المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة حياة البطل الشهيد / يحيى عياش - ( كتاب )


السيف عدي
07-03-2008, 08:41 AM
http://files.shabab.ps/vb/images_cash/up6/080703204704dTn6.jpg





كتـــاب: " المهنــــــدس "


الشهيد يحيى عياش رمز الجهاد

وقائد المقاومة في فلسطين

تأليف : غسان دوعر

صدر عن المركز الفلسطيني للاعلام.

-------------------------------------------------------------------------


رسالة من يحيى عياش إلى الأجيال


"على الكريم أن يختار الميتة التي يجب أن يلقى الله بها. فنهاية الإنسان لابد أن تأتي ما دام قدر الله قد نفذ".

"مستحيل أن أغادر فلسطين، فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين إما نصر أو استشهاد. إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين".

"بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين، غير أنني أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه".

"لا تنزعجوا فلست وحدي مهندس التفجيرات، فهناك عدد كبير قد أصبح كذلك، وسيقضون مضاجع اليهود وأعوانهم بعون الله"

"بالنسبة للمبلغ الذي أرسلتموه، فهل هو أجر لما أقوم به؟ إن أجري إلا على الله وأسأله أن يتقبل منا. وأهلي ليسوا بحاجة، وأسأل الله وحده أن يكفيهم وأن لا يجعلهم يحتاجون أحداً من خلقه. ولتعلموا بأن هدفي ليس مادياً ولو كان كذلك، لما اخترت هذا الطريق. فلا تهتموا بي كثيراً واهتموا بأسر الشهداء والمعتقلين، فهم أولى مني ومن أهلي".

"لا شك بأن العائلة تعاني، ولكن هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى وهو القائل : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونعلم الصابرين ونبلوا خياركم) أسأل الله أن يكتبنا في الصابرين".

"إنهم – أي السلطة – يحاولون بكل جدية اعتقالي أو قتلي فهم بالنسبة لي لا يختلفون عن اليهود سوى أننا لا نحاربهم، لأننا نعتبرهم من بني جلدتنا وهم يحاربوننا بالنيابة عن اليهود".

"لسه الحبل على الجرار، والله، إن شاء الله، ما أخليهم يناموا الليل ولا يعرفوا الأرض من السماء".

يحيى عياش فلسطين – كانون أول (ديسمبر) 1990م

كلمات شهيد الأمة "يحيى عياش"

-------------------------------------------------------------------------

فهرس الكتاب ،،


- تقديم

- مقدمة

الفصل الأول: البيئة والرمز

أولاً : القرية والعائلة

ثانياً : مسيرة التاريخ ورحلة الحياة

ثالثاً معالم وعبر

الفصل الثاني :"مهندس في ورشة المقاومة"

أولاً: الانطلاقة المباركة

ثانياً : إنتشار الإبداع

ثالثاً : قيادة القافلة

رابعاً : تسديد حساب الحرم الإبراهيمي

خامساً : جولات غزية

سادساً : المعلم والتلاميذ

الفصل الثالث: المطاردة المتبادلة

أولاً : الآثار

ثانياً : إجراءات الحرب المضادة

الفصل الرابع: خالد بجهاده

أولاً : جمعة الشهادة

ثانياً : البيعة لأمير الجند

ثالثاً : أصداء "إسرائيلية"

- الهوامش.


-------------------------------------------------------------------------


تقديم الكتاب

لا يوجد جنس من المخلوقات تتفاوت أفراده، كما يتفاوت بنو الإنسان، الواحد منهم قد يحسب بمائة، وقد يعتبر بألف.

وفي الحديث الصحيح: «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة».

وفي حديث آخر «ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان»(1).


وقديما قال الشاعر:

(والناس ألف منهمو كواحد وواحد كالألف إن أمر دهى)

وقد قيل: فرد ذو همة يُحيي أمة.



وقال الشاعر:

(وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد!)



وقال تعالى: (^إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين).



وقال ابن مسعود في معاذ: إن معاذاً: «كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين».



وإنما يتفاوت الناس ويتفاضلون بما يعيشون له من أهداف، فيصغرون أو يكبرون، ويعلون أو يهبطون حسب هذه الأهداف.

فمن الناس من يعيش لشهوة بطنه أو فرجه، وقد قال حكيم: من كان همه بطنه وفرجه فنتيجته ما يخرج منهما!



وقال تعالى: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم).



وينشدون لأبي نواس قوله:

(إنما الدنيا طعام وشراب ومنام)

(فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام)



ومن الناس من يعيش لهدف دنيوي، فوق شهوة البطن والفرج، ولكن لشهوة أخرى، شهوة الاستعلاء على الخلق، والوصول إلى النفوذ والجاه والتحكم في عباد الله، ليعز من يحب، ويذل من يكره.

وهذه لا تخرج عن كونها شهوة من شهوات النفس، بل هي شر من الأولى ، وهذه هي آفة إبليس: الكبر والغرور، إذ أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين، وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.



ومن الناس من جعل أكبر همه المال، أو الغنى، يريد أن يجمعه من حلال أو من حرام، لا يبالي في سبيله أن يدوس كل القيم، وأن يتعدى كل الحدود، يَذِل لمن فوقه، ويطغى على من دونه، لأن المال هو وسيلته لإشباع شهواته الظاهرة والباطنة، وأداته للحصول على المجد الزائف إن كان من هواته، وهيهات أن يسعده المال، بل هو أداة تعذيب له كما قال تعالى في شأن قوم: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) وقال سبحانه: (أيحسبون أن ما نمددهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون).



ومن الناس من يعيش في الدنيا ميتاً أشبه بالحي، وغائباً أشبه بالحاضر، ومعدوماً أشبه بموجود، لم يعرف له هدفاً، ولم يحدد له غاية، يميل حيث تميل الريح، وتجري به الأمواج يميناً وشمالاً. ولا يعرف له براً يرسو عليه، ولا منزلاً يأوي له، غافلاً عن نفسه وما حوله، كالذين قال الله تعالى فيهم: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل أضل، أولئك هم الغافلون).



ومن الناس صنف متميز ، لم يجعل الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه، ولم تشغله نفسه ولا شهواته، ولا مصالحه الذاتية، بل هو يعيش لهدف كبير، ولرسالة عظيمة، نذر نفسه لها، ووهب حياته وجهوده وقدراته لتحقيقها، لا يضن عليها بنفس ولا نفيس، ولا يبخل عليها بغال ولا خسيس، هي شغل نهاره، وحلم ليله، فيها يفكر، وبها يهيم، وإليها يسعى، عليها يحرص، ومن أجلها يحب ويبغض، ويصل ويقطع، ويسالم ويحارب، وهو الذي قال الله تعالى في مثله: (^ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد).



وقال سبحانه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ليجزي الله الصادقين بصدقهم).



وأحسب أن من هؤلاء الذين باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه: المهندس الموهوب، المجاهد الشهيد يحيى عياش، الذي نذر نفسه ومواهبه ووقته وجهده، وكل ما يملك: لقضية كبيرة خطيرة، هي قضية المسلمين الأولى: قضية أرض النبوات التي بارك الله فيها للعالمين، أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.



نذر ذلك، وهو في ريعان الشباب، ومقتبل العمر، في السن التي يلهو فيها اللاهون، ويعبث فيها العابثون، ولكن أخانا الحبيب يحيى كان أمامه مُثُل أخرى: مصعب بن عمير، أسامة بن زيد، وأمثالهما من شباب هذه الأمة.



لقد سماه إخوانه (مهندس الأجيال) لأنه استغل مواهبه وخبراته في الهندسة والتخطيط للعمليات البطولية الاستشهادية، ضد بطش الكيان الصهيوني وجبروته، تلك العمليات التي أرقت



على إسرائيل ليلها، وكدرت عليها نهارها، وجعلتها تبيت مفزَّعة، وتصحو قلقة خائفة، من أولئك الشباب الذين باعوا أرواحهم لله ولم يبالوا بما يصيبهم في سبيل الله (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم بها عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين).



ولقد عرفت إسرائيل العقل المدبّر وراء هذه العمليات، فجندت كل القوى العسكرية والمادية والتآمرية للانتقام منه، حتى استطاعت أن تنال ما تريد منه، ونال هو ما أراد أيضاً، فقد كان يريد الشهادة، ويعرف أنها مصيره اليوم أو غداً. (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم. ويدخلهم الجنة عرفها لهم).



لقد كان يحيى من ذلك الصنف الذي وصفه الله تعالى بقوله: (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) وهو كان غيظاً لليهود في حياته، وكان وسيظل دمه نقمة عليهم بعد مماته.



في هذا الكتاب، عن سيرة الشهيد يحيى عياش، وقصص بطولاته الفذة، نلمس أثر النشأة الصالحة، والهداية المبكرة، في صناعة يحيى الشاب المؤمن ومن ثم المجاهد الصلب، والمتطلع بإخلاص عز نظيره لإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، حتى أن المتابع لفصول بطولاته المتلاحقة يحس بوضوح أن يحيى بلغ من إيمانه بالله عز وجل، وتوكله عليه حدوداً أدرك معها، أن الله معه وهو إن شاء الله ناصره ومعزه.



ونود أن نقول للصهاينة القتلة: أن يحيى لم يمت. إنه موجود في إخوان له، يسيرون على خطه، ويعملون لهدفه، كل منهم يحيى عياش إن شاء الله.



إن المصنع الذي صنع البطل يحيى، ما زال يصنع الأبطال، وإن المعهد الذي خرجه ما برح يخرّج كرام الرجال. إنه الإسلام بعقيدته وشريعته وقيمه العليا، إنه الإسلام بقرآنه وسنته وسيرة رجاله الأطهار، الذين كلما غاب منهم كوكب طلع كوكب آخر أو أكثر.

(إذا مات منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول!)

رحم الله شهيدنا الحبيب يحيى، وتقبله في عباده المرضيين، ونصر الله إخوانه السائرين على دربه من بعده....

آمين....

السيف عدي
07-03-2008, 08:42 AM
مقدمة

حين يُكتب تاريخ فلسطين -الشعب والقضية- بأيد منصفة وأمينة، ستدرك الأجيال المتعاقبة أن يحيى عياش أو (المهندس) كما عرف في حياته يحتل مكاناً بارزاً بعد أن سطر ملحمة تاريخية خالدة من أجل فلسطين ومات في سبيل الله وفلسطين فوق أرضية صلبة من الفهم العميق بطبيعة القضية الفلسطينية. فقد أدرك يحيى معادلة التعامل مع العدو منذ أن لمست يداه أول سيارة مفخخة أعدها لاستنهاض الشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته ومختلف تياراته نحو مقاومة شاملة للاحتلال الذي لا يفهم إلا لغة المقاومة ومفردات القوة، ولذلك أعلن زعماءه وقادته يأسهم واعترفوا قائلين: ماذا نفعل لشاب يريد الموت.



«المهندس» هو عنوان الأسطورة الفلسطينية الحقيقية التي جددت الأمل وقتلت اليأس وأعادت الحياة إلى روح الجهاد والمقاومة في فلسطين بما كتبته من صفحات مشرقة في حكاية الصمود والجهاد البطولي في ظل أسوأ الظروف. وقصة المهندس معروفة، ومحفوظة بمداد الحب في قلوب معاصريه، واسمه تردد بشكل دائم في كل منتدى وبيت وعلى كل شفه ولسان من المغرب وحتى اليمن. وذكره مئات الملايين من العرب والمسلمين عندما أظلمت الدنيا واشتدت الأزمات، وفاضت على وجوههم مظاهر الألم والقهر والإحباط.



لقد عرف يحيى عياش موطن ضعف عدوه، ومكمن قوة شعبه، فاستغل معرفته لإعادة جزء من التوازن المفقود للقوى بين شعبه الأعزل وعدوه المدجج بالأسلحة، عن طريق نقل الصراع من ساحة المادة الضيقة إلى ميدان المعنويات الأرحب. فأصبح الصراع بين عدو مكبل بالخوف من الموت وشعب يعشق التضحية في سبيل حريته. ولأن للبطولة طعم آخر في اللحظات الحاسمة فإن يحيى عياش يكاد يتفرد بين أبطال الشعب الفلسطيني، فقد جاء في ذروة الانهيار ليعلن أن الشعب الذي تحفر القبور لدفن قضيته ما زال مفعماً بالحياة، وأن مقولات اليأس الرسمية ليست أكثر من رماد يواري الجمر المتقد في صفوف الشعب.



في عمره القصير صنع يحيى عياش الكثير، فقد أدرك منذ البداية أنه يسابق الزمن حين قرر العمل على نسف جدار الأمن الشاهق الذي أقامه الصهاينة مستغلين ترسانتهم العسكرية وخبراتهم المتراكمة في مواجهة شعب أعزل محاصر، فكان مبادراً حيث لا فائض من الوقت لدى شعب يحيا واحدة من أكثر مراحل تاريخه المعاصر حرجاً. وعاش لشعبه ومن أجله رحل، في وقت يتصارع المهزومون على فتات يظنون أنه مغانم حرب وضعت أوزارها.



إن هذه الشخصية المتميزة في عطائها وقدرتها على المبادرة والتجديد تستحق أن نقف عندها وقفة متأملة، فاحصة نستطلع حياتها ومكامن العظمة في شخصيتها، ونقوم تجربتها الرائدة ونستخلص العبر من مسيرة عطائها الحافلة بالتضحيات في سبيل الرسالة التي آمنت بها ونذرت نفسها وحياتها لتحقيقها. ولئن جسد يحيى عياش، حالة الشاب القروي البسيط، الذي كان من الممكن أن يكون كغيره من الآلاف الذين يحملون الشهادة الجامعية مهندساً عادياً يعمل في إحدى الشركات أو الورش ويتقاضى راتباً مرتفعاً في إحدى الدول ويعيش في أفخم الشقق وأرقى الأحياء والمدن، إلا أن بطلنا تغاضى عن هذا كله وقفز فوق كل الحواجز وتمسك بإسلامه وقضيته. فكانت المقاومة والجهاد حبه الكبير الذي أعطاه عصارة أفكاره وعاطفته مجسداً في الوقت نفسه القدرة على الفعل الحقيقي من دون خطابة أو إعلام، فهو لم يظهر متحدثاً وراء الكاميرات ولا كاتباً عن إنجازاته وأعماله في صحف أو وسائل إعلام. ولم يكن يقلقه أبداً أن يعلن الآخرون عن أعمال قام بها، ولا حتى أن يختلفوا فيما بينهم حول هذه الأعمال ونسبتها، فقد تربى على يد والديه البسيطين، ونهل من منهل الإسلام، فنشأ بسيطاً ومتواضعاً تواضع المؤمنين بغير ادعاء، الذين يعطون بغير تفاخر. ولعله لاحظ أن الإعلان عن فعل العطاء يفقده الأثر، كما يفقد الجهر بالإحسان الثواب.



واطمأنت نفس مهندسنا إلى ضرورة التمويه والاختفاء، إذ أن العدو المحتل يقف بالمرصاد، يجمع فتات المعلومات، محاولاً الوصول إلى من تحول بالنسبة إليه العدو رقم (1) باعتبار أنه «مخرب خطير وشبح مفزع». وهكذا عرف الناس من البيانات الإسرائيلية وتعليقات الصحف العبرية من هو يحيى عياش دون أن يتحدث هو أو يتكلم وإنما كان يجتهد في وضع الخطط الجديدة وإعداد التعليمات التي تناسب المرحلة في ورش صناعة الشهداء. فترسخت صوره في العقول والقلوب والأذهان كشخصية أسطورية وبطلاً قومياً نشر الموت في دروب الاحتلال وهزم الأسطورة المزيفة من جيش وأجهزة أمن في الدولة العبرية.



لم يكن المهندس يبحث عن دور تاريخي بقدر ما كان الدور التاريخي يبحث عن قائد، ولم يكن يحيى نجومياً يبحث عن الشهرة والشعبية بقدر ما كانت الجماهير تائقة إلى بطل تلتف حوله يعيد للأيام بهجتها وللحياة طعمها وللإسلام انتصاراته وشموخه. ولأن نماذج القادة الأبطال الذين تنتجهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لا يركبون موج الصدفة ولا يتسلقون حبال العشوائية أو يركبون أحضان المستجدات، بل هم دائماً على موعد دقيق مع أقدارهم وعلى أهبة الاستعداد لأداء دورهم في حيز الوجود والفعل ثم الرحيل بشموخ مع إشراقة الشمس، كان ألم محبيه من مشرق الوطن العربي ومغربه فاجعاً حين أفاقت عيون الملايين ذات صباح على صورته وهي تتصدر مئات المطبوعات والدوريات على اختلاف لغاتها ولهجاتها ولكناتها معلنة أن المهندس الذي أثار غيظ الصهاينة وسكن ساحة الرعب الهستيري لدى الجمهور الإسرائيلي قد استشهد وترك شعبه فجأة. ولكنها ليست مفاجأة على الإطلاق أن ينضم المهندس إلى طابور أبطال المقاومة والقادة والشهداء، ويتبع بلا خوف ولا تردد أو انقطاع هتاف صلاح الدين الأيوبي وعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني. فالذي يعيش زهرة شبابه وحياته كلها مجاهداً تكون الشهادة نصب عينيه دائماً بل إنه اشتكى مراراً بأن هذه الأمنية التي كانت تراوده دائماً قد تأخرت. وحين جاءت، جاءت كجزء من العمل، بل كرمز لهذا الجهاد المشرف، تماماً مثل الرمز الذي حمله منذ أن أعد عمليته الأولى. وكل ما فعله المهندس الأسطورة أنه أكمل الرمز حتى النهاية، وأكمل حلقة الحياة التي بدأها منذ أن صرخ في أذن الدنيا ومسمع الحياة في السادس من آذار (مارس) عام 1966.



