان المهندس ورفاقه قد انتهوا من تنظيم وتجهيز مجموعتين خاصتين. الأولى، وضمت ستة مجاهدين من مدينة القدس وعرفت باسم (الوحدة المختارة رقم ستة). وأما الثانية ، فقد عرفت باسم (الوحدة المختارة رقم صفر)، وضمت خمسة مجاهدين هم: 1- عبد الرحمن محمد عبد الرحمن حمدان: ولد في مخيم خان يونس عام ،1971 وتربى منذ صغره في مسجد فلسطين، وكان له دور كبير جداً ومشهور على مستوى قطاع غزة، حيث أضحى نائب مسؤول جهاز الأحداث في المنطقة الجنوبية من القطاع. وبعد فرزه للعمل في كتائب القسام، شارك مع عماد عقل في عدد من عملياته قبل أن ينتقل إلى الضفة الغربية إثر مطاردة سلطات الاحتلال له في كانون الثاني (يناير) 1993. 2- علي أحمد علي العامودي: ولد في مخيم خان يونس عام ،1974 وشارك القائد محمد مصطفى شهوان في عدد من عملياته في منطقة خان يونس قبل أن ينتقل مع عبد الرحمن حمدان إلى الضفة الغربية. 3- إسلام فوزي أبو إرميلة: ولد في مدينة القدس عام 1966 لعائلة من خليل الرحمن بالأصل، وكان من الغيورين على الإسلام وحرماته، وشارك في فعاليات الانتفاضة المباركة فاعتقل مرتين، الأولى لمدة أربعة أشهر والثانية لمدة (26) شهراً. وهو يعد من أجرأ من نقل السلاح والمطاردين بين المدن والقرى وبين الضفة والقطاع. 4- عبد المنعم محمد يوسف أبو حميد: ولد في مخيم الأمعري عام 1970 لعائلة مهاجرة من بلدة السوافير الشمالية كانت قد انتقلت إلى مخيم النصيرات قبل هجرتها مرة أخرى عام 1970 لأسباب اقتصادية إلى منطقة رام الله. ونشأ عبد المنعم وترعرع في المساجد مما ولد لديه مفهوماً خاصاً به حول الإسلام قربة من الحركة الإسلامية التي سرعان ما أصبح أحد أعضائها وهو طالب في كلية الآداب بجامعة بير زيت واعتقل مرة واحدة عام 1987. 5- زهير رضوان عبد الجواد فراح: ولد في الرام بضواحي القدس عام 1970 وهو طالب في قسم الحاسب الإلكتروني بكلية العلوم والتكنولوجيا، وهو زوج شقيقه إسلام أبو إرميلة. نبدأ بالوحدة المختارة رقم صفر التي بدأت نشاطها الجهادي بتصعيد ملموس في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام ،1993 وكانت بإمرة الشيخ عبد الرحمن العاروري. فبعد استشهاد عماد عقل وخالد الزير والكثافة التي ظهرت عليها الانطلاقة القمعية للجيش الإسرائيلي، إلى جانب غض سلطات الاحتلال بصرها عن استفزازات وجرائم المستوطنين الإرهابية بحق المواطنين العرب، أصدرت غرفة العمليات في كتائب الشهيد عز الدين القسام بياناً أنذرت فيه بمطاردة المستوطنين الذين يعيثون فساداً وتخريباً. وجاء في البيان الذي صاغه المهندس وأخيه عبدالرحمن حمدان: «لقد كنا نفضل دوماً ضرب أهداف عسكرية بحتة، ولكن بعد قتل جنودكم ومستوطنيكم للصبي حازم مقداد ابن الـ 15 عاماً في غزة، والأب طلال البكري أبن الـ 54 عاماً، فقد قررت غرفة العمليات التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام الرد على سياستكم بالمثل وليكن ما يكون. إن من يمسنا بالماء من أعدائنا سنرد عليه بالنار، وعلى رئيس الأركان الإسرائيلي أن يفهم رسالتنا ويقوم باستيراد المزيد من الأكياس السوداء لتكفين جنوده ومستوطنيه»(55). لم يكد يمضي خمسة أيام على هذا الإنذار، حتى أمر المهندس الوحدة المختار رقم صفر بالتحرك والانتقام لشهداء الانتفاضة المباركة من الأطفال والنساء حيث لاحقت سيارة المجاهدين سيارة إسرائيلية من طراز (فيات أونو) كانت متجهة من مستوطنة (إيلي) إلى مستوطنة (بساغوت) على طريق رام الله - القدس.وفي حوالي الساعة الثامنة من صباح يوم الأربعاء الموافق 1 كانون أول (ديسمبر) ،1993 أطلق المجاهدان عبد الرحمن حمدان وعبد الرحمن العاروري النار من رشاش كلاشنكوف وبندقية (أم-16) على السيارة الإسرائيلية التي كانت متوقفة على جانب الطريق بسبب خلل أصابها على ما يبدو. وقد أسفر الهجوم عن إصابة المستوطنين الأربعة بإصابات مختلفة ما لبث أن توفي اثنان منهم في وقت لاحق. وعلى الأثر، هرعت قوات معززة من جيش الاحتلال وقامت بأعمال التمشيط بحثاًً عن المجاهدين الذين انسحبوا إلى قاعدتهم بسلام(56). وفي إطار الحرب التي أعلنتها كتائب عز الدين القسام على الجنود الإسرائيليين وقطعان المستوطنين، وفي ظل حظر التجول الذي فرضه جيش الاحتلال على مدينتي رام الله والبيرة إثر العملية السابقة، نقل المهندس الوحدة المختارة رقم صفر إلى مدينة خليل الرحمن لتهاجم في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين الموافق 6 كانون أول (ديسمبر) 1993 سيارة (فان) تقل عدداً من المستوطنين الصهاينة عند مفترق مستوطنة (خارصينا) الواقعة عند مشارف مدينة خليل الرحمن. وبثوان معدودة، أطلق خلالها المجاهدان عبد الرحمن حمدان وأمجد أبو خلف وابلاً من نيران أسلحتهما الأوتوماتيكية، فقتل اثنان من المستوطنين وخرج ثلاثة آخرون. كما خرج المجاهد عبد الرحمن حمدان مع عدد من مجاهدي الخليل في عدة مهمات جهادية كان من أبرزها، تنفيذ عملية ردع المستوطنين الثالثة. ففي نحو الساعة السادسة والنصف من مساء يوم الأحد الموافق 12 كانون أول (ديسمبر) ،1993 هاجمت المجموعة الفدائية حافلة إسرائيلية تابعة لشركة (إيغد) تعمل على خط رقم (51) الذي يصل بين كريات أربع ومدينة بئر السبع حيث تجاوزت سيارة البيجو التي أقلت المجاهدين الحافلة الإسرائيلية لدى مرورها عند مفترق (زيف)، وأطلق المجاهدون نيران أسلحتهم الرشاشة باتجاه الجنود والمستوطنين داخلها، ثم غادروا مكان العملية عائدين إلى قاعدتهم. ولئن اعترفت سلطات الاحتلال بالعملية، إلا أنها حاولت التقليل من شأن الإصابات التي لحقت بركاب الحافلة حيث اكتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالإعلان عن إصابة سائق الحافلة بجروح خطيرة في رأسه وبطنه، ثم عادت وأعلنت عن وفاته متأثراً بجراحه. وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع قادة جيش الاحتلال إلا الاعتراف بجرأة العملية. إذ علق ضابط إسرائيلي حضر مع القوات التي أغلقت المنطقة في أعقاب الهجوم بقوله: «إن الخليل مدينة بلا رحمة»(57). عاد المهندس برفقة الوحدة المختارة رقم صفر إلى منطقة رام الله على وجه السرعة، فقد اغتالت الشاباك القائد القسامي البطل عبد الرحمن العاروري في منزله وأمام عائلته وأطفاله ظناً منها بأن ذلك سيوقف العمل الجهادي لحركة حماس. وإن كانت الشاباك قد زعمت في سياق تبريره الجريمة الاغتيال بأن الشهيد -رحمه الله- يقف وراء عملية البيرة، فإن المهندس بتحريكه الوحدة المختارة رقم صفر، أراد أن يثبت أن نشاط القساميين في منطقة رام الله ما زال مستمراً. فقد طاردت سيارة (أوبل اسكونا) أقلت أبطال الوحدة المختارة رقم صفر سيارة إسرائيلية من نوع (رينو ستيشن) كانت متجهة من مستوطنة (دولب) إلى ضاحية بني براك القريبة من تل أبيب. وعند مفترق (عين عريك-بيتوينا) على الشارع الرئيس القريب من المنطقة الصناعية بمدينة رام الله، وأثناء تجاوز سيارة المجاهدين للسيارة الإسرائيلية في نحو الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الأربعاء الموافق 22 كانون أول (ديسمبر)) ،1993 فتح المجاهدون (عبد الرحمن وعلي وأمجد) النار على المستوطنين من مسافة قريبة مما أدى إلى مقتل اثنين منهم وإصابة الثالث بجروح بليغة. وعادت الوحدة المختارة إلى قاعدتها بعد أن نثر أبطالها بيانات في مكان العملية تعلن مسؤولية كتائب عز الدين القسام عن هذا الهجوم بالإضافة إلى هجومي الخليل السابقين(58). 5- نزهة في حقل الرماية وصلت الحرب الاستخبارية بين يحيى عياش والشاباك بعد سلسلة العمليات الجريئة للوحدة المختارة رقم صفر إلى مرحلة متقدمة. فالشاباك كثف من اهتماماته باختراق حركة حماس وجناحها العسكري على وجه التحديد، ولهذا أوكل مهمة متابعة العملاء المكلفين بنقل معلومات عن كتائب عز الدين القسام لكبار ضباطه العاملين في الضفة الغربية. وفي مقابل ذلك، وضع المهندس نصب عينيه تكتيك جديد يمكنه من خلخلة شبكة جهاز الاستخبارات الإسرائيلية. ويعتمد هذا التكتيك على زرع عملاء مزدوجين في الشاباك لنقل معلومات عن مشغليهم ومن ثم وضع الترتيبات لنصب كمائن لهؤلاء المشغلين. ويمكن القول أن بداية تفكير المهندس بهذا التكتيك تعود إلى يوم الخميس الموافق 16 كانون أول (ديسمبر) 1993 حين داهمت قوة من الجيش الإسرائيلي يرافقها ضباط من جهاز الشاباك منزل عائلة المجاهد عبد المنعم أبو حميد في مخيم الأمعري وعاثت فيه تفتيشاً وتخريباً وإتلافاً لمحتوياته وتركته في حالة دمار كاملة بعد أن سلمت صاحبه تبليغاً يقضي بمثول المجاهد عبد المنعم أمام ضابط الشاباك في الإدارة المدنية برام الله بعد ثلاثة أيام(59). كان واضحا لقادة الكتائب بأن الشاباك بات يمتلك معلومات عن علاقة المجاهد عبد المنعم بنشاطات الجهاز العسكري لحركة حماس، وتقديمه خدمات ومساعدة لمطاردي الكتائب القسامية. ويعرف الكابتن نوعم كوهين، منسق نشاطات الشاباك في منطقة رام الله بأن هذه المعلومات كفيلة بإيداع المجاهد عبد المنعم السجن لمدة سبع سنوات على أقل تقدير. ولكن الضابط الإسرائيلي الذي كان يستخدم الاسم الحركي (الكابتن مجدي) أراد أن يختصر طريقه إلى قمة الهرم في جهاز الشاباك ويثبت لمرؤسيه كفاءته وتقدمه على نظرائه في محاربة كتائب الشهيد عز الدين القسام. إذ أوحى إليه خياله بأنه يستطيع، عبر الاغراءات والحوافز، أن يزرع عميلاً داخل الجهاز العسكري لحركة حماس. ولهذا، جاء تفتيش منزل أبو حميد ومن ثم تبليغ ذويه بمثوله في الإدارة المدنية على الشكل الذي جاء سابقاً. وذهب المجاهد عبد المنعم أبو حميد إلى مقر الإدارة المدنية في رام الله، وقابل الكابتن مجدي في الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد الموافق 19كانون أول (ديسمبر) 1993. وخلال التحقيق الذي أشرف عليه الكابتن مجدي وعدد من مساعديه، نجح عبد المنعم بإيهام المحققين بأنه طالب في جامعة بيرزيت وأن همه ينحصر في مواصلة دراسته الأكاديمية. وهنا، وقع الكابتن في الفخ، فقد عرض على عبد المنعم إطلاق سراحه لتحقيق أمنيته في الدراسة وسلمه مبلغ 800 شيكل جديد (300 دولار) كمساعدة مادية لعائلته المكافحة. وأطلق الشاباك، سراح عبد المنعم بدعوى أنه لم تتوفر أدلة كافية لإدانته، وعاد المجاهد إلى إخوانه ليحدثهم كيف نجحت الخطة وكسب ثقة الشاباك والكابتن مجدي على وجه التحديد(60). وبعد حسم الموضوع الرئيس وهو الإيقاع بالكابتن مجدي،طلب المهندس من أخيه علي عاصي أن يرافقه إلى معسكر للجيش الإسرائيلي يقع في منطقة روش حارنان بضواحي مدينة تل أبيب داخل المناطق المحتلة عام ،1948 وبعد اجتياز المجاهدان للأسلاك الشائكة والحراسات المكلفة بحماية المعسكر، قام المهندس بزرع العبوة الناسفة في ميدان الرماية الخاص بتدريب الجنود ثم انسحب مع أخيه إلى قاعدتهم بسلام. وفي مساء يوم الاثنين الموافق 3 كانون الثاني (يناير) ،1994 وأثناء قيام جنود المعسكر بالتدريب على إطلاق النار انبطح اثنان منهما فوق العبوة (اللغم) لتنفجر بهما على الفور حيث أصيبا بجروح خطيرة في البطن والساقين والوجه ما لبث أحدهما أن فارق الحياة في وقت لاحق. 6- العناية الإلهية نشرت أسبوعية (يروشلايم) العبرية تقريراً مطولاً عن المهندس احتوى على رؤية إسرائيلية للظاهرة التي أرقت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية جاء فيه: «في كل مرة تنجح فيها قوات الأمن في تصفية أحد المطلوبين تظهر في اليوم التالي عناوين في الصحف تبهر الأنظار مثل: تم القضاء على مطلوب كبير. ولكن المطلوب الأبرز والأهم حقاً هو المهندس، يفلح دائماً في الإفلات من الذراع الطويل للجيش الإسرائيلي ولجهاز الشاباك منذ ما يقرب من ثلاث سنوات على الرغم من المطاردة الواسعة له، وهو ما زال يقوم بالتخطيط لهجمات وتشكيل خلايا. وبمقدار ما نسبت له أكثر وأكثر تخطيط هجمات، تتسع دائرة المطاردة ضد يحيى عياش والتي كادت أن تتكلل بالنجاح في عدد من الفرص لولا الأرواح السبعة المنسوبة إليه». لم تكن الأرواح السبعة ولا غيره من الأسباب التي حاول الصهاينة تبرير فشلهم في الحرب ضد المهندس، وإنما هي العناية الإلهية التي بارك الله فيها هذا المجاهد وإخوانه في جهادهم ومعاركهم. فالثقة بالله والتوكل عليه بعد بذل الأسباب، تجعل من تلك العناية الإلهية خير حارس وحافظ لعباده المخلصين. والذي دفعنا للتطرق لهذا الموضوع وفي هذا المكان بالذات، هو مغادرة المهندس وصحبه (عبد الرحمن ومحمد وعبد المنعم وإسلام) منطقة شمال الضفة الغربية عائدين إلى المدينة المقدسة عبر طريق خارجي مواز لنهر الأردن مبتعدين قدر الإمكان عن التجمعات السكنية العربية، وتزامن عودة القافلة المباركة مع استنفار القوات الإسرائيلية إثر العملية البطولية في الخليل والاشتباك الذي دار في أعقابها بين المجموعة المجاهدة بقيادة البطل أمجد أبو خلف وجنود الاحتلال الذين حاصروا المنزل الذي تحصنت فيه المجموعة. وفي ظل هذه الأجواء المتوترة، وردت على ما يبدو معلومات لقيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال عن نية عدد من المجاهدين المطاردين مغادرة الضفة الغربية عبر نهر الأردن. وعندئذ، أعلنت القوات الإسرائيلية حالة الطوارىء القصوى في صفوف مجنديها على طول النهر، وانطلقت الطائرات المروحية للمساهمة في عملية البحث والتفتيش وإنارة المنطقة. وكانت الحملة العسكرية الإسرائيلية بقيادة الجنرال نحاميا تماري (قائد المنطقة الوسطى) الذي أشرف على قواته شخصياً واستقل إحدى الطائرات المروحية. وبحمد الله ورعايته، نجحت القافلة القسامية في اجتياز الحواجز العسكرية والالتفاف على الدوريات والعودة إلى القاعدة الآمنة في القدس. وأما الجنرال تمارى الذي جمع شتات خيبته، فقد كانت العناية الإلهية له بالمرصاد. فتحطمت الطائرة العسكرية التي كان يستقلها وقتل مع مدير مكتبه واثنان من الضباط الطيارين يوم الأربعاء الموافق 12كانون ثاني (يناير) 1994(61). 7- رسالة حماس إلى الجنرال يعقوب بيري استراح الكابتن نوعم كوهين، حين أخبره عبد المنعم أبو حميد بأنه سيوافيه بمعلومات عن المطاردين الخمسة الذين انتقلوا من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، وحدد له موعداً في أحد أحياء المنطقة الصناعية القريبة من قرية بيتونيا إلى الجنوب من مدينة رام الله. وعاد عبد المنعم إلى إخوانه يخبرهم أنه نفذ ما طلبوه، لتبدأ بعدها عمليات الرصد والاستطلاع للمنطقة تمهيداً لوضع الخطة التفصيلية للهجوم. وخلال ثلاثة أيام متتالية (10-13/2/1994)، قام المهندس وإخوانه في الوحدة المختارة رقم صفر بإجراء مسح ميداني للمنطقة حتى تم الاطمئنان في النهاية إلى الإجراءات والوسائل المتخذة. وفي الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الأحد الموافق 13شباط (فبراير) ،1994 كان كل شيء عادياً في ذلك الحي، وحتى سيارة المرسيدس البيضاء التي كانت تحمل لوحة ترخيص رام الله، وبداخلها الكابتن مجدي ونائباه مرت بشكل عادي دون أن تثير الانتباه. وبناء على إشارة مسبقة من عبد المنعم، توقفت السيارة على جانب الطريق ثم تقدم عبد المنعم منها ويديه في جيبه، وما أن اقترب أبو حميد من سيارة الشاباك، حتى فتح السائق النافذة من جهته لتحيته. وعندئذ، استل المجاهد مسدساً وأطلق النار على السائق أولاً ثم على الجالس إلى يمينه قبل أن ينبطح أرضاً لئلا يصاب برصاص إخوانه . وكانت هذه إشارة للمجاهدين عبد الرحمن حمدان وعلى العامودي اللذين كانا خلف جدار من الحجارة ليمطرا السيارة بوابل من الرصاص مركزين على الراكب في المقعد الخلفي وهو الكابتن مجدي.