الإهداءات |
|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
#11 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() اقتباسات وأقوال المثقف الفلسطيني والأديب
غسان كنفاني لا تمت قبل أن تكون ندا! إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين إن الموت السلبي للمقهورين و المظلومين مجرد انتحار و هروب وخيبة و فشل الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت..الثورة وحدها هي التي توجه الموت..و تستخدمه لتشق سبل الحياة لنزرعهم شهدائنا في رحم هذاالتراب المثخن بالنزيف..فدائما يوجد في الأرض متسعا لشهيد آخر إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..و إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه لك شيء في هذا العالم..فقم! أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها..الحرية التي هي نفسها المقابل لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معا هذا العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم! إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فا لأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغيرالقضية الغزلان تحب أن تموت عند أهلها..الصقور لا يهمها أين تموت الأشباح ماتوا ..قتلتهم الفيزياء..و ذوبتهم الكيمياء..و أرعبتهم العقول جاعوا, وأخذت السماء تزخ, حيث يسقى فولاذ الرشاشات تضحى [center]له رائحة الخبز ليس المهم أن يموت أحدنا..المهم أن تستمروا هذه المراة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين..هي تخلف و فلسطين تأخذ في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءا لا ينفصم عن الخبز و الماء و أكف الكدح و نبض القلب إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة سيظل مغروسا هنا ينبض وحده في العراء..إلى أن يموت واقفا و أورثني يقيني بوحدتي المطلقة مزيدا من رغبتي في الدفاع عن حياتي دفاعا وحشيا أيمكن أن يكون القدر مرتبا على هذه الصورة الرهيبة..ياإلهي..أيمكن؟! إن حياتي و موتك يلتحمان بصورة لا تستطيع أنت و لا أستطيع أنا فكهما..ورغم ذلك فلا يعرف أحد كيف يجري الحساب ها هنا لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر..و أنه لاجئ في حيث لا أدري! فإذا بالجميع يصرخوادفعة واحدة" أية حياة هذه..الموت أفضل منها" و لأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرا..فلابد أن يفكروا بأمر آخر إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء..و ألا تجعل عدوك يتوقع إنها الثورة! هكذا يقولون جميعا..و أنت لا تستطيع أن تعرف معنى ذلك إلا إذا كنت تعلق على كتفك بندقية تستطيع أن تطلق..فإلى متى تنتظر؟! |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#12 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() ما كُتِب عن غسان كنفاني
ماذا كتبت زوجة الشهيد غسان كنفاني(آني كنفاني) مقدمة في كل عام، كان غسان كنفاني يكتب قصة ويرسمها للميس، ابنة أخته، في عيد ميلادها. ما زلت أذكر يديه المرهفتين وهو يعدّ الرسوم الجميلة للقصة التي كان قد انتهى للتو من كتابتها لعيد ميلادها الثامن. وفي كانون الثاني/ يناير 1963 ترجم لي غسان قصة القنديل الصغير. كان غسان في الثانية عشرة من عمره في العام 1948 عندما أرغم وأسرته على مغادرة وطنه فلسطين. وهكذا تحوّلوا إلى لاجئين، واستقروا في دمشق، حيث التحق الأبناء بالمدارس. وفي سن العشرين، انتقل غسان إلى الكويت للانضمام إلى أخته، والدة لميس، وبدأ العمل مدرّساً للفنون. وُلدت لميس في العام 1955 وكانت الحفيدة الأولى في الأسرة ومصدراً للفخر والسعادة في أسرتها. كان غسان يحبها حباً كبيراً وكانت هي تبادله هذا الحب الكبير. ومن بين كتاباته الأدبية الأولى كتاب مهدى لها. أصبح غسان كنفاني في ما بعد أحد أشهر الأدباء الفلسطينيين، وأضحى مصدراً لاعتزاز لميس، كما باتت هي مصدراً لوحيه. كانت علاقتهما عميقة جداً وكأن هناك رابطاً قوياً يجمعهما، حتى في الموت. ففي بيروت، صبيحة السبت 8 تموز/ يوليو 1972، استشهدت لميس مع خالها غسان، إذ كانت برفقته لحظة اغتياله بتفجير سيارته. دُفن غسان ولميس في مقبرة الشهداء في بيروت، حيث الأرض حمراء بلون تربة فلسطين، وتركا كتابهما .<<القنديل الصغير>> لكم لكي تقرأوه آني كنفاني |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#13 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() ابنـــه:
إلى أبي، غسان كنفاني حين كنت صغيرا، كان ابي يأخذني الى جريدة المحرر، فيجلسني على كرسيه ويطلب مني ان ارسم بعض الصور. وحين انتقل الى الانوار، كنت اذهب معه كذلك. ثم انتقل الى الهدف وأخذني معه برفقة اختي ليلى، لنلتقي بزملائه هناك. كان ابي رجلا طيبا. كان يشتري كل ما ارغب به، و ما زلت احبه، رغم انه قد مات. لقد وجدت صعوبة في تعلم اللغة العربية، لكنه علمني اشياء كثيرة. وهكذا صار بإمكاني قراءة جميع المقالات المكتوبة عنه. احببت أن يكون لي أب مثله، لأنه كان كثير الذكاء، ولأن الناس احبوه. في الدنمارك، كنا انا وليلى نشتاق اليه كثيرا، وقد سألنا امنا ان تعيدنا اليه. وحين عدنا، كنا نراه يعمل في الجنينة كل احد، يزرع الازهار بيدين ناعمتين. كنا احيانا نعمل معا في الجنينة. وحين يشتد الحر ننزع قمصاننا. وبعد العمل كان غالبا ما يعلمني كيف استخدم المسدس الصغير الذي اشتراه لي. ولقد احببت مشاهدة التلفزيون معه. عندما اكبر اريد ان اكون مثل ابي، وسأحارب لكي اعود الى فلسطين: وطن ابي، والارض التي حدثني هو وحدثتني ام سعد كثيرا عنها. من الآن وصاعدا، سأساعد امي واختي مساعدة عظيمة من اجل الا تشتاقا اليه كثيرا. لكننا لن ننساه ابدا، ولن ننسى <<لميس>> التي ماتت معه والتي نحبها جميعنا حبا كبيرا لميس التي كانت دائما طيبة جدا ولم تفقد اعصابها ابدا. |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#14 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() أخوه :