أما إسرائيلياً، فإن الكيان الصهيوني لم يبد اهتماماً بمقاتل أو شخص يفوق الاهتمام الذي أبداه تجاه المهندس يحيى عياش. فقد جند الآلاف من العسكريين لملاحقته وجعله رئيس مصلحة المخابرات العامة (الشاباك) هدفه الأول منذ تعينه في منصبه وسخر كل طاقاته وتفكيره وجهود جهازه وعملائه. وأُرسلت الوحدات الخاصة في أثره ونُصبت كمائن له في كل مكان، في الجبال والكهوف والبيوت المهجورة ومخيمات اللاجئين، ولم تعد تقريباً قرية إلا وداهمتها وحدة مختارة من الجيش الإسرائيلي وفيما اقتفى العشرات من ضباط المخابرات وقوات المستعربين وجنود المظلات الذين يحملون صورة الشاب صاحب الكوفية الحمراء أثاره لأكثر من ثلاث سنوات، أضحى يحيى عياش الهاجس الأساس لاسحق رابين الذي أصبح يسأل عنه في كل اجتماع لمجلس الوزراء، وفي كل مرة يلتقي هيئة الأركان وقادة الشاباك. ولهذا، كان يحيى عياش محور العديد من الدراسات الإسرائيلية التي حاولت حل لغز الشاب الذي ينتقل دون كلل أو ملل يجند وينظم الشبان ويصنع الأبطال والشهداء منهكاً دولة وحكومة وأجهزة استخبارات تعد من أشد الأجهزة العالمية.



ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن مشكلة سلطات الاحتلال مع المهندس، شكلت أعقد المشاكل الأمنية التي واجهتها المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية منذ قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين. فالرجل الأسطورة قد سن سنة غريبة عن بني صهيون تتمثل في العمليات الاستشهادية، والتي يستحيل مقاومتها حسبما قال رابين نفسه. فقد برع المهندس بتصنيع المتفجرات من أدوات ومواد متاحة، مما أوجد مشكلة كبيرة لدى أجهزة الاحتلال في تتبع مصادر الأسلحة، كما أن عياش ابتكر نموذج حقائب المتفجرات والقنابل البشرية (تفخيخ الاستشهاديين)، وهي مشكلة أعقد من السيارات المفخخة. وكأن المهندس أراد أن ينقل رسالة اعتبارية قبل أن يفوز بلذة النظر إلى وجه ربه الكريم وهي أن رجلاً واحداً -مخلصاً لهدفه ومعتقداته- وبعدة متاحة لكل من يشاء يستطيع أن يمرغ غطرسة الكيان الصهيوني في التراب ويرعب قياداته وجنوده ويجعلهم يحفظون صورته ويعلقونها في مكاتبهم ويحملونها في دورياتهم وينسجون حولها الأساطير الغريبة.



وإذا ترجل المهندس واستراح من عناء الملاحقة، فإن الأسطورة لم تنته. وإنما ترسخت، فالمهندس الذي استشهد في انفجار دبرته أجهزة الإرهاب ورحل بعد سنوات من الحرب بكل المقاييس بينه وبين جيوش وأجهزة الاحتلال في كل مكان، خط لجميع المجاهدين في فلسطين درباً لن يزول. فقد أمضى يحيى عياش العام الأخير من حياته في تدريب وإعداد عشرات الخلفاء له، إذ يؤكد المقربون له بأن المهندس الذي كان يتوقع الموت مع كل طرفة عين كان دائماً يردد: «بإمكان اليهود اقتلاع جسدي من فلسطين غير أني أريد أن أزرع في الشعب شيئاً لا يستطيعون اقتلاعه».



هذا الكتاب مجرد محاولة للإبقاء على يحيى الرمز بعد أن غاب يحيى الإنسان، وللحفاظ على جزء من الذاكرة الفلسطينية التي تتعرض لمحاولات طمس وتشويه استعداداً للدخول إلى عهد جديد تنقرض فيه البطولة ونماذج الفداء كما يريد أحبار هذا العصر وصناعه.

السيف عدي
07-03-2008, 08:44 AM
الفصل الأول



البيئة والرمز



توطئة



يعتمر القلب شرف عظيم ويشعر المرء في الوقت نفسه بالتضاؤل حين يهم باسترجاع صفحات من قصة عاشق الجهاد الذي اختار البندقية وجاهد بدون ادعاء وقدم دون أن يأخذ وعاش من أجل أن يعيش الوطن وتبقى القضية. ومع أن رحيل الشهيد القائد يحيى عياش نخر العظم وأدمى الفؤاد وأوجع الأمة التي حفظت اسمه كمعلم من معالم فلسطين وتاريخ ناطق يحكي عن عبقرية رجل كان على موعد مع الأقدار، فركل زخرف الدنيا بقدميه وأقسم على مواصلة الدرب حتى الشهادة، إلا أن عزاءنا أن المهندس لم يكن في حياته والتزامه مجرد شخص اختار طريق العزة، بل كان إلى جانب ذلك نموذجاً بارزاً لجيل فلسطيني كامل. ومن خلال تمثيله لهذا الجيل، ومن خلال تعبيره عنه، اكتسب قيمته كمجاهد وقائد.



والذين يعرفون يحيى عياش، يقولون بأنه ينتمي إلى طبقة أولئك الناس البسطاء الذين يشكلون القاعدة العريضة لمجتمعنا. ولأنه من هذه الطبقة، فقد تربى على الإيمان والصدق والوفاء والبساطة والتواضع، وعلى البر بالأهل والوطن. وجسد هذا الفتى القروي البسيط، تلك الشخصية المتميزة والرائدة التي تركت مهنة الهندسة وما تمثله من إغراءات وحوافز دنيوية وكرست نفسها وحياتها وحياة عائلتها لصناعة المجد في ربوع الوطن ونثر عطر الشهادة وسط عتمة الليل. وظل شهيدنا حتى آخر نبض في عروقه مخلصاً لعقيدته، ممتطياً صهوة جواده في ميادين الجهاد والمقاومة، لا يكل ولا يمل ولا توقفه أكذوبة (الأمر الواقع) أو (الظروف)، يتقدم جماهير الشرفاء في دك حصون الأعداء ويلقن جنودهم وقطعان مستوطنيهم طعم الرعب والموت. وهو بذلك يستحق أن نقف عنده وقفة متأملة، فاحصة، نستطلع حياته والبيئة التي عاش فيها والتربية التي تلقاها، محاولين استخلاص العبر ومكامن العظمة في مسيرة عطائه الحافلة بالعمل والجهد الخلاق.



واليوم، وقد غادرنا المهندس مبحراً بعيداً عن شواطىء الحياة، راحلاً إلى الفردوس الأعلى وجنات النعيم بعد أن قضى عمره بأفضل ما تقضى به الأعمار، وأضيف اسمه إلى لائحة أبطال هذه الأمة وغدا رمزاً يقتدي به الفتيان ويتربى على سيرته الأطفال وتردد الصبايا اسمه في أناشيدهن وأغانيهن. فإن افتقار الذاكرة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية إلى مثل هذه الشخصية، يدفعنا إلى اختراق الجدار الذي أقامه الشهيد حول حياة الشموخ والعزة التي عاشها ومسيرة التاريخ منذ أن تفتح الفجر في عينيه. فقد كان -رحمه الله- كما سنرى مدرسة كاملة في الخلق والتضحية والجهاد والإيثار الذي يسمو بصاحبه فوق الأغراض والأشخاص والمآرب الذاتية الضيقة.

السيف عدي
07-03-2008, 08:44 AM
أولاً: القرية والعائلة



1- رافات تدخل التاريخ



تقع قرية رافات، على قمة هضبة مرتفعة ضمن سفح عرق الجبال التي تشكل رأس المثلث بالنسبة لمدن نابلس ورام الله وقلقيلية. وعلى الرغم أنها تبعد عن مدينة طولكرم (27) كيلومتراً، إلا أنها تتبع من الناحية الإدارية لواء سلفيت في محافظة نابلس، لأن مدينة نابلس التي تقع على مسافة (38) كيلومتراً شمال شرق القرية ذات نشاط تجاري أوسع وأكبر من مدينة طولكرم إلى جانب توفر المواصلات والطرق إليها بشكل أفضل. وتحيط مجموعة من قرى العرقيات برافات، فالزاوية تقع إلى الشمال، ومسحة إلى الشمال الشرقي وتجاورها بديا وسرطه من الشرق، في حين تقع دير بلوط في الجنوب وبروقين وكفر الديك في الجنوب الشرقي. وتمتد الأراضي المحتلة منذ عام 1948 بانبساط واضح في الاتجاه الغربي حيث التجمعات الاستيطانية الواسعة مثل مستوطنات (عيليه زهاف) و(بدوئيل). واسم (رافات) مشتق من جذر (رفا) سامي مشترك يفيد اللين والتراخي والرفاه والشفاء، وبذلك يكون معناها مكان الراحة والاستسقاء(1).



تبلغ مساحة أراضي رافات (8125) دونماً من بينها (24) دونماً مخصصة للبناء ودونمان للطرق والوديان، والباقي تعتبر أراضي زراعية يزرع فيها القمح والشعير والكرسنة والخضار. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو (634) دونماً من أراضي القرية مزروعة بأشجار الزيتون ونحو (200) دونماً أخرى مزروعة بأشجار الفواكه كالتين والعنب وغيرها. كما تحتوي أراضي القرية على أساسات مبان تاريخية وأرضيات مرصوفة بالفسيفساء والبلاط ومداخن منحوتة في الصخر وصهاريج تعود إلى العصور القديمة وبخاصة القرن السادس الهجري(2).



الحياة في رافات لم تكن يوماً سهلة، فالقرية تفتقر إلى مصادر المياه الجارية والكهرباء والاتصالات، إذ تشرب رافات من مياه الأمطار وتعتمد معظم العائلات على بطاريات السيارات ومولدات الكهرباء المتنقلة لتشغيل الأجهزة الكهربائية. وحتى عام ،1967 لم يكن بالقرية مسجد، إذ أن المسجد القديم الذي بناه المماليك عام 672هـ هدمته القنابل خلال الحرب العالمية الأولى نظراً لوقوع القرية على خط التماس بين الجيش العثماني والجيوش البريطانية الغازية. وتعاني القرية من صعوبة وصول السيارات إليها بسبب تدهور وضع الشارع الرئيسي الذي تم تعبيده عام ،1985 كما أن عدم وجود شبكة للهاتف تربط القرية بالعالم الخارجي زاد من معاناة أهل القرية(3).



وفي ضوء هذه الأوضاع، لا غرابة أن تتأخر مسيرة التعليم في القرية، إذ لم يكن في رافات سوى خمسة رجال يلمون بالقراءة والكتابة حتى العام 1948. وهو العام الذي تم فيه تأسيس مدرستان، واحدة للبنين، أعلى صفوفها الخامس الابتدائي، وثانية للبنات ضمت الصفين الأول والثاني الابتدائي فقط(4).



أما بالنسبة لعدد سكان رافات، فإنه لا تتوفر إحصاءات دقيقة حول هذا الموضوع. إذ تشير الوثائق القديمة بأن (92) نفساً كانوا يسكنون القرية عام ،1922 ما لبث عددهم أن ارتفع في عام 1931 إلى (127) يسكنون (31) بيتاً. وفي نيسان1945 قدرت المصادر البريطانية عدد سكان رافات بنحو (180) شخصاً. وفي التعداد العام للسكان الذي أجرته المملكة الأردنية الهاشمية في الضفة الغربية بتشرين ثاني/ نوفمبر 1961 كان عدد سكان القرية (375) شخصاً، بينهم 167 من الذكور و 208 من الإناث(5). ومنذ الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية لم يجر أي تعداد للسكان، وإن كانت معظم المصادر الصحفية تقدر عدد سكان رافات اليوم بين 1500 و 1700 نسمة معظمهم من الفتيان والشباب. ويعتمد هؤلاء في معيشتهم على الزراعة والعمل في ورش البناء في فلسطين المحتلة منذ عام 1948.



ظلت رافات قرية مغمورة حتى خلال سنوات الانتفاضة، إذ لم تذكرها وسائل الإعلام سوى مرة واحدة فقط حين اقتحمت قوات الاحتلال مسجد القرية بسبب نشاطات الشباب المسلم في مواجهة الدوريات العسكرية، غير أنها أضحت محط أنظار وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية والعالمية. فمنذ عام ،1992 تعرضت قرية رافات وسكانها للحصار والمراقبة والتفتيش والاقتحام المستمر فيما انتشر جنود المستعربين والوحدات الخاصة على مداخل قرى الزاوية ودير بلوط المؤديتين لرافات بالإضافة إلى إقامة حواجز عسكرية دائمة في محيط القرية. وذلك بسبب شاب واحد من أهل القرية طاردته سلطات الاحتلال وأصبح فيما بعد المطلوب رقم (1) للدولة العبرية التي نشطت كل أجهزتها للكشف عن مكانه ومحاولة إلقاء القبض عليه.



2- عائلة عياش



ينحدر يحيى عياش من عائلة عرفت بتدينها وبساطة أفرادها وماضيها الجهادي. فآل عياش، شاركوا في الانتفاضات والثورات الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني منذ وعد بلفور وحتى الثورة العربية الكبرى عام 1936(6).

عبد اللطيف ساطي محمود عياش، والد الشهيد، ظل ملتصقاً بأرض الآباء والأجداد يعمل في الزراعة تارة وفي أعمال نقش الحجارة تارة أخرى. وفي عام ،1955 تطوع عبد اللطيف في الجيش العربي الأردني حيث خدم كجندي بسلاح المشاة في عدة مواقع عسكرية، وعلى وجه التحديد تلك المواجهة لبلدة كفر قاسم على خط الهدنة بين الكيان الصهيوني والضفة الغربية.



وحين ترك الجيش عام ،1963 عاد عبد اللطيف إلى مهنة الزراعة ونقش الحجارة في قريته وتزوج من قريبته عائشة عياش(7).



بنى عبد اللطيف وعائشة بيتهما المتواضع، وكونا عائلة صغيرة ضمت بالإضافة إليهما ثلاثة أبناء: يحيى الذي ولد في عام ،1966 ومرعي الذي ولد عام ،1969 وأخيراً يونس الذي ولد في عام 1975.

السيف عدي
07-03-2008, 08:45 AM
ثانياً: مسيرة التاريخ ورحلة الحياة



1- أيام الصبا والطفولة



في يوم الأحد الموافق 6 آذار (مارس) من عام ،1966 زفت القابلة البشرى للشيخ عبد اللطيف ساطي محمود عياش بولادة ابنه البكر الذي أسماه يحيى تيمناً بنبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام. وتقول والدته: «كانت ولادته سهلة رغم أنه كان المولود البكر، إذ لم يكن هناك أي تعسر أو ألم أثناء ولادته لأنه ولد صغير الحجم. فقد كان وزنه عند ولادته كيلو غراماً ونصف فقط. وكل من رآه أثناء ولادته لم يكن يتصور بأن هذا الطفل سيعيش ويكبر ويصبح رجلاً»(8).



وبين أزقة رافات، وفي كنف بيت متدين، عاش يحيى طفولة هادئة. ويؤكد شبان رافات وشيوخها اليوم أن يحيى كان مثالاً للطفل المؤدب الهادىء، حتى أن أحد أعمامه يقول «كان هادئاً أكثر من اللزوم، ولا يحب الاختلاط كثيراً بغيره من أطفال الحي، حتى أنني كنت أعده انطوائياً بعض الشيء»(9). وتضيف والدته: «كان يحيى طفلاً هادئاً جداً وخجولاً، ولم يكن يبكي كالأطفال الذين في مثل سنه، وهو في الرابعة من عمره ذهب مع الرجال يوم الجمعة إلى المسجد يصلي معهم ومن يومها بدأ يرتاد المسجد، وهو في هذه السن المبكرة، حفظ يحيى الكثير من سور القرآن القصيرة والآيات القرآنية التي كان يستمع إليها من المقرىء في المسجد»(10).



ويتابع والده الحديث: «كان يحيى طفلاً صغيراً لم يتجاوز أربعة أعوام حين توجه إلي مراراً طالباً مني السماح له بمصاحبتي إلى المسجد لأداء الصلاة.. كان يلح بالطلب ويشدني من ملابسي لكي آخذه معي. ونظراً لإلحاحه، ورغبة مني في تلبية طلبه، وهو الابن البكر، فقد بدأت باصطحابه إلى المسجد القديم في القرية، وهو قريب من بيتنا. وكثيراً ما دهش الحضور وأبدوا استغرابهم من الطفل الصغير. وكانوا يقولون لي هذا صبي صغير، ولا يتقن الوضوء فكيف يتقن فرائض الصلاة وسننها؟»(11).



ويؤكد أحد المصلين في مسجد القرية الصغير ما ذكره والدا يحيى فيقول: «يحيى كان من الشباب الذين داوموا على صلاة المسجد، وكان يحب أن يصلي في الصف الأول. وأذكره عندما كان يجلس في الجهة الغربية للمسجد ليقرأ القرآن»(12).



كبر الطفل يحيى، ودخل المدرسة الابتدائية في قريته عند بلوغه السادسة من عمره، وبرز يحيى بذكائه الذي لفت إليه أنظار معلميه، إذ أنه لم يكن يكتفي بحفظ الدروس المقررة للصف الأول، بل كان يحفظ دروس الصف الثاني أيضاً. فقد كانت الصفوف في مدرسة القرية مجمعة بحيث تكون كل مرحلتين دراسيتين في غرفة واحدة نظراً لمحدودية عدد الغرف الدراسية في المدرسة. وعليه، التقطت إذنا يحيى المعلومات والدروس التي كان المعلم يشرحها للصف الثاني حتى أنه حفظ دروس القراءة في كتاب الصف الثاني من قراءة التلاميذ أمامه في الحصص. ويتحدث الشيخ عبد اللطيف عن ذكاء يحيى فيقول: «أيام المدرسة كان معروفاً بتفوقه في دراسته وخصوصاً في مادة الرياضيات لدرجة أنه كان متقدماً على صفه سنة وأحياناً سنتين في مادة الرياضيات»(13).



ورافق التفوق يحيى منذ الصف الأول وحتى إنهائه المرحلة الثانوية وحصوله على شهادة (التوجيهي)، فقد نال المرتبة الأولى دائماً خلال دراسته لاثنتي عشرة سنة في رافات والزاوية وبديا. وكان يحيى قد انتقل إلى مدرسة الزاوية الإعدادية بعد إنهائه الصف السادس الابتدائي في مدرسة رافات نظراً لكون مدرسة قريته لا تستوعب أكثر من هذه المرحلة. ودرس يحيى المرحلة الإعدادية والأول ثانوي في مدرسة الزاوية، ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية بديا حيث درس الثاني والثالث ثانوي (الفرع العلمي) في مدرسة بديا الثانوية، وحصل على شهادة الدراسة الثانوية بمعدل (92.8%)(14).