وقد نجح المجاهدون الثلاثة في الانسحاب من المكان بعد أن أصابوا ركاب السيارة بنحو أربعين رصاصة من بندقية (أم-16) وكلاشنكوف حيث أسفرت العملية عن مقتل الكابتن مجدي الذي كرس حياته ووقته لخدمة قسم التحقيق في جهاز الشاباك، وحقق خلال عمله هذا «نجاحات» في محاربة المطلوبين على حد تعبير أحد قادة الشاباك(62). وسائل الإعلام الإسرائيلية تناولت بإسهاب -بالكلمة والصورة- عملية قتل ضابط الاستخبارات نوعم كوهين وإصابة نائبيه بجروح خطيرة وفق اعتراف السلطات العسكرية، ونشرت تفاصيل كاملة عن العملية بما في ذلك البيانات الصادرة عن كتائب عز الدين القسام. فقد كتب المعلق الإسرائيلي غيلات في صحيفة يديعوت أحرونوت قائلاً: «لقد سجلت حماس لنفسها أمس إنجازاً هاماً، لقد نجحت في قتل خصمها المباشر بواسطة كمين مسلح... إن جهاز المخابرات العامة -الشاباك- تلقى ضربة قاسية، وتبين أنه حتى المقاتل المؤهل جداً ليس محصناً من خطر كهذا»(63). 8- عشر ساعات في أبو ديس غادر المهندس ووحدته المختارة منطقة رام الله التي أعلنت منطقة عسكرية مغلقة وفرض العدو نظام منع التجول على المدينة ومخيماتها في أعقاب عملية صيد الكابتن مجدي. وانتقل القساميون الستة إلى أحد المنازل الآمنة في بلدة أبو ديس التي تبعد ثلاثة كيلومترات جنوب شرقي الحي القديم في القدس. ولكن أحد المجرمين من عملاء جهاز الشاباك تمكن من رصد تحركات غريبة في المنزل الحجري المكون من طابق واحد ويشرف على المنحدرات الشرقية للبلدة، رغم أن المجاهدين بذلوا أقصى درجات الحذر وتنقلوا داخل المنزل وخارجه وفقاً لأنظمة طوارىء تتسم باليقظة والتنبه. ولأنه لا راد لقضاء الله وقدره، فقد بدت أبو ديس كساحة حرب ابتدأ من الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس الموافق 24/3/،1994 حيث وصلت قوات كبيرة من الجيش والشاباك وفرضت حصاراً عسكرياً على البلدة بشكل عام، وحصاراً آخر على المنزل بشكل خاص. وأشرف الجنرال داني يتوم (قائد المنطقة الوسطى) والجنرال شاؤول موفاز (قائد الضفة الغربية) على القوات التي جرى تعزيزها بطائرة مروحية أخذت تحلق في الأجواء لتقديم الإرشادات للجنود على الأرض. وكانت أوامر القادة الإسرائيليين واضحة وحاسمة، خوض معركة طويلة مع مراعاة تجنب المواجهة المباشرة مع القساميين. لاحظ القساميون تحرك قوات الجيش، وتعززت القناعات لدى المهندس وإخوانه بأن الهدف هو المنزل الذي يتحصنون فيه إذا اعتقل ضباط الشاباك عدداً من أنصار حركة حماس كانوا يقدمون المساعدة والخدمات للوحدة المجاهدة. وفي ظروف كتلك، ولأن العدو لم يكن يعلم بعدد الموجودين في المنزل أو شخصياتهم باستثناء عبد الرحمن وعلي، فقد تقرر أن يغطى هذين المجاهدين انسحاب يحيى وعبد المنعم، حيث فتح عبد الرحمن وعلي نيران كثيفة من بندقية (أم-16) وكلاشنكوف باتجاه الجنود وألقيا عدة قنابل يدوية حتى تمكن المجاهدان البطلان من مغادرة المنزل والتنقل خارج البلدة بعيداً عن أعين الشاباك وجيش الاحتلال. وفي ضوء إطلاق النار المستمر من قبل البطلين عبد الرحمن وعلي، قرر الجنرال ياتوم تجميد عملية الاقتحام لإجراء تقدير جديد للموقف. وشرع ضباط الشاباك بمطالبة المجاهدين تسليم نفسيهما، إلا أنهما ردا بإطلاق المزيد من الرصاص. واستمر تبادل إطلاق النار حتى الساعة الواحدة ظهراً حين جرى نصب صواريخ مضادة للدروع باتجاه المنزل، قامت وحدة من سلاح المدفعية بجيش الاحتلال بإطلاقها مما أدى إلى تدمير المنزل واحتراقه وتصاعد دخان كثيف منه. وتدريجياً، بدأ الجنود يضيقون الحصار فيما خفت حدة إطلاق النار من قبل المجاهدين عبد الرحمن وعلى اللذين أصيبا علي ما يبدو من جراء القصف. فقد خرج المجاهد علي العامودي من بين الأنقاض في نحو الساعة الرابعة من بعد الظهر، وسار وهو يترنح من شدة الإصابة نحو مدخل المنزل المقصوف وتمكن العدو من أسره . وأما القائد عبد الرحمن حمدان، فقد واصل -رغم جراحه البليغة- إطلاق النار ولم يبد أي حركة تشير إلى ضعفه، فصدرت الأوامر مرة أخرى بمواصلة إطلاق النار الكثيف والصواريخ حتى سقط البطل القسامي شهيداً في نحو الساعة السابعة مساءً. وعندها، تقدمت قوات كبيرة باتجاه المنزل، وأخذت تمشطه دون أن تجرؤ على الاقتراب من جثة الشهيد، أو قل بقايا الجثة، إذ تبين أن المجاهد قد أصيب بشكل مباشر بصاروخ (لاو) المضاد للدبابات(64). 9- شهيدي ليلة القدر اتخذ المهندس من بلدة الرام بضواحي القدس مقراً جديداً مستفيداً من وجود الأخوين إسلام أبو إرميلة و زهير فراح في تلك البلدة. وفي إطار إعادة تنظيم المجموعات وتوجيه الخلايا العاملة، كلف المهندس أخيه زهير بتولي مسؤولية حماية المجاهد عبد المنعم أبو حميد وتوفير الملجأ الآمن له ومتابعة كافة احتياجاته. وبعد أن اطمأن لوضع الأسد المقنع، انتقل المهندس إلى الهم الكبير الذي شغل تفكيره في تلك الفترة، ألا وهو الانتقام لروح الشهيد عبد الرحمن حمدان وشهداء الحرم الإبراهيمي الشريف بتنفيذ عمليات نوعية في قلب العمق الإسرائيلي. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، اتصل المهندس بقيادات حماس العسكرية، وعلى وجه التحديد محمد شهوان ومحمد الضيف في خان يونس ورفيق دربه، القائد أبو جهاد في منطقة شمال الضفة الغربية. وبناء على هذه الاتصالات، عرض القائد محمد شهوان على المهندس أن يتم الاستعانة بالمجاهد إبراهيم سلامة* [إبراهيم خليل صلاح سلامة: ولد في مخيم خان يونس عام 1972 وبلدته الأصلية هي السوافير، ونشأ وترعرع في مسجد التقوى حيث تشرب معنى الجهاد والاستشهاد. وتميز بقوة جسمه وصلابته مما جعله مؤهلاً لأن يكون عسكرياً بارعاً. وعرف الشهيد بجراءته وغيرته على المسلمين فأصيب خلال الانتفاضة خمس مرات واعتقل لمدة ثلاثة أشهر في معتقل أنصار (3). وبعد خروجه تولى مسؤولية جهاز الأحداث في المخيم ثم اختير كمقاتل في صفوف الكتائب منذ آب 1992. وقد نفذ الشهيد عدة عمليات عسكرية جريئة في الضفة والقطاع من أبرزها، جاني طال والعملية المشتركة والرد الرافض وغيرها.] لكفاءته في عمليات القنص وخبرته في تنفيذ الكمائن والهجمات النوعية. استدعى المهندس، مساعده إسلام أبو إرميلة الذي يعد من أجرأ المجاهدين المتخصصين في مهمات نقل المطاردين والسلاح بين الضفة الغربية وقطاع غزة وكلفه بمهمة إحضار المجاهد إبراهيم سلامة من قطاع غزة. وفي يوم الاثنين الموافق 7 آذار (مارس) 1994 غادر المجاهد إسلام المدينة المقدسة متوجهاً إلى قطاع غزة حيث عبر حاجز إيرز، المدخل الشمالي للقطاع، بناء على الاتفاق مع الكتائب القسامية هناك ومكث ذلك اليوم لدى القائد محمد شهوان. وفي صبيحة اليوم التالي، غادرت سيارة (أودي) حمراء اللون تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية المنطقة وهي تقل المجاهد إسلام يرافقه إبراهيم سلامة الذي امتشق سلاحه (العوزي) ووضعه في هيئة الاستعداد تحسباً لأي طارىء. ومر كل شيء بسلام عند الحاجز، واستعد إسلام للانطلاق بالسيارة مبتعداً، غير أن قضاء الله وقدره حال دون أن تنجح هذه المهمة. فبعد انتهاء الجندي الإسرائيلي من تدقيق الأوراق الثبوتية التي أبرزها إسلام أبو إرميلة نحو الساعة السادسة، لاحظ جندي كان يقف على منصة مراقبة قريبة من سيارة المجاهدين، رشاش العوزي، بجانب إبراهيم. وعندئذ أطلق الجندي رشقة في الهواء طالباً من إسلام التوقف والخروج من السيارة، إلا أن المجاهد رفض الأماكن ورد إبراهيم على إطلاق النار. وقبل أن يتمكن إسلام من مغادرة المنطقة والابتعاد عن مرمى النيران، انهمر الرصاص من كل صوب مما أدى إلى استشهاد إسلام وإبراهيم على الفور. وهكذا ابر الشهيدين بقسمهما بألا يعودا إلى السجن مرة أخرى وألا يمكنا الصهاينة من نفسيهما وترجلا إلى جنات النعيم صبيحة ليلة القدر(65). |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
#10 | |
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() رابعاً: تسديد حساب الحرم الإبراهيمي
صهاينة في الحرم الإبراهيمي كان للمجزرة الوحشية التي ارتكبها المستوطنون اليهود بالتواطؤ مع جنود الاحتلال في الحرم الإبراهيمي الشريف أثناء أداء المؤمنين لصلاة الفجر يوم الجمعة الموافق 25شباط (فبراير) 1994 انعكاسات كبيرة ومؤثرة على مجريات الأحداث والعلاقات السياسية والدولية بين الدول ذات الاهتمام بالوضع السياسي والميداني للمنطقة. ومع تفاوت درجة التأثير بين دولة وأخرى، إلا أن حالة من الغليان والتوتر الشديدين سادت في كافة أنحاء المنطقة العربية والإسلامية والتجمعات والجاليات والأقليات العربية والإسلامية في دول المهجر والإقامة حيث طالبت الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية بتعبير عفوي صادق بالانتصار لكرامة الأمة المهدورة والرد على الجريمة الغادرة و عدم الاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار وذرف الدموع خلال خطب المناسبات ومهرجانات التأبين. وفي المقابل، واجه الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن والاستخبارات بمختلف مسمياتها ووظائفها أوضاعاً معقدة جداً. فعلى الرغم أن حشد الجزء الأكبر من القوات الميدانية النظامية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعلى طول الخط الأخضر الفاصل بين هاتين المنطقتين وفلسطين المختلفة منذ عام ،1948 لا يغير كثيراً من الوضع العسكري المعقد لمحاربة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ولن يكون قادراً على منع كتائب الشهيد عز الدين القسام من تنفيذ خططها وعملياتها العسكرية الجريئة، إلا أن القيادة العسكرية وضباط العمليات يرون بأن هذه الانطلاقة الوقائية إلى جانب الاعتقالات الاحترازية لأكثر من (1300) مواطن فلسطيني يتعاطفون مع حركة حماس يمكن أن تعيق من نشاط الحركة الإسلامية وتثقل الأعباء على الكتائب القسامية وتقلص من احتمالات نجاحهم في تنفيذ عمليات كبيرة. تضاعف عدد الوحدات العسكرية الإسرائيلية التي تخدم في الضفة الغربية وقطاع غزة من (120) سرية إلى (480) سرية، وعززت الوحدات المنتشرة إجراءات الحراسة المتبعة حول محطات السفر المجاني التي يستخدمها الجنود على طرق المواصلات وداخل المعسكرات وفي محيط المستوطنات اليهودية. كما أعادت سلطات الاحتلال نقاط المراقبة العسكرية التي أزيلت في وقت سابق، وكثفت من الحواجز المفاجئة وتفتيش السيارات بما فيها تلك التي تحمل لوحات تسجيل إسرائيلية. وصدرت تعليمات عن قيادة الجيش الإسرائيلي للمستوطنين تقضي بعدم المرور في التجمعات العربية والتحرك من خلال قوافل تحميها سيارات عسكرية. وفي نفس السياق، وجه ضابط العمليات والاستخبارات تحذيرات إضافية للقادة العسكريين الميدانيين حول إمكانية وقوع محاولات لاستخدام سيارات مفخخة ضد معسكرات الجيش أو المستوطنات اليهودية. وتجاوباً مع هذه التحذيرات نصبت وحدات الهندسة سواتر ترابية على محيط المعسكرات وحول عدد من المستوطنات التي اعتبرتها الشاباك كأهداف محتملة للعمليات الثأرية. 1- برنامج من خمس مراحل وجاء في بيان كتائب عز الدين القسام أن غرفة عملياتها «عقدت أحد أهم اجتماعاتها، واتخذت عدة قرارات ميدانية سيدفع المستوطنون ثمن تطبيقها غاليا». ويضيف البيان: «إن قيادة الكتائب درست الأبعاد الحقيقية للمجزرة، وقررت بالإجماع توجيه الرد المسلح من خلال خمس مراحل، كل مرحلة ستجعل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين يبكون دماً على قتلاهم»(66). ومن خلال استقراء ملامح الخطة العسكرية وما جرى تطبيقه على أرض الواقع، يتضح بأن الرد القسامي على الجريمة تميز بدلالته وتوقيته وضخامته. ففيما يتعلق بالدلالة، تعتبر المراحل الخمس التي اشتمل عليها الثأر رسالة إلى القادة الإسرائيليين والمستوطنين اليهود مفادها أن جرائمهم تفتح باباً ومساراً لا نهاية له حين يعتدون على المواطنين العزل. وبالنسبة للتوقيت، فقد كان محكما وسليماً وذكياً كما سنرى حين نستعرض كل مرحلة على حدة، وأما النقلة النوعية في التخطيط، فقد تمثلت في ضخامة العمليات والعدد الكبير من القتلى والجرحى في صفوف الصهاينة، وهي خسائر لم تألفها الدولة العبرية من قبل. 2- سنابل عبد الرحمن حمدان وقبل أن ندخل في تفاصيل وثنايا العمل الميداني للقادة الثلاثة، سيكون من الخطأ نسبة عمليات الثأر لرجل واحد أو حتى مجموعة حيث يدور الحديث عن شبكة واسعة جداً تشمل التخطيط وجمع المعلومات الاستخبارية المسبقة بخصوص الهدف وتحديد أسلوب التنفيذ وطريقة الاتصالات والنقل والخدمات. وعلى كل، فإن كل هؤلاء يحتسبون الأجر أولاً وأخيراً من الله سبحانه وتعالى ولا يلقون بالاً للإعلام أو الدعاية أو الشهرة. وليس سراً أن ما يصل وسائل الإعلام يقتصر فقط على دور الشهداء والمعتقلين في هذا الجانب أو ذاك. جرى تشكيل مجموعتين استشهاديتين، الأولى في قطاع غزة وتتبع القائد أبو خالد وسنعود إليها في وقت لاحق. وأما الثانية، فقد شكلها المهندس وأبو جهاد وأطلقا عليها اسم (وحدة الشهيد عبد الرحمن حمدان)، وضمت في عضويتها كل من المجاهدين: 1- بشار حسن محمد العامودي: من مواليد مدينة نابلس عام ،1966 وشارك في فعاليات ونشاطات حماس في نابلس مند بداية الانتفاضة، فكان ينصب الكمائن لسيارات الجيش في منطقة رأس العين. وأصيب برصاصة دمدم في رجله أدت إلى تمزق فخذه، فمكث في المستشفى قرابة ثلاثة شهور وأمضى في السجن مدة سنتين خرج بعدها وهو عازم على العمل والشهادة. وهو متزوج ورزق بطفل بعد استشهاده. 2- سعيد محمد يوسف بدارنه: ولد في قرية يعبد عام ،1972 وتربى يتيماً بعد وفاة والده في بيت ملاصق لحائط جامع يعبد القديم. وبإصرار وعزيمة أنهى دراسته الثانوية بنجاح ولكن الأحوال المادية وكونه المسؤول عن البيت حالت دون إكمال الدراسة الجامعية. ومع اندلاع الانتفاضة، خرج سعيد مع الجماهير إلى الشوارع وسار في المظاهرات قائداً وموجهاً، حتى اعتقل يوم السبت 15نيسان (إبريل) 1994 وأصدرت محكمة عسكرية صهيونية عليه حكماً بالإعدام خفف لاحقاً إلى السجن المؤبد(67). 