!الوجه وحده بقى سليماً.. يبتسم تحرّك حفيدتي رأسها يمنة ويسرة، تحملق بحيرة في الصورة المعلقة على الجدار، ثم تجثو على ركبتيها وكفيها كأنها حمل ولد للتو، تنظر الى وجهي مرات عديدة، فأتجاهلها، تمسك يدي بكفها الصغيرة، تهزني برفق، تسألني ولا تزال عيناها معلقتين على الصورة.. كيف يبتسم وهو ميّت؟ شدني السؤال فنظرت بدوري الى الصورة.. كان يبتسم حقا! يا ملاكي.. سألتني أمك عندما كانت بمثل سنّك، ذات السؤال، جلست مثلما تجلسين الآن، ونظرت بدهشة كما تنظرين.. يومها تحيرت.. ماذا اقول؟ وكيف استطيع ان أحشو في رأسها الصغير إجابة معقولة؟ أردت ان أقول كلاما كثيرا وطويلا، اتحدث فيه عن الموت.. هذا المجهول يا صغيرتي الذي لا يدركه ولا يفهمه احد، رغم انه الحقيقة الواضحة في مفهوم الحياة كلها! تحدثنا ليلتها عن الموت.. كانت المرة الأولى والأخيرة التي تمكن فيها غسان من الحضور الى دمشق منذ سفره الأخير الى لبنان ليشارك في تشييع امي التي توفيت في 28 أيار 1967 قبل أيام من حرب حزيران.. تحدثنا ليلتها عن الموت.. كان جلدا وحزينا ومقهورا. لكنه تحدث عن الموت ايضا.. قال انه القريب القريب الذي نحسبه ونحن نعيش، أبعد من التصور.. فنبتسم في كل الأوقات، نضحك أحيانا، وهو يتربص بنا على مقربة مذهلة. لا أحد يدرك متى يأتي الموت، ولا كيف. قال إنه القاهر الأكبر لغرور الإنسان.. نبتسم في لحظة نحسبها تستمر الى الأبد، في ذات اللحظة التي يسخر فيها منا. يا صغيرتي.. تساءلت أمك مثلما تتساءلين، ولم أجد لسؤالها جوابا.. قلت لها <<بعد ان أعياني البحث>>: عندما تكبرين، عندما تعيشين مختلف فصول الحياة.. ستدركين! إنها ذات الابتسامة التي تعوّد ان يرسمها في مناسبات هامة ومفصلية. رأيتها واضحة على أطراف شفتيه وعينيه المسدلتين على صورة حلم ساخر، يوم استشهد وتناثرت أعضاؤه بين أنقاض كثيرة في مساحة جبل وواد.. ذراع واحدة ونصف صدر وبلا أرجل.. وأصابع تتعلق على أغصان الاشجار الكثيفة.. الوجه وحده بقي سليما، يبتسم مثل هذه الابتسامة... كما عاد يحمل على وجهه ذات الابتسامة ايضا، بعد يوم اختباره الاول للانتساب الى مدرسة الكلية العلمية الوطنية في حي سوق ساروجة. قال بثقة انه يعرف من الفرنسية والانكليزية والعربية السليمة افضل مما يعرفه الاستاذ الذي اختبره، ولذلك لم يترددوا لحظة في قبوله تلميذا، سيرفع رصيد المدرسة من المتفوقين، وسجلوه <<قياسا لسنه فقط>>، في الصف السابع.. ورغم ان والدي أنّبه في ذلك اليوم على رسم <<الابتسامة الساخرة القليلة الأدب>> كما أسماها.. إلا أنه بدا سعيدا ومطمئنا لنجاح غسان في اختبار سبر المعلومات، وقبوله لمتابعة الدراسة التي انقطع عنه اكثر من عشرة أشهر. قبل أسابيع قليلة من يوم استشهاده، ذهبت معه الى أحد المصورين في شارع كورنيش المزرعة في بيروت، كان بحاجة الى صور شخصية حديثة لتجديد جواز سفره.. وعندما بدأ المصور حركاته المعهودة لضبط مقاييس الجلسة ووضع الوجه والإضاءة، وما الى ذلك حسب خبرته، ابتسم غسان ذات الابتسامة الساخرة. لم يكن يعرف ان صورته وابتسامته الساخرة في ذلك اليوم، ستعلق على الجدران، صورة لشهيد.. يا إلهي.. اعترف الآن بأنني أنحت في صخر!.. كأنني أحاول انتشال بوتقة من الزجاج الرقيق، محشورة بين حجارة صغيرة وصلبة وعلى عمق كبير، أمسكها من طرفها الأملس، تكاد تفلت من يدي، تعرق أصابعي، تلفحني سخونة أنفاسي، ثم شيئا فشيئا أبدأ بتحريكها صعودا، تصطدم بحجر فأتوقف أبعد الحجر والحجر الثاني والثالث.. هي كذلك بهذه الصعوبة وأكثر! كيف استطيع إمساكها؟.. كيف اخرجها من العمق ولا تكسر او تشعر او تخدش؟.. تبقى هي ذاتها تحمل البصمات والأنفاس والتاريخ والنبضات التي لا تلمس أبدا، لكنها تمتلئ بالإحساس والضمير، هي أمانة ترصد الحركة وتنقل اللحظة وتلامس قدر ما تستطيع البذور بعد العلامة الجلية الواضحة على الشكل وما وراءه. أجد نفسي في مكان موحش.. أجلس وحدي، أمسك بقدسية دفاتر صفراء، مجلدة بعناية أنيقة تحمل على غلاف الدفتر الأول رقما يبدو أبعد من التاريخ 1924 وينتهي على جلده الدفتر العاشر برقم أخير 1984 مكتوبة بخط اليد، حرفا بعد حرف، وسطرا وراء سطر، وصفحات تتجاوز خمسة آلاف.. تتحدث عن التاريخ.. يوما بيوم، ساعة بساعة... هي ذكريات، تختلط فيها الهموم بالآمال، الحزن بالسعادة، احلام الأنا والبحث المتواصل عن الذات، وخرائط الوطن الممزقة والمنهوبة، الشهداء بتفاصيل الأسماء والمواقع التي استقبلت اجسادهم، المعارك والمعتقلات، الأحداث السياسية الوطنية والقومية والعالمية والولادات والوفيات، الثورات والانقلابات، اخبار الزوجة وأدق تفاصيل الحياة اليومية الحميمة، وأخبار الإخوة والأقارب والأولاد.. المدارس والملابس، الأمراض واللقاحات المحصنة، الرحلات والأسفار، الخواطر، والأسرار العائلية... هي ذكريات ومذكرات واصل كتابتها بصبر مذهل، وصدق فطري طيلة ستين سنة والدي رحمه الله، المولود في عام 1900 والمتوفى في 1984. قلبت الصفحات بوجل ورفق، قرأت برهبة، وبعشق: أوائل شهر تموز 1936 أبعدت من يافا (مكان عمله وإقامته) الى عكا (موطنه الأول ومسقط رأسه) تحسبا من نشاطي السياسي ضد الحكومة البريطانية (خلال الفترة التي عرفت بإضراب الستة أشهر الشهيرة عام 1936).. وكنت كما ذكرت على صفحات سابقة قد أرسلت زوجتي والأولاد الى عكا.. وهكذا كانت فرصة بالنسبة