وهنا نتوقف عند قصة نادرة حدثت مع يحيى أثناء دراسته في مدرسة رافات، إذ تقول والدته: «كان يحيى في الصف الثاني الابتدائي، وكان الصف الأول الابتدائي يدرس في نفس الغرفة. وحدث أن تجمع طلاب الصفين مرة داخل الغرفة وتدافعوا من غير قصد، فوقع أحد التلاميذ على زاوية الدرج وجرح رأسه. وعندما جاءت المعلمة وسألت: من فعل ذلك؟ فقال أحد التلاميذ رأساً: إنه يحيى. فقامت المعلمة بضرب يحيى وتأنيبه، فعاد إلى البيت متأثراً لأنه ضرب دون أن يقترف أي ذنب. وفي صباح اليوم التالي طرق الباب، وعندما نهضت وفتحت الباب كانت المعلمة أمامي، فاستقبلتها مرحبة. وعندما دخلت أخذت تعتذر وتبدي أسفها الشديد، وهي خجلة لأنها ضربت يحيى بدون سبب. فقد اكتشفت بعد نهاية اليوم الدراسي، عندما حققت مع الطلاب أن يحيى كان مظلوماً، وأنه لم يكن له أي ضلع فيما حدث حتى أنه كان بعيداً عن التجمع الطلابي.. كانت المعلمة قد جاءت إلى بيتنا قبل توجهها إلى المدرسة كي تعتذر ليحيى، وكانت تشعر بالخجل والأسف الشديدين، وتأنيب الضمير. ولكن يحيى طلب منها ألا تعتذر، لأن الأمر لا يستحق وليس هناك أي مشكلة، وأنه ليس غاضباً. ثم ترك البيت متوجهاً إلى المدرسة»(15). ويروي الشيخ عبد اللطيف قصة أخرى تعبر عن جانب آخر من أخلاق يحيى الصغير فيقول: «كتب معلم الرياضيات بالصف الأول الثانوي في مدرسة الزاوية الإعدادية مسألة على السبورة، وقال للتلاميذ: من يستطيع أن يحل هذه المسألة؟ فلم يجبه أحد، وجلس طلاب الصف عاجزين عن حل المسألة… جن جنون المعلم من ضعف التلاميذ في هذا الصف، فذهب يشتكي إلى مدير المدرسة. وبالصدفة، كان هناك المعلم الذي يدرس الصف الأول الإعدادي الذي كان فيه يحيى، فقال: أنا مستعد أن أحضر لكما طالباً من الصف الأول الإعدادي ليحل المسألة. وفعلاً، ذهب وأحضر يحيى ثم توجه الجميع إلى الصف الأول الثانوي. وبالفعل، قام يحيى بحل المسألة وسط دهشة المدير والمعلمين والتلاميذ»(16).



وعلى أثر هذه الحادثة، بعث مدير مدرسة الزاوية الإعدادية في ذلك الوقت رسالة تقدير واحترام إلى والد الطالب يحيى عياش، يهنئه فيها على ذلك الشاب الذكي، صاحب الأخلاق الرفيعة. وقال المدير في نهاية رسالته: «إنني أتوقع أن يكون لهذا الفتى شأن عظيم في حياته المستقبلية»(17).



2- في جيل الشباب



لم يكن يحيى عياش اجتماعياً بالمفهوم المتداول، إذ أنه تميز بصمته وعدم مخالطته لعموم شباب القرية بشكل عام. ورغم ذلك، فقد كان معروفاً بين أوساط شباب رافات وبخاصة أبناء جيله وأقرانه بتفوقه المتواصل وتمتعه بقدر كبير من الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي، ولم يكن يقبل أي تهاون في ذلك. وقد أتم يحيى عياش حفظ القرآن الكريم كاملاً عن ظهر قلب، وحصل على شهادة تقدير من مديرية الأوقاف الإسلامية بالقدس لتفوقه في دراسة العلوم الشرعية وتجويد القرآن الكريم ما تزال محفوظة في صالة منزل والديه(18).



يقول والده: «يحيى كان ولداً هادئاً منذ طفولته، سواء في المدرسة والجامعة، أو البيت والبلد.. وكان مشهوداً له بأنه لم يتسبب في مشكلة مع أحد، والله يرضى عليه كان حنوناً على أمه وأخوته.. وكان عندما يسمع الآذان كان يترك كل شيء بيده ويذهب مباشرة للصلاة في الجامع. وكذلك، كان يحيى هادئاً جداً وقليل الكلام، ويمكن أن تجلس معه ساعات طويلة دون أن تسمع منه شيء وإذا سألته يجيب على قدر السؤال وبدون زيادة»(19). وتضيف أم يحيى: «يحيى.. أنتم لا تعرفونه.. أطهر القلوب يحيى.. يحيى لم يرتكب جهالة في حياته، ولم يتعرض لبنات الناس لا بالكلمة ولا بالفعل.. حتى عندما كان في جيل الشباب، كان خلقه رفيعاً وسريرته نظيفة، ولم يأت بأفعال تغضب الخالق أو الخلق. ولم يحاول مرة أن يعمل مشكلة مع شباب القرية أو أهلها»(20)



ويؤكد شباب القرية هذا الكلام، حيث تحدث أحدهم قائلاً: «كان يحيى ذلك الشاب النموذجي الذي يقتدي به الشباب.. كان هادئاً، رزيناً، متديناً، حسن الأخلاق، يحب الخير للناس ولا يؤذي أحداً ولا يغضب أحداً ولا يغضب من أحد. وكان يذهب إلى المسجد وهو شاب ويؤدي فرائض الصلاة الخمس كل يوم»(21).



أما هوايات يحيى عياش في بداية شبابه فكانت فك وتركيب وتصليح الأجهزة الكهربائية، إذ اعتاد أهل القرية إرسال أجهزتهم المنزلية التي تتعطل إلى بيت الشيخ عبد اللطيف حتى يقوم يحيى بإصلاحها وإعادتها إليهم. وقد بدأ الأمر هذا مع يحيى كهواية سرعان ما تطورت فيما بعد لتتحول إلى ولع دفعه لدراسة الهندسة الكهربائية(22). وتضيف أم يحيى قائلة عن كفاءة يحيى في ممارسة هوايته: «كانت لديه عقلية متفوقة ونبوغ منذ صغره، والكل كان يلحظ ذلك عليه. فما أن يرى أحدهم يقوم بعمل حتى يحفظه، وعندما يمارسه، كان يتقنه بمهارة تدهش الجميع»(23).



3- ابن نموذجي



تتحدث أم البطل عن تصرفات يحيى في البيت وعلاقته بوالديه وشقيقاه، فتقول: «إن الله قد حرمني من إنجاب البنات، وكان -الله يرضى عليه- لا يفارقني عندما أصاب بمرض، ويتمتم فوق رأسي داعياً الله أن يمن علي بالشفاء. وكان يطبخ الطبيخ ويذبح الدجاج، ويحضر الطعام، وينظف البيت.. قلبي وربي راضيان عنك يا يحيى.. الله والسماء تحرسك يا يحيى»(24). وتتنهد الأم وتنهمر الدموع من عينيها، ثم تضيف: «كان هادئاً ومؤدباً، ولم يحاول مرة أن يغضبني أو يغضب والده. ولم يكن يضرب أخوته أو يزعلهم»(25). ولأن يحيى كان دائماً يداعبها قائلاً: «أنا لا أحب إلا طعامك، وليس هناك امرأة في العالم تطبخ طعاماً لذيذاً مثلك»، فإنه نادراً ما تناول طعاماً من عند أحد -ولا حتى أقاربه- وفق ما أشارت والدته(26).



4- طالب في كلية الهندسة



حصل يحيى عياش على شهادة الدراسة الثانوية من مدرسة بديا الثانوية عام ،1984 وكان معدله 8.92%، وعند إمعان النظر في كشف الدرجات التي حصل عليها، نجد أنه حصل على معدل 95% في مبحثي الفيزياء والرياضيات، وكان هذا مؤشر واضح على ذكاء وعبقرية متوقعة في مجالات ستترك آثاراً واضحة للعيان على مستقبل يحيى عياش.



وما هي إلا أسابيع قليلة، حتى غادر يحيى الضفة الغربية متوجهاً إلى عمان لفحص إمكانية الدراسة، وبعد تسعة أيام فقط، قضاها المهندس في ضيافة أحد أعمامه، عاد يحيى أدراجه إلى رافات على الرغم أن إعلان أسماء المقبولين تضمن قبول يحيى في كلية العلوم بالجامعة الأردنية وكلية الهندسة بجامعة اليرموك. وعبثاً حاول الوالد إقناع ابنه بالموافقة على الدراسة في جامعة اليرموك وعدم الالتفات إلى المصاريف المالية المترتبة، إذ رفض يحيى هذا العرض رفضاً قاطعاً، وأصر على الالتحاق بجامعة بيرزيت* [جامعة بيرزيت: جامعة خاصة تأسست عام 1972 ككلية تملكها عائلة (ناصر) التي تقطن في قرية بيرزيت، ما لبثت عام 1976 أن تحولت إلى جامعة. وتعتبر هذه الجامعة من أهم جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ أنها تستقبل عادة النخب الأكاديمية من أوائل الطلاب والمتفوقين.] لدراسة الهندسة الكهربائية. وأخبر الابن والده بأنه قرر الدراسة بتلك الجامعة كونها قريبة على رافات، وبالتالي يستمر التواصل بينه وبين عائلته إلى جانب أن تكاليفها المادية منخفضة نسبياً(27).



سافر يحيى في شهر أيلول (سبتمبر) من عام 1984 إلى مدينة رام الله للتسجيل في جامعة بيرزيت، ورافقه والده في تلك الرحلة التي شكلت حدثاً مفصلياً في حياة الشهيد. وجاءت رغبة الوالد في مشاركة ابنه أعباء عملية التسجيل والبحث عن سكن مناسب بهدف الاطمئنان على الحياة الجامعية الجديدة للطالب القروي الطيب. ونتوقف هنا، ليحدثنا رئيس سابق للكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت وهو صديق شخصي ليحيى عياش حيث قضى معه ثلاث سنوات على مقاعد الدراسة، إذ يقول الأستاذ أبو محمد: «بدا يحيى للوهلة الأولى مثل معظم أبناء القرى حيث أن مدينة بيرزيت تعتبر من المناطق البعيدة التي ذهب إليها خارج قريته الصغيرة. ولا غرابة في ذلك، إذ تنحصر معرفة ابن قرى نابلس فقط بمدينة نابلس التي يزورها في المناسبات. وقد كانت سمة البساطة والطيبة والتدين وعدم المعرفة بتعقيدات أمور الدنيا وتداخلاتها واضحة تماماً سواء على الوالد أو الابن»(28).



أما الأستاذ إبراهيم، الذي شارك الشهيد الغرفة في قرية أبو قش القريبة من الجامعة عند بداية العام الدراسي الأول (1984/1985)، فيقول عن طبيعة يحيى وأخلاقه وعلاقاته: «كنت أسكن مع أخي في قرية أبو قش قرب الحرم الجديد لجامعة بيرزيت. وعندما تخرج أخي، تقدم الشهيد يحيى عارضاً عليَّ أن يسكن معي في البيت حيث كنت وحيداً، وكنت أدفع 25 ديناراً كأجرة للبيت وهو مبلغ بسيط في حينه. لذلك، لم أرغب في استقدام طالباً آخر ليشاركني السكن في نفس الغرفة حتى تقدم يحيى عياش، عندها غيرت موقفي، ووافقت على طلب ذلك الشاب السمح ذو الأدب الرفيع والذي عرفته من خلال نشاطات الكتلة الإسلامية داخل الحرم الجامعي. فقد كان متميزاً بحسن سلوكه وتسامحه وتواضعه إلى جانب حيائه الشديد». ويضيف زميل الشهيد: «كان يحيى لطيف المعشر، حسن السلوك، لين الجانب إلا في الحق، متسامحاً، صادق الكلام أبداً، ومحقاً في المعاملات المالية، وفي الحقيقة، إن أكثر ما يميز سيرة الشهيد، أنه كان مسلماً غيوراً على إسلامه بالفطرة الربانية، حتى أنه كثيراً ما كان ينتهز أي عطلة أسبوعية أو إضراب داخل الجامعة ليعود إلى قريته، ليكون بعيداً عن جو الفساد. وكثيراً ما كان يبدي لي اشمئزازه من التبرج السافر والانحلال الخلقي لبعض طلاب وطالبات الجامعة. وكنت أحس من خلال مناقشاتنا الليلية قبل النوم أن هذا الشخص لا يمكن أن تنفع معه كل إغراءات الدنيا. فتمسكه بالدين كان بالفطرة الربانية الشديدة الصفاء، القوية الثبات. وقد أيقنت مع مرور الأيام معه في السكن أن هذا الشخص يعيش ويحيى لدينه فقط.. إن قناعتي هذه مبنية على استنتاجات أكيدة من خلال نقاشاتنا المتبادلة يومياً حول كل الأمور الأكاديمية والسياسية المحلية والخارجية». ويلخص الأستاذ إبراهيم تحليله لشخصية يحيى عياش، بالقول: «عرفت يحيى بالابتسامة التي لا تفارقه وصمته الطويل وطبعه الهادىء. وعلى الرغم أنه كان رقيق الصوت، ولا يتحدث في الجلسات العامة إلا أنه لم يكن ليبقى ساكتاً عندما يكون الأمر يخص الإسلام والمسلمين. فتراه يهب بفطرته السليمة وحبه للدين منافحاً عن الحق. ولهذا لم يكره أحد عدا أعداء الفطرة الإسلامية، ولم يكن له أعداء من الطلاب أو أصحاب السكن أو الأهالي عموماً»(29).



أما فيما يتعلق بالطالب يحيى عياش داخل أسوار الجامعة، فإن زميل الشهيد يعرج على هذه النقطة باختصار معبراً عن واقع تلك الفترة. إذ أن يحيى «كان دائماً يغض الطرف داخل أسوار الجامعة، وبقي بعيداً عن أجواء الصخب والعبث. وكثيراً ما شاهدته منشغلاً بتلاوة القرآن وطاعة الرحمن بالذكر والمأثورات»(30).



ويؤكد الأستاذ إبراهيم أن ذكاء يحيى ونبوغه وتفوقه قد رافقه في دراسته الجامعية، ويستشهد على ذلك بأن الشهيد حصل على العلامات الجيدة رغم أنه لم يكن يطيل السهر حيث تميز باستيعابه الممتاز للمادة العلمية وتثبيته للمعلومات التي يلقيها الدكتور والتي لفتت أنظار كل من الطلاب والأساتذة على حد سواء.



وبعد هذه الصورة التي رسمها زميل الشهيد في السكن، يستكمل الصحفي فايد أبو شمالة الذي عاصر الشهيد أثناء فترة الدراسة في جامعة بيرزيت عن قرب تشكيل كلمات الرسالة التي تركها المهندس للأجيال: «هناك الكثير من الأشياء التي يمكن الحديث عنها في موضوع الشهيد يحيى عياش. وقد تحدث الناس الكثير، والصورة في الذاكرة مشرقة وبراقة. وتدور في مخيلتي دائماً صورة شاب ودود ولطيف، له جاذبية خاصة، مميز في هيئته وحركته ويلفت النظر لكونه شديد الحياء، إذا تحدث بصعوبة تسمع صوته، خلوق وحساس المشاعر يتأثر بالحسن ويفرح له ويتأثر بالقبيح ويتضايق منه، وأذكر أنني كنت أعجب كثيراً من شدة إيمانه وإخلاصه، وأتذكر مقولة (الأتقياء الأخفياء) الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا.. وحقيقة كان منهم، فقد كان يشارك في كل شيء ولا يبرز في أي شيء.. وكان يتفاعل مع الأحداث بشكل قوي دون أن يصدر عن تفاعله أي ضجيج أو صخب». ويضيف أبو شمالة: «لست أذكر أن أحداً من إخوانه قد تضايق يوماً منه أو اشتكى أو أظهر امتعاضه من السكن معه، رغم أن مشاكل السكن كانت كثيرة بين الطلاب لأن مجال الاحتكاك على مدار اليوم وكان كل اثنان يسكنان في غرفة واحدة، وهذا يجعل مجال الاحتكاك أكبر، ولم يكن رحمه الله يظهر امتعاضاً حيثما سكن»(31).



وفي نفس سياق الحديث وموضوعه، نقل رئيس الكتلة الإسلامية بالجامعة انطباعاته عن يحيى بنقاط محددة وعبارات نقتبس منها التالي: «شاب بسيط ومتواضع تميز ببساطة ما يرتديه من ثياب وأحذية. وهو شاب ورع وتقي، حرص على عدم البقاء في الجامعة في أيام العطل الأسبوعية حتى يبتعد عن الفساد. ولم يُعرف أنه شكا من أحد أو انتقد أحداً، أو أن أحداً زعل منه، فقد أحب زملاءه وأساتذته واحترمهم، وكانت معاملته مع الجميع حسنة للغاية وبالتالي احترمه الناس وأحبوه. وعلى الرغم أنه كان من أنشط الشباب في كلية الهندسة، إلا أنه كان حريصاً على الابتعاد عن الأضواء، ويتشدد في ذلك»(32).



تخرج يحيى عياش مهندساً كهربائياً من جامعة بيرزيت في شهر آذار (مارس) من عام 1993م، وهذا يعني أنه قضى ثمان سنوات على مقاعد الدراسة الجامعية. ويعود السبب في ذلك إلى الإضرابات والإغلاقات المستمرة لجامعة تعتبرها سلطات الاحتلال «جامعة تخريج الكوادر القيادية» لمختلف الفصائل الفلسطينية. ففي شهري كانون أول (ديسمبر) من عام ،1986 وكانون الثاني (يناير) من عام 1988 أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي عدة قرارات بتعطيل الدراسة وإغلاق الجامعة لمدد متعاقبة أدت إلى خسارة الطلبة أكثر من سنتين أكاديميتين. ولئن، جاءت اللحظة التاريخية وتحقق حلم الشيخ عبد اللطيف بحصول فلذة كبده على الشهادة الجامعية بتفوق، إلا أنه لم يشاهد ذلك على أرض الواقع ولم يكحل عينيه برؤية يحيى ضمن فوج الخريجين في الاحتفال الذي أقامته الجامعة. فقد غاب يحيى عن الحفل ولم يحضر مراسم تسليم الشهادات، لأنه كان وقتها مطلوباً لجهاز الشاباك وتطارده قوات الاحتلال بسبب دوره في التخطيط لعملية رامات افعال بتل أبيب في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1992.