3- محمد مصطفى معالي سباعنة: مواليد قرية قباطية عام ،1967 وأصبح مطارداً إثر انكشاف أمر مشاركته في الكتائب ابتدأ من أيار (مايو) 1994. وكان قد اعتقل عدة مرات وتعرض لأساليب التعذيب الوحشية. وقد توفى البطل إثر مرض عضال في مستشفى المقاصد الخيرية بالقدس بتاريخ 24/8/،1994 وجرى تشيع جثمانه ودفنه في بلدته(68). 4- رائد محمد عبد الله زكارنه: ولد في قرية قباطية عام 1974 لعائلة كبيرة، وهو من شباب المسجد ويحضى باحترام خاص بين أقرانه. وقد اعتقل في شهر نيسان (أبريل) ،1993 وصمد في أقبية التحقيق (45) يوماً رغم العذاب والألم الذي تعرض له، ووقف وقفة مشرفة. فلم يركع أو يلين وتحدى ببطولة وشموخ الجلادين فلم يعترف. وبعد خروجه من المعتقل انضم إلى مجموعات المطاردين من كتائب القسام. 5- عمار صالح ذياب عمارنة: ولد في قرية يعبد عام ،1972 وواصل تعليمه في القرية حتى حصل على الشهادة الثانوية العامة. وخلال الانتفاضة شارك في الفعاليات، فاعتقل عدة مرات وأصيب مرات عدة أيضاً خلال المواجهات مع جيش الاحتلال. 6- أمجد ناصر حسين أكميل: ولد في قرية قباطية عام ،1972 وهو متزوج وله ثلاثة أولاد. وأصبح مطارداً ومطلوباً لسلطات الاحتلال في شهر يوليو (تموز) عام 1994. 7- أحمد سليم خليل أبو الرب: مواليد قرية قباطية عام ،1973 وقد أصبح مطلوباً لسلطات الاحتلال في شهر يوليو (تموز) 1994. 8- محمد أحمد صالح أكميل: مواليد قرية قباطية عام ،1975 وهو صديق رائد زكارنه ورفيق دربه. وقد اعتقل إثر مداهمة القرية في أواخر شهر آب (أغسطس) ،1994 وصدر عليه حكم بتاريخ 31/1/1995 بالسجن المؤبد إضافة إلى عشر سنوات لمساعدته وإخفائه الشهيد رائد(69). ومنذ اليوم الأول لتشكيل وحدة الشهيد عبد الرحمن حمدان، ركز المهندس وأخيه أبو جهاد على ثلاثة محاور رئيسة شملت: الأهداف، والتوقيت، والإعداد. ففيما يتعلق بالأهداف، سرب المجاهدون عن طريق عملاء الشاباك الذين كانوا يتصيدون الأخبار عن برنامج المراحل الخمس بأن حركة حماس تنظر إلى مستوطنات نتساريم وغوش قطيف في قطاع غزة، وكريات أربع وقدوميم وتقوع في الضفة الغربية كأهداف عسكرية محتملة. ولهذا، قام سكان تلك المستوطنات أنفسهم بتعزيز الحراسات داخلها إلى جانب التعزيزات والتحصينات التي أقامها جيش الاحتلال وقوات حرس الحدود. وأما التوقيت، فقد كانت توقعات الشاباك والاستخبارات العسكرية بأن تشهد ذكرى يوم الأرض وذكرى مرور شهر على مجزرة الحرم الإبراهيمي (25/3) عمليات عسكرية كبيرة لحركة حماس. وبالنسبة لعملية إعداد المجاهدين، أظهر المهندس حرصاً شديداً على الجانب العملي والميداني وذلك من خلال تكليفه لأعضاء الوحدة ببعض المهمات العسكرية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، جهز المهندس عبوة ناسفة موقوتة، وأرسل ثلاثة مجاهدين بقيادة سعيد بدارنة لوضعها على الطريق المؤدي إلى مستوطنة شكيد القريبة من بلدة يعبد غربي مدينة جنين لتنفجر مساء يوم الخميس الموافق 17أذار (مارس) 1994 أثناء مرور حافلة عسكرية إسرائيلية على ذلك الطريق. ولكن سلطات الاحتلال تكتمت عن الإصابات والأضرار التي لحقت بالجنود والحافلة التي أصيبت بأضرار. وجه المهندس المجاهدين رائد زكارنة ومحمد أحمد أكميل للقيام بعمليات رصد واستطلاع للهدف الأول في برنامج المراحل الخمس، وهو حافلة عسكرية تمر كل يوم سبت على طريق (جنين- العفولة) تكون عادة مكتظة بالجنود المجازين من وحداتهم المرابطة في مدينتي جنين ونابلس. وبعد جمع المعلومات الضرورية، وضع المهندس المخطط التفصيلي للعملية مع القائد أبو جهاد، وأعد سيارة مفخخة بشحنة ناسفة زنتها سبعة كيلو غرامات وخمس قنابل يدوية. وحسب الخطة، كان من المفترض أن يستقل البطلان رائد ومحمد السيارة ويسيرا على طريق (جنين - العفولة) حتى تتوازى السيارة مع الحافلة العسكرية، وعندئذ يتم تجاوز الحافلة، ووسط عملية التجاوز يقوم المجاهدان بتفجير العبوات الناسفة. ولكن هذه العملية لم تنفذ، إذ جرى تغيير الخطة في اللحظة الأخيرة، كما أن ذلك الهدف لم يعد على أجندة برنامج المراحل الخمس نظراً للتعقيدات الفنية التي طرأت جراء تشديد سلطات الاحتلال لإجراءات الحراسة على طريق (جنين - العفولة)، وتكثيفها للحواجز العسكرية وبخاصة المفاجئة منها. وعلى الأثر، انتقل المهندس للهدف التالي، وهو محطة الحافلات المركزية في مدينة العفولة داخل المناطق المحتلة منذ عام 1948. 3- عرس في ذكرى الأربعين يعتبر اختيار المهندس للهدف الجديد وأسلوب التعامل معه موقفاً، فقد حمل هذا الاختيار دلالات سياسية ومؤشرات عسكرية أدرك الكيان الصهيوني قبل غيره خطورتها على أمنه. ومن هذه الدلائل والمؤشرات يمكن تحديد التالي: أ- التخطيط المحكم والعناية في اختيار الوقت حيث تم تنفيذ العملية مع انقضاء فترة الأربعين على جريمة الحرم الإبراهيمي. ب- تمت العملية بأسلوب عسكري دقيق ومباغت فاجأ سلطات الاحتلال وأجهزة أمنها مما يعني قدرة حركة حماس العسكرية على تخطيط وتنفيذ عملياتها في أشد ظروف يقظة وترقب جيش واستخبارات وشرطة الاحتلال. فقبل العملية، أشار موشيه شاحل، وزير الشرطة بأن وزارته اتخذت كافة الانطلاقة اللازمة لمنع وقوع مثل هذه العمليات، وخصوصاً في ذكرى الأربعين لشهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي. جـ- تم تنفيذ العملية في عمق فلسطين وداخل المناطق المحتلة منذ عام 1948 التي يعتبرها الكيان الصهيوني (أرضاً إسرائيلية خالصة وبيتاً آمناً لليهود). وهذه النقطة تحمل في طياتها أكثر من مغزى، لعل أبرزه هو أن اتفاق غزة-أريحا لن يجلب الأمن لإسرائيل، مما يلغي نظريات بيريز القائلة بأن خروج الإسرائيليين من غزة سيؤدي إلى تقليص الهجمات التي يتعرضون لها. بدأت كتائب الشهيد عز الدين القسام بالتجهيز والإعداد لتنفيذ العملية حين كلف المهندس أخاه بشار العامودي بنقل الأدوات والسيارة التي تم الاستيلاء عليها من داخل المناطق الإسرائيلية، في الأسبوع الأخير من شهر آذار (مارس) إلى مخزن قام مجاهدي قباطية باستئجاره في منطقة جنين. وفي وقت لاحق انضم المهندس إلى إخوانه في منطقة جنين وأشرف على تغيير رقمي المحرك والشاصي ثم باشر بتفخيخ السيارة بأكثر من (50) كيلو غراماً من المتفجرات وعدد من اسطوانات الغاز وكيس مسامير. وقام المجاهد بشار العامودي بتسليم السيارة بعد ذلك للمجاهدين أمجد أكميل وأحمد أبو الرب اللذين توليا ترتيب الدخول بها إلى مدينة العفولة. وأما المجاهد رائد زكارنة الذي تطوع لقيادة السيارة وتنفيذ الهجوم، فقد انتحل شخصية مواطن فلسطيني من سكان قرية المشهد في الجليل الأعلى، واجتاز الخط الأخضر مع المجاهد محمد مصطفى سباعنة الذي وفر لرائد هوية إسرائيلية باسم نزال أحمد كريم(70). وفي نحو الساعة الثانية عشرة والنصف من بعد ظهر يوم الأربعاء الموافق 6نيسان (أبريل) ،1994 ووفقاً للخطة التي أعدها المهندس، تقدم رائد زكارنة بسيارته المفخخة نحو محطة الحافلات المركزية في مدينة العفولة وتتبع الحافلة التي تعمل على خط رقم (348) بعد خروجها من المحطة باتجاه (المجدل - مجدال هعيمق). وعند محطة انتظار الحافلات القريبة من المركز الثقافي بالشارع الرئيس لمدينة العفولة توقفت الحافلة. وفتح السائق بابها الأمامي لصعود الركاب. وعندئذ، تجاوز رائد الحافلة وأوقف سيارته على مسافة مترين فقط من مقدمة الحافلة وخلال ثوان، دوى صوت انفجار قوي حوَّل السيارة إلى أشلاء تطايرت على بعد عدة أمتار. كما تحطمت جميع نوافذ الحافلة واحترق هيكلها الداخلي وأصيب جميع من فيه بدرجات متفاوتة. كما جرح عدد من المستوطنين عندما تحطمت الواجهات الزجاجية لبعض المحلات التجارية القريبة بفعل انفجار السيارة. وعلى الأثر، هرعت فرق الإنقاذ وسيارات الإسعاف، وهبطت الطائرات المروحية لإخلاء المصابين بجروح خطيرة. وكان المكان أشبه بساحة حرب حيث تناثرت جثث القتلى في الشارع، بينما كان عشرات الجرحى يصرخون والدماء تنزف من أجسامهم. وبلغت حصيلة العملية البطولية، ثمانية قتلى وواحد وخمسين جريحاً اعتبرت جراح تسعة منهم خطيرة جداً(71). ويترجل رائد زكارنة إلى جنات الخلد بعد أن شفى غليل شعوب العالم الإسلامي التي كانت في توق شديد إلى الانتقام من الصهاينة. وشرب الصهاينة من نفس الكأس الذي شرب منه أهل الخليل قبل أربعين يوماً. وسيطرت حالة من الذهول على المجتمع الإسرائيلي، وخرجت تظاهرات هستيرية تطالب بالانتقام وتحمل اسحق رابين مسؤولية سقوط نظرية الأمن وتتهمه بالخيانة. 4- الكتائب وبصمات عيد الاستقلال الانطلاقة القمعية التي اتخذتها حكومة اسحق رابين لم تكن مفاجئة، إذ أن حالة الهستيريا التي أصابت أركان الدولة والجمهور اليهودي، والفشل الذي منيت به قوات الشرطة وأجهزة الاستخبارات إثر عملية العفولة، دفع سلطات الاحتلال العسكرية إلى تشديد الطوق العسكري والحصار الأمني الشامل حول الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي غمرة التهديدات العنيفة التي صدرت عن رابين بأنه سيقضي على المهندس ومن وراءه، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي أوامره للجهات الأمنية والعسكرية بتشديد الإغلاق وعمليات التفتيش عن العمال الذين ما زالوا داخل المناطق المحتلة منذ عام ،1948 ووضع جميع الوحدات العسكرية التي تضم قوات من الجيش والشرطة وعناصر الأمن والاستخبارات وأفراد الوحدات الخاصة وقوات المظليين في حالة تأهب قصوى وألغى جميع الإجازات التي كان من المفترض أن تمنح للجنود بمناسبة احتفالات عيد استقلال الدولة حسب التقويم العبري الذي يصادف يوم الخميس الموافق 14نيسان (إبريل) 1994. وبموجب هذه الأوامر أيضاً، قامت الشاباك بحملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من (2700) مواطن باعتبارهم منتمين أو مؤيدين أو متعاطفين مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وتخلل عمليات الاعتقال مداهمة وتفتيش للبيوت بعنف وقسوة تجاوزت الغرض منها، حيث شملت تلك المداهمات تحطيم الأثاث وتخريب الممتلكات وترويع السكان الأمنيين(72). وفي غرفة العمليات المركزية لكتائب الشهيد عز الدين القسام، جمع المهندس مساعديه بعد انطلاق رائد نحو هدفه في العفولة للتشاور وتدارس المستجدات والتوقعات وأثار الانطلاقة الإسرائيلية على الجهاز العسكري لحركة حماس عامة وعلى مجموعة الشهيد عبد الرحمن حمدان وسط تصميم على تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج الثأر لشهداء الحرم الإبراهيمي في ذكرى عيد استقلال الدولة العبرية، وفي غمرة احتفالاتها بذكرى الجنود الإسرائيليين القتلى حيث أراد المهندس اختراق كل الانطلاقة العسكرية والأمنية وتحطيم أسطورة أجهزة الأمن الصهيونية وزعزعة الأمن الداخلي للدولة العبرية. ومن جهة ثانية تحويل ذكرى إعلان تأسيس إسرائيل إلى يوم مناحة وبكاء على القتلى أسوة بمعاناة الشعب الفلسطيني في عيد الفطر الذي أعقب جريمة الحرم الإبراهيمي الشريف. بعد إقرار غرفة العمليات المركزية لاقتراح المهندس وخطته الجديدة، والتي اشتملت على تنفيذ عملية مزدوجة في محطة الحافلات المركزية بمدينة الخضيرة داخل المناطق المحتلة منذ عام ،1948 أعد المهندس برنامجه الجهادي، وبدأت مرحلة الاستعداد واختيار الطاقم المساعد وعناصر الإسناد والدعم اللوجستي. وبناء على ضروريات السرية، تم توجيه المجاهد سعيد بدارنه عبر ما يعرف باسم (النقاط الميتة) لاستلام الخطة والتوجيهات وتفاصيل وطريقة استعمال المتفجرات. فقد تضمنت خطة العملية، تجهيز عبوتين ناسفتين بطريقتين مختلفتين. فالأولى، جرى تركيبها وتشكيلها بحيث يتم وضعها على الجسم، بينما ركب المهندس العبوة الثانية في حقيبة سفر صغيرة تشبه ما اعتاد جنود الاحتلال على استخدامها خلال تنقلاتهم من وإلى معسكراتهم. ووضع المهندس العبوتين وإرشادات الاستخدام وتفاصيل العملية والهدف في النقطة الميتة وهي مقبرة بلدة يعبد، ليستلمها سعيد في وقت لاحق. ارتكب المجاهد سعيد بدارنه خطأ أمنياً فادحاً، أدى إلى الكشف عن أعضاء مجموعة الشهيد عبد الرحمن حمدان واعتقال عدد من المجاهدين الذين قدموا الخدمات والمساعدة للمجموعة، وهذا ما قاد فيما بعد إلى اعتقال سعيد نفسه بعد ثلاثة أيام من العملية. فقد رضخ المجاهد القسامي لتوسلات وإصرار صديقه الحميم ورفيق دربه عمار عمارنه بأن يقر ترشيحه لتنفيذ العملية الاستشهادية. وكان سعيد وعمار يسكنان في بيتين متجاورين في يعبد ومعروفان كصديقين من مؤيدي حركة حماس. ومن البديهي، ولكون عمار غير مطلوب لسلطات الاحتلال، أن تبدأ الشاباك بعد تنفيذ عمار للعملية حملة اعتقالاتها في بلدة يعبد وبالتحديد تستهدف الأصدقاء والمقربين لعمار، خاصة وأن نشطاء حركة حماس في البلدة ارتكبوا هم أيضاً خطأً آخر حين جابوا البلدة فور الإعلان عن العملية معلنين بأن منفذها هو عمار عمارنه بناء على معلومات وأوامر من سعيد بدارنه. وعلى كل، لا نملك أية معلومات أو أسباب يمكن أن تنقض هذا الاستنتاج. ونعود إلى المجاهد البطل سعيد بدارنه الذي قام بشرح تفاصيل العملية للمجاهد عمار عمارنه وطبيعة الهدف وطريقة الصعود للحافلة ثم اصطحبه يوم الثلاثاء الموافق 12نيسان (إبريل) 1994 إلى قرية برطعة الشرقية، وهي قرية عربية متاخمة للخط الأخضر وتقع ضمن المناطق المحتلة منذ عام ،1948 وباتا ليلتهما عند ظاهر ربحي كبها الذي لم يكن يعرف بنيتهما. وفي صبيحة اليوم التالي، ربط سعيد العبوة الأولى على جسم عمار وسلمه الحقيبة السوداء التي تحوي العبوة الثانية ثم أرشده إلى طريقة التفجير. وغادر سعيد عائداً إلى بلدة يعبد بعد أن اهتم بتأمين سيارة إسرائيلية من نوع سوبارو يقودها عاطف أحمد كبها وهو أيضاً من قرية برطعة الشرقية لنقل عمار إلى مدينة الخضيرة مقابل أربعين شيكلاً (13دولار أمريكي)(73). وصل البطل عمار عمارنه وقد ربط على جسده عبوة متفجرة فيما حمل الثانية داخل حقيبة سوداء إلى محطة الحافلات المركزية في مدينة الخضيرة، ووقف في مكان الانتظار الخاص بالحافلة رقم (820) والتي تعمل على خط (العفولة - الخضيرة - تل أبيب). وعند الساعة الثامنة وخمسين دقيقة من صباح يوم الأربعاء الموافق 13نيسان (إبريل) ،1994 وفي غمرة انشغال الكيان الصهيوني بعيد الاستقلال وذكرى جنوده القتلى، توقفت الحافلة (820) في المحطة لإنزال ركاب ونقل آخرين. وعندئذ، صعد عمار إليها من الباب الخلفي بعد أن ترك الحقيبة المفخخة في الموقف بناء على تعليمات المهندس. وخلال ثوان قليلة، فجر البطل العبوات التي تحزم بها ليقضي شهيداً ويقتل مالا يقل عن خمسة بينهم ثلاثة جنود ويصيب نحو اثنين وثلاثين آخرين بينهم ثمانية عشر جندياً وفق ما اعترف به الناطق بلسان الشرطة الإسرائيلية. وقد تحطم الجزء الخلفي من الحافلة وأصيبت المحطة بأضرار مادية جسيمة، وعلى الفور دفع العدو بتعزيزات من الشرطة وحرس الحدود وطواقم من محققي الشاباك، بينما قامت فرق الإنقاذ والإسعاف بنقل القتلى والجرحى إلى المستشفيات. وخلال عمليات التمشيط التي قامت بها وحدات الهندسة وخبراء المتفجرات، عثر العدو على الحقيبة المفخخة قبل انفجارها بلحظات قليلة، ليتم تفجيرها في مكانها بعد إخلاء المنطقة(74). حملة الاعتقالات التي نفذتها الشاباك بتعزيز من المظليين والوحدات الخاصة في أعقاب العملية طالت نحو (500) مواطناً فلسطينياً جديداً، وضمت أئمة مساجد وطلاب وأطباء وأكاديميين ممن استثنوا في الحملات السابقة. وقد قادت الاعتقالات وعمليات التعذيب الشديدة التي تعرض لها المعتقلون من منطقة جنين بشكل عام وبلدة يعبد بشكل خاص إلى اعتقال سعيد بدارنه واثنين من مساعديه بعد ثلاثة أيام. وفي ضوء هذه التحقيقات، واعتراف مجموعة منطقة جنين على المجاهد بشار العامودي ودوره كحلقة وصل بين المجموعة والمهندس، غادر المهندس وإخوانه بشار وأمجد وأحمد ومحمد المنطقة عائدين إلى نابلس حيث انضموا إلى ركب المطاردين مع القائد القسامي أبو جهاد، ليكون لهم موعد آخر مع الشهادة. 