لي لزيارة أهلي والعائلة. علمت أن الحكومة أعلنت نظام منع التجول ليلا في المدينة، فذهبت مع بعض الأصدقاء الى جامع الجزار لصلاة العصر واتفقنا على البقاء مع خلق كثير في المسجد حتى موعد صلاة العشاء، وقد حدث ما توقعناه!.. إذ رفضت السلطات السماح لنا بالعودة الى بيوتنا حرصا على تطبيق النظام، وعلينا قضاء الليل في الجامع.. بدأنا بالتسبيح والتهليل والتكبير حسب عادات أهل عكا ، ثم أخرجنا العدة (الطبول والدفوف والصاجات) التي تستخدم في حلقات الذكر والمولوية، وصعد بعضنا الى مئذنة الجامع.. عندما سمع سكان المدينة التهليل وأصوات الطبول والصاجات خرجوا من بيوتهم بعفوية لاستجلاء الأمر، وهذا ما حدث ايضا عندما سمع المعتقلون في السجن القريب، راحوا يشاركون في التهليل والتكبير، وحمل صدى الليل أصواتنا الى أسماع الناس في بعض القرى المجاورة.. وساد الهرج والمرج، وسارت جموع الناس بتظاهرات حاشدة الى وسط المدينة.. ولم تعد من قدرة للسلطات البريطانية على ضبط الأحداث التي جرت بسرعة، واستطعنا باختصار اختراق نظام منع التجول. واستمرت الحالة على هذا المنوال حتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.. وبينما كنت في بيت عمي مع أسرتي في اليوم نفسه، حضر عدد من رجال البوليس اقتادوني بعنف الى مكتب مساعد مدير البوليس السيد حسن الكاتب الذي حقق معي، وأمر بإرسالي تحت الحراسة الى حيفا، ومنها أرسلت الى يافا دون حرس على أن أثبت وجودي هناك بنقطة بوليس المنشية ثلاث مرات يوميا. في 15/7/1936 قابلت الميجر هارنغتون بمحاولة لتخفيف قيود إثبات التواجد، وبعد حديث مطول بيننا، تركز حول أسباب كرهنا للإنكليز، وعدني أخيرا، على ان أراجعه شخصيا في اليوم التالي.. وبالفعل دخلت غرفته صباحا، وحييته قائلا: صباح الخير ميجر هارنغتون.. بالإنكليزية طبعا. أجابني بلؤم واضح: قل سيدي.. شعرت أنه يقصد إهانتي عن عمد، رفضت وخرجت من مكتبه.. بعد ثلاثة ايام صدر أمر اعتقالي، وقبل أن أرسل مخفورا الى معتقل الصرفند.. أدخلني الميجر هارنغتون الى مكتبه وقال ان المستر كوبلاند رئيس المحكمة المركزية حدثه بأمري، وأنه على استعداد لتخفيف أمر اعتقالي إذا قلت له.. سيدي.. لم أفعل.. ومضيت مع الجنود الى المعتقل.. عند دخولي المعتقل، وتسجيل اسمي في قيوده الرسمية، انتشر خبر وجودي بالمعتقل بين جميع المعتقلين الذين كنت أرافع عن اكثرهم امام المحاكم الانكليزية.. فحملوني على الأكتاف، وداروا عدة دورات في الساحة يهتفون ويرددون شعارات النصر لفلسطين قبل ان أدخل معهم القاووش الجماعي الكبير المبني من الخشب، وألواح التنك. رأيت بين المعتقلين، الحاج سعيد المدهون والدكتور خليل أبو العافية وخليل أبو الهدى وعبد الرحمن بامية ورباح أبو خضرة وجودت حبيب وجودت بيبي وجودت الهباب وميشيل متري.. وغيرهم. كان يسمح لنا بالخروج لقضاء حاجاتنا الضرورية، ساعة واحدة في اليوم. وقد ضم المعتقل 16 (قاووشا) بين الواحد والآخر طريق يفصل بينهما، وشريط شائك إضافة للشريط الرئيسي المحيط بالمعتقل.. وأمامنا على مسافة بعيدة، قسم آخر من المعتقل، علما انه يحتجز فيه رؤساء الأحزاب وغيرهم ايضا.. عوني عبد الهادي وحسن صدقي الدجاني والاستاذ المظفر.. استطعنا ان نبتكر طريقة للاتصال مع بعضنا بواسطة التحدث عبر <<جرة>> من الفخار نكسر قعرها ونستعملها كالبوق وكانت تفي بالغرض، ونتبادل من خلالها صباحا ومساء الأخبار. وكان بيننا ايضا بعض الأحداث الصغار. في 13/8/1936 علمنا ان المندوب السامي البريطاني سيقوم بزيارة للمعتقل، فاتفقنا في ما بيننا على أمر وقع الاختيار عليّ لتنفيذه.. جمعنا في الساحة الرئيسية لاستقبال (فخامته)، وفور دخوله ورؤيته لنا حاول رفع يده للتحية، وفي اللحظة نفسها رفعني بعض الرفاق على أكتافهم. هتفت بصوت مرتفع وجهوري: يسقط المندوب السامي.. وردد الجميع ورائي يسقط ثلاث مرات.. بدت مظاهر الغضب على وجهه الأحمر، ولم يكمل رفع يده، وعاد أدراجه على الفور، وقد أوجب تصرفنا هذا حرماننا لوقت طويل من ساعة الفسحة اليومية.. بعد خروج من المعتقل مع استمرار ضرورة إثبات تواجدي أمام الميجر هارنغتون كنت أكثر حرصا وقصدا على ان لا أقول له سيدي.. وعلى إثر ذلك أخبر حرس مكتبه الخاص برفض مقابلتي تحت اي ظرف، وأحالني إلى ضابط آخر لإثبات تواجدي عنده.. يتابع والدي فيقول: في صباح يوم من أيام شهر ايلول 1938 وبينما كنا في اجتماع عادي أنا والمحامي إبراهيم نجم والمحامي أمين عقل في مكتب الأخير، نتدارس أمر ترتيبات الثورة في يافا، بعد ان تم تكليفنا من قبل اللجنة القومية، وما ان غادرنا المكتب، توجهت الى مكتبي وطلبت من الكاتب الموظف عندي <<كامل الدجاني>> وهو من قرية بيت دجن ان يغلق المكتب تمشيا مع واقع الثورة العامة في جميع أنحاء فلسطين. ثم قصدت العودة الى بيتي، وأثناء مروري بجانب دكان رستم ابو غزالة أخبرني ان البوليس ألقى القبض على زميلي أمين عقل، وأنهم في طريقهم الى مكتب ابراهيم نجم ومكتبي، وحركة الاعتقالات مسعورة وعلى قدم وساق. ركبت الباص الى بيتي، حزمت أمتعة قليلة بسرعة وركبت سيارتي وانطلقت الى عكا، وهناك طلبت من أخي زكي السفر الى يافا وإحضار زوجتي والأولاد الى عكا، وواصلت سفري الى رأس الناقورة نقطة المخفر الانكليزي، ثم نقطة المخفر الفرنسي.. وكانت سعادتي عظيمة ان أمر منع مغادرتي البلاد لم يصل بعد الى نقاط الحدود.. وصلت الى بيروت وقضيت فيها عدة ايام بزيارة الأصحاب، ثم الى دمشق، حي الميدان، للإقامة بحماية صديقي الشيخ محمد الأشمر.. <<انتهى>>. أقمنا بعد رحيلنا الأخير من الزبداني في حي الميدان بدمشق، الحي الذي ما زال الماضي المعتق ينضح فيه.. ينبض ويعيش بتفاصيله، صريحا بملابس