5- في سفينة الكتلة الإسلامية



تعتبر هذه المحطة من أهم المحطات في حياة الشهيد القائد يحيى عياش، إن لم تكن الأهم، باعتبار أن الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت والتي عاش فيها ما يزيد عن خمس سنوات شكلت محضناً ومدرسة قامت بصقل شخصية المهندس ووجهتها نحو المسار الذي عرفت به.



ففي إطار الكتلة الإسلامية التي انتمى إليها، بنى يحيى علاقاته وتصوراته، وطور ثقافته واطلاعه، وفهم الصراع الذي يحاك ضد الإسلام والحركة الإسلامية سواء في داخل الجامعة، وحتى في خارجها حيث الصراع المباشر مع الاحتلال الصهيوني. فالحواجز العسكرية على الطرق المؤدية إلى الجامعة ومداخلها والإغلاقات المتواصلة للجامعة إلى جانب المواجهات المباشرة والمظاهرات المناهضة للاحتلال وسياساته، تركت بصمات متكررة على وشغلت حيزاً كبيراً في يوميات يحيى عياش.



بداية علاقة يحيى مع الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت تعود إلى يوم 2 تشرين أول (أكتوبر) 1984. إذ جرت العادة عند الكتلة الإسلامية أن تقيم حفل تعارف يضم الطلبة من أبناء الكتلة وجميع الطلبة الجدد الذين يلبون الدعوة ويظهرون موافقة مبدئية على الانضمام إلى صفوف الكتلة. وتم خلال هذا اللقاء، الذي عقد في مسجد بيرزيت القريب من الحرم الجامعي القديم، التعارف بين الطلاب القدامى والجدد، وعرف الشهيد وقتها بنفسه قائلاً: «أخوكم في الله يحيى عياش من رافات - سنة أولى هندسة». وكانت عبارة (أخوكم في الله) هي عنوان المحبة بين كل أبناء الكتلة الإسلامية، وأثبتت الأيام أنهم جميعاً حقاً أخوة في الله(33).



وشارك المهندس إخوانه في كافة المواقع ومراحل الصراع والاحتكاكات المباشرة سواء كانت مع سلطات الاحتلال وحتى مع الكتل الطلابية المنافسة. وحققت الكتلة بروزاً وحضوراً سياسياً فاعلاً، وغدت تجمعاً طلابياً له وزنه ومكانته في العمل النقابي داخل الجامعة. ولعل أهم الأحداث التي شارك فيها شهيدنا تمثلت بتنظيم الكتلة الإسلامية مظاهرة طلابية عارمة يوم5 كانون أول (ديسمبر) من عام ،1986 ما لبثت أن تحولت إلى مواجهات عنيفة بين الطلاب وقوات الاحتلال الصهيوني أسفرت عن استشهاد اثنان من شباب الكتلة الإسلامية هما جواد أبو سلمية وصائب ذهب. وتركت هذه المواجهات آثارها البالغة على المهندس الذي شاهد أخاه وزميله جواد يسقط بالقرب منه إثر إصابته بوابل من نيران جنود العدو. ويؤكد الأستاذان إبراهيم وأبو محمد بأن يحيى لم يتخلف يوماً عن أي اجتماع للكتلة أو نشاط أو مسيرة داخل الجامعة. ويشدد الأستاذ أبو محمد في استعراضه لطبيعة يحيى ومآثره داخل الكتلة الطلابية الإسلامية على تميز المهندس باقتراحاته لرفع مستوى الكتلة وتطوير أدائها. ويضيف: «لا يذكر نفسه أو يمتدحها أثناء حديثه، ويتحدث بصوت خفيض دون أن يرفع صوته على أحد قط، وينسحب من أي نقاش تعلو فيه الأصوات. ولهذا، حرص يحيى على الطرح التوفيقي في تناوله للمواضيع أثناء النقاش، والابتعاد عن الثرثرة في المواضيع الجدلية. ومع كل هذا، كان يحيى لا يتكلم في المجموع ولا يتحدث بشكل مباشر إلا مع شخص واحد فقط ولا يزيد على ذلك»(34).



كان يحيى يمتاز بهدوءه المعروف وصمته دون أن يسهب في الكلام إذا ما طلب منه أن يبدي رأياً في موضوع معين. وعلى الرغم من ذلك، يقول مسؤول الكتلة الإسلامية: «كثيراً ما كان يطرح يحيى أموراً نشعر أنها أكبر من حجمنا أو أنها لا تتناسب مع هدوء شخصيته، مثل مطالبته الكتلة الإسلامية بالتشدد وميله إلى التلويح بالقوة لأخذ حق الكتلة والمحافظة على مكتسباتها في ظل الأجواء التي كانت تعترض الشباب المسلم»(35).



6- شيخ الإخوان في رافات



كشف أقطاب الحركة الإسلامية في الضفة الغربية، بأن يحيى عياش لبى دعوة الإخوان المسلمين وبايع الجماعة في بداية العام الدراسي الثاني (1985/1986)، وأصبح جندياً مطيعاً وعضواً عادياً بإحدى أسر (مجموعات) الإخوان المسلمين في مدينة رام الله. ويضيف هؤلاء بأن يحيى عمل بجد ونشاط وقام بكافة تكاليف وأعباء الدعوة الإسلامية سواء داخل الجامعة أو في مدينة رام الله وحتى في قريته. ووظف المهندس السيارة التي اشتراها والده في خدمة الحركة الإسلامية، حين دأب على السفر إلى رافات، وقام بإرساء الأساسات وشكل أنوية لمجموعات من الشباب المسلم الملتزم. وحينما انفتح الأفق على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كانت هذه المجموعات في طليعة السواعد الرامية ورماة القنابل الحارقة التي واجهت قوات الاحتلال خلال سنوات الانتفاضة المباركة. ونظراً للدور الريادي الذي قام به، وحكمته في حل المشاكل وتصفية الخلافات بين الشباب من مختلف الانتماءات السياسية والأيدلوجية، فقد اعتبرته الفصائل الفلسطينية (شيخ الإخوان في رافات)، رجعت إليه في كافة الأمور التي تتعلق بالفعاليات أو الإشكالات خلال الأعوام (1988 - 1992).



وتعد سنوات الانتفاضة الأربعة الأولى، من أكثر الفترات غموضاً في حياة المهندس. فباستثناء حادث واحد تمكنا من رصده، وهو قيام سلطات الاحتلال بفرض منع التجول على القرية يوم 12/10/،1991 ومن ثم شن هجوم تحت وابل من الأسلحة الرشاشة على مسجد رافات بحجة أن حماس تستخدم المسجد في التحريض على مقاومة الاحتلال، فإننا لم نستطع أن نعثر على مشهد آخر أو مظهر ثان يدل على آثار القرية وشبابها أثناء الانتفاضة. وهذا إن دل على شيء، فإنه -بلا شك- يدل أن تلك الفترة كانت الأكثر أهمية في حياة يحيى السرية والخاصة والتي ظهرت آثارها لاحقاً، غير أن جميع زملائه يتذكرون حادثاً وقع له أثناء عودته مع عدد من رفاقه بعد أدائهم لصلاة العشاء في مسجد أبو قش، إذ اعترضهم مجموعة من جنود الاحتلال في عدة سيارات عسكرية. وبعد عدة مداولات بين الجنود الإسرائيليين، أطلق العدو سراح الشباب باستثناء يحيى الذي قيدت يداه ورجلاه واقتيد في إحدى السيارات العسكرية إلى منطقة جبلية وعرة ومعزولة خارج القرية. وقد شعر يحيى بما يدبره الجنود حين توغلوا به في إحدى الأودية المعتمة، خاصة وأنه سمع عن استشهاد العديد من الشباب خلال الانتفاضة بمثل هذه الطريقة. وتوقع يحيى أن يطلق جنود الاحتلال النار عليه ليبدو الأمر وكأنه مقتل هارب من وجه السلطات، ولهذا رفض يحيى الانصياع لإرادة الجنود بمغادرة السيارة والابتعاد قليلاً، وبدلاً من الفرار، ظل يحيى ملاصقاً للجنود الذين راحوا يدفعونه بعيداً عنهم، إلى أن ظهرت فجأة ثلاث نساء يرتدين لباساً أبيض وبشكل غير متوقع توقفن لمشاهدة ما يحدث، الأمر الذي أربك الجنود وجعلهم يسرعون إلى سيارتهم ومغادرة المكان دون أن يقتلوا المهندس(36). وتؤكد صحيفة معاريف هذه الحادثة، حيث أشارت إليها في سياق تعليقها الذي نشرته تحت عنوان (القضاء على الأسطورة) يوم الأحد 7 كانون ثاني (يناير) 1996. وعلقت الصحيفة العبرية على الحادثة بالقول: «كانت هذه برهاناً على أن عياش محمي من قبل الله وأن أجهزة المخابرات الإسرائيلية غير قادرة على إصابته»(37).



ويكشف أبو الفداء -أحد المقربين من الشهيد قبل مطاردته، والذي شارك معه في تأسيس حركة حماس في رافات- بأن يحيى جاءه بعد صلاة يوم الجمعة في كانون الثاني (يناير) من عام ،1988 وطلب منه أن يرافقه إلى المسجد الأثري القديم الذي بني بأمر من الظاهر بيبرس. وعند وصولهما المسجد، قال له يحيى: «أيرضيك ألا يكون للإسلام صوت في انتفاضة القرية؟؟ لماذا لا نؤسس حركة حماس في القرية كما في غيرها». واتفق الاثنان وتعاهدا، فكانت شرارة حماس الأولى وانطلاقتها في القرية. ويضيف أبو الفداء، أنه خرج ويحيى ملثمين لإغلاق الشارع الرئيسي للقرية في يوم إضراب أعلنته حركة حماس، وفجأة ظهرت دورية عسكرية صهيونية على نفس الشارع. فاختبأ خلف الجدار الحجري القريب، وحين نظر أبو الفداء إلى يحيى، فإذا به يقرأ القرآن، ثم يقول له: «أبا الفداء، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»(38).



ويروي أبو الفداء حادثة أخرى، تعبر عن أخلاق يحيى وشخصيته القيادية، فيقول: «اجتمعنا في منزل يحيى ذات يوم لتدارس أوضاع الحركة والانتفاضة، فغضبت من شقيقي وصحت فيه لسبب ما، فزجرني يحيى وقال: نحن دعاة، لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»(39).



7- خطبة وبيت وزواج



بدأت العائلة القروية الصغيرة تلمس بدايات التحول في شخصية الابن البكر وغموض تحركاته، وبخاصة مع مطلع عام 1991. ويبدو أن رحلة المهندس بالإعداد والتجهيز لملاحم البطولة قد شغلت تفكيره وأخذت حيزاً كبيراً من وقته وجهده. وتتحدث والدته التي كانت من أقرب الناس إليه حول التغير الذي لمسته في حياة يحيى بتلك الفترة، فتقول: «في السنة الأخيرة لدراسته الجامعية، كان يبدو دائماً ساهماً، واجماً، شارد الذهن، مطرق الرأس.. يبدو عليه الانشغال والتفكير.. أسأله: ما بك يا يحيى، فيجيب لا شيء. وعندما ألح عليه يقول: إنني مشغول بموضوع التخرج والعمل بعد أن أتخرج. وبعد تخرجه من الجامعة، كان يبدو دائماً غامضاً وفي حياته سر. ولم أعلم بأنه يخفي عليّ أنه يدبر لشيء ما»(40).



ولأن حنان الأم يطغى في مثل هذه الحالات، وعاطفة الأب تقوده في اتخاذ القرارات، وبعد مداولات بين الوالدين، واعتقاداً منهما بأن ابنهما يمكن أن ينشغل في أمور الحياة الدنيا كغيره من أبناء جيله ويبتعد عما يمكن أن يشوش على تحصيله العلمي، قرر الوالد أن يغريه ببناء منزل مستقل ويزوجه إحدى قريباته. ويقول الشيخ عبد اللطيف متذكراً تلك اللحظات: «أثناء دراسة يحيى في الجامعة، ورغبة مني ترغيبه بالحياة، قمت بتشييد بيت له ووضعت الأساس وهو غائب عن المنزل. وعندما عاد من الجامعة وشاهد الأساسات، اعترض عليها وقال أنه يكتفي بغرفتين فقط ولا حاجة لبناء بيت كبير.. ثم خطبنا له عروساً وهي ابنة خالته، وفيما بعد اشتريت له حاسوباً وزوجته». ويشير الأب إلى أن قلقه على ابنه بدأ «بعد انتظام يحيى في دراسته، ففي السنة الدراسية الأولى في جامعة بيرزيت وقعت مظاهرات طلابية احتجاجاً على ممارسات الاحتلال مما أدى إلى استشهاد طالبين. وبعد استشهاد الشابين، وكان أحدهما صديقاً ليحيى، سارعت بالسفر إلى الجامعة رغم حظر التجول. وسرت مشياً على الأقدام لكي أصل إلى نور العين حتى التقيت بيحيى، فعانقته وقبلته كثيراً»(41). تزوج المهندس ابنة خالته، هيام عياش، بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) من عام 1991م. ولكن، سرعان ما طرق زوار الفجر منزله، وأصبحت القوات الخاصة وأعتى رجال الأمن والمخابرات الصهاينة من رواد البيت. فمضى يحيى في طريق العزة والكرامة تاركاً وراءه زوجة وابناً أسماه (براء) تفتحت عيناه على الحياة في 1 كانون الثاني (يناير) 1993. ولم يلتم الشمل مرة أخرى، إلا بعد نحو عام ونصف حين نجح المهندس في تخطي جيش المخبرين وضباط الشاباك والوحدات الخاصة التي كانت تداهم المنزل باستمرار، وانتقلت هيام مع براء إلى قطاع غزة، لتعيش الزوجة مع زوجها، ويتعرف الابن على أبيه المجاهد. وقد رزق المهندس قبل استشهاده بيومين فقط، بابنه الثاني الذي أسماه (عبد اللطيف) تيمناً بوالده، غير أن العائلة أعادت اسم يحيى إلى البيت حين أطلقت على الطفل عبد اللطيف اسم (يحيى).



8- ابن كتائب عز الدين القسام



الشهادة الجامعية وبخاصة في فرع الهندسة التي تؤهل صاحبها للمناصب والوظيفة المرموقة، إلى جانب الاستقرار والزوجة والابن والمنزل والسيارة وغيرها من المغريات النفسية والحسية التي توفرت للشهيد يحيى عياش لم تنل ممن قرر أن يعمل في سبيل الله مجاهداً محتسباً الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى. فمضى المهندس بهدوء وبدون أضواء متفرغاً وبشكل كلي إلى الهدف الذي لم يغب عن وجدانه يوماً واحداً: أن يعود علمه وذكاءه وقدرته وعمله إلى فلسطين وأن تعود فلسطين إليه. وأنشغل الشهيد منذراً نفسه لله ثم لهذا الدين، واشتعلت فلسطين بعملياته المتميزة نوعاً وعدداً، وعندها أيقنت الدوائر الإسرائيلية من سياسية وعسكرية وأمنية بأن يحيى عياش ليس رجلاً فلسطينياً عادياً. وبكلمات تفيض فخراً واعتزازاً بيحيى، يتحدث الشيخ عبد اللطيف عن أهداف المهندس ومبتغاه، قائلاً: «الله سبحانه وتعالى يكرم الشهيد بأن يجعله خالداً في قلوب الناس، ولو أراد إنسان أن يفعل ذلك فلا تكفيه فلوس الدنيا كلها لينال هذا الحب والتكريم. ويحيى كان يعمل لله، وليس طمعاً في منصب أو دينار. وكنت أكرر عليه مراراً: هل تريد من وراء هذا العمل أن تصبح مشهوراً أو مهماً أو أن تصبح رئيساً مثلاً. فكان الله يرحمه، يجيب، أعوذ بالله، أنا أريد فقط أن أبقى مجاهداً في سبيل الله حتى استشهد»(42).



بدايات المهندس مع العمل العسكري ترجع إلى أيام الانتفاضة الأولى، وعلى وجه التحديد عامي 1990 و 1991. فقد استقر لدى يحيى رأي ما لبث أن ترسخ لديه كقناعة وهدف، حيث بدأ يسعى لتحويل الحجر إلى قنبلة تنفجر في صدور المحتلين وتقض مضاجعهم. وبإلهام من الله سبحانه وتعالى وعون منه، توصل صاحب الحق إلى مخرج لمشكلة شح الإمكانات المتوفرة وندرة المواد المتفجرة، وذلك بتصنيع هذه المواد من المواد الكيماوية الأولية التي تتوفر بكثرة في الصيدليات ومحلات بيع الأدوية والمستحضرات الطبية. فكانت العملية الأولى بتجهيز السيارة المفخخة في رامات افعال بتل أبيب، وبدأت أثر ذلك المطاردة المتبادلة بين يحيى عياش ودولة الاحتلال وأجهزتها الأمنية والعسكرية.



قدر الله سبحانه وتعالى أن يكتشف العدو السيارة المفخخة في رامات افعال بطريق الصدفة، ويومها عرف خبراء المتفجرات الصهاينة أن عبقرية فذة في عمليات التفجير ستكون في مواجهتهم. وبعد تحقيق شديد وقاس مع المجاهدين اللذين اعتقلا أثر العثور على السيارة المفخخة، طبعت الشاباك اسم يحيى عبد اللطيف عياش في قائمة المطلوبين لديها للمرة الأولى. ولأن المجاهدين المعتقلين، لم يكونا على اطلاع بدور المهندس في تجهيز العملية والتخطيط لها، فإن ضباط الشاباك وضعوا اسم يحيى في المرتبة الخامسة من حيث الخطورة. ولذلك، داهمت قوات كبيرة من الجيش وحرس الحدود يرافقها ضباط ومحققين من الشاباك سلفيت وقراوة بني حسان بحثاً عن زاهر جبارين وعلى عاصي اعتقاداً بأن أحدهما قد نجح في التوصل إلى المعادلات الكيميائية المفزعة لهم.



وأما يحيى عياش، الذي عد نفسه مطارداً ومطلوباً لسلطات الاحتلال منذ ساعة اعتقال البطلين عماد عبد الرحيم وأحمد حسن، فإن الشاباك لم تكلف نفسها عناء تجهيز قوة لمداهمة قريته واعتقاله. ولعل اعترافات المجاهدين وملف يحيى في الإدارة المدنية وما يتوفر من معلومات لدى ضباط المخابرات أيام دراسته الجامعية أوحت للمحققين أنهم أمام شاب بسيط لا تتعدى تهمته توفير الخدمات أو تقديم المساعدة لكتائب الشهيد عز الدين القسام.