5- إنها الجنة تبغي ثمنا اتخذ المهندس وأركان عملياته ومساعديه من قرية قراوة بني حسان والمنطقة المحيطة بها مأوى وقاعدة لتخطيط العمليات وتوجيه المجموعات الفدائية المقاتلة، ورفع القائد أبو جهاد من حالة التأهب في صفوف المجموعات العاملة بإمرته وزاد من إجراءات الأمن في المنطقة لحماية غرفة العمليات المركزية لكتائب عز الدين القسام وصديقه الحميم، يحيى عياش. وسوياً عمل القائدان على تنظيم عناصر جديدة وتدريبها وتوزيعها على المجموعات، وباشرا بالتخطيط لتنفيذ العمليات النوعية الثلاث المتبقية من برنامج المراحل الخمس. ولكن هذا الانشغال بتأمين الحماية وتعزيز المجموعات لم يحل دون استمرار برنامج التصعيد الجهادي بكافة الوسائل القتالية المتاحة ومشاغلة قوات الاحتلال وارباك خططها. ويمكن القول بأن هذه الاستمرارية قد ساهمت، بشكل كبير وفعال، في تدريب العناصر الجديدة ميدانياً وبالذخيرة الحية. فعلى سبيل المثال، أرسل القائدان القساميان المجاهد حسن مصطفى حسن الزاغة (18 عاماً) وهو من سكان حي رفيديا بمدينة نابلس لمهاجمة جندي الحراسة الذي يتولى أمن مركز شرطة نابلس، ليئور مزراحي، وهو من لواء جولاني بعد أن تولت مجموعة الاستطلاع رصد الهدف وتحديد طريقة الانسحاب. وقد تم الهجوم باستخدام المسدس في صبيحة يوم السبت الموافق 23 نيسان (إبريل) ،1994 وأسفر الهجوم عن إصابة الجندي بجروح خطيرة. ونجح المجاهد بالانسحاب، رغم إصابته بجروح في ساقه اثر إطلاق جنود إسرائيليين آخرين تصادف مرورهم بالقرب من المكان(75). وفي تقدم تقني عبر عن مهارة المهندس وإبداعاته، جهز أبو البراء عبوة ناسفة تنفجر بالتحكم عن بعد بواسطة الهاتف اللاسلكي حيث قامت إحدى المجموعات الجديدة بزرع تلك العبوة على الطريق العام القريب من المقبرة الغربية بمدينة نابلس. وعند مرور سيارة عسكرية في حوالي الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم الخميس الموافق 30 حزيران (يونيو) ،1994 فجر المهندس عبوته الناسفة لتتطاير السيارة في الهواء ثم ترتطم بالأرض محترقة. وقد اعترفت السلطات العسكرية بالعملية، ولكنها زعمت بأن التفجير قد أسفر عن جرح جنديين فقط. كما وضع المهندس عبوتين ناسفتين موقوتتين داخل محطة وقود خاصة بمستوطنة (غينوت شومرون) أعدتا للانفجار في صباح يوم الجمعة الموافق 1يوليو (تموز) ،1994 إلا أن العدو عثر على العبوتين وقام خبراء المتفجرات بتفكيكهما. وعلى الرغم من عدم وقوع إصابات أو أضرار، إلا أن المستوطنين أصيبوا بحالة من الهلع والخوف واعتبروا أن وضع العبوتين يشكل تصعيداً في العمليات التي تستهدفهم(76). الوحدات العسكرية المحمولة والراجلة التي دفعتها قيادة جيش الاحتلال إلى المنطقة فشلت في تعقب أثار المهندس وأخيه أبو جهاد اللذين انسحبا بسلام مع مجموعاتهما باتجاه القاعدة الآمنة في منطقة قراوة بني حسان. ولم يكن القائدان القساميان يضعا رحالهما، حتى جوبها بإلحاح شديد من قبل المجاهد منصور عاطف ريان* [منصور عاطف ريان: ولد في قرية قراوة بني حسان عام ،1975 وهو من عناصر حركة حماس المعروفين بالقرية وإن كانت سلطات الاحتلال قد حاولت التشكيك به والزعم بأنه نفذ العملية لكي يبرهن للحركة بأنه ليس متعاوناً مع الشاباك. وقد اعتقل منصور يوم 6/7/1994 وحكم بالسجن المؤبد.] بأن يشركاه في العملية التالية، وهي مهاجمة مستوطنة (تنعيم) التي تقع شمال طريق (حوكسية شومرون) القريبة من قرية قراوة بني حسان. وأمام هذا الإلحاح، استجاب القائدان لطلبه وأكرماه بالدور الأكبر في العملية. ففي ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة الموافق 1/7/،1994 اقتحمت المجموعة الفدائية مستوطنة (تنعيم) وتوزع أعضاءها على شكل قتالي حول منزل الضابط في الاحتياط، يورام سكاوري (30 عاماً). وخلال ثواني معدودة، قفز المجاهد منصور إلى المنزل عبر النافذة، ودون أن يحدث صوتاً أو جلبة، طعن الضابط عدة طعنات في البطن والعنق والظهر ثم غادر المنزل تاركاً الضابط جثة هامدة بينما زوجته تتخبط بدمائها من جروح أصابتها اثر محاولتها الدفاع عن زوجها(77). وبناء على الخطة التي وضعها القائدان القساميان، سارت المجموعة الفدائية بعد مغادرتها للمستوطنة على الطريق الترابي المؤدي إلى قرية قراوة بني حسان دون أن تزيل الآثار وذلك للتمويه على قوات الاحتلال وقصاصي الأثر. إذ إن المجموعة لم تستقر بالقرية، بل غادرتها على الفور عن طريق آخر حيث تولى أحد المجاهدين إزالة آثار الأقدام الجديدة. وقد انطلت الحيلة على السلطات العسكرية الإسرائيلية، خاصة وأنها اكتشفت العبوة الناسفة التي جهزها المهندس وتركتها المجموعة الفدائية عند مدخل المستوطنة، وهذا ما أغرى ضباط الشاباك الذين تحمسوا لتتبع الآثار اعتقاداً منهم بأن ذلك سيقودهم للمطلوب الأول على قائمتهم وصديقه. ومما يدل على الأهمية التي كانت توليها سلطات الاحتلال لعملية اقتحام قرية قراوة بني حسان، مشاركة الميجر جنرال ايلان بيران (قائد المنطقة العسكرية الوسطى) والجنرال شاؤول موفاز (قائد قوات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية) على رأس القوة المهاجمة والتي قدرت بنحو (1000) جندي من الجيش والوحدات الخاصة وقوات حرس الحدود ترافقهم (100) سيارة عسكرية إضافة إلى طائرتين مروحيتين لسلاح الجو وعدة مجموعات سرية من قوات المستعربين تنكرت بزي نساء عربيات(78). في البداية حاصرت القوة الإسرائيلية القرية من جميع الجهات، وحمل ضباط من الشباك مكبرات الصوت ليعلنوا فرض حظر التجول والطلب من السكان التزام منازلهم وعدم الخروج. وبعد ذلك، أخذت الوحدات الإسرائيلية تطبق على القرية وتمشطها بيتاً إثر بيت إلى أن وصلت إلى خمس منازل متجاورة تعود لعائلة عاصي، ومن بينها منزل القائد أبو جهاد وشقيقه. ومع حلول الساعة الحادية عشر مساءً، أصدر الجنرال بيران أوامره بإطلاق الصواريخ على منزل أبو جهاد رغم أنه لم تطلق من داخله أي رصاصة. وبعد أن اطمأن قادة الجيش الصهيوني، اقتحم الجنود المنازل الخمس وقاموا بتحطيم أثاثها والعبث بمحتوياتها إمعاناً بالتخريب تغطية على فشلهم في النيل من المجاهدين(79). وعلى الرغم من نجاح الخديعة، إلا أن المقام في منطقة قراوة بني حسان لم يطل، فقد اعتقل المجاهد منصور ريان يوم الأربعاء الموافق 6يونيو (تموز) 1994 إثر كمين نصبته الوحدات الخاصة الإسرائيلية للمجاهد أثناء زيارته لمنزل العائلة في قراوة بني حسان. وعليه، غادر القائدان القساميان المنطقة نحو مدينة نابلس حيث كان المجاهد علي حجة وهو أحد القائمين على خدمة الكتائب القسامية قد استأجر شقة في منطقة المخفية لسكن القائدين قبل عشرة أيام. وبعد استقرار المجموعات العسكرية في مدينة نابلس، تدارس القائدان الوضع العام لغرفة العمليات المركزية والظروف التي تمر بها منطقة شمال الضفة الغربية، ووجدا أنه من الأنسب في تلك الظروف أن يتم نقل غرفة العمليات المركزية إلى منطقة جنوب الضفة الغربية، وبالتحديد إلى مدينة الخليل. ولكن عملية الانتقال لم تتم، فقد تسارعت الأحداث ابتداء من اعتقال المجاهد علي حجة ومغادرة المهندس وأبو جهاد إلى حارة الياسمينة إثر ذلك، وانتهاء بالمعركة العنيفة التي دارت بين الأبطال علي عاصي ويحيى عياش وبشار العامودي وقوات كبيرة من جيش الاحتلال حاصرتهم في المنزل الذي كانوا يتحصنون فيه. كان بشار يعلم أن المنزل الذي انتقل إليه مع أخويه أبو البراء وأبو مجاهد غير آمن، ولكن المجاهدين الثلاثة اعتبروا انتقالهم إليه مؤقتاً ريثما تزول حالة الارتباك التي سادت في جهاز الأمن ومجموعات الدعم اللوجستي إثر اعتقال المجاهد علي حجة. ولأن قدر الله نافذ، والجنة بإبلاغ ثمناً، فقد شاهد أحد المجرمين المرتبطين بجهاز الشاباك المطاردين الثلاثة يدخلون إلى منزل مهجور يعود إلى عائلة جاد الله في حارة الياسمينة بالبلدة القديمة من مدينة نابلس. وما أن وصلت معلومات العميل إلى الضابط المسؤول عنه، ومن ثم إلى الجنرال يعقوب بيرى (رئيس الشاباك) والذي كان يولي حملات البحث والمطاردة لقتل المهندس اهتماماً شخصياً ومباشراً حتى بدأت الحرارة بالارتفاع وانشغلت أجهزة الهاتف داخل مقر الشاباك، وفي مقر رئاسة الأركان وقيادة المنطقة الوسطى بالاتصالات المتبادلة لحشد قوات منتخبة من الجيش والمظليين لهذه المهمة الخاصة. وفي نحو الساعة الثانية من فجر يوم الاثنين الموافق 11يوليو (تموز) ،1994 فرضت سلطات الاحتلال نظام منع التجول على مدينة نابلس وقطعت خطوط الهاتف إيذاناً بانتشار نحو ألف جندي من قوات المظليين والوحدة السرية الخاصة (دفدفان) بالتعاون مع أفراد من جهاز الشاباك، ولأن الهدف من العملية كان واضحاً ومحدداً، فقد أخذت الوحدات العسكرية الإسرائيلية تضيق الحصار حول حي الياسمينة من كافة الاتجاهات، وإن كانت طبيعة المنطقة التي يقع فيها الحي فد شكلت عائقاً أمام القوات المهاجمة. إذ أن البيوت المتلاصقة في البلدة القديمة من مدينة نابلس قد عطلت أحكام الحصار على المنزل الذي كان يتواجد فيه المجاهدون الثلاثة(80). في البداية، طالب قائد الوحدات الإسرائيلية عبر مكبرات الصوت المجاهدين الثلاثة بالاستسلام وتسليم أنفسهم. فرد الأبطال بوابل من نيران الأسلحة الأوتوماتيكية، واشتبكوا مع القوات المهاجمة التي حاولت اقتحام المنزل في معركة ضارية استمرت حتى الساعة الرابعة صباحاً. وطبقاً لما أفاد به شهود عيان من سكان الحي، فقد قُتل ضابط إسرائيلي على الأقل وأصيب آخرون بجروح متفاوتة. وبعد توقف تبادل إطلاق النار، أوفد قائد القوة الإسرائيلية مواطن من سكان الحي لإقناع المجاهدين بتسليم أنفسهم، إلا أن القساميين رفضوا هذا العرض واستأنفوا إطلاق النار باتجاه الجنود لفترة محدودة عاد بعدها الهدوء يخيم على المنطقة. واستغل المجاهدون فترة الهدوء وإعادة تجميع قوات الاحتلال بالتغطية على مغادرة المهندس للمنزل. فانسحب يحيى دامع العين على فراق أخويه اللذين أصرا بشدة عليه بتنفيذ هذا الأمر لما يعرفانه من حاجة القساميين لهذه الكفاءة العلمية المبدعة. ولكن الأمر لم ينته عن هذا الحد، فقد طاردت قوات الاحتلال المهندس، وقامت بحملة تمشيط واسعة في مدينة نابلس بحثاً عنه، غير أنه بحمد الله وتوفيقه نجح في الوصول إلى إحدى القواعد السرية لحركة حماس بسلام(81). أما في الطابق الثاني من المنزل المحاصر حيث تحصن علي وبشار، فقد استؤنف تبادل إطلاق النار واستمر دوي الرصاص وانفجارات القنابل اليدوية حتى الساعة السادسة والنصف صباحاً. وعندئذ، اجبر جنود الاحتلال أحد المواطنين على اقتحام المنزل بعد أن زودته بمهدة وشاكوش، ويبدو أن العدو أراد استغلال هذا الشاب لتحطيم الباب. وبعد فشل هذا الأسلوب الجبان أخرج قائد القوات المهاجمة من جعبة إجراءاته الإرشادات سلاح التدمير لكسر شوكة المجاهدين. وبدون سابق إنذار قصفت قوات العدو الطابق الثاني بالصواريخ المضادة للدبابات، ثم قامت وحدات (دفدفان) الخاصة والتي رابطت على أسطح المنازل المجاورة بإمطار الطابق الثاني بوابل من الرصاص مستخدمة الأسلحة الأوتوماتيكية. وفوجىء العدو ببقاء المجاهدين على قيد الحياة بعد القصف الصاروخي، إذ استمر تبادل إطلاق النار بين الطرفين نحو ربع ساعة. وعلى الرغم من استشهاد البطلين علي وبشار، إلا أن قوات الاحتلال تجنبت الاقتراب من المنزل، إذ طلب الجنود من ثلاثة أشخاص ممن تم احتجازهم بعيداً عن المكان بربط أرجل الشهيدين بالحبل وسحب الجثتين إلى الخارج ووضعهما على الأرض أمام المدخل(82). وهناك، أطلق الجنود النار بشكل وحشي على الجثتين. كما شوهد أفراد الجيش والوحدات الخاصة يطلقون النار بالهواء ابتهاجاً ويرقصون ويتصافحون مهنئين أنفسهم على هذا الإنجاز الذي علق عليه خبير الشؤون الأمنية والاستخبارية، روني شيكد حين كتب في يديعوت أحرونوت عن المعركة يقول: «عامان كاملان حاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية فيهما اعتقال علي عاصي وجندت خلال هذه الفترة قوات عديدة من أفراد الاستخبارات والجنود وحرس الحدود وفرق المستعربين، ولكنه أفلح في كل مرة في الإفلات من الطوق الذي فرضوه على كل مكان اختبأ فيه. ولكن عندما دنت الساعة التي كتب عليه الموت فيها، فعل ذلك بكل جرأة مع رفيق دربه وكفاحه بشار العامودي»(83). 