الرجال، وواجهات الحوانيت.. تحت إبط الباعة الجوالين وأصحاب الدكاكين والخانات، في المساجد وأمسيات الفرح والعزاء، على أسلاك القطار الكهربائي (الترامواي) الذي ينطلق من بوابة الميدان وحتى ساحة المرجة ويحمل يوميا فايزة الى مدرسة الثانوية الأهلية التي قبلتها طالبة للاستعداد الى صف الشهادة الثانوية، وغازي المنتسب الى الصف التاسع (شهادة البروفيه) مع غسان في مدرسة الكلية العلمية الوطنية. تمكنت والدتي في ذلك الوقت من استعارة ماكينة خياطة يدوية من السيدة أم ابراهيم إحدى جاراتنا، والعمل عليها بخياطة القمصان لصالح أصحاب محلات بيع الألبسة في السوق بأجرة 30 قرشا عن القميص الواحد.. وقد حقق ذلك مبالغ متواضعة ساهمت بفاعلية بأجور المواصلات ومتطلبات المدارس القليلة. بينما انتسب مروان الى مدرسة خالد بن الوليد طالباً في الصف الخامس، وأنا في مدرسة أسامة بن زيد طالبا في الصف الثاني، وكلتا المدرستين في حي الميدان، مما يعني أننا لن نستهلك نقودا في الذهاب أو الإياب. أقول <<بكثير من التحفظ>> ان منهج حياتنا الجديدة بدأ يستقر على واقع الحال، فقد باشر والدي عمله في سوق الهال، اضافة الى متابعته المتواصلة لدى السلطات والمسؤولين للسماح له بممارسة المحاماة.. كما استطاع غازي بواسطة احد أعمامي العمل (بالواردية الليلة) في معمل الزجاج القريب من المدينة، اضافة إلى مواصلة دراسته النهارية، بجانب عمل أمي في الخياطة، مما حقق إيرادا منتظما ومعقولا لتأمين القدرة على مواصلة العيش. ورغم ذلك واعتمادا عليه فقد كان والدي يقسم الخبز بالتساوي بيننا، ويحدد حجم قطعة الجبن مثلا لواحدنا، ويفرض علينا بعد ذلك أكلها بلا زيادة ولا نقصان، وهذا الشكل من التنظيم الغذائي شمل مختلف أنواع الأطعمة، وفي كل المناسبات.. ولست أنسى كيف كانت دموع غسان <<الذي لم يكن يحب البامية على الاطلاق، رغم أشكال الإغراء>> تتساقط فوق صحن الطعام وهو مكره على أكل ما فيه بالكامل. كنا في ذلك الوقت نعيش مع عمتي وأسرتها الكبيرة في بيت واحد، في الوقت الذي كانت فيه أعمار أولادها متقاربة مع أعمارنا، ولك ان تتصور حجم المشكلات الممكن حدوثها رغم بساطتها وتفاهتها على الغالب إلا أنها تتراكم وتخلق عند الكبار مشاعر متفاوتة بين المهانة والاستعلاء، فهم يردون أي شيء الى واقع الفقر النسبي. وهذا لا يعني أن زوج عمتي أحسن حالا، كان فقيرا هو الآخر، الفارق أنه كان قادرا بكثير من اللامبالاة ان يأتي كل مساء الى بيته في عربة حنطور، وبثياب على قدر من الأناقة، على واقع كونه موظفا في مؤسسة اللاجئين ومسؤولا عن توزيع المعونات بأشكالها المختلفة على اللاجئين. كان حريصا على شكل المظاهر البراقة والتافهة كما يسميها والدي .. بينما تعاني أسرته من الضنك ما تعاني. تنتشلني حفيدتي من جديد، تترغل بكلمات متقطعة متلعثمة لا أفهمها، كزقزقة الحسون الذي أفلت من قفصه، وراح يصدح بفرح على غصن أقرب شجرة بلحن حر جميل.. وهو يدرك.. ربما يدرك؟.. انه ميت لا محالة بعد حين، إذ كيف يستطيع ان يتعلم العيش معتمدا على نفسه، وقد ولد في قفص وتربى فيه طيلة حياته!.. يا صغيرتي.. أعرف أنك لا تدركين!.. كنا نتسابق نحن الأربعة أمام أبي.. يأخذنا الى الحلاق في آخر الشارع المستقيم الضيق الذي يكاد يتسع (للترامواي) ذهابا وإيابا والعدد القليل من السيارات والكثير من عربات الحنطور وعربات النقل المختلفة التي تجرها البغال او الحمير، وزحمة الباعة. هذا الطريق المنتهي (ببوابة الله) وقبل ان نصل بأمتار قليلة الى صالون الحلاقة، ندخل في زقاق ضيق ونسير دورة كبيرة لنعود من الطرف البعيد الى الشارع المستقيم نفسه، وهكذا في طريق العودة دون ان نجد لذلك تفسيرا. كنا نعلم أننا لو نسلك استقامة الطريق، نختصر المسافة.. ورغم ذلك لم نجرؤ على مخالفة والدي وإصراره على ان ندخل الزقاق وندور دورتنا الطويلة كل مرة لنتجاوز ما لا يزيد عن عشرة أمتار ليس أكثر. اكتشفنا ايضا في ما بعد ان مضافة الشيخ <<محمد الأشمر>> تقوم بين مسافة الأمتار العشرة هذه. كان والدي يهرّب بسيارته الخاصة عن طريق لبنان بعض أنواع من السلاح والذخيرة المطلوبة والضرورية للثوار السوريين إبان كفاحهم ضد المستعمر الفرنسي ويسلمهم شخصيا للمجاهد الأشمر، ويحمل في طريق العودة من طريق لبنان ايضا أصناف سلاح اخرى للثوار الفلسطينيين.. وغالبا ما كانت ترافقه فتاة صبيّة متطوعة من الثوار لا على التعيين، ليبدو الأمر كأنه رحلة حب لعاشقين، زيادة في التمويه. في صباح يوم ماطر، وبينما كان والدي في السوق القريب، وأمام أحد حوانيت بيع الخضار يشتري لوازم للبيت، لفتت انتباهه حركة وجلبة، سمع أحدهم يقول: الشيخ! وقبل ان يتوارى، وجد نفسه وجها لوجه أمام الشيخ محمد الأشمر.. تعانقا طويلا، وذرفا الكثير من الدموع.. وتبادلا الكثير من الكلام، سمعت الشيخ يقول: حري بغيرك ان يخجل! في مساء ذلك اليوم، وقفت أمام بيتنا عربة طويلة يجرها حصان قوي، أفرغت حمولتها من السكر والرز والصابون والسمن والطحين واللبن وبعض الملابس، على عتبة بيتنا.. قال صاحب العربة: هدية من الشيخ محمد الأشمر! يا صغيرتي.. عندما تكبرين.. ربما تجدين جوابا.. لماذا يبتسم غسان وهو ميت؟. لمست شعرها الناعم، كانت نائمة كالملائكة.. وفي أفق عينيها المسدلتين شبح ابتسامة.. عدنان كنفاني |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#15 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() غدا نكمـــل معا مكتبة الشهيد الأديب الفلسطيني والمفكر // غساان كنفاني
|
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#16 | ||||
قوة السمعة: 32
![]() ![]() ![]() |
![]() ما طرحت يستفز للرد يا عزيزي !