حين جلس يحيى يستعرض بهدوء شريط الأحداث التي أعقبت عثور جنود الاحتلال على السيارة التي أعدها، واستمرار عمليات المداهمة والتفتيش التي تركزت على المجاهدين الأربعة، زاهر وعلي وعدنان وعبد الفتاح، دون أن يبدو من سلطات الاحتلال وأجهزتها ما يدل على خططها تجاه المهندس، جمع الشهيد المعادلات المتوقعة وأخذ يقلب الاحتمالات الأرجح. وبعد تفكير عميق، وبفضل ذكاءه ورباطة جأشه، قرر المهندس أن يبادر بجس النبض عن طريق الإدارة المدنية الإسرائيلية في سلفيت. فطلب من خاله الذي يريد السفر إلى السعودية أن يقدم له طلباً لتصريح خروج إلى عمان موحياً لعائلته بأنه يريد مرافقة خاله للعمل هناك. وبعد يومين، ذهب الخال لإحضار التصاريح حيث تبين بأن الإدارة الإسرائيلية قد رفضت إعطاء الخال تصريح ابن أخته وطلبت أن يأتي يحيى بنفسه ليأخذه. ولكن المهندس رفض في اليوم التالي أن يذهب لمقر الإدارة المدنية، وطلب من والده أن يذهب بدلاً منه. وبعد مقابلة المسؤولين الإسرائيليين عاد الشيخ عبد اللطيف من سلفيت ومعه كتاب من المخابرات العامة (الشاباك) تطلب من يحيى الحضور، بزعم أن شخصاً قد اشتكى عليه ويجب أن يحضر إلى مقر الإدارة المدنية، وإذا لم يثبت عليه أي شيء، فإنهم -أي الإسرائيليين- سوف يعطونه التصريح ويعود إلى البيت(43).



وفي ظل إلحاح ومناشدة الوالد لابنه بالمثول أمام المحققين في مكاتب الإدارة المدنية الإسرائيلية، لثقته بأن يحيى لم يرتكب أي خطأ أو مخالفة يستحق عليها العقاب أو السجن. وبعد الضغط الشديد الذي تعرض له الشهيد القائد، يحسم المهندس أمره، ويقول لوالده مفصلاً موقفه بشكل حاسم: «إذا ذهبت إليهم، عمرك ما بتشوفني، لأني سأعيش بين أربع حيطان ولا تقدر على رؤيتي ولا أقدر على رؤيتك.... (ويصمت الشهيد برهة ثم يستأنف حديثه)... أنا لا أريد أن أخرج، أنا أريد أن أستشهد في وطني فلسطين»(44). وقبل أن يغادر المهندس المنزل، عانق والده وشقيقيه ثم توجه نحو والدته مودعاً: «يا أماه، إما النصر أو الشهادة ولا ثالث لهما بإذن الله»(45).



يعتبر يوم الأحد الموافق 25 نيسان (إبريل) من عام ،1993 بداية المطاردة الرسمية ليحيى عياش. ففي ذلك التاريخ، غادر المهندس منزله، ملتحقاً برفاق الجهاد والمقاومة، الذين كانوا يتخذون من كهوف ومغارات فلسطين قواعد انطلاق لهم في رحلاتهم المظفرة ضد جنود ودوريات الاحتلال. وفي مساء ذلك اليوم، داهمت قوات كبيرة من الجيش والمخابرات المنزل وقامت بتفتيشه والعبث بالأثاث وتحطيم بعض الممتلكات الشخصية للمهندس. وبعد أن أخذ ضباط الشاباك صورة الشهيد جواد أبو سلمية التي كان المهندس يحتفظ بها، توجه أحدهم لوالده مهدداً: «يجب على يحيى أن يسلم نفسه، وإلا فإنه سوف يموت، وسوف نهدم المنزل على رؤوسكم»(46). وتواصلت المداهمات والاستفزازات من قبل جيش الاحتلال وأجهزته، بهدف إشاعة جو الخوف والرعب بين العائلة القروية، اعتقاداً بأن ذلك يؤثر في معنوياتهم ويثني المهندس عن مسيرته المباركة. ولكن هيهات لهم ذلك، فقد واصل المهندس طباعة عناوين المجد والحرية وأعاد للحياة الفلسطينية طعمها، وخلال ثلاث سنوات، كان الشهد لفلسطين والعلقم لبني صهيون. وخاب ظن سلطات الاحتلال وأجهزتها القمعية التي حصدت الفشل في مخططاتها، وتخبطت في رحلة البحث عن المهندس، بينما وقفت أم يحيى في فخر واعتزاز تواجه محققي الشاباك وجنود الاحتلال حيث نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية والتي رافقت قوات الجيش التي داهمت منزل العائلة بعد عملية البطل صالح صوي في تل أبيب عن أم المهندس: «لقد تركنا جميعاً دون أن نشبع منه وداس على الشهادة الجامعية.. منذ أن أصبح يحيى مطلوباً، فإنه لم يعد ابناً لي، إنه ابن كتائب عز الدين القسام»(47).

السيف عدي
07-03-2008, 08:46 AM
ثالثاً: معالم وعبر



1- قاعدة عقائدية وإيمانية



البيئة العقائدية والإيمان الراسخ في أعماق النفس البشرية هي التي تبدع وتفرز ظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل الله مثل القائد يحيى عياش. ومن خلال تجذر هذه الأصول وصلابة حاملها، تتفجر مدخرات الطاقة في خلايا الجسم، ويتألق كل ما أودعه الخالق سبحانه وتعالى في هذه النفس من خلق وتجرد وإخلاص وصدق وتوكل وغيرها من خصائص الشهادة ومعاني البقاء والاقتداء.



ولئن غادرنا المهندس بعد نجاحه في الوصول إلى قمة هرم الصاعدين في زمن الهبوط وانتصاره في مسيرته الحياتية نحو الخلود، فإننا ما زلنا نمتلك التمسك بمبادئه وثوابته وتجربته التاريخية الزاخرة بمدلولات تبشر بدروس من السهل الاقتداء بها وتقليد العملاق الخالد على أرض فلسطين وتكرار مسيرته والتبشير بقدرات الأمة على إنجاب العظماء وصنع المستقبل المشرق. ونستطيع في تفصيل أن نورد إضاءات من القاعدة العقائدية والإيمانية التي حملت أعمدة العملاق الخالد:



أ- امتزاج الورع والتقوى بصفاء الروح وبساطة النفس. إذ أن يحيى كان ملتزماً ومطيعاً لله فيما أمر به أو نهى عنه. وهذ المفهوم لمعنى التدين ظهر عند المهندس من خلال إكثاره من قراءة القرآن الكريم وتلاوته وحفظه، ومن هنا يظهر لنا سبب إصراره بعناد وإقدامه الذي لم يعرف التردد في مسيرة الجهاد رغم تفوق العدو وقسوته.

ب- الجدية في الحياة وصلة الرحم وحب الناس وأداء الواجب. وهذا لا يعني بأي حال، أن الشهيد لم يكن صاحب مزاح أو مرح نظيف، وإنما كان يتجنب الصخب والعبث ويبتعد عن الأجواء الملوثة.

ج- توجيه وتكريس الحياة الدنيا لعمل الخير واعتبار ذلك وسيلة لبلوغ رضوان الله. ومن هنا، كان عطوفاً على الناس، يقدم المساعدة التي يقدر عليها لكل من يلجأ إليه.

د- كان التسامح سمة من سمات المهندس في علاقاته سواء في البيت أو القرية أو الجامعة، إذ كان يسامح من يسيء له ولم يحمل حقداً على أحد حتى ولو أساء إليه.

هـ- الهدوء والاتزان وعمق التفكير وكأنه كان يحلق في آفاق البحث عن رضوان الله مما ساقه إلى مبتغاه مع الأنبياء والصديقين، وعلى الرغم من هذا الهدوء الذي كان يصل إلى حد الفلسفة، إلا أن الكلمات سرعان ما تخرج من فمه كالحمم كبركان ثائر أو كالقنابل الزمنية تنفجر عند حدود فمه إذا ما سمع أو رأى أي تطاول على شريعة الله سبحانه وتعالى.

د- كان رجلاً ليس لذاته نصيب من الدنيا ومتاعها، إذ عرفه أصدقاءه ومعارفه وحركته عفيف اليد، زاهداً، لا يبتغي سوى مرضاة ربه. وعندما قامت حركة حماس بإرسال مبلغ من المال لإعانته على شؤون عائلته، أرسل إلى قيادته معاتباً: «بالنسبة للمبلغ الذي أرسلتموه، فهل هو أجر لما أقوم به؟ إن أجري إلا على الله وأسأله أن يتقبل منا. وأهلي ليسوا بحاجة وأسأل الله وحده أن يكفيهم، وألا يجعلهم يحتاجون أحداً من خلقه، ولتعلموا بأن هدفي ليس مادياً، ولو كان كذلك لما اخترت هذا الطريق، فلا تهتموا بي كثيراً واهتموا بأسر الشهداء والمعتقلين فهم أولى مني ومن أهلي»(48).



ولأنه لا يريد سوى مرضاة الله وجنته، فقد عمل الشهيد البطل بصمت في الخفاء مستعلياً على شهوات النفس والأضواء ووسائل الإعلام مما زاد في قدرته على المواجهة وإفشال عمليات الاستفزاز والاستدراج، وكل ذلك يفصح عن وعي عميق بطبيعة المعركة ومتطلباتها وعن التجرد والإخلاص للهدف والقضية. ولئن أحب يحيى العمل الجهادي بطريقة عاصفة، ملكت عليه كل جوارحه مؤثراً أن تتحدث عنه أعماله -لا أقواله- باعتبار أنه يمثل حركة وتاريخ وليس نفسه فقط، إلا أنه لم يكن يحب تضخيم أعماله ودوره، ويرجع الفضل إلى رب العزة سبحانه وتعالى مردداً وبشكل دائم الآية الكريمة وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. وقد أكدت أم البراء -زوجة المهندس- هذه الحقيقة، فقالت: «كان كتوم جداً تجاه هذه الأمور، ولم يكن يتحدث بالتفصيل عن الجهاد أو العمل الذي يقوم به.. الشهيد أبو البراء لم يكن يحب أن يسمع المبالغة في الكلام عنه، وكان يرفض الاستماع إلى الأناشيد التي تذكره أو تعمل دعاية له، وكان يقول لي إن هذا فيه تضخيم ومبالغة»(49).



2- الكتمان والسرية



استهداءً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، تعمل كتائب الشهيد عز الدين القسام بطريقة سرية منظمة، جعلت من مخططات أجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية لاختراق بنية الجهاز العسكري لحركة حماس ومحاولات رصد عملياته قبل وقوعها أمراً في غاية الصعوبة. وليس سراً أن كتائب الشهيد عز الدين القسام تفتخر بطريقة عملها ومنهجها في تكوين الخلايا وتنظيم عملها، فالجهاد مرصود وإجهاضه استراتيجية صهيونية وعالمية، خاصة بعد أن أصبح الإسلام هو العدو الأول لمعسكر النظام العالمي الجديد وأدواته. وفي حالة الشهيد القائد، تتجاوز طبيعة (الكتمان والسرية) الحدث الطارىء أو الحاجة الآنية، لتصبح خلقاً راسخاً وعادة متمكنة، إذ يقول أصدقاء المهندس ورفقاء دربه بأن حساسية يحيى تجاه السرية لا مثيل لها. ويضيف أحد الذين عملوا في الخلايا التابعة لقيادته: «مضت عدة شهور قبل أن اكتشف أن المرأة التي كانت تجلس في أحد الحقول في منطقتنا هي في الحقيقة المهندس يحيى عياش»(50).



في البرنامج الأسبوعي (ندوة مفتوحة) الذي بثته التلفزة الإسرائيلية على الهواء بصورة حية ومباشرة وضم خبراء وأساتذة جامعات متخصصين في الشؤون العربية والإسلامية، حاول هؤلاء إجهاد أنفسهم طوال (30) دقيقة لتقديم إجابات منطقية وموضوعية عن أسئلة مقدم البرنامج الذي استهل الحديث قائلاً: «المطلوب يحيى عياش يعيش في سباق مع الزمن، فمسلسل الهجمات العنيفة التي نفذها جعلت منه هدفاً رئيساً ذو أولوية أولى لجهاز الشاباك.. المهندس الذي احترف الدمار والقتل يمثل أكثر من أي شيء آخر التعصب الإسلامي المتطرف ومنظماته التي وضعت نصب عينيها تقويض مسيرة السلام.. أجهزة الأمن درست شخصيته وتركيبته الفسيولوجية بعناية في محاولة للعثور على نقطة ضعف واحدة تقود إلى إلقاء القبض عليه، ولكن هذه السمات الفسيولوجية تشكل أيضاً منطلقاً أساسياً لفهم ظاهرة التعصب الديني لأناس من طراز المهندس.. فكيف يعمل؟.. من الذي يوجهه؟.. من يختار الانتحاريين؟.. لماذا لم تفلح أجهزة الأمن الإسرائيلية حتى الآن في إلقاء القبض عليه؟». وعلى أثر هذه المقدمة، بدأ شمعون رومح -أحد كبار قادة الشاباك السابقين- حديثه قائلاً: «إن الصورة المرسومة للمهندس ليست مجرد وهم أو خيال صنعته وسائل الإعلام من العدم، فلهذا الرجل سر في النجاح. وسر نجاحه يكمن بادىء ذي بدء في السرية المتناهية التي يعمل بها ويسلكها في تحركاته، فهو يعمل مع عدد مقلص جداً من الأشخاص الذين يقومون بدور حلقة الاتصال ما بينه وبين الجهات التي يعمل معها.. وهو في الغالب لا يطلعهم سوى على الحد الأدنى اللازم من المعلومات المتعلقة بنشاطاته وتحركاته، فضلاً أن اتصاله بهم يتم بوجه عام بمبادرة منه وليس منهم، وذلك حتى لا تتوفر بحوزة أحد منهم معلومات قد تقود في حال تعرضهم للاعتقال إلى الوصول إليه أو إلى مأواه السري. ولا يعلم أي من أعضاء الخلايا الذين يعملون تحت أمرته، وعادة يمنحون أسماء حركية، من أين تأتي المتفجرات أو من الجهة التي تصدر الأوامر». ولاحظ ضابط المخابرات السابق تأكيداً على ذلك أنه حدث في العديد من الحالات أن اعتقل أشخاصاً عملوا مع المهندس طوال ثلاث سنوات، إلا أن اعتقال هؤلاء حتى في الحالات التي أرغم فيها بعضهم تحت التعذيب على الإدلاء بمعلومات لم يقد إلى اعتقال المهندس نفسه(51). كما أن اسم المهندس لم يظهر في لائحة الاتهام التي وجهت لسعيد بدارنه وطاهر كبها اللذين اتهمتهما سلطات الاحتلال بالتخطيط لعملية الخضيرة وتجنيد عمار عمارنه لتنفيذ تلك العملية، إلا أن المخابرات الإسرائيلية تجزم بأن المهندس كان وراء العملية على الرغم أنه لم يقم بتجنيد عمار أو تدريبه وربما لم يره أبداً ولكن الاتصالات بين الاثنين تمت بواسطة سعيد وطاهر(52).



وكمثال حي على حساسية المهندس تجاه السرية، تروي لنا والدته قصة لقاءها به في شهر أيلول (سبتمبر) من عام ،1995 ومن خلال هذه الرواية يتجلى حرص الشهيد القائد على سرية العمل حتى عن أقرب المقربين إليه وأحبهم إلى قلبه. فتقول الأم الصابرة المحتسبة: «في أحد الأيام جاء شاب إلى البيت وقال لي: هل تريدين رؤية يحيى؟.. فوجئت بالسؤال ولم أصدقه، ولكن الشاب أخرج من جيبه صورة حديثة يظهر فيها يحيى مع ذلك الشاب.. وبدون تردد قلت له: خذني إلى ابني، أريد أن أراه مهما كانت العواقب. وبعد ذلك، أركبني في سيارة على نوافذها ستائر سميكة حتى لا أرى شيئاً في الخارج. ومشت بنا السيارة مدة من الزمن ثم توقفت، وقبل أن أنزل من السيارة عصبوا عيوني ثم اقتادوني إلى مكان يحيى. وعندما أزالوا العصبة عن عيني، شاهدت يحيى أمامي، فبكيت من الفرحة واحتضنت ابني الحبيب وشاهدت زوجته وابنه، واطمأن قلبي أنهم جميعهم بخير.. مكثت في ضيافة يحيى أسبوعين، وطلب مني يحيى البقاء عنده والعيش معه وقال لي أن اليهود سوف يعتقلونك ويحققون معك، لأن العملاء كثيرون وسوف يعلمون أنك غبت عن البيت طوال هذه المدة. ولكني رفضت أن أكون مطاردة مع ابني، وقلت له أنني سأعود إلى بيتي وزوجي وولداي اللذان سيخرجان من السجن قريباً، ثم ودعت ولدي يحيى وزوجته وابنه براء وعدت إلى بيتي كما أتيت دون أن أعلم أين ذهبت ولا في أي طريق سارت بي السيارة في الذهاب أو الإياب.. أثناء وجودي عند يحيى، كان شاب يحضر لنا الأكل ويدخله من الباب ثم يغلق الباب ويذهب»(53).