6- خلية صيادي الجنود يجب أن نعترف بأن استشهاد القائد أبو جهاد ترك جروحاً عميقة لدى كتائب الشهيد عز الدين القسام بشكل عام، وصديقه الوفي الذي عاش أوقاتاً صعبة حزيناً على فراق رفيقه. وعكف أبو البراء، بعد أن تجاوز هذه المحنة، على ترتيب أوضاع منطقة شمال الضفة الغربية وتوزيع المسؤوليات. ولكنه لم يسلم الراية إلا بعد أن وضع المنطقة على الطريق الصحيح مرة أخرى وسار بها إلى سابق العهد. فجهز مجموعة فدائية ووضع في تصرفها وسائل قتالية وسيارة من نوع (سوبارو) تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية، وسلمها خطة كمين تتضمن مهاجمة سيارة نقل عسكرية تسير على الطريق الرئيس في منطقة الغور الشمالي في ساعة متأخرة من المساء باتجاه مستوطنة ميحولا القريبة من مدينة بيسان حيث، خرجت المجموعة القسامية في ساعة متأخرة من مساء يوم الأربعاء الموافق 3 آب (أغسطس) 1994 وتتبعت السيارة العسكرية ثم تجاوزتها، وأثناء عملية التجاوز ، أطلق المجاهدون نيران أسلحتهم الرشاشة على جنود الاحتلال داخل سيارة النقل، فأوقعوا عدة أسطورة مباشرة في صفوف ركابها. وقد اعترف الناطق العسكري الإسرائيلي بالعملية، ولكنه زعم بأنها لم تسفر سوى عن إصابة أحد الجنود بجروح بالغة الخطورة(84). بعد هذا النجاح عاد المهندس إلى منطقة الوسط وتولى ترتيب أوضاع الوحدة المختارة رقم (6) على وجه التحديد بعد الظروف الاستثنائية والقاسية التي مرت بها. ولمعرفة هذه الظروف والأوضاع التي وجدها المهندس أمامه، لا بد من العودة بضعة أشهر إلى الوراء، وتحديداً إلى شهر تشرين أول (أكتوبر) من عام 1993. وكنا قد أشرنا في معرض الحديث عن الوحدة المختارة رقم (صفر) إلى المجاهدين الستة الذين جرى تنظيمهم في منطقة القدس لهدف محدد وهو أسر جندي إسرائيلي والاحتفاظ به حياً تمهيداً لمبادلته بعدد من المعتقلين الفلسطينيين لدى الكيان الصهيوني. ولأن الوقت قد حان للحديث عن هؤلاء المجاهدين وعلاقتهم بالمهندس، نعيد إلى الذاكرة بأن الوحدة المختارة رقم ستة هي الشقيقة التوأم للوحدة المختارة رقم صفر. فالخليتان نظمتا للعمل في نفس الوقت تقريباً وإن كان قد أنيطت بهما مهمتين مختلفتين. وقد ضمت وحدة صيادي الجنود ستة مجاهدين اتصفوا بالجرأة والإقدام وسرعة الحركة والمباغتة، وجميعهم يحملون الجنسية الإسرائيلية بسبب مكان السكن. وهؤلاء المجاهدون هم: أيمن أبو خليل (22 عاماً)، وحسن تيسير عبد النبي النتشة (22 عاماً)، وعبد الكريم ياسين بدر المسلماني (23 عاماً)، وطارق إبراهيم اسحق أبو عرفة (21 عاماً)، وراغب رفيق عابدين (20 عاماً)، وعصام طلعت أحمد قضماني (19 عاماً). ولتحقيق الهدف الذي نظمت هذه الوحدة من أجله، انتقل المجاهد حسن النتشه للسكن في بلدة بني براك القريبة من القدس حيث يعيش يهود متدينون، فتعلم اللغة العبرية وتقاليد وعادات المتدينين حتى أجاد الحديث بتلك اللغة أكثر من غالبية اليهود، إذ أنه اكتسب مهارة التحدث بأكثر من لهجة. ولهذا، كانت مهمة حسن أثناء تنفيذ العمليات هو التوجه إلى الجنود والتحدث إليهم وإقناعهم بعرضه السفر مجاناً بسيارته. وكان المجاهدون ينتدبون ثلاثة من بينهم في كل عملية حيث يتظاهر الثلاثة بأنهم يهود متدينون - يرتدون الكيبة ويستخدمون سيارة تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية. وبهذا الشكل، خرجت الوحدة بسيارتها في مساء يوم الأربعاء الموافق 20نيسان (إبريل) 1994 وتمكنت من أسر الملازم شاهار سيماني (21 عاماً) أثناء انتظاره عند محطة كريات ملاخي القريبة من بئر السبع، إلا أن الضابط الذي يخدم في وحدة (دفدفان) اكتشف الأمر وحاول المقاومة مما أضطر المجاهدين إلى التخلص منه وإلقاء جثته في اليوم التالي في مكان قريب من بيت حنينا. وقد أصيب المجاهد أيمن أبو خليل أثناء العراك بكسور في كتفه ورجله مما جعله يغيب عن المشاركة في العملية التالية، والتي استهدفت أيضاً أسر الجندي أرييه فرنكتال (19 عاماً) الذي كان في طريقه يوم الأربعاء الموافق 6يوليو (تموز) 1994 من قاعدته في بئر السبع إلى منزله في مستوطنة (جمزون) الواقعة بين مطار اللد والرملة. ولم تتمكن الوحدة الفدائية مرة أخرى في الاحتفاظ بأسيرها حياً. فقد عثر على جثته داخل منزل مهجور في قرية كفر عقب التي تقع شمال المدينة المقدسة. وفي كلتا العمليتين استولى المجاهدون على الأسلحة العائدة للجنديين ووثائقهما الشخصية. واستناداً للوائح الاتهام التي وجهتها المحكمة الإسرائيلية للمجاهد أيمن أبو خليل فيما بعد، حاول مجاهدو الوحدة المختارة القيام بعمليات أخرى إلا أن النجاح لم يحالفهم بسبب حالة الاستنفار التي أعلنتها قوات الاحتلال في صفوف وحداتها العاملة في مدينة القدس، إلى جانب تركيز محققي الشاباك نشاطهم لتعقب الوحدة، إذ أن اكتشاف جثتي الجنديين في مكانين قريبين من القدس أثار الشبهات بأن المنفذين هم من سكان المدينة المقدسة(85). كان هذا هو وضع الوحدة المختارة رقم (6) التي شكلت بجهود مشتركة بين المهندس والقائد محمد الضيف، وكلف المهندس بعد انتقاله للمدينة المقدسة في صيف عام 1994 بتولي أمورها وتوجيه دفة القيادة نحو تحقيق المهمة الرئيسة وهي أسر جندي والاحتفاظ به حياً. وعلى هذا الأساس، أتصل المهندس بالمجاهد حسن النتشه الذي انتدب لتولي القيادة الميدانية للوحدة في أعقاب إصابة أيمن أبو خليل، كما أعاد المهندس خطوط الاتصال مع القائد محمد الضيف في مدينة خان يونس، والذي أوفد المجاهد صلاح جاد الله كضابط اتصال وتنسيق. وأثمرت هذه الاتصالات بعودة الوحدة المختارة للعمل من جديد بدافع وحماس يتجاوز ما كانت عليه في بداية تشكيلها. ففي فجر يوم الجمعة الموافق 12آب (أغسطس) ،1994 انطلق أربعة مجاهدين بقيادة حسن النتشه في سيارة (رينو 9) حصلوا عليها عن طريق المجاهد المصاب أيمن أبو خليل. وكان الهدف المبتغى أسر جندي يتولى حراسة المنزل الذي استولى عليه الإرهابي أرييل شارون في وسط القدس والعودة به إلى مكان آمن قامت القيادة بتحديده لهم. ولأسباب لم تحدد حتى الآن، لاحقت دورية للشرطة الإسرائيلية سيارة الرينو في نحو الساعة الرابعة وثمانية عشر دقيقة وطلبت منها التوقف ثم انضمت دوريتان أخريان من الشرطة لعملية المطاردة حيث وفدت الأولى من وادي الجوز، بينما جاءت الثانية من شارع السلطان سليمان. وبعد عدة دقائق، استدعى العدو قوات ضخمة من الشرطة وحرس الحدود لإقفال المنطقة الممتدة من سوق الحلال القديم وحتى مفترق شارع صلاح الدين (باب الساهرة). وفيما بدت المنطقة أشبه ما تكون بساحة قتال توقفت سيارة المجاهدين عند حاجز أقامته الشرطة بين متحف روكفلر والمدرسة الرشيدية الثانوية في باب الساهرة، فتوجه ثلاثة من أفرد الشرطة الإسرائيلية نحو السيارة، وعند اقترابهم منها، فتح المجاهدون النيران بكثافة من بندقيتين من طراز (أم-16) وبندقية من طراز (جاليلي). ومع سقوط أفراد الشرطة الثلاثة بعد أن مزق الرصاص كافة أنحاء أجسادهم، تبادل القساميون إطلاق النار مع دوريات العدو قبل أن ينجحوا في مغادرة المكان. وعند وصول سيارة الرينو منطقة وادي الجوز، اشتبك المجاهدون مرة أخرى مع قوات حرس الحدود، حيث استمرت المعركة فترة طويلة تم خلالها تبادل إطلاق الرصاص بكثافة. وطبقاً لماأورده المجاهد حسن النتشه، فقد سقط نحو عشرين جندياً إسرائيلياً بين قتيل وجريح، فيما أصيب المجاهد عصام قضماني بجروح خطيرة أفقدته الوعي(86). نجح المجاهدون في تشغيل سيارتهم التي أصيبت بعشرات الطلقات، وتمكنوا من مغادرة المنطقة وتجاوز قوات الاحتلال وحواجزها. ولكن السيارة تعطلت مجدداً في منطقة قريبة من فندق حياة ريجنسي تسمى (حي السمار) وهي منطقة تفصل بين ضاحيتي العيسوية و شعفاط. وعندئذ، انسحب القائد حسن النتشه مع اثنين من إخوانه راجلين نحو منطقة الرام ظناً منهم بأن المجاهد عصام قضماني قد استشهد. وقد عثرت قوات الاحتلال على السيارة وبداخلها المجاهد المصاب في نحو الساعة الثامنة من صباح نفس اليوم، إلا أن التحقيق لم يسفر عن شيء. ولذلك شنت السلطات العسكرية الإسرائيلية عمليات اعتقال وحملات مداهمة لعدد من المؤسسات الإسلامية في القدس. وفي نفس الوقت فرض العدو طوقاً أمنياً شاملاً على الأحياء العربية ونصب الحواجز العسكرية على مداخلها، بينما أجرت الشرطة عملية تفتيش من منزل لآخر في حي الشيخ جراح في نحو الساعة التاسعة والنصف. ومن خلال المستندات التي كانت في السيارة، توصلت الشاباك إلى صاحب السيارة الذي اعتقل بتهمة التعاون مع أفراد الخلية. وقاد التحقيق مع هذا الشخص، إلى المجاهد أيمن أبو خليل الذي كان قد غادر منزله متحاملاً على إصابة للاطمئنان على إخوانه بعد أن سمع عن الاشتباك. وبناء على المعلومات التي سربتها الشاباك، فإن الاتصال الهاتفي الذي أجراه أيمن ببقية أعضاء الخلية الذين كانوا في منزل راغب عابدين قد حدد مكان تواجد المجاهدين. فاعتقل أيمن أبو خليل في حوالي الساعة العاشرة وخمس دقائق أثناء تواجده في منزل عمته بوادي الجوز، بينما جهزت الوحدات الخاصة الإسرائيلية قوة كبيرة لمداهمة منطقة الرام حيث بدأت المعركة بفرض القوات الإسرائيلية طوقاً أمنياً مشدداً على البلدة، ثم أقامت الوحدات الخاصة التي انتشرت داخلها عدة حواجز على مختلف الطرق. ويبدو أن المجاهدين شعروا بحركات غير عادية تجري داخل البلدة وبخاصة قرب منزل المجاهد راغب عابدين الذي خرج لتفقد المنطقة. وبعد عودة راغب اتفق المجاهدون على مغادرة المنزل والبلدة حيث استقلوا سيارة من طراز (فولكسفاجن كابينة) في نحو الساعة التاسعة إلا دقيقتين من مساء يوم الجمعة. وبالقرب من أحد الطرق الفرعية، فاجأ القساميون فصيل من الوحدات الخاصة كان يكمن هناك وأطلقوا عليه نيران أسلحتهم الآلية لعدة دقائق فأوقعوا أسطورة قاتلة في صفوف عناصره. ولكن المجاهدين الأربعة تعرضوا بدورهم لوابل من الرصاص أطلقه جنود إحدى الدوريات العسكرية التي طاردتهم مما أدى إلى إصابتهم واصطدام سيارتهم بجدار ثم توقفها. وخلال تبادل إطلاق النار، نجح المجاهدان حسن وعبد الكريم في كسر الطوق الأمني والحصار ومغادرة المنطقة بينما أصيب راغب في رأسه بجروح بالغة الخطورة (توفى متأثراً بجراحه بعد يومين)، واستشهد طارق إثر قيام جنود الاحتلال الإمكانات النار عليه من مسافة قصيرة على الرغم من عدم تمكنه من الحركة بسبب إصابة في يديه وكتفه(87). أما المهندس، الذي كان ينتظر منذ ساعات الصباح الأولى في قاعدته السرية بالمدينة المقدسة، فقد باشر بإجراء الاتصالات وإرسال مجموعات لاستطلاع الخبر. ومع توالي وصول المعلومات عن المعارك التي خاضتها خلية صيادي الجنود وما جرى لأعضائها، أبلغ المهندس جهاز الأمن التابع لحركة حماس بأن المجاهدين حسن النتشه وعبد الكريم بدر لم يصلا لأي من القواعد السرية لكتائب الشهيد عز الدين القسام وأن الاتصالات معهما مقطوعة. وعلى الأثر، أعلن الاستنفار وحالة الطوارئ لدى كافة المجموعات والخلايا الأمنية العاملة في منطقة الوسط، وانتشر الجميع يستقصي المعلومات والأخبار إلى أن تم العثور على الاثنين وإعادتهما إلى المدينة المقدسة، فقد تبين بأن المجاهدين المصابين لم يستطيعا الاتصال بالمهندس بسبب القوات العسكرية الكبيرة التي كانت تطاردهما، مما اضطرهما إلى دخول منطقة أريحا التي تخضع لسلطات الحكم الذاتي حيث مكثا هناك أسبوعاً قبل أن يعودا متخفين إلى القدس. وعلى الرغم من صعوبة ما حدث، وجسامة التضحيات التي قدمتها الوحدة المختارة رقم (6)، إلا أن المهندس وإخوانه في العمليات المركزية لكتائب عز الدين القسام يدركون جيداً أهمية الهدف الذي شكلت هذه الوحدة من أجله. ولأن إخراج المعتقلين وتحريرهم من أقبية التعذيب الصهيونية، لم يغب لحظة عن تفكير وخطط الجناح العسكري لحركة حماس، فقد طلبت القيادة القسامية من القائدين يحيى عياش ومحمد الضيف أن يجعلا جل اهتمامهما في الفترة القادمة تحقيق هذا الهدف. ووضعت تحت تصرفهما كافة الإمكانيات المتاحة وخدمات الدعم اللوجستي وغيره. وباشر القائدان القساميان، فور تلقيهما التعليمات، بجمع المعلومات ووضع التفاصيل الدقيقة والمهمة لخطة أسر جندي إسرائيلي. كما اتفق القائدان على اختيار الأبطال صلاح جاد الله وجهاد يغمور وزكريا نجيب، وغيرهم من بين الذين تم ترشيحهم لعضوية الخلية الجديدة. وأضيف في وقت لاحق المجاهدين حسن وعبد الكريم. 7- عيد رأس السنة العبرية تقاطعت عملية الإعداد والتخطيط والتجهيز لأسر الجندي الإسرائيلي التي أنشغل فيها الثنائي يحيى عياش ومحمد الضيف بشكل أساسي، مع المخطط الذي اعتمد لتنفيذ العملية الثالثة من برنامج المراحل الخمس للثأر لشهداء الحرم الإبراهيمي الشريف. ولكون هذه العملية قد قطعت شوطاً كبيراً سواء بالنسبة لرصد الهدف ووضع الخطة وتفاصيل التنفيذ، فقد استقطع المهندس من جهده ووقته لوضع اللمسات النهائية لتلك العملية والتي كان من المقرر أن تكون عملية استشهادية داخل المناطق المحتلة عام 1948. واختارت غرفة العمليات المركزية في كتائب عز الدين القسام توقيت العملية بحيث تتزامن مع احتفالات العدو الصهيوني بعيد رأس السنة العبرية والذي يبدأ عادة في يوم الاثنين الموافق 5 أيلول (سبتمبر) 1994. وبناء على الخطة المعدة ركب المهندس عبوات ناسفة تزن حوالي مئة كيلو جرام من المتفجرات المصنعة في سيارة من نوع سوبارو تحمل لوحات تسجيل إسرائيلية، قام أحد المجاهدين بالاستيلاء عليها يوم الأحد الموافق 28 آب (أغسطس) 1994 من حي النبي يعقوب في القدس. وسلم المهندس السيارة المفخخة للمجاهدين أمجد أكميل وأحمد أبو الرب لنقلها إلى المنطقة الشمالية من الضفة الغربية كمرحلة أولى في عملية إدخال السيارة إلى المنطقة المحتلة منذ عام 1948. تمكن المجاهدان القساميان من تجاوز الانطلاقة الأمنية المشددة وحواجز التفتيش الفجائية التي أقامها العدو على المداخل ومفترقات الطرق والشوارع الرئيسة. ووصل أمجد وأحمد بالسيارة إلى منطقة نابلس مساء يوم الخميس الموافق 1 أيلول (سبتمبر) ،1994 غير أنهما لم يستطيعا نقلها إلى فلسطين المحتلة عام 1948. فقد قدر الله سبحانه وتعالى لهم الفوز بالشهادة ومجاورة النبيين والصديقين والشهداء، إذ انفجرت العبوات الناسفة -لسبب غير معروف- أثناء قيادتهما للسيارة في مكان ناء بمنتصف الطريق بين قريتي عقربة ومجدل بني فاضل الواقعتين جنوب شرقي مدينة نابلس(88). 8- أسماء لها تاريخ ليس من المبالغة القول بأن اسحق رابين لم يكن يتوقع الصفعة المفاجئة التي تلقاها من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد أن شعر طوال الأشهر القليلة الماضية أن عمليتي العفولة والخضيرة ربما تكون آخر مبتكرات المهندس في الحرب القائمة بين كتائب الشهيد عز الدين القسام وجيش الاحتلال. فقد اعتقد رابين خطأ بأن عودة ياسر عرفات إلى غزة سينهي فاعليه حركة حماس ويحولها إلى تنظيم لا يختلف عن غيره من الفصائل الفلسطينية التقليدية. وهذه الأحلام التي راودت رابين وعاش على أنغام إيقاعاتها انتهت في شهر تشرين أول (أكتوبر)، وتحولت بسرعة كبيرة إلى كوابيس مرعبة طاردته حتى أكثر الأماكن آمناً في دولته. ففي غضون عشرة أيام فقط، اعتبرها المحللون العسكريون الصهاينة بأنها من أطول وأصعب الأيام التي مرت على رابين كرئيس للوزراء، نفذت كتائب الشهيد عز الدين القسام ثلاث ضربات موجعة ومتتالية، عبرت عن قدرة الجناح العسكري لحركة حماس على اختراق جميع الحواجز الأمنية والعسكرية والاستخبارية في المناطق المحتلة منذ عام ،1948 والتي يعتبرها الصهاينة قلعتهم وحصنهم الآمن. وبذلك تكون حركة حماس قد نقلت المعركة مرة أخرى إلى ساحة الصهاينة وبثت الرعب في صفوف مجتمعهم من جنود ومستوطنين. كما عبرت العمليات عن قدرة حركة حماس على اختيار تواريخ تنفيذ العمليات وأماكن التنفيذ بطريقة تخدم أهداف الحركة. وبالإضافة إلى كل ما سبق، فإن المهندس وإخوانه في الجهازين الأمني والعسكري قد نجحوا في خداع جهاز الشاباك وجيش الاحتلال. ففي أعقاب انفجار السيارة المفخخة في منطقة نابلس يوم الخميس الموافق 1 أيلول (سبتمبر) ،1994 أوعزت الشاباك لجيش الاحتلال وقوات الشرطة الإسرائيلية بشن حملة اعتقالات في منطقة قلقيلية اعتقداً منه بأن المهندس وإخوانه من طلاب الشهادة يتخذون من تلك المنطقة قاعدة آمنة ينطلقون منها. وبالفعل، داهمت قوات العدو منازل (15) موطناً فلسطينياً وفتشتها قبل أن تعمد لاعتقال أصحابها(89).