غسان الأديب و المناضل و القائد ،، غسان المناضل دائما ما يحرضنا علي قرع جدران الخزان . غسان الأديب أوصانا بين الفينة و الأخري أن نقرأ عائد إلي حيفا حتي لا ننسي غسان و أرض البرتقال الحزين .. غسان و القميص المسروق ، و أم سعد غسان و المخيم ..غسان هو فلسطين و فلسطين نحن :) ، لي عودة أكيدة يا بطل :) |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#17 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]()
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة وَطنْ~♥ غســـان حمل وطــن والأجمل ان الوطن فلسطين بانتظار طرحــك وبصماتك يا ناجــي ![]() |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#18 | ||||
قوة السمعة: 0
![]() |
![]() رجال في الشمس قصة كتير راآئعة
رحمه الله الى الامام اخي الكريم |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#19 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() ما كُتِب عن غسان كنفاني
ماذا كتبت مجلــه الهدف الذي أسسها الأديب غســان كنفاني غسان كنفاني الرجل والقضية لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟ وفجأة بدأت الصحراء كلها ترد الصدى: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ أبو الخيزران <<رجال في الشمس>> غسان كنفاني (لمحات من سيرة غسان مقتبسة من موقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) تصادف يوم الاثنين 8 تموز (يوليو) 2002، الذكرى الثلاثون لاغتيال غسان كنفاني، الأديب المناضل، السياسي الباحث، الصحافي الرسام، الذي جمع في شخصه مواصفات عديدة وشكل ظاهرة مضيئة في سيرورة الثقافة الفلسطينية لدى بحثها الدائب عن مكانها تحت الشمس. لهذه الذكرى نخصص ملفا ثقافيا يتناول بعض الجوانب التي تشف عنها هذه التجربة المتميزة لذاتها، ولنا جميعا الجوانب نفسها التي جعلتها تجربة يتواصل إشعاعها ليشكل مصدر إلهام للأجيال اللاحقة. سيرة ذاتية ولد غسان كنفاني في مدينة عكا سنة 1936، نزح مع عائلته الى دمشق في 1948، وعاش عيشة قاسية، لكنه أقبل على الدراسة ليلا حتى نال الشهادة الثانوية وعمل مدرسا للتربية الفنية في مدارس وكالة الغوث في دمشق. في 1956 سافر الى الكويت حيث عمل مدرسا للرياضة والرسم، وأثناء العمل انتسب الى كلية الآداب في جامعة دمشق وأعد دراسة لنيل الشهادة الجامعة عن <<العرق والدين في الأدب الصهيوني>>. في 1960 غادر الكويت الى بيروت ليعمل محررا في جريدة <<الحرية>>، كما عمل في جريدة <<الأنوار>> ومجلة <<الحوادث>>، ورئيسا لتحرير <<المحرر>>. في 1969 أسس جريدة <<الهدف>> الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبقي رئيسا لتحريرها حتى استشهاده. اغتالته المخابرات الإسرائيلية في 8 تموز (يوليو) 1972 بتفجير سيارته أمام منزله في الحازمية بيروت، واستشهدت معه ابنة شقيقته لميس حسين نجم (17 عاما). نال في 1966 جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن روايته <<ما تبقى لكم>>. نال اسمه جائزة منظمة الصحافيين العالمية في 1974 وجائزة اللوتس في 1975. منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في 1990. من أعماله: روايات: رجال في الشمس بيروت، 1963. ما تبقى لكم بيروت، 1966. أم سعد بيروت، 1970. عائد الى حيفا بيروت 1970. الشيء الآخر صدرت بعد استشهاده، بيروت 1980. العاشق، الأعمى والأطرش، برقوق نيسان (روايات غير كاملة نشرت في مجلد أعماله الكاملة). مجموعات قصصية: موت سرير رقم 12 بيروت، 1961. أرض البرتقال الحزين بيروت، 1963. عن الرجال والبنادق بيروت، 1968. عالم ليس لنا بيروت، 1970. الدراسات: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 1966 بيروت، 1966. الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال بيروت، 1968. في الأدب الصهيوني بيروت، 1967. ثورة 36 49 في فلسطين، خلفيات وتفاصيل وتحليل. مسرح: الباب ومسرحيات أخرى بيروت، 1964. ظهرت أعماله الكاملة في أربعة مجلدات تشمل: الروايات، القصص القصيرة، المسرح، الدراسات. لمحات عن سيرة غسان كنفاني نشأته وحياته والده: خرج أبوه من أسرة عادية من أسر عكا وكان الأكبر لعدد غير قليل من الأشقاء، وبما أن والده لم يكن مقتنعا بجدوى الدراسات العليا فقد أراد لابنه أن يكون تاجرا أو كاتبا أو متعاطيا لأي مهنة عادية، ولكن طموح الابن أبى عليه إلا أن يتابع دراسته العالية فالتحق بمعهد الحقوق بالقدس في ظروف غير عادية، صفر اليدين من النقود وحتى من التشجيع، فما كان عليه إلا أن يتكل على جهده الشخصي لتأمين حياته ودراسته، فكان تارة ينسخ المحاضرات لزملائه وتارة يبيع الزيت الذي يرسله له والده ويشتري بدل ذلك بعض الكاز والمأكل ويشارك بعض الأسر في مسكنها، الى أن تخرج محامياً، وعاد الى عكا ليتزوج ابنة أسرة ميسورة ومعروفة ويشد رحاله للعمل في مدينة يافا حيث مجال العمل أرحب، وليبني مستقبله هناك. وكافح هناك وزوجته الى جانبه تشد أزره وتشاركه في السراء والضراء ونجح، وكان يترافع في قضايا معظمها وطنية خاصة أثناء ثورات فلسطين، واعتقل مرارا، كانت إحداها بإيعاز من الوكالة اليهودية. وكان من عادة هذا الشاب تدوين مذكراته يوما بيوم وكانت هذه هي أعز ما يحتفظ به من متاع الحياة، وينقلها معه حيثما حل أو ارتحل، وكثيرا ما كان يعود إليها ليقرأ لنا بعضها ونحن نستمتع بالاستماع الى ذكريات كفاحه، فقد كان فريدا بين أبناء جيله، وكان الرجل العصامي ذو الآراء المتميزة مثلا لنا يحتذى. هذا هو والد غسان كنفاني الذي له بدون شك أثر كبير في حياة ثالث أبنائه غسان. غسان الطفل: هو الوحيد بين أشقائه ولد في عكا، فقد كان من عادة أسرته قضاء فترات الإجازة والأعياد في عكا، ويروى عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل الى سريرها قبل أن تضع وليدها، وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك، وحدث هذا في التاسع من نيسان