3- التخلص من أعين الأعداء



لم يتأثر أحد بحساسية مفرطة تجاه القائد الشهيد يحيى عياش بقدر ما تأثر رئيس الوزراء الإسرائيلي، اسحق رابين الذي كان يضطلع بالمسؤولية المباشرة عن أنشطة الموساد والشاباك بحكم توليه منصب وزير الدفاع أيضاً. فقد شكلت أسطورة المهندس شبحاً متعباً وثقلاً كبيراً جثم على صدر اسحق رابين الذي خصص جيشاً برمته لإطلاق النار على يحيى عياش دون إنذار بمجرد وقوع أنظارهم عليه، لما كان يسببه من الهلع والفزع في أوساط قادة الصهاينة وجمهورهم. ولكن براعة المهندس الفائقة في مواجهة مطارديه وعبقريته في التخفي والمراوغة والإفلات من الكمائن التي كانت تنصب له من قبل عدة آلاف من جنود الوحدات المختارة من الجيش الإسرائيلي وقوات حرس الحدود والشرطة بالإضافة إلى عدة مئات من أفراد جهاز المخابرات العامة (الشاباك) ووحدات استخبارية عسكرية خاصة كلفت بالمشاركة في أوسع وأكبر حملة مطاردة تنظمها الدولة العبرية في تاريخها، جعلت ملاحقيه يطلقون عليه لقب (العبقري) و(كارلوس الثعلب) و (الرجل ذو ألف وجه) وينسبون إليه صفات الرجل المقدس، والإنسان الذي يمتلك سبعة أرواح، ومن يرى ولا يُرى، وهي أمور حاولت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية إخفاء عجزها وراءها(54). فقد بحثت سلطات الاحتلال عن المهندس طوال أربع سنوات، وخلال تلك المدة، استمر القائد في عملياته بدون توقف أو هدوء. فجند الخلية تلو الأخرى، وبعث فيها روح المبادرة والنشاط بعد كل ضربة كان الصهاينة يوجهونها للمجموعات الجهادية. وبعد كل عملية، تعترف سلطات الاحتلال بأن -حتى أخباره- تختفي اختفاءً متقناً مما أصاب قيادة الشاباك في حيرة إزاء لغز المهندس.



ويقول مسؤول في الشاباك تولى مسؤولية ملاحقة (المهندس) فترة من الزمن: «إن يحيى عياش يبرهن على قدرة عالية جداً في البقاء، وقد تبين أنه ذكي ومتملص بارع ويحرص على استبدال مخبئه بوتيرة عالية، وهذا ما جعل مسألة العثور عليه بالغة الصعوبة. وبلا ريب أنه كالسحر أو الكابوس كلما اقتربنا منه تنشق الأرض وتبتلعه»(55). وفي ضوء الفشل الذي منيت به الشاباك لأكثر من ثلاث سنوات، اضطر اسحق رابين إلى إعفاء الجنرال يعقوب بيري من مسؤوليته على رأس جهاز المخابرات العامة واستبداله بالجنرال كارمي غيلون الذي تعهد لدى تسلمه منصبه بأن تكون مهمته هي تصفية المهندس يحيى عياش.



أما أصدقاء المهندس الذين عرفوه عن كثب فيقولون بأنه من أكثر الناس حباً في التخفي والسرية لدرجة أنه يفضل إخفاء وتغيير ملامحه حتى أمام أصدقائه واخوته في كتائب الشهيد عز الدين القسام. ويتضح من حديث الذين لازموه خلال رحلته الجهادية بأنه يبدل يومياً، وإذا ما اقتضت الضرورة عدة مرات في اليوم الواحد، هيأته التنكرية وهويته، ولم يكن ينام أكثر من ليلة واحدة في نفس المكان. ومن القصص التي ترويها المجموعات الأمنية التي عملت تحت قيادة المهندس، أن يحيى لجأ في أحد الأيام إلى إحدى المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948 متخفياً كحاخام يرتدي الملابس التقليدية للحاخامات اليهود بما في ذلك القبعة السوداء ومن تحتها تنطلق ذوائب مستعارة تناسب لونها شعر ذقنه الأسود الكثيف، بينما تدلى رشاش العوزي على كتفه مما زاد في عملية التضليل، وفي المساء عاد المهندس إلى الضفة الغربية متنكراً على هيئة رجل دين مسلم(56).



ويضيف سعيد أبو طه، الذي قدمته أسبوعية يروشلايم العبرية في حزيران (يونيو) 1995 على أنه عضو في إحدى الخلايا التي عمل معها المهندس بأن يحيى اعتاد استبدال الأماكن التي يأوي إليها نحو عشر مرات يومياً، كما أنه لا يكثر من الحديث ولا ينفعل إزاء الاهتمام المكرس له في الصحف المحلية والعالمية. ولعل هذا الحرص الشديد الذي ميز تحركات المهندس هو الذي أتاح له النجاح في مواجهة حملة الملاحقة المكثفة التي استهدفته طوال أربع سنوات.



والحقيقة التي يؤكدها ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي والشاباك أن المهندس كان بارعاً جداً في التنكر وأساليب التخفي حتى أن أساليبه فاقت أساليب عمل الوحدات الإسرائيلية الخاصة المعروفة باسم (المستعربين) والتي يتنكر أفرادها بهدف اغتيال نشطاء الانتفاضة. ويؤكد هؤلاء الضباط بأن يحيى تمكن من التنقل بسهولة داخل المناطق ذات الأكثرية اليهودية في وضح النهار مستخدماً عدة بطاقات هوية منها ما هو حقيقي ومنها ما هو مزور إلى جانب الحرص على قيادة سيارة بلوحة إسرائيلية مليئة بالملصقات التي يضعها المتطرفون اليهود في العادة مثل: «الجولان لنا» و«الخليل مدينة يهودية إلى الأبد» و«الله أعطى هذه الأرض لليهود» و«استعدوا لقيامة المسيح» وغيرها من الملصقات(57). ومع هذا الغموض وجدت الدولة العبرية نفسها في دوامة خانقة حين انهالت البلاغات والمكالمات من المستوطنين الذين تحدثوا عن مشاهدة (المهندس) في الحافلات أو سائراً في أحد الشوارع في عدة مدن وفي نفس الوقت، وكانت صحيفة معاريف المسائية الإسرائيلية قد نشرت يوم 24 كانون ثاني (يناير) 1995 صورتين ليحيى عياش يظهر في أحدهما بذقن كبيرة وفي الأخرى حليقاً وتحتهما سألت بخط كبير: «أين يختبىء؟» على أمل أن يساهم ذلك في زيادة إمكانية التعرف عليه بالصدفة إذا كان يلتجىء حقاً إلى المناطق ذات الأكثرية اليهودية(58).



إن نجاح المهندس في الوصول إلى قطاع غزة يعتبر في حد ذاته ضربة قاسية للكيان الصهيوني، جعلت اسحق رابين في اجتماع القيادة المشتركة للموساد والشاباك وآمان (المخابرات العسكرية) يضرب الطاولة بغضب شديد، مطالباً بتفسيرات واضحة حول الكيفية التي استطاع المهندس خلالها أن يتجاوز آلاف المخبرين الإسرائيليين الذين كانوا يطاردونه وتضليل كافة أجهزة الأمن الإسرائيلية.



4- جهاد نصر أو استشهاد



البعد الآخر في شخصية يحيى عياش أو (المهندس) يتمثل في إصراره على مواصلة العمل والنشاط واستعداده الدائم للاستشهاد والموت في سبيل الله ورفض الخروج أو الهرب خارج فلسطين المحتلة على الرغم من إمكانية ذلك. فالرجل الذي أرعب قيادات الاحتلال وجنوده ومستوطنيه، وجعلهم يحفظون صورته عن ظهر قلب ويعلقونها في مكاتبهم كان يدرك أن يومه سيأتي لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقضي متى تصل حياة الإنسان إلى نهايتها. ولكن هذا الإدراك لا يمنع الإنسان المؤمن أو يحول دون استمراره في الجهاد وتوريث خبرته وعلمه لإخوانه. ولهذا، كان وجه يحيى يحمر غضباً حين يحدثه إخوانه عن مغادرة الوطن لفترة ويرد عليهم: «مستحيل فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين إما نصر أو استشهاد، إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين»(59).



تقول زوجة الشهيد القائد: «عهدته دائماً غير مهتم بالدنيا وكثير الحديث عن الآخرة والجنة والشهادة. ويذكر الشهداء جميعاً وبخاصة علي عاصي وعدنان مرعي وصالح نزال، وحدثني في المدة الأخيرة عن إحساسه باقتراب موعد استشهاده، بل إنه تذمر واشتكى لأن هذه الأمنية تأخرت». وتضيف أم البراء: «أخبرني يحيى أن بعض الشهداء أمثال علي عاصي وعدنان مرعي جاؤوه في المنام ليسلموا عليه. وقبل عدة أيام من استشهاده، رأى يحيى الشهيد أبو جهاد -علي عاصي- في المنام وقال له: السلام عليكم، وسأله عن الجهاد بينما سأله يحيى عن الشهيد عدنان مرعي ثم سلم عليه ومشى»(60). وتؤكد زوجة المهندس رغبة زوجها بالموت شهيداً، فقد غضب واستاء من سؤالها وطلب منها عدم تكرار الحديث حين توجهت إليه مرة بالسؤال: «لماذا لا تسلم نفسك؟ فهذا على الأقل سيمكننا من زيارتك في السجن»، بل أنه قال لها عندما سألته عن سبب تجوله بقنابل على جسمه بأنه يريد أن يفجر نفسه في اللحظة التي يحاول فيها أحد اعتقاله(61).



ثمة هدف أو أمنية لا تقل أهمية عن أمنية المهندس أن ينال الشهادة كما نالها رفاقه من قبل، وهي أن يترك بعد موته فرساناً آخرين يحملون الراية. ففي رسالته الأخيرة والتي كتبها قبل استشهاده لقيادته في حركة حماس، قال: «لا تنزعجوا، فلست وحدي مهندس التفجيرات، فهناك عدد كبير قد أصبح كذلك، وسيقضون مضاجع اليهود وأعوانهم بعون الله»(62).

السيف عدي
07-03-2008, 08:47 AM
الفصل الثاني



مهندس في ورشة المقاومة


أولاً: الانطلاقة المباركة



ابتداءً، إن عملية جمع المادة الإعلامية عن كتائب الشهيد عز الدين القسام التي تشكل عملياً الجهاز العسكري لحركة حماس ليست مهمة سهلة، وبالتالي فإن عمليات التحقيق والتثبيت والإحاطة بكافة الجوانب المتعلقة بجهاد المهندس ومشاركته في الكتائب القسامية لم تكن مهمة سهلة. فالشهيد القائد، لم يكن يعمل لوحده، وبالتالي فإن بعض أسراره قد لا تذاع أو يكشف عنها الستار. والأمر الثاني يتعلق بأسلوب المهندس وسريته المتميزة، إذ أنه لم يكن يترك وراءه خيطاً واحداً يقود أعدائه إلى مخبأ أو خطة من خطط المستقبل. وأما الأمر الثالث الذي جعل مهمتنا صعبة، فهو يتعلق بكتائب عز الدين القسام. فهذا الجهاز، وبحكم طبيعته ومهماته، جهاز سري وعناصره معرضون للاستشهاد أو الاعتقال الفوري لمدد طويلة جداً. ولذلك، فإن المعلومات المتوفرة عنه تعتبر قليلة جداً. وبناء على ما سبق، فإن ما يمكن أن ينشر عن جهاد المهندس يحيى عياش يستند إلى أمرين:



الأول: تغطية وسائل الإعلام وبخاصة العبرية منها حين يتعلق الموضوع بإحدى العمليات العسكرية التي تنفذها حركة حماس، أو عند إلقاء القبض على مجموعة مجاهدة لكتائب القسام ينسب إليها تنفيذ عمليات محددة.



الثاني: لوائح الاتهام التي توجه للمجاهدين المعتقلين حين يتم تقديمهم للمحاكم العسكرية تمهيداً لإصدار الأحكام عليهم.



المتابع لوضع حركة (حماس) في فلسطين المحتلة عموماً، وجهازها العسكري على وجه التحديد، يلمس أن عملية تنظيم المناطق والمجموعات العسكرية قد سارت بانتظام وبوتيرة سريعة في قطاع غزة بسبب محدودية المساحة الجغرافية والكثافة السكانية العالية، بينما شكل الانتشار الجغرافي الكبير للتجمعات السكانية في الضفة الغربية عقبة أمام عملية تنظيم الصفوف وتكوين الخلايا. كما أن عملية إقامة وترسيخ البنى التنظيمية في الضفة استلزمت عدداً أكبر بكثير من الكوادر وأجهزة أكثر اتساعاً وتعقيداً. وعلى الرغم من هذه الصعوبات،إلا أنه يمكن القول بأن حيوية الجهاز العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية وكفاءة قيادته أبقت الأطر التنظيمية متماسكة حيث قسمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق عمل رئيسة، وقفت على رأس كل منطقة منها قيادة مستقلة: منطقة الشمال وتضم نابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية - منطقة الوسط وتشمل القدس ورام الله والبيرة - ومنطقة الجنوب وتضم الخليل وبيت لحم وحلحول. وهذه المناطق قسمت بدورها إلى مناطق فرعية لتسهيل عمليات التجنيد والتوجيه والتدريب والدعم الميداني (اللوجستي). واعتمدت المناطق الرئيسة في تشكيل خلاياها ومجموعاتها على الشكل العنقودي أو الانشطاري، وهذا الشكل يتيح مجالاً أوسع في حرية العمل والحفاظ على أمن كل من الأفراد والتنظيم على حد سواء.



عند التركيز على منطقة الشمال وهي المنطقة التي عمل المهندس من خلالها في بداية تنظيمه للعمل العسكري نلاحظ فعالية هذا الأسلوب، فقد تعرضت المنطقة لضربة عنيفة في الربع الثاني من عام 1992 أثر اعتقال الشيخ محمد أبو طير ومجموعته. وعلى الرغم من الآثار التي خلفها هذا الاعتقال وغياب شخصية رئيسة مثل الشيخ أبو طير، إلا أن ذلك الاعتقال لم يكشف الخلايا والمجموعات العسكرية العاملة إذ انتقل مقر القيادة الميدانية للمنطقة إلى مدينة نابلس واختير المجاهد الرمز زاهر جبارين (أبو إسلام) قائداً لمنطقة الشمال في كتائب الشهيد عز الدين القسام. وقد أجمع المحللون والخبراء العسكريون الصهاينة أن الهيئة القيادية التي جمعها المجاهد أبو إسلام لمعاونته في تولي المسؤولية العسكرية وتوجيه المجموعات بشكل جماعي قد ساهم مساهمة فعالة ومؤثرة في الانتقال بكتائب الشهيد عز الدين القسام من مرحلة البداية إلى مرحلة العمل النوعي المتميز والدائم ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه. وكان لارتفاع مستوى الفهم التنظيمي والوعي السياسي لدى أعضاء الهيئة القيادية التي عرفت باسم (الفريق الرباعي) الدور الأكبر في ارتفاع مستوى التدقيق في نوعية الأهداف التي استهدفتها العمليات العسكرية لمجموعات شمال الضفة والتي ركزت في مراحلها الأولى على الجنود باعتبارهم جزءاً من المؤسسة الحربية الإسرائيلية. وأما المستوطنين الذين استهدفتهم العمليات في مرحلة لاحقة، فهم إما يخدمون في وحدات نظامية أو في قوات الاحتياط أو في وحدات الدفاع اللوائية والحرس المدني. ولهذا، فإنهم، أي المستوطنين، يحملون سلاحاً ويحصلون عليه بصورة منظمة من الجيش ويستطيعون بالتوقيع على نموذج معين أن يأخذوا هذا السلاح معهم إلى منازلهم. ولكن الأمر الأهم، هو أن هؤلاء يشكلون موقعاً متقدماً في خطة الحرب وآلة القمع الموجهة ضد أبناء الشعب الفلسطيني.



1- الفريق الرباعي



خلافاً لما كان يتوقعه جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك) وضباط القيادة في هيئة الأركان الحربية الإسرائيلية، جاءت عملية انتقال القيادة الميدانية للفريق الرباعي وكأنها عملية تبديل اعتيادية روتينية تجريها قيادات الجيوش عادة بين فترة وأخرى.

ويعزى هذا الأمر إلى سببين، الأول صفاء وإخلاص القادة الأربعة للتضحية والجهاد في سبيل الله. والثاني، حالة التجانس والتوافق التي ظهرت بين أعضاء هذا الفريق مما جعله يعمل بحق كقيادة جماعية مسؤولة وفق برنامج العمل الجهادي المنظم الذي يقوم على مجموعات فدائية مهيئة تربوياً ومعنوياً ومجهزة بكافة وسائل الاستعداد الضرورية من مخابىء وأسلحة ووسائل مواصلات واتصالات إلى جانب متابعة وضع القواعد ورصد المشبوهين وعملاء الشاباك. ولم يكن هذا التجانس وليد الصدفة، فالأربعة تربوا في المحضن التربوي لجماعة الإخوان المسلمين، وهم ينحدرون من ثلاثة قرى متجاورة: رافات، وقراوة بنى حسان، و سلفيت. ومن خلال النشاطات الدعوية والتنظيمية التي كانت تنظم على مستوى القرية أو مجموعة القرى، تعرف الشهيد يحيى عياش على إخوانه الثلاثة، وتوثقت تلك المعرفة إلى علاقة أخوية حميمة جمعت بين الأقطاب الأربعة. ومع تفجير الانتفاضة الفلسطينية المباركة في كانون أول (ديسمبر) عام ،1987 شهدت القرى الثلاثة فعاليات جهادية جماهيرية بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، كان للتنسيق بين الفريق الرباعي الدور الريادي في نجاح وفعالية تلك المواجهات.

وقبل أن ننتقل لشرح الواقع الذي كانت عليه منطقة الشمال حين استلم الفريق الرباعي دفة المسؤولية العسكرية، لا بد من تقديم استعراض مختصر عن أعضاء هذا الفريق الذي نقل كتائب الشهيد عز الدين القسام في وقت قصير نسبياً باتجاه تصعيد العمليات العسكرية المسلحة نحو الذروة ليس في منطقة الشمال فحسب وإنما في مختلف أرجاء فلسطين المحتلة:



القائد يحيى عبد اللطيف ساطي عياش (أبو البراء).



القائد زاهر علي موسى جبارين (أبو إسلام): ولد في بلدة سلفيت بقضاء نابلس عام 1968م لعائلة فلسطينية معروفة، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي. وخلال دراسته الثانوية، انتظم مع جماعة الإخوان المسلمين حيث عمل في مجال الدعوة والتنظيم. وبعد تفجر الانتفاضة المباركة، انهمك في النشاطات الميدانية الجماهيرية حتى عام 1989. ففي ذلك العام، جرى فرزه للعمل في نطاق الجهاز العسكري (المجاهدون الفلسطينيون). وأستمر في عمله حتى مطلع عام ،1992 حين كلف بقيادة الخلية الأولى في كتائب عز الدين القيام في شمال الضفة الغربية. وكان وقتها يدرس في جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس.