ولكن المهندس كان في قاعدته الآمنة في أكناف بيت المقدس يخطط مع مساعديه لترتيب أوضاع المناطق الثلاث، الشمال والوسط والجنوب، وينتدب القادة العسكريين ويوزع المهام والواجبات بينهم. ولئن كنا سنعود إلى هذا الأمر فيما بعد، فإن ما يهمنا حالياً هو الترتيبات التي اتخذها المهندس ومحمد الضيف فيما يتعلق باستكمال برنامج المراحل الخمس وتنفيذ عملية أسر الجندي التي كُلف الاثنان بالتخطيط لها وتنسيق الجهود بهذا الشأن. إجراءات التنظيم وتوزيع الطاقات التي وُضعت بإمرة المهندس اشتملت على تشكيل ثلاث مجموعات خاصة بغرفة العمليات المركزية لتنفيذ ثلاث عمليات نوعية محددة وفق برنامج زمني وضعه المهندس ومساعديه. وبالإضافة لعدد من المساعدين ومجاهدي الدعم والخدمات المساندة ضمت تلك المجموعات أعداد متفاوتة من المجاهدين الرئيسين. فالمجموعة الأولى، والتي حملت اسم (وحدة الشهيد رائد زكارنة) تشكلت من الأبطال: حاتم إسماعيل، وعصام الجوهري، وحسن عباس. وثلاثتهم جاءوا من قطاع غزة، فالأول من مخيم البريج أصلاً ويسكن المدينة المقدسة، والثاني مولود في شبرا الخيمة بجمهورية مصر العربية عام 1975 وحضر إلى قطاع غزة بتأشيرة سياحية في 14 يوليو (تموز) واتصل مع القائد محمد الضيف وأبلغه بأنه (حضر للاستشهاد على أرض الرباط)، والثالث مولود بحي الدرج بمدينة غزة عام 1975 أيضاً واعتقل في السابق وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة تقديم خدمات للقائد الشهيد عماد عقل، وخرج من المعتقل قبل ثلاثة أشهر فقط من تنفيذ الهجوم. وضمت المجموعة الثانية التي عرفت فيما بعد باسم (وحدة الشهيدين راغب عابدين وطارق أبو عرفة) كلاً من: صلاح جاد الله* [صلاح الدين جاد الله حسن سالم: ولد في حي الشيخ رضوان عام 1972 لعائلة مهاجرة من برير عام ،1948 وأصيب خلال الانتفاضة مرتين بالرصاص الحي وتعرض للضرب من قبل جنود الاحتلال مرتين أيضاً. وقد اعتقل بتاريخ 6/8/1992 بتهمة تقديم خدمات لكتائب عز الدين القسام حيث كان أحد ضباط الاتصال بين الضفة والقطاع، ومكث في السجن حتى 14/12/1993.] وحسن النتشه وعبد الكريم بدر وجهاد يغمور وزكريا نجيب بالإضافة لعدد آخر من المجاهدين الذين عملوا بإمرة القائد محمد الضيف في المنطقة الجنوبية من قطاع غزة. وأما بالنسبة للمجموعة الثالثة، وهي (وحدة الشهيدين عبد المنعم أبو حميد وزهير فراح)، فقد كان لها صفة اعتبارية بسبب الهدف أو المهمة التي أنيطت بها. ولذلك لم يعرف من هذه الوحدة سوى البطل صالح نزال صوى، الشهيد الحي من مدينة قلقيلية والذي كانت له مكانة خاصة عند المهندس . كان عصام مهنا إسماعيل الجوهري يتمنى الشهادة منذ أكثر من عشر سنوات، وظلت هذه الرغبة الكامنة داخله تزداد يوماً بعد يوم. وترافقه حتى وصلت به أن يتطوع جندياً مقاتلاً في صفوف القوات المسلحة المصرية. ولكن الجيش المصري ما لبث أن أنهى خدمته بسبب نشاطه الإسلامي، بل صدرت ضده عدة أحكام بالحبس لمدد مختلفة وصل مجموعها أربعة عشر شهراً. وعندئذ، قرر صاحب القلب الكبير الذي امتلاء حباً بالشهادة على أرض الإسراء، أن يدخل فلسطين المحتلة بأية وسيلة وكان له ما تمنى، ووصل قطاع غزة في صيف عام 1994(90). وبعد عدة محاولات وجهود مضنية، استطاع المجاهد عصام الجوهري أن يتصل بكتائب الشهيد عز الدين القسام التي رتبت أمر نقله مع المجاهد حسن محمود عيسى عباس إلى مدينة القدس حيث استقبلهما المهندس وزودهما بالأسلحة والوسائل القتالية. والحقيقة أنه لا يعرف كم من الوقت مكث المجاهدان عصام وحسن في المدينة المقدسة، غير أن الثابت لدينا أن المدة كانت كافية لاستطلاع الهدف ودراسة الخطة وطريقة الهجوم والمهمة التي حدها المهندس. تضمنت خطة العملية القيام بهجوم استشهادي في الذكرى الخامسة للمذبحة التي ارتكبتها قوات حرس الحدود ضد المصلين في المسجد الأقصى المبارك. وبناء على المعلومات الواردة من مجموعات الاستطلاع والرصد، فقد قرر المهندس بأن يكون الهدف المنشود هو النيل من رواد مجموعة المطاعم والمقاهي المنتشرة في شارع يؤال موشيه سلومون بحي نحلات شيفع وهو حي يهودي مجاور لشارع يافا في وسط الشطر الغربي من مدينة القدس. والسبب الذي جعل غرفة العمليات المركزية في كتائب الشهيد عز الدين القسام تختار هذا الهدف وتفضله على غيره من الخيارات البديلة هو حقيقة رواد هذه المطاعم وطبيعة عملهم. إذ أفادت المعلومات التي تجمعت للمهندس من عناصر الرصد أن معظم مرتادي المطاعم والبارات في ذلك الشارع من ضباط وكوادر ومحققي جهاز المخابرات العامة (الشاباك) حيث يقع المركز الرئيس للجهاز على بعد مائتي متر فقط من تلك المطاعم. واعتمد المهندس توقيت العملية بحيث تتزامن مع نهاية فترة المناوبة المسائية للعاملين في المركز. وبعد الاتكال على الله سبحانه وتعالى، غادر المجاهدان عصام الجوهري وحسن عباس القاعدة بصحبة المجاهد حاتم إسماعيل الذي نقلهما بالسيارة إلى حديقة (الاستقلال) التي أقيمت على أرض مقبرة مأمن الله. وهناك، تفقد المجاهدان أسلحتهما التي اشتملت على بندقيتين آليتين من نوع كلاشنكوف ومسدسين وثمانية قنابل يدوية ثم ترجلا من السيارة، وسارا في طريق مبلط يسمى شارع هيلل حتى وصلا مفترق يسمى (ميدان صهيون)، وكان باستطاعتهما أن يرديا العشرات من المستوطنين الصهاينة في ذلك المفترق، لكنهما التزما بالأوامر والتعليمات. وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من مساء يوم الأحد الموافق 9 تشرين أول (أكتوبر) ،1994 وصل المجاهدان هدفهما، وشرعا فوراً بإطلاق النار بغزارة على كوادر ومجرمي الشاباك حيث كانا يفرغان مخازن الذخيرة ويستبدلانها الواحد تلو الآخر، كما ألقيا أربعة قنابل يدوية على الأقل. وسادت حالة من الذعر والهلع بين رواد المطاعم الذين تصرفوا بصورة هستيرية حيث كانوا يهربون بكافة الاتجاهات ويدوسون على بعضهم البعض. وتابع المجاهدان اللذان سيطرا على الوضع تماماً ضباط الشاباك الهاربين إلى داخل قاعات ومطابخ المطاعم والبارات التي ألتجؤوا إليها دون أن يجرؤ أولئك على استخدام أسلحتهم الشخصية. وبعد عشرة دقائق من بداية الهجوم، وصلت قوة من الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود وعشرات السيارات العسكرية، وبدأت حملة تفتيش واسعة في أزقة وسط المدينة المقدسة وعلى أسطح الأبنية بعد أن نصبت قوات أخرى حواجز عسكرية على مداخل القدس وأطلقت طائرة مروحية قنابل مضيئة. واندلع اشتباك عنيف جداً بين المجاهدين والقوات المهاجمة استمر أربعين دقيقة متواصلة، سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف الشرطة وحرس الحدود، بينما استشهد عصام وحسن إثر إصابتهما برصاص ستة من جنود الوحدة الخاصة التابعة لحرس الحدود تمكنوا من مباغتة المجاهدين من الخلف. وقد حقق الله لصاحب العصبة الحمراء وأخيه حسن ما تمنياه ولقيا ربهما بعد أن نالا من العشرات من ضباط الشاباك وجنود الاحتلال، وإن كانت سلطات الاحتلال قد اكتفت بالاعتراف بمقتل خمسة من كوادر الشاباك ومجندة واحدة وإصابة أربعة عشر آخرين بجروح وصفت إصابة عدد منهم بأنها خطيرة(91). 9- الحرب خدعة في الوقت الذي كان فيه اسحق رابين وأركان حكومته وقادة جيشه يتفقدون موقع المعركة البطولية في مدينة القدس، ويتلقون تقارير ضباط المخابرات حول الكابوس الذي عاشته الدولة العبرية ونتائج عمليات البحث والتفتيش التي أجرتها قوات الشرطة وحرس الحدود التي استمرت حتى الساعة الثالثة من فجر يوم الاثنين، كان المهندس وإخوانه في غرفة العمليات المركزية يستقبلون وحدة الشهيدين طارق أبو عرفة وراغب عابدين العائدة بأسيرها الثمين، لتبدأ بعدها فصول الملحمة الخالدة التي هزت أركان الكيان الصهيوني وطغت على أخبار وكالات الأنباء وجعلت حكومة اسحق رابين وحلفائها يعيشون (120) ساعة من حرب الأعصاب. وتعتبر عملية أسر العريف نحشون يهودا فاكسمان (20 عاماً) وهو جندي مقاتل في لواء جولاني أطول وأقسى عملية فدائية ينفذها فدائيون فلسطينيون، إذ لم يسجل تاريخ فلسطين الحديث وعلى مدى سنوات الصراع والكفاح المسلح أي عملية استمرت مثل هذه المدة من الزمن. وحين يعود بنا الزمن إلى يوم الأحد الموافق 9 تشرين أول (أكتوبر) ،1994 نجد أن الأوامر قد صدرت للوحدتين الفدائيتين بالتحرك في نفس الوقت تقريباً. إذ تحركت وحدة الشهيد رائد زكارنه نحو هدفها في القدس، بينما غادرت وحدة الشهيدين طارق أبو عرفة وراغب عابدين قاعدتها نحو مدينة الرملة بحثاً عن جندي يقف منتظراً في محطة أو مفترق طرق سيارة تقله بالمجان إلى الوجهة التي يبتغيها (المعسكر أو المنزل). وقد عبرت الخطة التي اعتمدها المهندس ومحمد الضيف وجرى تنفيذها على أرض الواقع عن ذكاء في التخطيط العسكري وإبداع من قبل الوحدة الفدائية في تنفيذ الأوامر. ومن خلال استقراء أحداث العملية البطولية ميدانياً، يمكن تلخيص تلك الخطة وما رافقها من خداع وتضليل مارسته كتائب الشهيد عز الدين القسام على سلطات الاحتلال وأجهزة أمنها. ولعلنا لا نكون مخطئين إن قلنا بأن حركة حماس كادت تحقق هدفها من تلك العملية، ألا وهو الإفراج عن عدد من المعتقلين والأسرى في سجون الاحتلال، لولا الخيانة والتواطؤ الذي مارسته سلطة الحكم الذاتي والذي أدى إلى أن تنتهي العملية بالصورة التي حدثت. وعلى كل، سارت أحداث العملية وفق الخطة المعدة على النحو التالي(92) : 1- استأجرت الوحدة الفدائية الطابق الثاني من منزل في قرية بير نيبالا، وقام المجاهد زكريا نجيب بإعداده وتجهيزه لإخفاء الأسير فيه. وقد شارك المهندس بشكل مباشر في تلغيم النوافذ وإحكام إغلاقها بالمتفجرات إلى جانب تلغيم المدخل الرئيس والبوابة الحديدية. 2- توجه المجاهد جهاد يغمور للبلدة القديمة بالقدس واشترى من إحدى المحلات أربعة قبعات صغيرة وقبعتين سوداوين لمتدينين يهود. وفي يوم الأحد الموافق 9 تشرين أول (أكتوبر) 1994 توجه إلى شارع الملك داود لاستئجار سيارة كبيرة من نوع فولكسفاجن ترانسبورتر. 3- قاد جهاد السيارة المستأجرة إلى بير نيبالا، ليجد المجاهدين صلاح جاد الله وحسن النتشة وعبد الكريم بدر في انتظاره. وطبقاً للخطة، أخذ حسن معه بندقية جاليلي ومسدس بينما تسلح كل من عبد الكريم ببندقية عوزي وصلاح بمسدس وقيود (كلبشات) وجنازير وأقفال وأكياس نايلون. 4- وضع المجاهدون الأربعة القبعات التي يعتمرها عادة اليهود المتدينون على رؤوسهم، وانطلقت بهم السيارة باتجاه فلسطين المحتلة عام 1948. ومن مفترق اللد، توجهت السيارة شمالاً إلى بيتح تكفا حيث لاحظ المجاهدون العريف نحشون فاكسمان يقف على جانب الطريق بالقرب من مستوطنة بني عطروت القريبة من مطار اللد في انتظار سيارة تقله إلى مدينة الرملة لزيارة صديقته. 5- توقفت السيارة قرب الجندي الإسرائيلي، وعرض عليه جهاد أن ينقله إلى مبتغاه، فصعد إلى السيارة. وعند وصول السيارة، منطقة مطار اللد، سيطر حسن وصلاح وعبد الكريم على العريف الإسرائيلي وقيدوه بالكلبشات المعدنية وغطوا عينيه بقطعة قماش سوداء ووضعوا كيس نايلون أسود على رأسه بما يسمح له بالتنفس ثم قيدوا رجليه بسلاسل حديدية. 6- قام حسن وجهاد بعد ذلك بتهدئة الأسير وطمأنته بأنهم لن يقتلوه وأن هدفهم هو المحافظة على حياته ريثما تستجيب حكومته لمطالبهم بإطلاق سراح عدد من المعتقلين في السجون الإسرائيلية. 7- طلب المجاهدون من أسيرهم أن ينبطح على أرضية السيارة التي توجهت نحو القدس، وتجاوزت الحاجز العسكري دون أن يلاحظ الجنود ما يجري داخل السيارة. 8- أنزل جهاد المجاهدين الثلاثة وأسيرهم في بيرنيبالا، ثم عاد إلى منزله في بيت حنينا لإحضار آلة تصوير تلفزيونية كان قد استأجرها في وقت سابق. وبواسطة هذه الآلة، تم تصوير الأسير جالساً أمام صلاح، وقام أحد المجاهدين بتلقين العبارات والأقوال التي يتعين على فاكسمان قولها في النداء الذي وجهه إلى والديه وإلى اسحق رابين، بينما تلا المجاهد صلاح جاد الله نص بيان كتائب عز الدين القسام باللغة العربية معلناً مسؤولية حركة حماس عن العملية. 9- وفق خطة المهندس، بقي حسن وعبد الكريم في المنزل لحراسة الأسير، بينما عمل جهاد كمسؤول عن الاتصالات بين المجاهدين الثلاثة والقائد محمد الضيف الذي تقرر بأن يدير المفاوضات ومتابعة التطورات. وأما المجاهد زكريا نجيب، فقد حددت مهمته بتزويد المجاهدين وأسيرهم بالمواد التموينية والغذائية وتلبية كافة احتياجاتهم إلى جانب نقل الأخبار المهمة إليهم. 10- سافر جهاد في صبيحة اليوم التالي (الاثنين) إلى قطاع غزة، حاملاً معه شريط الفيديو وبطاقة هوية الجندي. والتقى جهاد بصاحب مصنع للطوب في مدينة غزة يدعى محمد علي حرز الله (أبو علي) وسلمه الشريط والهوية. 11- انتقل القائد محمد الضيف إلى منزل أبو على، وقامت إحدى المجموعات القسامية بإحضار مصور وكالة رويتر في قطاع غزة وطلبت منه تصوير القائد وهو يحمل بطاقة هوية الجندي وبيده بندقية من طراز (أم-16) شبيهة ببندقية فاكسمان. وقرأ محمد الضيف بيان كتائب عز الدين القسام الذي تضمن مطالب حركة حماس للإفراج عن الأسير وهي: الإفراج الفوري والسريع عن الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وزعيمي حزب الله عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني بالإضافة إلى جميع معتقلي كتائب عز الدين القسام و180 أسيراً من حركة حماس والجهاد الإسلامي وفتح وحزب الله والجبهة الشعبية والديمقراطية والقيادة العامة والمعتقلات الفلسطينيات.وقد تضمن البيان أيضاً، تحديد الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة الموافق 14 تشرين أول (أكتوبر) 1994 كموعد نهائي لتنفيذ المطالب السابقة، وإلا فإن الكتائب ستقوم بقتل الجندي والاحتفاظ بجثته. 12- طلبت الكتائب من مراسل وكالة رويتر تسليم الشريط الخاص بمحمد الضيف للتلفزيون الإسرائيلي الذي قام ببثه يوم الثلاثاء. وفي يوم الأربعاء سربت الكتائب شريط الفيديو الذي يظهر فيه الأسير مع المجاهد الملثم صلاح جاد الله. وبذلك تكون حركة حماس قد ضللت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية التي انطلى عليها الأمر، وبدا وكأن الجندي محتجز في قطاع غزة. وقد عزز المجاهدون هذا التضليل، بتسريبهم لشائعات بأنه تم نقل الأسير من منزل إلى آخر في غزة. كما سرب جهاز الأمن الخاص بحركة حماس معلومات في نفس اليوم (الأربعاء) عن تحركات مشبوهة في منزل بعبسان الكبرى التي تقع إلى الشرق من خان يونس، حيث قامت الشاباك برصد هذه التحركات وأرسلت قوات تابعة لدورية هيئة الأركان الإسرائيلية التي وضعت على أهبة الاستعداد لتنفيذ عملية الاقتحام. وقد اتضح فيما بعد للشرطة الفلسطينية التابعة لسلطة الحكم الذاتي التي داهمت المنزل بأن أفراد حماس الذين كانوا في داخله لا صلة لهم بالعملية. 13- عامل المجاهدون أسيرهم معاملة حسنة حيث سمحوا له بحلق ذقنه وتبديل ملابسه ومكنوه من الاستماع إلى برامج الإذاعة العبرية. 