عام 1936. كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير بيافا، ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات، فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب، وقد شهد أول حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التي بدأت هناك اثر قرار تقسيم فلسطين، لذلك فقد حمل الوالد زوجته وأبناءه وأتى بهم الى عكا وعاد هو الى يافا. أقامت العائلة هناك من تشرين عام 47 الى أن كانت إحدى ليالي أواخر نيسان 1948 حين جرى الهجوم الأول على مدينة عكا. بقي المهاجرون خارج عكا على تل الفخار (تل نابليون) وخرج المناضلون يدافعون عن مدينتهم ووقف رجال الأسرة أمام بيت جدنا الواقع في أطراف البلد وكل يحمل ما تيسر له من سلاح وذلك للدفاع عن النساء والأطفال إذا اقتضى الأمر. وكانت تتردد على الأفواه قصص مجازر دير ياسين ويافا وحيفا التي لجأ أهلها الى عكا وكانت الصور ما تزال ماثلة في الأذهان. في هذا الجو كان غسان يجلس هادئا كعادته ليستمع ويراقب ما يجري. استمرت الاشتباكات منذ المساء حتى الفجر، وفي الصباح كانت معظم الأسر تغادر المدينة وكانت أسرة غسان ممن تيسر لهم المغادرة مع عديد من الأسر في سيارة شحن الى لبنان، فوصلوا الى صيدا، وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتا قديما في بلدة الغازية قرب صيدا في أقصى البلدة على سفح الجبل، استمرت العائلة في ذلك المنزل أربعين يوما في ظروف قاسية إذ إن والدهم لم يحمل معه إلا النزر اليسير من النقود فقد كان أنفقها في بناء منزل في عكا وآخر في حي العجمي بيافا، وهذا البناء لم يكن قد انتهى العمل فيه حين اضطروا للرحيل. من الغازية انتقلوا بالقطار مع آخرين الى حلب ثم الى الزبداني ثم الى دمشق حيث استقر بهم المقام في منزل قديم من منازل دمشق، وبدأت هناك مرحلة أخرى قاسية من مراحل حياة الأسرة. غسان في طفولته كان يلفت النظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه ولكن كان الجميع يكتشف دائما أنه مشترك في مشاكلهم ومهيّأ لها دون أن يبدو عليه ذلك. غسان اليافع: في دمشق شارك أسرته حياتها الصعبة، أبوه المحامي عمل أعمالا بدائية بسيطة، أخته عملت بالتدريس، هو وأخوه صنعا أكياس الورق، ثم عمالا، ثم قاموا بكتابة الاستدعاءات أمام أبواب المحاكم وفي الوقت نفسه كان غسان يتابع دروسه الابتدائية. بعدها تحسنت أحوال الأسرة وافتتح أبوه مكتبا لممارسة المحاماة فأخذ هو الى جانب دراسته يعمل في تصحيح البروفات في بعض الصحف وأحيانا التحرير، واشترك في برنامج فلسطين في الإذاعة السورية وبرنامج الطلبة، وكان يكتب بعض الشعر والمسرحيات والمقطوعات الوجدانية. وكانت تشجعه على ذلك وتأخذ بيده شقيقته فايزة التي كان لها في هذه الفترة تأثير كبير على حياته. وأثناء دراسته الثانوية برز تفوقه في الأدب العربي والرسم، وعندما أنهى الثانوية عمل في التدريس في مدارس اللاجئين، وبالذات في مدرسة الإليانس بدمشق، والتحق بجامعة دمشق لدراسة الأدب العربي وأسند إليه آنذاك تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي وكان معظم ما عرض فيه من جهد غسان الشخصي. وذلك بالإضافة الى معارض الرسم الأخرى التي أشرف عليها. وفي هذا الوقت كان قد انخرط في حركة القوميين العرب، وما يذكر أنه كان يضطر أحيانا للبقاء لساعات متأخرة من الليل خارج منزله مما كان يسبب له إحراجا مع والده الذي كان يحرص على إنهائه لدروسه الجامعية، وهو كان يحاول جهده للتوفيق بين عمله وإخلاصه لرغبة والده. في أواخر عام 1955 التحق للتدريس في المعارف الكويتية وكانت شقيقته قد سبقته في ذلك بسنوات وكذلك شقيقه، وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التي رافقت إقباله الشديد، الذي يبدو غير معقول، على القراءة، وهي التي شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة، فكان يقرأ بنهم لا يصدق، كان يقول إنه لا يذكر يوما نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستمئة صفحة، وكان يقرأ ويستوعب بطريقة مدهشة. وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسيا بتوقيع <<أبو العز>> لفت إليه الأنظار بشكل كبير خاصة بعد أن زار العراق بعد الثورة العراقية عام 58 على عكس ما نشر بأنه عمل في العراق. في الكويت كتب أيضا أولى قصصه القصيرة <<القميص المسروق>> التي نال عنها الجائزة الأولى في مسابقة أدبية. ظهرت عليه بوادر مرض السكري في الكويت أيضا، وكانت شقيقته قد أصيبت به من قبل وفي نفس السن المبكرة، مما زاده ارتباطا بها وبالتالي بابنتها الشهيدة لميس نجم التي ولدت في كانون الثاني عام 1955. فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها وكانت هي شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية، وتفاخر بها أمام رفيقاتها، ولم يتأخر غسان عن ذلك إلا في السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله. عام 1960 حضر غسان الى بيروت للعمل في مجلة <<الحرية>> كما هو معروف. غسان الزوج: بيروت كانت المجال الأرحب لعمل غسان وفرصته لالتقاء التيارات الأدبية والفكرية والسياسية. بدأ عمله في مجلة <<الحرية>> ثم أخذ بالإضافة الى ذلك يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة <<المحرر>> البيروتية التي كانت ما تزال تصدر أسبوعية، صباح كل اثنين، لفت نشاطه ومقالاته الأنظار إليه كصحافي ومفكر وعامل جاد ونشيط للقضية الفلسطينية فكان مرجعا لكثير من المهتمين. عام 1961 كان يعقد في يوغوسلافيا مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين وكذلك كان هناك وفد دنماركي، كانت بين أعضاء الوفد الدنماركي فتاة متخصصة بتدريس الأطفال، قابلت هذه الفتاة الوفد الفلسطيني ولأول مرة سمعت عن القضية الفلسطينية. واهتمت الفتاة اثر ذلك بالقضية ورغبت في الاطلاع عن كثب على المشكلة، فشدت رحالها الى البلاد العربية مرورا بدمشق، ثم