القائد علي عثمان محمد عاصى (أبو جهاد): ولد في قرية قرواة بنى حسان عام ،1964 وشارك في فعاليات الانتفاضة كأحد قادة حركة حماس في المنطقة. وكان يقوم على خدمة المطاردين من نشطاء الحركة، ثم فرز للعمل الجهادي وأصبح لجرأته وذكائه عضواً قيادياً في الجهاز العسكري، وهو متزوج وله خمسة أطفال.



القائد عدنان عزيز أحمد مرعي(أبو مجاهد): ولد في قرية قراوة بنى حسان عام 1968: وبدأ حياته الجهادية في مرحلة مبكرة من عمره حيث شارك في مظاهرة عارمة عام 1978 ضد مظاهر الانحلال والفساد، فاعتقلته الشرطة الإسرائيلية. ولكنه لم يجزع، بل زاده ذلك إصراراً على مواصلة طريق الجهاد والتصدي للعملاء والمتساقطين، وفي بداية عام ،1987 التحق بركب الدعوة الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين)، وكان شديد الحب والحرص على الجهاد. ومع انطلاقة الانتفاضة المباركة، كان أبو مجاهد في طليعة السواعد المجاهدة في حركة حماس حيث اعتقل في تموز/ يوليو ،1988 لمدة خمسة عشر يوماً، وعاد الشهيد بعدها لقيادة المواجهات من جديد، ولم ترهبه العيارات المطاطية التي أصابته عدة مرات ولا العيارات النارية التي أصابت فخذه الأيمن في أيلول / سبتمبر ،1988 إذ أنه عاد مرة أخرى لمقارعة الاحتلال حتى اعتقل في 27أيلول/ سبتمبر1989 وصدر عليه حكم جائر بالسجن لمدة عامين ونصف بتهمة العضوية في حركة حماس والمشاركة في فعالياتها الجهادية وإلقاء زجاجات حارقة وتفجير خزان مياه المستوطنات القريبة من قريته. وفي السجن كان أبو مجاهد من أنشط المجاهدين في مجال الأمن، فقد حقق مع العديد من العملاء وتاب على يديه الكثيرين. وبعد خروجه من السجن في 27أذار/ مارس ،1992 التقى مع إخوانه في كتائب عز الدين القسام.



2- منطقة شمال الضفة الغربية



تمتاز منطقة الشمال بالضفة الغربية باتساع الرقعة الجغرافية والكثافة السكانية مقارنة بمنطقتي الجنوب والوسط. وهذه الميزة، جعلت العمل العسكري لحركة المقاومة الإسلامية يتفاوت بالقوة والطبيعة بين المدن الثلاث الرئيسة: نابلس وجنين وطولكرم. فمدينة نابلس، ضمت مجموعة من المطاردين المنتمين إلى حركة حماس أصلاً، ولذلك سارت عملية تجنيد وتنظيم المجموعات بشكل أسرع مما سارت عليه مدينتي جنين وطولكرم، ولئن كان هؤلاء المطاردين قد انتظموا في السابق على هيئة خلايا عملت بشكل منفرد بسبب ضعف الاتصالات بين الأجهزة التنظيمية، إلا أن الفريق الرباعي تمكن من معالجة هذه السلبية في غضون وقت قصير بعد استلامه دفة القيادة.



وخلافاً لما كان عليه الحال في مدينة نابلس، فإن عملية تشكيل الخلايا في مدينتي جنين وطولكرم سارت ببطء. ولذلك نشط الفريق الرباعي وبشكل حثيث بإجراء الاتصالات منذ منتصف عام 1992 لرفد الكتائب القسامية الناشئة بالعناصر المؤهلة إلى جانب الاتصال مع المطاردين الذين كانت تغص بهم مدينة جنين والقرى المحيطة بها لاختيار المؤهل منهم للعمل في صفوف الجهاز العسكري لحركة حماس. وبرز من المطاردين الذين جرى الاتصال بهم كل من الشهيدين إبراهيم سليمان سليم جلامنه (20 عاما) وإبراهيم سعيد إبراهيم زريقي (21 عاماً) اللذين عملا في السابق في إطار الفهد الأسود التابع لحركة فتح ضمن خلية واحدة قامت بنصب كمائن لدوريات الاحتلال حيث اتفق القائد علي عاصي معهما على العمل في إطار الكتائب، ولكن التطبيق العملي لهذا الاتفاق لم ير النور، إذ تعرض المنزل الذي كان يختبىء فيه الشهيدين في الضاحية الشرقية لمدينة جنين لحصار من قبل الوحدة الخاصة بحرس الحدود بعد يوم واحد من إبلاغهما قيادتهما السابقة قرارهما الانضمام لحركة حماس. ولم يكد يمضي وقت طويل على استشهاد البطلين في مدينة جنين، حتى نجح المهندس يحيى عياش في استقطاب المجاهد عصام عبد العزيز موسى براهمة الذي كان له دور مميز في الدفاع عن نشطاء وأنصار حركة حماس في منطقته(1).



استكمل الفريق الرباعي مستلزمات الانتقال بالجهاد نحو مرحلة الدفع بقوة باتجاه تنفيذ العمليات العسكرية وتحديد الأهداف في الربع الأخير من عام ،1992 وذلك بعد أن وصل المهندس بالهام من الله وسعيه الذاتي وبعون وتدريب من الشيخ صبري حسين موقدة* [الشيخ صبري حسين موقدة: ولد في قرية الزاوية القريبة من مدينة نابلس عام 1939م وهو عضو في جماعة الإخوان المسلمين منذ فترة طويلة وتعرف الشيخ الذي يعمل إماماً لمسجد القرية على المهندس أثناء دراسة الأخير في الزاوية، و ومن خلال النشاطات الدعوية في المنطقة. وقد اعتقلته سلطات الاحتلال في تشرين الثاني ،1994 ووجهت له تهمة تدريب المهندس.] إلى مبتغاه الذي كان يبحث عنه وهو تحويل المواد الكيماوية والأولية إلى متفجرات.



3- المهمة الأولى تواكب إضراب الحركة الأسيرة



في الوقت الذي كان فيه أسرى المقاومة في المعتقلات والسجون الصهيونية يعلنون إضرابهم عن الطعام مطالبين بحقوقهم الإنسانية، كان المهندس يقوم بالتحضير لهجوم مسلح للإعراب عن تضامن حركة حماس مع المعتقلين. فبعد أن قامت مجموعة استطلاع في منطقة الوسط (القدس ورام الله) بتجميع كافة المعلومات المتعلقة بتنقلات دوريات الاحتلال وسيارات المستوطنين في منطقة قرى غرب رام الله، حددت قيادة المنطقة الطريق المؤدي لمستوطنة متتياهو الواقعة على قمة جبل يطل على قرية خربتا بنى حارث كمكان ملائم لنصب كمين على هذا الطريق الذي يشهد عادة حركة كثيفة للسيارات. وفي ضوء الاتصالات بين رام الله ونابلس، انتدب القائد أبو إسلام «المهندس» للتنسيق والتخطيط وتجهيز العبوات اللازمة.



لم تكن المنطقة مجهولة بالنسبة بالمهندس الذي كان ما يزال يتردد على جامعة بيرزيت لإنهاء مشروع التخرج، فقد اعتاد على التنقل بين قرى المنطقة برفقة إخوانه في الحركة الإسلامية. ولهذا، لم يكن المهندس بحاجة إلى جولات استطلاعية عديدة حتى يستقر رأيه على نقطة في أعلى الطريق المؤدي للمستوطنة حيث يمكن الوصول إلى هناك والانسحاب بسهولة بعد وضع عبوات ناسفة تربط باسطوانات غاز تنفجر حال اصطدام السيارات بالسلك الكهربائي الممدود على عرض الشارع والمتصل بالعبوات الناسفة. ولتنفيذ الخطة، أسند المهندس إلى المجاهد عصام براهمة قيادة العملية وتوجيه المجاهدين محمد فلنه وعطا فلنه من قرية صفا المجاورة.



وفي مساء يوم السبت الموافق 17 تشرين أول (أكتوبر) من عام ،1992قامت المجموعة بزرع العبوات الناسفة في النقطة المحددة وهي مفترق بلعين الذي يدخل إلى المستوطنة واختار أفراد المجموعة موقع العبوة ليكون تحت شجرة خروب كبيرة تغطى أغصانها جزءاً من الشارع، حيث قام عصام بتنفيذ توجيهات المهندس وزرع العبوة الناسفة وغطاها بأغصان الشجرة ثم مد السلك الكهربائي على عرض الشارع قبل أن يعود أفراد المجموعة بعد ذلك إلى قاعدتهم. وفي نحو الساعة الثامنة والنصف من مساء ذلك اليوم، انفجرت العبوات الناسفة إثر اصطدام حافلة ركاب صغيرة كانت تقل عشرة مستوطنين بالسلك الكهربائي. واندلعت النار في الحافلة واختلط صراخ المستوطنين فيها بدوي الانفجار الشديد الذي هز المنطقة بأكملها. وقد أسفرت العملية عن مقتل مستوطنة تدعى يهوديت أوسترن (57 عاماً) وأصابت تسعة آخرين بجروح وحروق مختلفة وفق ما اعترف به المتحدث باسم الشرطة الإسرائيلية(2).



ولم يؤد اعتقال جهاز الشاباك المجاهدين محمد فلنه وعطا فلنه وتقديمهما إلى المحكمة العسكرية التي أصدرت عليهما حكماً بالسجن المؤبد، إلى أي خيط يربط بين المجموعة الفدائية والشهيد يحيى عياش. وباعتراف القادة العسكريين الصهاينة الذين هرعوا إلى المنطقة برفقة خبراء المتفجرات لفحص شظايا العبوة وبقايا السيارة المدمرة، فإن إعداد متفجرات عالية الإتقان كتلك التي تم استخدامها يتطلب مهارة وتدريباً عالي المستوى(3).



4- تشكيل الوحدة الخاصة وربطها بامام اليامون



لم تكن عملية التفجير هي المهمة الوحيدة التي حرص المهندس على إنجازها، إذ أن قضية الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية كانت تشغل حيزاً كبيراً من وقت المهندس ومداولاته مع المسؤولين عن كتائب الشهيد عز الدين القسام في مدينتي القدس ورام الله. وخلال النقاش الذي دار بين القيادات العسكرية، جرى استعراض الإمكانات والأوضاع التنظيمية التي كانت تمر بها منطقة الوسط وبخاصة بعد اعتقال قائد المنطقة وحجز خليفته في الاعتقال الإداري. وفي نهاية الأمر، اتفق المهندس مع هؤلاء المسؤولين على تشكيل خلية خاصة من أربع مقدسيين تكون مهمتها الرئيسة أسر ضباط أو جنود من الجيش أو الشرطة أو حرس الحدود والمساومة عليهم في مقابل الإفراج عن عدد من المعتقلين والأسرى. ونظراً لحساسية هذه المهمة، فقد عمد المهندس إلى ربط هذه الخلية مع منطقة الشمال عبر الشيخ إبراهيم نواهضة (إمام مسجد قرية اليامون القريبة من مدينة جنين). كما اتفق أيضاً على تزويد الخلية بالأسلحة اللازمة ومبلغ من المال لشراء سيارة فورد تحمل لوحات إسرائيلية كتلك التي تستخدمها الشرطة.



5- الصدفة تجمع بين المهندس والشاباك



كان الموضوع الأول على جدول أعمال الفريق الرباعي بعد عودة المهندس من رام الله هو ترتيب طبيعة العلاقة بين الفريق والشيخ إبراهيم نواهضة. وقد اتفق المجتمعون على أن يكون الاتصال خيطياً بين أبو إسلام والشيخ دون أن تظهر شخصية أي من القادة الآخرين أو يذكر اسمهم خلال أي من الاتصالات التي تجري مع إمام مسجد اليامون.



وفي ذلك الاجتماع أبلغ القائد أبو إسلام إخوانه بأنه أجرى اتصالاً مع قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسام في قطاع غزة عبر القائد عماد عقل الذي كان يتواجد في ذلك الوقت في مدينة الخليل. وبناء على هذا الاتصال أوفد عماد عقل ضابط ارتباطه مع قطاع غزة المجاهد محمد دخان* [محمد دخان: من مواليد مخيم النصيرات عام 1972 وهو ابن المجاهد الشيخ عبد الفتاح دخان، القائد التاريخي في جماعة الإخوان المسلمين وأحد المؤسسين السبعة لحركة حماس، وشقيق الشهيد طارق دخان، أحد قادة كتائب القسام. وقد اشترك المجاهد محمد دخان في عدة عمليات عسكرية في الخليل وقطاع غزة، أسفرت عن قتل وجرح العديد من جنود الاحتلال. واستمر في جهاده المبارك حتى اعتقل بتاريخ 11/4/1993 بعد اشتباك عنيف في مخيم النصيرات (راجع كتابنا موعد مع الشاباك).] للقاء أبو إسلام ليعرض على الفريق الرباعي التعاون والتنسيق. وعندئذ، تناول المهندس هذه القضية التي على ما يبدو أنها جاءت في سياقها الموضوعي، حيث طرح أمام إخوانه الثلاثة الخطوط العريضة لعملية كبيرة في قلب مدينة تل أبيب على أن يتزامن التنفيذ مع الذكرى السنوية الثالثة لاستشهاد الشيخ الدكتور عبد الله عزام. وبعد تداول تفاصيل العملية، أقر المجلس تنفيذ العملية بحيث يقوم أبو إسلام بشراء المواد الكيماوية اللازمة لتصنيع العبوات الناسفة، وتوفير السيارة الملائمة للتفخيخ، واختيار ثلاثة مجاهدين لنقل السيارة إلى مدينة تل أبيب بعد أن يقوم المهندس بتجهيزها وتركيب العبوات داخلها. كما أوعز القادة إلى أبو إسلام بأن يقوم بالاتصال مع المجاهد محمد دخان الذي كان ينتظر التعليمات لتبليغ قطاع غزة بتجهيز أنفسهم لاستقبال المجاهدين الثلاثة الذين سيتولون تنفيذ العملية وترتيب أمور مغادرتهم إلى خارج فلسطين عبر القطاع(4).



المهندس قام بتركيب العبوات التي قدر وزنها بأربعين كيلو غراماً من المواد المتفجرة ربطت بجهاز التفجير وأربع اسطوانات غاز لزيادة قوة التأثير. وحسب الخطة، وضع المهندس بمساعدة أبو إسلام، العبوات في حافلة صغيرة من طراز (فان- فولكسفاغن) تحمل لوحات معدنية صفراء استولى عليها أحد المجاهدين من مدينة تل أبيب مساء يوم الجمعة الموافق 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1992. وعليه، يعد هذا التاريخ بداية (قصة الحب التي يعيشها المهندس مع الحافلات الإسرائيلية)، كما يقول ألكس فيشمان في مقاله الطويل الذي نشره في صحيفة معاريف تحت عنوان (أعرف عدوك: المهندس هو المطلوب الأول) في تشرين أول (أكتوبر) من عام 1994م.



وفي منتصف ليلة الجمعة، غادر المجاهدون الثلاثة (عبد الفتاح أمين علي وعماد عبد الرحيم عبد الحافظ حسين وأحمد حسن أحمد حسان) بلدة سلفيت لاستلام الحافلة المفخخة من أبو إسلام والمهندس تمهيداً لنقلها إلى مدينة تل أبيب بعد أن حدد المهندس لهم الموقع المراد تفجيره، وهو تجمع عسكري كبير لجنود الاحتلال في منطقة غوش دان. ولكن المجموعة لم تصل إلى هدفها، ففي نحو الساعة الثانية من فجر يوم السبت، لاحظ اثنان من رجال الشرطة الإسرائيلية كانا يشرفان على تنظيم الجمهور أثناء قيام سيارات الدفاع المدني بإطفاء حريق شب في تلك الفترة بمنطقة أور يهودا الحافلة المفخخة تعود أدراجها وقد أطفأت أنوارها حين تفاجأ المجاهدون الثلاثة بكثافة سيارات الإطفاء والشرطة. وعلى الفور، قام الشرطيان بإبلاغ قيادتهما التي لبت النداء وأرسلت قوات معززة من الشرطة وحرس الحدود بحثاً عن السيارة المشبوهة. وبعد مطاردة طويلة، أغلقت خلالها سلطات الاحتلال الشوارع الرئيسة ومفترقات الطرق في مختلف ضواحي تل أبيب بسيارات الشرطة والحواجز، وصلت الحافلة المفخخة إلى طريق مسدود في أحد شوارع رامات أفعال بعد أن صدمت سيارة الشرطة التي كانت تغلق الشارع وأصابتها بأضرار(5).



أخلت الشرطة الإسرائيلية السكان من حي رامات أفعال وطلبت منهم النزول إلى الملاجيء، فيما هرع خبراء المتفجرات نحو الحافلة لتفكيك العبوات الناسفة، إلا أن براعة المهندس في تركيب المتفجرات أعجزت الخبراء الذين اضطروا إثر ذلك إلى تفجير الحافلة المفخخة في مكانها الذي ضبطت فيه مما أحدث خسائر مادية جسيمة سواء في السيارات القريبة، وحتى في واجهات وجدران البنايات المجاورة(6).



وفي نحو الساعة الثامنة وخمس دقائق من صباح يوم السبت، تمكنت وحدات الشرطة وحرس الحدود التي قامت بتمشيط المنطقة مستعينة بكلاب بوليسية وطائرات عمودية من اعتقال المجاهدين أحمد حسان (23 عاماً) وعماد عبد الرحيم (26 عاماً)، بينما تمكن المجاهد الثالث من العودة إلى قاعدته بسلام.ويومها ذعر رجال المخابرات لسببين، الأول من قدرة المهندس على إعداد عبوات فعالة من مواد كيماوية متوفرة في المحلات العامة. كما ذعر رجال الشاباك باعتبار أن مجرد التفكير بالوصول إلى قلب تل أبيب لتنفيذ عملية من هذا النوع يعد أمراً في غاية الخطورة(7).