14- كان من المقرر أن يطلق المجاهدون سراح أسيرهم في حالة الاستجابة لشروطهم، إذ كانت الأوامر بأن يقتاد جهاد يغمور الجندي إلى منطقة معينة قريبة من الشارع. ومن هناك يجري، جهاد اتصالاً مع الحكومة الإسرائيلية ويبلغ عن مكان وجود الجندي. استنفرت حكومة اسحق رابين كافة قواتها وأجهزة أمنها، وجندت الآلاف من الجيش والشرطة وطواقم الاستخبارات في حملات التفتيش بحثاً عن العريف نحشون فاكسمان. وأصدرت سلطات الاحتلال أمراً عسكرياً بإغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة وعزلتهما عن العالم الخارجي بهدف منع إخراج فاكسمان أو جثته. وشملت استراتيجية الحكومة الإسرائيلية للتحرك ثلاثة أصعدة: ممارسة ضغوط كبيرة على السلطة الفلسطينية وتحميلها مسؤولية إعادة الجندي سالماً، وتحريك جميع أجهزة الاستخبارات (الموساد، الشاباك، آمان) وجمع كافة المعلومات لمعرفة مكان احتجاز الجندي، واستنفار الوحدات الخاصة ونقلها إلى المناطق المتاخمة لقطاع غزة للتدرب على سيناريوهات محتملة للقيام بعملية إنقاذ. وعلى الرغم من علم رابين أنه وفقاً لاتفاق أوسلو فإنه لا يستطيع استخدام قوة عسكرية داخل منطقة الحكم الذاتي إلا بعد إبلاغ السلطة الفلسطينية، فإنه كان على استعداد لاستخدام قوات من الجيش الإسرائيلي إذا ما اتضح له مكان احتجاز الجندي متجاهلاً وجود السلطة الفلسطينية. وأما سلطة الحكم الذاتي، فقد تكشفت حقيقتها والدور الذي لعبته في البطش بأبناء الشعب وبدت صورة طبق الأصل عن جيش انطوان لحد في جنوب لبنان. فقد قامت شرطة الحكم الذاتي ومخابراتها بجهد كبير لملاحقة المجاهدين من كتائب الشهيد عز الدين القسام، وقدمت للعدو كل المعلومات المتوفرة لديها، وعملت كل ما بوسعها لمساعدة الشاباك. فمن المشاركة في دوريات مشتركة مع جيش الاحتلال في تمشيط قطاع غزة إلى التحقيق بعنف وبشدة فاقت ما دأبت أجهزة المخابرات الإسرائيلية على القيام به مع (400) من أعضاء وكوادر حركة المقاومة الإسلامية. كما شاركت سلطة الحكم الذاتي وتواطأت بشكل فاضح في مؤامرة الخداع والتضليل عبر الإيحاء بأن العدو قد استجاب لشروط المجاهدين حيث أسهم ذلك في إعطاء فرصة زمنية جديدة (24 ساعة). وجاء طرف الخيط في تحديد مكان احتجاز الأسير من أعلى المستويات في سلطة الحكم الذاتي. فمن خلال تحقيق المخابرات الفلسطينية مع أعضاء طاقم وكالة أنباء رويتر في قطاع غزة، كشفت السلطة الفلسطينية شخصية أبو علي وحددت المنزل الذي جرى فيه تصوير القائد محمد الضيف. وبعد وجبات شديدة من التعذيب الجسدي والنفسي، توصلت السلطة الفلسطينية إلى رقم هاتف قاد إلى المجاهد جهاد يغمور. قدم ياسر عرفات شخصياً اسم جهاد يغمور إلى مبعوث رئيس الوزراء الإسرائيلي، يوسي جينوسار الذي اجتمع به عند حاجز ايرز يوم الخميس الموافق 13 تشرين أول (أكتوبر) 1994. وبذلك تكون سلطة الحكم الذاتي هي المسؤولة عن عدم الوصول بالعملية إلى محطتها الأخيرة، وبالتالي حرمت المئات من المعتقلين ومن بينهم أعضاء في حركة فتح من الخروج إلى الحرية. فقد التقطت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية طرف الخيط، واعتقلت جهاد يغمور مساء الخميس من بيته، واستمر التحقيق معه حتى فجر الجمعة. وبدأ جهاد بالاعتراف بالمعلومات المتوفرة لديه مرغماً وتحت ضغط عنيف لم يسبق له مثيل من التعذيب الجسدي. وهكذا، حددت سلطات الاحتلال المنزل الذي يحتجز فيه العريف نحشون فاكسمان، ورغم ذلك فقد بقيت المفاجأة التي خطط لها المهندس وأعدها للقوة المهاجمة طي الكتمان. ومع كفاءة الشاباك وآمان والموساد والكوادر الفنية وطواقم الضباط الذين جلسوا لوضع خطة اقتحام المنزل، إلا أن أحداً منهم لم يكن يتوقع احتمالية تلغيم الأبواب الحديدية والنوافذ والمداخل المؤدية للدور الثاني من المنزل. تقدمت طلائع القوات الإسرائيلية المشاركة بالعملية إلى محيط المنزل دون اكتشافها، مساء يوم الجمعة الموافق 14 تشرين أول (أكتوبر) ،1994 وأخذ الجنود يراقبون أي حركة داخله. وبعد عشرين دقيقة من وصوله، غادر المجاهد زكريا نجيب بسيارة كان يقودها بنفسه بعد أن أوصل الطعام للمجاهدين وأسيرهم. وقد اعتقلت القوات الإسرائيلية زكريا بعد ابتعاده عن مجال رؤية المتواجدين داخل المنزل. واقتنع الجنرالات بأن العريف فاكسمان ما زال حياً حين قال لهم زكريا بأنه رآه مستلق على الأرض يأكل (كنافة)، فأصدروا الأمر بمواصلة العملية العسكرية ومحاصرة المنزل من كافة الجهات ريثما تصل الوحدة الخاصة المسماة (دورية هيئة الأركان) التي كلفت باقتحام المنزل وتحرير الأسير. وحدات الرصد الإسرائيلية اكتشفت بأن المنافذ العشرة كانت محكمة الإغلاق بأبواب حديدية بينما غطيت النوافذ ببطانيات حجبت الرؤية عن وحدات الرصد والقوات المهاجمة فيما بعد. وفي محاولة لتضليل المجاهدين، طلب اسحق رابين بإغلاق طريق غزة - عسقلان، وشوهدت سيارات إسعاف تتجه جنوباً مما حدا بوكالات الأنباء إلى التحدث عن عملية عسكرية يجري التخطيط لها في قطاع غزة. ولكن هذه الحيلة لم تنطل على كتائب عز الدين القسام، إذ أن عدم وصول جهاد يغمور إلى المنزل صباح يوم الجمعة كما كان متفقاً، جعل المجاهدين يشعرون بأن شيئاً ما قد حصل، ولذلك طلبوا من زكريا العمل على ترتيب عملية الاتصال والانتقال من المنزل. وفي غضون ذلك، جهز الأبطال الثلاثة أسلحتهم تحسباً لأي طارىء. وفي الطرف المقابل، بدأت القوات المهاجمة الزحف نحو المنزل في نحو الساعة الثامنة إلا عشر دقائق من مساء يوم الجمعة. وفيما كان الجنرال يعقوب بيري (رئيس جهاز الشاباك) يداعب أحلامه قائلاً لمساعديه: «إن أول شيء سأفعله هو إحضار نحشون فاكسمان إلى بيته القريب جداً من بير نيبالا لأفاجىء عائلته وهم يوقدون الشموع إيذاناً بحلول يوم السبت»، فوجئت الوحدات الخاصة الإسرائيلية المهاجمة بالباب الحديدي السميك الذي يؤدي للدور الثاني وقد لحقت به أضرار طفيفة من جراء المتفجرات التي وضعت لنسفه، ومع فقدان العدو لعنصر المفاجأة، جاء دور المفاجأة التي أعدها المهندس، فقد توالت الانفجارات في وجه الجنود الإسرائيليين الذين حاولوا الدخول عن طريق النوافذ والباب الجانبي مما أدى إلى سقوط عدد كبير منهم بين قتيل وجريح. وحين نجحت قوة بقيادة الكابتن نير فوراز، في دخول المنزل عن طريق نافذة المطبخ، اصطدمت بمجاهد كان يتخذ موقعاً قتالياً في الغرفة المجاورة للصالة. وبعد نحو خمسة دقائق من تبادل إطلاق النار العنيف سقط خلالها الكابتن الإسرائيلي وعدد من جنوده صرعى، انسحب المجاهد إلى السلم الداخلي لمجابهة قوة أخرى كانت تحاول التقدم عن طريق الباب الجانبي. وتمكن البطل من مفاجأة القوة الإسرائيلية وإصابة معظم جنودها ومن ضمنهم خمسة ضباط قبل أن يترجل شهيداً إلى عليين. وعندئذ، واصلت القوة المتبقية الركض نحو الدور الثاني حيث يحتجز فاكسمان، لتكون المفاجأة التالية بوجود باب خشبي سميك جرى تفخيخه ووضعت كمية من الأثاث ورائه، ومع إخفاق القوة المهاجمة في كسر قفل الباب، عرض العدو على المجاهدين أن يستسلما، فرد البطلان باللغة العبرية بأن فاكسمان قد قتل وأنهما سيقاتلان حتى الموت. واستمر تبادل إطلاق النار الكثيف لعدة دقائق، عدها القادة والجنرالات الذين كانوا يتابعون المعركة عن كثب بأنها ساعات طويلة، وحين توقفت المعركة بعد استشهاد البطلين، وجد رئيس شعبة الطاقة البشرية في جيش الاحتلال نفسه أمام مهمة عصيبة. فقد انزوى رئيس جهاز الشاباك الذي كان يعد نفسه لنقل البشرى لعائلة فاكسمان بعيداً عن دائرة الضوء تاركاً للجنرال يورام يئير مهمة تبليغ عائلة العريف الإسرائيلي بمقتل ابنهم(93). يعتبر العدد الكبير من المصابين في صفوف الوحدات الإسرائيلية المهاجمة، وإن كان الناطق العسكري الإسرائيلي قد حاول التقليل من شأنها وقصرها على ثلاثة قتلى وعشرين جريحاً، دليلاً على فشل قدرة القوات الإسرائيلية الخاصة التي تمتلك ترسانة ضخمة من الوسائل القتالية والتكنولوجيا في مواجهة ثلاثة شبان يمتلكون أسلحة تقليدية. ولا يقتصر الأمر على هذا الشأن، إذ عجزت كافة أجهزة الاستخبارات وأذرعها وعلى مدى ستة أيام في معرفة مكان احتجاز الجندي الأسير، وكان هذا العجز سيستمر لمدة أطول لولا مبادرة المسؤولين في سلطة الحكم الذاتي بإبلاغ اسحق رابين عن المجاهد جهاد يغمور. وعملياً، فإن العملية كادت أن تحقق النجاح الكامل لو بقي مكان احتجاز الأسير مجهولاً. وقد تسبب اكتشاف العدو للمنزل في إضاعة الورقة القوية التي كان من الممكن عبر اللعب بها إتمام العملية على الوجه المأمول به. 10- الشهيد الحي يهتف في ساحة ديزنغوف بدت علامات الكآبة والذهول واضحة على وجه اسحق رابين وهو يلقي البيان أمام الصحافيين وممثلي وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية موجزاً الوقائع التي حدثت أثناء اقتحام قوات العدو المنزل الذي تحصن فيه مجاهدو حماس مع أسيرهم وهو الجندي الإسرائيلي نحشون فاكسمان في بير نيبالا، وكان هو شخصياً أحد شهودها. ولأن التاريخ لا يكرر نفسه في كل مرة بالطريقة نفسها، فإن العلامات التي بدت على وجه رابين تختلف عما نقله مراسلي وكالات الأنباء قبل ثمانية عشر عاماً حين أعلن رابين نفسه تحرير الرهائن الإسرائيليين من مطار عتيبى بأوغندا. وهكذا، أصبحت عنتيبي شيئاً من الماضي بعد أن خلقت كتائب الشهيد عز الدين القسام ظروفاً وأوضاعاً جديدة مع مرور الزمن جعلت رئيس الحكومة الإسرائيلية يتلعثم وهو يتلو بيانه فيما جلس يهودا باراك، رئيس هيئة الأركان العامة في جيش الاحتلال إلى جانبه مطاطىء الرأس. واعترف رابين وهو يلعق جراح هزيمته، بأنه يواجه نقصاً كبيراً في المعلومات عن المهندس الذي أعد ونفذ العمليتين في القدس وبيرنيبالا، كما أقر رئيس الحكومة الإسرائيلية بكفاءة كتائب عز الدين القسام حين قال في مؤتمره الصحفي: «لقد تمكنت حماس من خداعنا وتضليل الاستخبارات الإسرائيلية عندما توهمنا جميعاً بأن الجندي المخطوف موجود في غزة»(94). وعلى الرغم مما آلت إليه نتيجة أسر العريف نحشون فاكسمان، إلا أن العملية تركت آثاراً إيجابية كثيرة وحققت لحركة حماس إنجازات ونجاحات عديدة وعززت موقع الحركة السياسي والعسكري والتنظيمي والإعلامي. وإذا ما تجاوزنا هذه الإنجازات، نظراً لكون المجال ليس ملائماً التعرض لها في هذا الموضع، نجد أن العملية وضعت المهندس أمام تحد مزدوج. فجانب سلطة الحكم الذاتي بات غير مأمون على الإطلاق، كما أن حكومة اسحق رابين أعلنت استنفار كافة أجهزتها وقواتها العسكرية والأمنية والاستخبارية ووضعت كل الجهود والإمكانيات في الحرب الشاملة ضد حركة حماس. ولأننا أمام مجاهد نذر نفسه وجهده وحياته لله، فإن المهندس لم تكن لتين عزيمته أو تصاب بالفتور أو التراجع. وعلى هذا الأساس يمكن تناول التحرك السريع لمهندس الأجيال لتنفيذ الضربة الثالثة التي خطط لها والتي جاءت لتحتل المكانة الخامسة في برنامج المراحل الخمس للثأر لشهداء الحرم الإبراهيمي الشريف. إذ انتقل القائد مع مساعديه إلى المربع الذي انطلق منه (رافات - قراوة بني حسان - الزاوية - سلفيت)، وباشر بالإعداد للعملية الاستشهادية الجديدة. ووفقاً للوائح الاتهام التي وجهتها المحاكم العسكرية الإسرائيلية لعدد من المجاهدين المعتقلين من قريتي الزاوية وقراوة بني حسان في وقت لاحق من عام ،1994 فإن المهندس وضع هدفين تحت المراقبة والرصد. وكان الأول يتعلق بساحة ديزنغوف وهي الساحة الرئيسة في الوسط التجاري لتل أبيب، وتعد هذه الساحة بالنسبة للعدو الصهيوني مرادفة لجادة الشانزيليزيه في باريس وبيكاديللي سيركس في لندن وتايمس سكوير في نيويورك نظراً لاتساعها والأشجار التي تحيط بجوانبها وكثرة المقاهي ودور السينما والمتاجر والمسارح فيها. وأما الهدف الثاني، فقد شكل السوق التجاري الرئيسي لمستوطنة بتاح تكفا القريبة من تل أبيب، موقعاً مقبولاً لتنفيذ عملية استشهادية توقع عدداً كبيراً من الإصابات وتجعل الإسرائيليين يبكون دماً. وبعد دراسة كافة الجوانب المتعلقة بالموقعين، استقر رأي المهندس على الهدف الأول، نظراً لتأثيره على الأمن الإسرائيلي عندما يتم اختراق قلب أكبر مدينة داخل العمق الإسرائيلي وتحويل الساحة الرئيسة فيها إلى ساحة هلع ورعب. نفذ المهندس وعيده الخامس، وجهز الحقيبة المتفجرة وسلمها للمجاهد صالح صوي* [صالح عبد الرحيم حسن صوي: ولد في قلقيلية عام ،1967 فنشأ وترعرع والحقد يربو ويكثر في قلبه على من احتل أرضه.فانضم إلى الإخوان المسلمين قبل الانتفاضة المباركة بعام ليسير في طريق الجهاد بانضمامه لحركة حماس واشتراكه في فعالياتها. وقد اعتقل ثلاث مرات، وقضى أربعة عشر شهراً في سجون الاحتلال، خرج بعدها ليواصل حديث الجهاد والاستشهاد مع اخوته. واستمر على هذا المنوال حتى أصبح مطارداً من قبل الاحتلال بعد مجزرة الخليل مباشرة. ومنذ ذك الحين ، غدا أحد مساعدي المهندس ورفقاء دربه.] بعد أن دربه على طريقة تشغيل العبوات الناسفة، وشرح له خطة العملية وكيفية الوصول للهدف والهيئة التي يتعين عليه الظهور من خلالها حتى يتسنى له الصعود إلى الحافلة المتجهة إلى ساحة ديزنغوف. ولأول مرة، يطلب المهندس آلة تصوير سينمائية، ليقوم أحد المجاهدين بتصوير البطل صالح صوي وهو يلقي بياناً كتبه مهندس الأجيال باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام بدأه بقوله: «أنا الشهيد الحي صالح عبد الرحيم حسن صوي أسكن مدينة قلقيلية الصمود.. كنت مطارداً قسامياً في كتائب الشهيد عز الدين القسام». وأضاف صالح وهو يتلو البيان المكتوب: «تحدث الحقير رابين والحقير باراك بأنه لم يكن لديهما أي خيار إلا قتل الخلية التي حافظت على حياة الجندي المخطوف نحشون فاكسمان وعدم تلبية مطالبنا الإنسانية بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين»، واختتم المجاهد قائلاً: «لم يكن أمامنا سوى خيار واحد، وهو جعل كل الشعب اليهودي رهينة الخوف والرعب اللذين ستبثهما عملياتنا الاستشهادية.. إن الحل الوحيد لقضيتنا هو الجهاد ولا حل غيره، فلماذا الركون لهذه الدنيا الفانية.. وإلى اللقاء على حوض الكوثر نشرب ماء لا نظمأ بعده»(95). وبناء على الترتيبات المسبقة، قامت إحدى مجموعات الإسناد بتسهيل عملية انتقال الشهيد الحي إلى مدينة قلقيلية حيث بات ليلة الأربعاء في منزل عائلته ثم غادر في صبيحة اليوم التالي مع إخوانه الذين كلفوا بإيصاله إلى مدينة تل أبيب في رحلة المجد نحو العلا بعد أن حمله المهندس بحقيبة الموت لأعداء الإسلام. وحين وصل البطل إلى محطة الحافلات المركزية، ووقف ينتظر حافلة شركة (دان) رقم (90) التي تعمل على خط رقم (5) والذي يبدأ من بلدة حولون بجنوب تل أبيب وينتهي بمنطقة الفنادق في هيرتسليا مروراً بساحة ديزنغوف، لم يستطع إخفاء البسمة التي زينت شفتيه والفرحة التي غمرت طلعته البهية. ولم يكن أحداً يدرك سر هذه الفرحة أو مناسبتها، فهو