الى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية، وقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات، وكانت هي شديدة التأثر بحماسة غسان للقضية وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب، ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج، وقام بتعريفها على عائلته، كما قامت هي بالكتابة الى أهلها، وقد تم زواجهما بتاريخ 19/10/1961 ورزقا بفايز في 24/8/1962 وبليلى في 12/11/1966. بعد أن تزوج غسان انتظمت حياته وخاصة الصحية، إذ كثيرا ما كان مرضه يسبب له مضاعفات عديدة لعدم انتظام مواعيد طعامه. عندما تزوج غسان كان يسكن في شارع الحمراء ثم انتقل الى حي المزرعة، ثم الى مار تقلا حيث أقام أربع سنوات، وحين طلب منه المالك إخلاء شقته قام صهره بشراء شقته الحالية وقدمها له بإيجار معقول. وفي بيروت أصيب من مضاعفات السكري بالنقرس وهو مرض بالمفاصل يسبب آلاما مبرحة تقعد المريض أياما، ولكن كل ذلك لم يستطع يوما أن يتحكم في نشاطه أو قدرته على العمل، فقد كان طاقة لا توصف وكان يستغل كل لحظة من وقته دون كلل. ورغم انهماكه في عمله وخاصة في الفترة الأخيرة إلا أن حق بيته وأولاده عليه كان مقدسا. كانت ساعات وجوده بين زوجته وأولاده من أسعد لحظات عمره، وكان يقضي أيام عطلته إذا تسنى له ذلك يعمل في حديقة منزله ويضفي عليها وعلى منزله من ذوق الفنان ما يلفت النظر رغم تواضع قيمة موجوداته. غسان القضية: أدب غسان وإنتاجه الأدبي كان متفاعلا دائما مع حياته وحياة الناس وفي كل ما كتب كان يصور واقعا عاشه أو تأثر به. <<عائد الى حيفا>> وصف فيها رحلة مواطني حيفا في انتقالهم الى عكا وقد وعى وكان ما يزال طفلا يجلس ويراقب ويستمع، ثم تركزت هذه الأحداث في مخيلته فيما بعد من تواتر الرواية. <<أرض البرتقال الحزين>> تحكي قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية. <<موت سرير رقم 12>> استوحاها من مكوثه بالمستشفى بسبب المرض. <<رجال في الشمس>> من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت، واثر عودته الى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هي تلك الصورة الظاهرية للأحداث، أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصوّر ضياع الفلسطينيين في تلك الحقبة وتحول قضيتهم الى قضية لقمة العيش مثبتا أنهم قد ضلوا الطريق. من قصته <<ما تبقى لكم>> التي تعتبر مكملة <<لرجال في الشمس>> يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين، وكان ذلك تبشيرا بالعمل الفدائي. قصص <<أم سعد>> وقصصه الأخرى كانت كلها مستوحاة من ناس حقيقيين، في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة 36 في فلسطين، فأخذ يجتمع الى ناس المخيمات ويستمع الى ذكرياتهم عن تلك الحقبة والتي سبقتها والتي تلتها، هذه الدراسة (نشرت في مجلة شؤون فلسطين، ثم أصدرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في كراس خاص)، أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل بل اكتملت منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه <<عن الرجال والبنادق>>. كانت لغسان عين الفنان النفاذة وحسه الشفاف المرهف، فقد كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة فكرة مكتملة لقصة رائعة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر في كاراج البناية التي يسكنها وكان ينوي تسميتها <<الرجل والصخر>>. |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
#20 | ||||
قوة السمعة: 452
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() جماليات السلاح لدى غسان كنفاني بعد هزيمة حزيران بدأ إبداع كنفاني أكثر التصاقاً بهمّ الثورة الفلسطينية، وبأهم تجلياتها: الإنسان والسلاح، وحين نتأمل رواية <<أم سعد>> نلاحظ حضور أوجاع المخيم الى جانب السلاح في معظم فصولها، إذ بات يستخدم لغة جديدة تبدع وتجسد امتزاج الإنسان بالسلاح بصورة فريدة! يصف لنا نظرة (أم سعد) المرأة البسيطة التي بدأت تعيش وعي الثورة <<ونظرت إليّ مباشرة: ذلك الرمح الذي تسدده في لحظات النبوءة بسرعة الرصاصة وتصويب الحقيقة>>. عرفت أم سعد الطريق الصحيح لفلسطين، لذلك استحقت هذا الوصف الموحي لنظرتها، الذي يجمع بين النبوءة والحقيقة والسلاح، إنها نظرة المرأة التي بدأت تدرك حقائق الثورة التي تجمع التضحية والسلاح! لذلك قدم لنا لوحة تشكيلية لنظرتها مستمدة من الرمح الذي ينطلق ليحقق نبوءة جديدة، والرصاصة التي تنطلق بسرعة في طريقها دون أن تهتم بالمعوقات، ودقة تصويب البندقية نحو الهدف (الحقيقة) تتحول هذه الأسلحة الى معادل جمالي لنظرة الإنسان الصائبة! تتحلى مثل هذه المرأة بعقد مبتكر يتناسب والزمن الجديد الذي بدأ يلوح أفقه، إن ذلك العقد هو رصاصة نسيها ابنها الفدائي، ونجدها تدعوه ب(الحجاب) بعد أن تخلت عن ذلك الحجاب الذي كتبه لها الشيخ، ولم ينفعها في شيء! وبذلك تتحول إحدى أدوات الثورة (الرصاصة) الى قوة روحية وجمالية، لن يستغني عنها الفلسطيني سواء أكان امرأة أم رجلاً في الحياة الجديدة! إن المعاناة التي عاشتها المرأة في المخيم أسهمت في تطور وعيها، فباتت تؤمن بأهمية السلاح في إنقاذ الإنسان والوطن معاً! وقد سبقها الى ذلك الجيل الجديد الذي حمل السلاح وبدأ يواجه الصهاينة، لهذا وجدنا (أم سعد) تتبنى وجهة نظر ابنها (سعد) في ضرورة الثورة، وصارت ترى الإنسان الفلسطيني، الذي لا يحمل سلاحاً، ويرضى بحياة الذل يعيش في سجن، سواء أكان ذلك في المخيم أم في البيت! ولن يستطيع أن يعرف معنى الكرامة والحرية إلا إذا غيّر حياة الذل التي استمرت مدة عشرين عاماً (كتب رواية <<أم سعد>> 1969 أي بعد عشرين سنة من النكبة) لهذا تقول (أم سعد): <<أعمارنا حبس، العشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس..>>. إن الحياة الذليلة التي يعيشها الفلسطيني في المخيم سجن لن يخرج منه إلا من التمس طريقاً إلى السلاح ليعود إلى فلسطين! فيتحول السلاح عند كنفاني الى معادل جمالي للحياة الحرة! وهي تصف أهمية البندقية (البارودة) بلغة الفلاحين وأمثالهم الشعبية: <<البارودة مثل الحصبة، تعدي، وعندنا بالفلح كانوا يقولون إن الحصبة إذا أصابت الولد فهذا يعني أنه بدأ يعيش، وأنه صار مضمونا..>> (1). المرأة البسيطة لا تجد طريقة للتعبير عن انتشار السلاح في المخيم سوى تجاربها اليومية، لذلك كانت البندقية لديها تصيب بالعدوى شباب المخيم كمرض الحصبة، وكي ينفي الكاتب التداعيات السلبية للحصبة، يبرز أهمية هذا المرض معتمداً على الحكمة الشعبية، إذ يمنح الإنسان القدرة على مواصلة الحياة ويكسبه مناعة، تضمن له الاستمرار في العيش دون أمراض! عندئذ يطمئن قلب الأم على أولادها الذين يحملون السلاح، لأنهم بدأوا يعيشون الحياة الحقيقية محصنين من الضعف كما حصنتهم الحصبة من المرض! يرتبط حضور السلاح لدى كنفاني بالإنسان البسيط وخاصة الفلاح، لذلك وجدنا مفرداته وأعماله في الحقل تشكل جزءاً من جماليات العلاقة بين الإنسان والسلاح! فحين يعيد منصور البندقية إلى خاله الفلاح (أبي الحسن) نجده يحملها بشيء من الحنين يشوبه القلق على سلامتها، يتفقدها كأنها إنسان عزيز عليه، وهو لا يكتفي بذلك بل يعاملها <<كما تعامل أشجار حقله الصغير، يقصقص عروقها ويسلخ فروعها عنها ليطعم فيها فروعاً أخرى، ويرفعها ويشذبها ويملأ نواقصها حتى تعود كتلة واحدة من جديد>>(2). يرى كنفاني أن أكثر الناس نضالاً ضد الصهاينة والإنكليز، قبل النكبة، هو الفلاح الفلسطيني، لذلك أصبحت البندقية جزءاً من كيانه، ومصدراً لحياته، نجده يعتني بها، كما يعتني بأشجاره، يدهشنا في هذا التصوير تلك النظرة الفريدة للبندقية التي تنطلق من عالم الفلاح الذي يتعامل معها كما يتعامل مع مصدر عيشه (أشجار الزيتون) وهذا ليس مستغرباً على الفلاح الذي صار يجد فيها مصدراً لكرامته! كما تلفت نظرنا تلك الصور البسيطة التي تبدعها مخيلة كنفاني التي تستمد عناصرها من مفردات حياة الفلاحين اليومية، فرائحة الرشاش حين يسقى بماء المطر تذكر الفدائي (سعد) برائحة الخبز وقد خرج لتوه من الفرن، تبتكر لنا مخيلة المبدع صورة مؤثرة للسلاح، إذ يتحول، لدى الفلاح (الفدائي) الذي يحمله الي معادل لرغيف الخبز لا يمكن الاستغناء عنه! وما شكل جماليات هذه الصورة أيضاً أنها اعتمدت على حاسة البصر (الرغيف الشهي) وحاسة الشم (وقد خرج لتوه من الفرن) وهي تلبي حاجة أساسية لدى الإنسان (الجوع)، وبذلك يلبي السلاح لدى الفلسطيني حاجة أساسية تعادل الحاجة للطعام هي الحاجة الى الكرامة! فيمتزج لديه ما هو حياتي بما هو جمالي، ليصنع إبداعاً متميزاً! لعل أنسنة السلاح من أبرز الجماليات التي جسد عبرها كنفاني العلاقة بين الفلسطيني وسلاحه، إذ لم تعد البندقية أداة جامدة بيد الفلاح، بل إنسانا صديقا يحاوره <<أنت مرتينة طيبة، وتصويبك لا يخطئ.. المهم في الأمر أنك أمينة، فأنت لا تخرجين رصاصك إلا من مكان واحد>>(3). يحيط منصور البندقية بجملة أوصاف تلتصق بالإنسان عادة (الطيبة، الدقة في التصويب، الأمانة..) فهي ليست آلة للقتل وإنما إنسان صديق يؤنس (منصور) في وحشته أثناء سيره في الطريق الوعر الى قلعة جدين، كما يمد يد العون في ساعة الخطر، فيصيب العدو وينقذ صديقه (الأستاذ معروف) وهي أمينة لا تخون صاحبها! لعل أنسنة السلاح تبلغ أقصى جمالية ممكنة في هذه الصورة، حين يتحول عضو من أعضاء الإنسان الى أداة من أدوات المدفع، كما حصل لسعيد الحمضوني حين وضع يده في ماسورة المدفع ليصلحه فيصبح قادراً على العمل بعد أن تعطل أثناء قتال الصهاينة! لذلك لن نستغرب أن يربط <<الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني المربع، ولم تعد تجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن (قرية سلمة) بأن أصبح الآن ضرورة مكملة.. بل أساسية للمدفع، وعندما تحدث الناس عن سعيد كانوا يشعرون أنه أداة من أدوات المدفع المعقدة>>(4). تبدو عناصر الصورة شكلية تجسد تلاحماً خارجياً بين الإنسان والمدفع! ما إن ينظر الناس في وجه سعيد المربع حتى يذكرهم بالمدفع! كما نجد تلاحماً عضوياً آخر بينه وبين المدفع أقرب الى التلاحم الداخلي، فقد أصبح الإنسان جزءاً أساسياً من أجزاء المدفع، وبذلك يتوحد الإنسان بالسلاح توحداً فريداً من نوعه! نستطيع القول إن كنفاني جسّد لنا الروح الفلسطينية في لحظة همودها، إثر النكبة، وهي تبحث عن ذاتها وعن السلاح! وفي لحظة تألقها وهي تثبت ذاتها ممسكة به! لذلك ختم القسم الأول من مجموعة <<عن الرجال والبنادق>> (التي كتبها مع بزوغ الثورة الفلسطينية 1965) بهذه الخاتمة الموحية التي تجسّد لحظة استشهاد والد منصور <<في ذلك الخلاء المبتل كان منصور يقف عاجزاً وهو يرى أباه يموت رويداً رويداً دون حركة واحدة، إلا ذلك النبض العميق الذي كان يرجفه، فتبدو عروقه كأسلاك مشدودة تخرج من كفه وتتوزع في بدن البندقية أيضاً، وأخيراً انتفضوا جميعاً معاً: الشجرة والرجل والمرتينة، ومن وراء غبش المطر الغاضب، ودموعه، خيل لمنصور أنهم ليسوا سوى جثة هامدة>>(5). يقدم لنا كنفاني عبر هذا المشهد عدة دلالات موحية، فالدم الذي ينزفه الشهيد يغذي جسد البندقية، ليمدها بالحياة، وتتوحد مع الشهيد، فتنتفض في صحوة الموت معه، بعد أن امتزجت بدمه! ويدخل الكاتب الى عنصري الصورة (الشهيد والسلاح) عنصراً هاماً يتوحد بهما هو الأرض الفلسطينية، التي اختزلها الكاتب بأحد رموزها الأساسية (الشجرة) لذلك نجد الصحوة تجمع الفلسطيني والسلاح والأرض كما تجمعهم لحظة الموت! فلا حياة للفلسطيني بعيداً عن الأرض والسلاح! كما لا حياة لهما بعيداً عن الشهيد! هكذا أرّخ لنا كنفاني للإنسان الفلسطيني، وهو يسطّر أنصع صفحات حياته، وهو يحمل سلاحه، فيحقق توحداً رائعاً مع فلسطين! د. ماجدة حمود |
||||
![]() |
|||||
اقتباس المشاركة |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
غساان كنفاني |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|