الوحيد الذي يحسن الإدراك وقد تجمع أمامه المئات إن لم يكن الألوف من الملائكة الأطهار في هذا اليوم الجميل يزفونه بعد أن استنفرت حور الجنة وعرائسها وتنافسن للظفر بالشهيد العريس. وقفت حور العين في طابور ممتد ترقب عريسها وتلوح له وهو يقفز الدرجات صعوداً في حافلة الشهادة الأجمل في نحو الساعة الثامنة وخمس وخمسين دقيقة من صباح يوم الأربعاء الموافق 19 تشرين أول (أكتوبر) 1994. وسارت الحافلة في طريقها المعتاد، وقد أخذ الشهيد الحي مقعده في الصف السادس خلف السائق، وخلال دقائق معدودة، وصل الموكب ساحة ديزنغوف، ولاحت الفرصة الذهبية للارتقاء حين اقتربت حافلة أخرى، وأضحت في محاذاة الحافلة رقم (90). وعندئذ هتف الشهيد بالنداء الخالد (الله أكبر) ثم فجر عبواته الناسفة لتتحول الحافلة إلى كومة من الحطام بعد أن تطاير سقفها كلياً وتناثرت قطع من الحديد الملطخة بالدماء في دائرة قطرها يتجاوز الخمسين متراً. ولم تسلم المحلات والمخازن والمقاهي، فقد أحدث الانفجار أضراراً جسيمة وفادحة في المنطقة التي اهتزت وتصاعد عمود من الدخان إلى علو ستة أمتار بفعل الحريق الذي اندلع في الحافلة، ويبدو أن العملية بما انطوت عليه من خسائر بشرية (22 قتيلاً و 47 جريحاً) ومادية (سبعة ملايين شيكل - مليونين وثلاثمائة ألف دولار أمريكي)، لم تهز تل أبيب فحسب، بل جميع أنحاء الكيان الصهيوني حيث أصيب الناس بالذهول وهرعوا في بعض المدن إلى الشوارع في تظاهرات صاخبة كانت تنادي بالموت للعرب والقضاء على حركة حماس، وتطالب باستقالة اسحق رابين ومحاسبة القيادات العسكرية والأمنية على التقصير(96). ولأن عملية الثأر الخامسة لشهداء الحرم الإبراهيمي شكلت واحدة من أكثر العمليات قوة وتأثيراً ونجاحاً خلال ثلاثين عاماً من الكفاح الفلسطيني المسلح، فقد سعى رابين الذي قطع زيارته لبريطانيا فور سماعه الخبر وعاد لتل أبيب ليعقد اجتماعاً طارئاً لقادة الأجهزة الأمنية ومن ثم اجتماع للحكومة لدراسة الخطوات والإجراءات المضادة لحركة حماس. ومن المفارقات العجيبة، أن رابين لم يتخل عن غطرسته ولم يتواضع في ادعاءاته الزائفة حين حسم النصر لصالحه في معركته مع المهندس بحجة أنه ودولته كانوا الفائزين دوماً في معاركهم مع أعدائهم. ولكن رئيس الحكومة الإسرائيلية، لم يستطع المكابرة طويلاً، فها هو يعلن انكساره في نهاية الخطاب القومي الذي وجهه للشعب، ليأتي توعده على شكل استجداء: «أقول للخاطفين ومفجري القنابل، إن قوات الأمن سيمسكون بكم عاجلاً أو آجلاً»(97). 11- استنفار لمواجهة الهدف المركزي الأول تجنبت السلطات الإسرائيلية الإعلان عن الإجراءات التي تنوي اتخاذها ضد كوادر ونشطاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وإن كانت قد لوحت بتوسيع إطار حملة الاعتقالات والمداهمات لتشمل كافة المجالات والأجهزة التي تتبع الحركة بهدف ضرب وتقويض البنية التحتية وشبكة الدعم والمساندة التي تعمل في خدمة الجهاز العسكري. فعندما سئل شمعون بيريز الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية عن هذه الخطوات، أجاب: «لن نكسب شيئاً الآن إذا أعلنا عن أي شيء أو إذا خضنا في التفاصيل لأن هذه الإجراءات سرية بطبيعة الحال»(98). وبعيداً عن تبريرات السرية، ومفردات الخصوصية التي حاول القادة السياسيون والعسكريون تقديمها، فإن سلطات الاحتلال لم تترك أصلاً وسيلة أو إجراء إلا اتخذته وطبقته على أرض الواقع في مواجهة كتائب عز الدين القسام. وبالتالي، لم يعد هناك ما يمكن اعتباره جديداً أو مستحدثاً. ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن لقاء قادة الأجهزة الاستخبارية وضباط الجيش في مختلف المستويات استهدفت شيئاً واحداً وضعته كهدف مركزي، ألا وهو المهندس، الذي اعتبرته عدو الدولة العبرية الأول والأخطر والأعنف منذ زمن طويل. فها هو معاون رئيس الحكومة الإسرائيلية يحضر اجتماعاً مشتركاً لرؤساء الموساد والشاباك وآمان ثم يخرج ليعلن بأن هؤلاء: «قرروا تلقين هؤلاء الأوباش درساً لن ينسوه أبد الدهر». ويضيف الجنرال الإسرائيلي في لهجة اتسمت بالتحدي: «إن مسألة وضع يدنا على يحيى عياش هي مسألة وقت فقط، ولذلك فهو يعتبر في عداد الأموات. وإن كان قد نجح في كل مرة بالإفلات بطريقة عجيبة، فإننا نقول له إن يد إسرائيل طويلة جداً، وقادرة على الوصول إليه في أماكن اختبائه الأكثر سرية.. من الآن فصاعداً لن يشعر بالأمن والآمان في كل مكان يتواجد فيه»(99). لم تكن تلك التصريحات المتوعدة للاستهلاك الإعلامي، فقد تحركت قوات الجيش وحرس الحدود والشرطة وكافة أجهزة الاستخبارات على أكثر من صعيد وباتجاهات عدة بحثاً عن المهندس حيث شنت حملة اعتقالات ومداهمات تخللها نصب كمائن وشراك. واعتبر المحللون العسكريون والأمنيون الإسرائيليون تلك الحملة التي ضمت الآلاف من العسكريين والمخبرين بأنها الأوسع والأعنف في تاريخ الدولة العبرية. ولئن تسرب القليل من المعلومات حول هذه الحملة، فإننا سنذكر ما تناقلته وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية. ففي رافات، مسقط رأس المهندس، دفعت سلطات العدو بقوات كبيرة من الجيش وحرس الحدود ترافقها وحدات مستعربين وضباط من الشاباك إلى الجبال والمناطق المحيطة بالقرية. وأعادت تلك القوات نصب النقطة العسكرية الموجودة على مدخل القرية في اليوم التالي للعملية البطولية في تل أبيب. وتمكنت قوات الاحتلال من مراقبة الحركة داخل رافات عبر هذه النقطة(100). وحين أشارت تقارير وحدات المستعربين السرية بأنها تشتبه بوجود المهندس في منزله، داهمت قوات كبيرة من المظليين المنزل يوم السبت الموافق 29 تشرين أول (أكتوبر) 1994 وأجرت فيه عملية تفتيش دقيقة وواسعة حطمت خلالها معظم محتويات المنزل. وسارت الأمور على نفس المنوال في قراوة بني حسان باعتبارها المستودع الرئيس وخزان المجاهدين الذي لا ينضب والذي يمد المهندس بمقاتلين ومساعدين حسب تقرير الشاباك، إذ داهمت مجموعة من الوحدات الخاصة ترافقها (15) دورية عسكرية القرية في نحو الساعة السادسة والنصف من صباح يوم السبت الموافق 22 تشرين أول (أكتوبر) 1994 وحاصرت محلاً تجارياً وسط القرية وحطمته واعتقلت محمد مصطفى مرعي (25 عاماً) بتهمة المساعدة في تقديم مأوى للمهندس وللشهيد صالح صوي ونقلهما في سيارته وتوفير آلة تصوير استخدمت في إعداد شريط الفيديو الخاص بالشهيد الحي. كما اتهمت الشاباك محمد مرعي بأنه جهز أربع صور فوتوغرافية وهوية إسرائيلية مزورة للشهيد صالح صوي وعمل كقناة لنقل المواد المتفجرة للمهندس. واعتقل العدو أيضاً بهجت عاصي (28 عاماً) وهو ابن عم الشهيد القائد أبو جهاد في نفس اليوم، وقدمت الشاباك في لوائح الاتهام التي وجهت إليه تجهيز منزله كقاعدة للمهندس والاشتراك بالتخطيط لعمليتين استشهاديتين كانتا من المفترض أن تستهدفا سوق بتيح تكفا وحافلة ركاب إسرائيلية قرب نابلس(101). وتوالت الاعتقالات المنظمة لمن يشتبه بأنه قدم العون أو المساعدة أو الملجأ، وحتى من تصادف أن التقى دون ترتيب مسبق بالمهندس، وقد اعترفت الشاباك، بأن التقدم الذي أحرزته في مطاردتها للمهندس جاء بعد أن خولت اللجنة الوزارية لشؤون جهاز المخابرات التي يرأسها اسحق رابين شخصياً لمحققي الشاباك باستخدام أساليب الضغط والتعذيب الجسدي بشكل مكثف ومتزايد مع معتقلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الذين تتوفر شبهات قوية تؤكد أن بحوزتهم معلومات حول المهندس. واستناداً لما ذكرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، فقد أسهم استخدام هذا الأسلوب من الضغط الجسدي المشدد في انتزاع اعترافات من بعض المعتقلين قادت لاعتقال آخرين، ومن بينهم (43) عضواً من مجموعات الرصد والاستطلاع والخدمات والتموين الذين عملوا بخدمة المهندس بشكل أو بآخر في منطقة شمال الضفة الغربية(102). وبطبيعة الحال، لا يمكن التسليم بهذه المعلومات أو اعتبارها من المسلمات، إذ أن الدعاية الصهيونية درجت على تضخيم إنجازات مخابراتها وجيشها وشن حرب نفسية بهدف النيل من عزيمة وقوة الطرف المقابل. فمن بين العشرات الذين ادعت سلطات الاحتلال أنهم من مساعدي المهندس، لم تقدم للمحاكمة سوى سبعة من بينهم الشيخ صبري حسين موقدة (65 عاماً) وهو إمام مسجد قرية الزاوية واثنان من أبنائه الذين اعتقلوا يوم السبت الموافق 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1994 بتهمة قيام الشيخ بتدريب المهندس على صناعة المتفجرات، في حين اتهم عصام ومعتصم صبري موقدة بتقديم المساعدة للمهندس وصالح صوي. كما أصدر القضاة العسكريون حكماً بالسجن ست سنوات منها ثلاثة سنوات بالسجن الفعلي على حازم فايز عمر فيومي (22 عاماً) وعبد الرحمن محمد سعيد حامد (27 عاماً)، والاثنان من مدينة قلقيلية بتهمة التعاون مع المهندس وتقديم خدمات للشهيد الحي(103). ولا يقتصر أمر الحرب النفسية على عدد المعتقلين فحسب، بل إن قضية صمود هؤلاء المعتقلين وفاعلية إجراءات التعذيب الإرهابي الذي طبق عليهم تحتاج هي الأخرى إلى التوقف عندها. فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية بأن أعضاء مجموعات الإسناد والخدمات الذين قالت الشاباك أنها نجحت في كشفهم واعتقالهم قد صمدوا أمام المحققين رغم المعاناة والعذاب الذي انصب عليهم، ولذلك -تضيف يديعوت احرونوت- وصل التحقيق معهم إلى طريق مسدود على الرغم من توفر معلومات لدى الشاباك تدينهم. وقد اتضح لمحققي المخابرات الإسرائيلية أن معظم المعتقلين اجتازوا فصلاً خاصاً تدربوا فيه على كيفية الصمود في التحقيقات التي تجريها الشاباك(104). ونتوقف عند هذه النقطة، ذلك أنها تعطي انطباعاً مهماً وصورة ناصعة جديرة بالدراسة حول نوعية الرجال الذين اعتمد عليهم المهندس حتى وإن كانت مهمتهم بسيطة أو ثانوية في مفهوم الحياة العصرية. فقد كانوا عند حسن ظن قائدهم وإخوانهم، فلم يخذلوهم ولم يقدموا للعدو منفذاً. لم تكن سلطات الاحتلال لتكتفي بما حققته، إذ أن حملتها باتجاه المهندس لم تتقدم رغم هذه الإنجازات، وإن كانت قد أحدثت بعض الإرباكات في الخطط والبرامج لدى حركة المقاومة الإسلامية (حماس). ففي واحدة من فصول العلاقة القاسية التي نشأت بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والمهندس، توسعت دائرة المطاردة لتشمل مختلف أنحاء الضفة الغربية. ففي مدينة نابلس، أجرت قوات الاحتلال عمليات مداهمة وتفتيش للمنازل طالت أيضاً عدد من قرى ومخيمات المدينة، وكان جنود العدو يستجوبون سكانها عن علاقتهم بالمهندس. وجرت أحداثاً مماثلة في سلفيت وقلقيلية حيث حوصرت المنازل في المدينتين وشنت قوات الاحتلال حملة تفتيش من منزل إلى آخر بحثاً عن يحيى عياش. كما قامت قوات أخرى بحملة اعتقال وتفتيش في مدينة طولكرم وقرى حبلة وكفر لاقف شملت منازل ومساجد اشتبه العدو أن المهندس قد يستخدمها كمخبأ له. ووصل الإرهاب الصهيوني إلى مدن جنين ورام الله وبيت لحم في تصعيد ملفت للعيان، وكأن الدولة العبرية قد خرجت بجيشها وأجهزتها وكوادرها وطاقاتها وراء المهندس، إذ لم يبق إلا أن توجه النداء للجمهور اليهودي بمؤازرة قواته ومعاونتها في تلك العملية. ومع اتساع إجراءات البحث، توسعت حملة الاعتقالات، وأضحت تجري بطريقة عشوائية بعد أن كانت وفق قوائم معدة مسبقاً، ووصل عدد المعتقلين إلى أكثر من ألفين، وهذا عدد لم تشهده الضفة الغربية في تاريخها. واعترفت سلطات الاحتلال العسكرية بأن حملتها الرامية لإلقاء القبض أو قتل يحيى عياش قد امتدت إلى المناطق المحتلة منذ عام ،1948 بعد أن انتشرت الإشاعات داخل المجتمع الإسرائيلي بأن المهندس يختبىء هناك متقمصاً شخصية حاخام يهودي(105). وقادت الشائعات وهوس المخبرين السريين آلاف الجنود وضباط الشاباك ترافقهم طائرة مروحية إلى إجراء عملية تمشيط واسعة يوم السبت الموافق 22 تشرين أول (أكتوبر) 1994 استغرقت ست ساعات. واستهدفت ست منازل مبنية بالحجارة في قرية بيت تعمر وهي قرية تقع على تل قرب بيت لحم، وغادر الجنود بعد «عملية بحث غير مجدية عن والأماكن عياش» وفق العبارة التي رددها الناطق العسكري مراراً، بخفي حنين في صف طويل من المركبات العسكرية(106). وتكررت مثل هذه العملية في مخيمات نابلس الأربع وعدد كبير من القرى وخاصة قراوة بني حسان، وشملت عمليات التمشيط والتفتيش يوم الأربعاء الموافق 2 تشرين ثاني (نوفمبر) 1994 الكهوف الواقعة في جبال جرزيم وعيبال اللواتي يحطن بمدينة نابلس من الشمال والجنوب. منذ العملية البطولية في تل أبيب، لم يعد جنود الاحتلال وأفراد المخابرات ووحدات المستعربين يفارقون نابلس وقلقيلية والقدس ورام الله والخليل. وباعتراف الجنرال بنيامين بن اليعيزر الذي كان يشغل منصب وزير البناء والإسكان في حكومة اسحق رابين بأنها «حرب طويلة ومن يتعب أولاً سيكون الخاسر» فإن حادثة استشهاد الفتى مصطفى عاصي (16 عاماً) مساء يوم الاثنين الموافق 24 تشرين أول (أكتوبر) 1994 تدل بشكل واضح أن لغز المهندس قد أضحى كابوساً على جنود العدو الذين يطاردونه. ففي ظل أجواء التوتر والخوف التي انتشرت بين الآلاف من الجنود المنتشرين، قامت وحدة من المستعربين بنصب كمين عند مسجد قرية قراوة بني حسان بعد ورود معلومات بأن المهندس سوف يمر من هناك. وحين ظهر مصطفى عاصي، أطلق الجنود عليه النار وأصابوه في ظهره، فسقط عند باب بيته بعد أن مشى عدة أمتار. وعندئذ، ركض الجنود باتجاهه، وقالوا: «قتلنا المهندس». وعندما تبين لهم بأن مصطفى ليس المهندس المطلوب، بل صبي عابر سبيل، ألقى أحد المستعربين سلاحه وانفجر بالبكاء(107). بإيجاز، لا يمكن إغفال التأثير الذي أحدثته الحملة الصهيونية ضد كوادر ونشطاء حركة حماس في الضفة الغربية على خطط الحركة وبرامجها، وبخاصة تلك التي تتعلق بالجهاز العسكري ومن ضمنه مهندسنا. ذلك أن الجهاد هو عمل مؤسسي يقوم على أكتاف وجهود المجموعة. ولأن يحيى عياش يمثل نموذجاً جديداً في العمل العسكري تخطيطاً وتنفيذاً ويتميز بكفاءته فيما يتعلق بتصنيع المتفجرات وتجهيز العمليات الاستشهادية وهو جانب كان مفقوداً في السابق، فقد ارتأت قيادة الحركة الإسلامية نقل المهندس إلى مكان جديد، أكثر أمناً حتى يتمكن من تنفيذ مشروعه الجهادي الجديد، ألا وهو توريث علمه وخبرته العسكرية إلى إخوانه حتى يتواصل الجهاد بنفس الوتيرة إذا ما غاب المهندس عن ساحة الصراع لسبب من الأسباب. ويستجيب الجندي لأمر قادته، ويغادر المهندس الضفة الغربية إلى قطاع غزة بعد أن أعاد ترتيب وتنظيم كتائب الشهيد عز الدين القسام في الضفة الغربية ووضع على رأس كل منطقة قائداً ومعاونين وقسم الاختصاصات وطرق الاتصال الآمن ونقل الوسائل القتالية والمجاهدين بين تلك المناطق وداخلها وعلاقتهم بالأجهزة الأخرى. |
|
اقتباس المشاركة |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|