البطش والتعذيب الذي مارسه جهاز الشاباك مكن المحققين من انتزاع الاعترافات من المعتقلين، وسرعان ما أصبح الفريق الرباعي وعدد من المجاهدين مطارداً ومطلوباً لسلطات الاحتلال الإسرائيلي بتهمة الانتماء لكتائب الشهيد عز الدين القسام، ولكن هذه الاعترافات لم تكشف من الذي يحضر المتفجرات ويعد السيارات المفخخة من بين أعضاء الفريق الرباعي. وبسبب الدور الكبير الذي ظهر عليه أبو إسلام من خلال ما أدلى به المجاهدان المعتقلان ظن ضباط الشاباك أنه مهندس هذا النوع من العمليات. وحول هذا الأمر، كتب الصحفيان تسفى غيلات وموشيه زوندر تحت عنوان (يوميات مطاردة): «تم التحقيق مع نشطاء حماس، وهؤلاء ليسوا أسخياء لإعطاء المعلومات خلال التحقيق، غير أن اسم يحيى عياش طرح لأول مرة، وكان ذلك بالنسبة للمحققين مجرد ورقة فهو لم يعتقل سابقاً ولم يعرف كنشيط في الانتفاضة»(8). ويضيف الجنرال جدعون عيزرا ، النائب السابق لرئيس الشاباك والمسؤول عن عملية مطاردة المهندس خلال عامي 1993 و1994 معلقاً: «كان عياش حريصاً جداً، فهو لم يكن شخص من أي زمان ومكان، وإنما كان يختار بنفسه إلى من يصل ومتى. وحينما كان يعتقل أحد من معارفه، كان يستعرض فوراً في فكره ما الذي يعرفه المعتقل، وماذا بقدرته أن يقول، وكان يغير وفقاً لذلك نشاطاته»(9).



6- الاحتفال بالعيد الخامس للانتفاضة المباركة



ليس سراً أن الطريقة التي عملت بها كتائب الشهيد عز الدين القسام جعلت من الصعب على المخابرات الإسرائيلية الوصول إلى كافة الخلايا والقيادات الفاعلة، حتى وأن ألقت هذه المخابرات القبض على أحد المجاهدين وأجبرته تحت وطأة التعذيب الشديد على الاعتراف. وفي حالة المجاهدين أحمد وعماد، فإن اعترافهما على أسماء أعضاء الفريق الرباعي، جاء بعد صمود على المعاناة مكن المهندس وإخوانه الثلاثة من مغادرة قراهم والأماكن التي كانوا يستخدمونها. ومما ساعد الفريق الرباعي على الاختفاء والتواري هو اتخاذهم الاحتياطات الأمنية منذ أن غادرت الحافلة المفخخة إلى تل أبيب. فقد انتقل زاهر وعلي ويحيى وعدنان إلى قواعدهم السرية لإدارة العمل بوتيرة لم يؤثر فيها معرفة الشاباك لشخصياتهم ومهامهم.



وبعد فترة زمنية قصيرة، عاود الفريق الرباعي نشاطه وتنظيمه للعمليات العسكرية حيث جلس المجاهدون الأربعة للتخطيط لتصعيد الجهاد في ذكرى انطلاقة الانتفاضة المباركة. فتم الاتفاق مع المجاهد محمد دخان الذي عاد إلى مدينة الخليل على إيصال رسالة بهذا المضمون إلى القائد حاتم المحتسب الذي تولى القيادة خلفاً لعماد عقل، فيما عكف المهندس على إعداد عبوتين ناسفتين وتجهيز سيارة مفخخة. كما أوعز أبو إسلام إلى الوحدة الخاصة بالتخطيط لعملية أسر عسكري إسرائيلي مع الأخذ بعين الاعتبار الابتعاد عن مدينة القدس، نظراً لكون المهندس قد خطط بدوره لتفجير السيارة المفخخة هناك.



الوحدة الخاصة نفذت عمليتها في مدينة اللد المحتلة منذ عام ،1948 وأبطال الخليل وغزة أوقعوا سيارة جيب في كمين عند الحاووز بمدينة الخليل حيث قتل جنديان وأصيب الضابط. وأما المهندس، فقد سبق هذه الفعاليات بتجهيزه السيارة المفخخة بعبوتين ناسفتين وصلتا باسطوانتي غاز لزيادة قوة التفجير وجهاز توقيت. وقام مجاهدان بقيادة السيارة في منتصف ليل الخميس الموافق10 كانون أول (ديسمبر) 1992م وأوقفاها في مرآب إحدى البنايات الواقعة على طريق الخليل في القدس، إلا أن هذه العملية أيضاً لم يكتب لها النجاح، إذ شاهد أحد سكان البناية المجاهدين الملثمين يغادران المرآب بعد أن تركا السيارة فيه، فقام خبراء المتفجرات بتفجير السيارة في مكانها مما أدى إلى حدوث أضرار مادية فقط(10).



7- هدايا إلى الصامدين في مرج الزهور



عاشت الضفة الغربية وقطاع غزة أجواء حرب حقيقية في أعقاب سلسلة العمليات التي نفذتها حركة حماس احتفالاً بالذكرى الخامسة لانطلاقة الحركة وتفجر الانتفاضة المباركة. فقد ألغت الحكومة الإسرائيلية إجازات جميع أفراد الشرطة وحرس الحدود، ووضعت قوات الجيش والشرطة في حالة استنفار شامل. ولم تكن حملات الاعتقال والتنكيل التي شنتها القوات الإسرائيلية سوى البدايات في سلسلة من الإجراءات التعسفية وعدت الحكومة الإسرائيلية مواطنيها بتنفيذها عقب نجاح عملية أسر الرقيب أول نيسيم طوليدانو. إذ جمع اسحق رابين، رئيس الوزراء ووزير الدفاع آنذاك مجلس وزرائه المصغر في جلسة سرية لمناقشة قائمة طويلة جداً من الإجراءات القاسية والفورية ضد حماس على حد تعبير وزير الإسكان، بنيامين بن اليعازر. وقرر مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر قبول اقتراح رئيس هيئة الأركان العامة بإبعاد جماعي لفترة محددة. وبالفعل، غادرت ثمان حافلات الأراضي المحتلة يوم الخميس الموافق 17 كانون أول (ديسمبر) 1992 نحو جنوب لبنان وهي تقل (415) معتقلاً، وهم الذين افترضت سلطات الاحتلال أن إبعادهم سيؤدي إلى توجيه ضربة قاسية لبنية حركة حماس.



ظن رابين أن إبعاد المئات إلى مرج الزهور كفيل بتعطيل عمليات الجهاد والمقاومة ضد جنوده وآلته العسكرية. ولكن ظنه خاب، فقد تصاعدت العمليات الجهادية في غزة وخان يونس والقدس ونابلس والخليل. وبلغ هذا التصعيد ذروته بتعاون الخلايا في مناطق الضفة الغربية الثلاث من أجل توسيع نطاق العمل العسكري، وأثمر هذا التعاون بتصفية الكابتن حاييم نحمانى، ضابط الشاباك المسؤول عن منطقة بيت لحم في مدينة القدس وقتل جنديين عن مفترق طرق قرب مدينة الخضيرة أثناء محاولة الوحدة الخاصة أسرهما. ولم يكن قطاع غزة بأقل فاعلية، فقد صال القساميون وجالوا في كمائنهم وهجماتهم ضد الدوريات العسكرية، برز منها العملية البطولية، ضد سيارة الجيب التي كانت تقوم بأعمال الدورية في مستوطنة جاني طال والتي أسفرت عن مقتل جنديين وهروب ثالث بعد إصابته والاستيلاء على رشاش يعود لأحد الجنود القتلى.



ولئن تلقى الفريق الرباعي كتاباً من القيادة المركزية العليا لكتائب الشهيد عز الدين القسام جاء فيها: «عليكم الابتعاد من الآن عن أية أعمال تتصل بالتحقيق مع العملاء والتركيز على العمل ضد الجنود الإسرائيليين... نطالبكم بتنفيذ عمليتين كهدية للمجاهدين الذين ابعدوا إلى لبنان، إحدى العمليتين متروكة لاختياركم، والثانية عليكم بتنفيذها بواسطة سيارة ملغومة»(11) ، إلا أن مساهمة منطقة شمال الضفة الغربية وبخاصة خلال شهر آذار (مارس) 1993 كانت الأبرز والأوسع والأعنف من بين مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. ففي ذلك الشهر، جهز المهندس عبوتين ناسفتين ألقاهما المجاهد أحمد حسن مرشود* [أحمد حسن مرشود: ولد في مخيم بلاطة عام ،1971 وفيه تلقى تعليمه حتى حصل على الشهادة الثانوية ليلتحق بعدها في جامعة النجاح الوطنية لدراسة الشريعة الإسلامية. وقد عمل أحمد مساعداً للمهندس حتى اعتقاله في 11/4/،1993 حيث أصدرت المحكمة العسكرية في نابلس بتاريخ 10/1/1994 عليه حكماً بالسجن الفعلي سبعة أعوام وثلاثة أعوام مع وقف التنفيذ بتهمة حيازة مواد متفجرة وإجراء اتصالات لتفجير سيارة مفخخة بعد تنظيم شاب من منطقة الرام بالقدس لهذه المهمة.] على دورية عسكرية قرب مركز شرطة نابلس(12). وفي مفترق مستوطنة شيلو، دهس المجاهد ساهر التمام ضابطي صف كانا في طريقهما لمعسكر الجيش الإسرائيلي القريب من مدينة نابس فقتلهما. كما خطط الفريق الرباعي لعمليتين جريئتين، الأولى استهدفت سيارة جيب عسكرية تقوم بحراسة حافلة تقل طلاباً في طريقهم من مستوطنة (عيلى زاهف) إلى مستوطنة (اريئيل) وتمر بانتظام عبر مفترق بروقين، بينما استهدفت الثانية سيارة جيب عسكرية أيضاً كانت تقوم بأعمال الدورية وسط سوق الخضار القديم في مدينة طولكرم. وقد تزامنت العملية الأولى مع ذكرى معركة الكرامة الخالدة، إذ قامت مجموعات الاستطلاع برصد ومراقبة المفترق تمهيداً لاختيار المكان الملائم لنصب الكمين. وفي نحو الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم السبت الموافق 20 آذار (مارس) ،1993 مرت الحافلة تتقدمها سيارة الجيب، وما أن أضحت السيارة بمحاذاة المجاهدين الثلاثة (سلامة عزيز أحمد مرعي، وأشرف تيسير وادي، وعبد الفتاح أمين علي)، حتى فتح القساميون نيران أسلحتهم الرشاشة (أم - 16 وكلاشنكوف) باتجاه ركابها مما أدى إلى مقتل قائدها وأصابت الجنديين الآخرين بجروح بليغة(13). وفي العملية الثانية ، أرسل القائد أبو إسلام أحد المجاهدين ببندقية أوتوماتيكية من نوع عوزي إلى مدينة طولكرم حيث كمن لدورية تابعة لقوات حرس الحدود في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم السبت الموافق 27 آذار (مارس) ،1993 وأطلق الرصاص من بعد خمسة أمتار فقط، فقتل جندياً قبلا أن يتوارى عن الأنظار منسحباً إلى قاعدته بسلام(14).



ومع توالي عمليات الفريق الرباعي النوعية في نابلس وجنين وطولكرم، لم يكتف المهندس بتجهيز سيارة مفخخة واحدة، بل قام بإعداد وتركيب كمية كبيرة من المتفجرات واسطوانات الغاز في ثلاث سيارات أخفيت في المخزن الكائن في شارع القدس بمدينة نابلس.

بعد تجهيز السيارات الثلاث، عقد المهندس وإخوانه أبو إسلام وأبو مجاهد وأبو جهاد اجتماعاً مشتركاً مع عبد الكريم حنيني، قائد جهاز الأمن، للتشاور ووضع الخطط لتنفيذ ثلاث عمليات كبيرة داخل المناطق المحتلة منذ عام 1948. وبناء على تنسيب من المهندس، أقر المجتمعون أن تكون العمليات الثلاث استشهادية بهدف إيقاع أكبر عدد من الإصابات في صفوف الإسرائيليين، وبعد تكليف مجموعات الاستطلاع بدراسة ومراقبة أماكن وتجمعات الجنود والمستوطنين، عكف المهندس على وضع تفاصيل العمليات الثلاث وطريقة التنفيذ، وعرض على إخوانه الأماكن الثلاث المقترحة، وهي:



1- مفترق بيت ليد حيث تكون محطة السفر مليئة بالجنود في يوم الأحد من كل أسبوع.

2- مقر هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع في تل أبيب.

3- متجر (كول بو) التابع لسوق (همشبير لتسرخان) التجاري في شارع الملك جورج بمدينة القدس.



ولكن خطط العمليات الثلاث لم تخرج إلى حيز التنفيذ، على الرغم من إعداد السيارات وتجهيز الشباب الاستشهاديين، فقد فرضت سلطات الاحتلال العسكرية الحصار الأمني الشامل على الضفة الغربية وقطاع غزة إثر الهجوم الجريء للوحدة الخاصة عند مدخل مستوطنة تلمي اليعيزر القريبة من مدينة الخضيرة صباح يوم الثلاثاء الموافق 30 آذار (مارس) 1993 والذي أسفر عن مصرع شرطيين والاستيلاء على سلاحهما الشخصي(15). ولأن فكرة الوصول في السيارة المفخخة إلى مدينة القدس في ظل هذا الحصار وعشرات الحواجز العسكرية التي أقيمت على طول الطريق وعند مفترقات الطرق، أصبحت صعبة وتعد نوعاً من المغامرة غير مضمونة النتائج، عدل المهندس الخطة بحيث يذهب المجاهد المقدسي الذي كان مكلفاً بعملية القدس بسيارته المفخخة إلى مدينة جنين بهدف تفجيرها الإمكانات الحافلات العسكرية التي كانت تنقل جنود الاحتلال على طريق (العفولة-جنين). وعلى نحو سريع، اتصل أبو إسلام بالشيخ إبراهيم طاهر نواهضة* [الشيخ إبراهيم طاهر نواهضة: من مواليد قرية اليامون بقضاء جنين عام 1965. وواصل تعليمه في مدارس القرية حتى حصل على شهادة الثانوية العامة، ليلتحق بعدها بكلية الدعوة وأصول الدين في بيت حنينا. وأثناء دراسته عمل في إطار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في منطقة القدس ورام الله، مشاركاً في فعالياتها الجماهيرية والدعوية. ولدى انتهاء دراسته، عين إبراهيم معلماً في مدرسة اليامون وإماماً لمسجد الحي الشرقي في مدينة جنين. وقد انضم الشيخ إبراهيم إلى كتائب عز الدين القسام في أواسط عام ،1992 وأضحى مسؤول جنين حتى اعتقاله في 1/6/1993 حيث أصدرت المحكمة العسكرية حكماً بسجنه عشر سنوات.]، ضابط ارتباط الوحدة الخاصة الذي أضحى مسؤولاً لكتائب الشهيد عز الدين القسام في مدينة جنين، وطلب منه استطلاع حركة السيارات والحافلات العسكرية الإسرائيلية في منطقة جنين وبخاصة على طريق (العفولة- جنين)، وبعد قيام أحد المجاهدين بعملية المراقبة والاستطلاع، أبلغ الشيخ إبراهيم قائده أن حركة السيارات الإسرائيلية في المنطقة ضعيفة، ونصحه بعدم إرسال السيارة المفخخة(16).

السيف عدي
07-03-2008, 08:48 AM
ثانياً : انتشار الإبداع



تعرضت منطقة شمال الضفة الغربية في كتائب الشهيد عز الدين القسام إلى ضربة قاسية على مدى شهري نيسان وأيار، وإن كان تأثير هذه الضربة قد اقتصر على غياب قيادات رئيسة من ساحة العمل الجهادي دون أن تترك أثراً كبيراً على فعالية العمليات الجهادية. ففي يوم الثلاثاء الموافق 23 شباط (فبراير) ،1993 اعتقلت قوة من الجيش الإسرائيلي موسى محمد حسين باري (25 عاماً) المطلوب منذ عامين بتهمة إلقاء زجاجات حارقة باتجاه سيارات إسرائيلية وخطف عملاء يتعاونون مع الشاباك وحيازة وسائل قتالية وهو من قرية أماتين بقضاء نابلس، ورياض توفيق مرعي (21 عاماً) المطلوب أيضاً منذ عامين بتهمة المشاركة في المظاهرات باعتباره أحد نشطاء حركة حماس في قرية قراوة بني حسان أثناء محاولتهما عبور نهر الأردن واجتياز الحدود. وبعد جهود مضنية من قبل المخابرات الإسرائيلية وتحقيق وتعذيب مكثف وشديد مارسه ضباط الشاباك على الشابين، اعترف موسى ورياض في نهاية شهر آذار (مارس) عن اتصالهما بالقائد أبو إسلام الذي وفر لهما الملجأ. وكشف المجاهدان المعتقلان أمام المحققين عن حقيقة وجود شقتين كانتا تحت تصرف الكتائب، واحدة في نابلس والأخرى في طوباس بقضاء جنين.



ومن خلال هذه المعلومات، كثف ضباط وعملاء الشاباك مراقبتهم للشقتين الآمنتين بهدف رصد من يتردد عليهما واختيار أنسب الأوقات لمداهمتهما. وفي الأول من نيسان (إبريل)، هاجمت الوحدات الخاصة الإسرائيلية يرافقها ضباط من جهاز الشاباك الشقتين حيث اعتقل اثنان من طوباس وأربعة من نابلس. وكانت المفاجأة السارة بالنسبة لسلطات الاحتلال وجود القائد زاهر جبارين (أبو إسلام) والمجاهد سلامة عزيز مرعي من بين المعتقلين في البناية السكنية الواقعة في طلوع شارع 24 بمدينة نابلس، حيث آثر المجاهدان تسليم نفسيهما حفاظاً على حياة السكان بعد أن أنذر جنود العدو المواطنين الفلسطينيين بضع دقائق فقط قبل أن يفجروا البناية على من فيها(17).



خيب القائد أبو إسلام توقعات ضباط الشاباك الذين تناوبوا على التحقيق معه، وصمد في أقبية الزنازين. فلم يدْلِ بأي معلومات تفيد العدو وتؤثر على خطط المهندس وأخويه أبو جهاد وأبو مجاهد على الرغم من التحقيق معه نحو سبعة أشهر متواصلة ظل فيها معزولاً عن بقية المعتقلين في سجن طولكرم، وهي أطول مدة تحقيق يقضيها معتقل فلسطيني. ولم يكتف العدو بذلك، إذ أخضع القائد أبو إسلام لتعذيب شديد أدى إلى سوء أوضاعه الصحية وانخفاض وزنه ليصل إلى أربعين كيلو غراماً، كما سحب ضباط الشاباك أبو إسلام أكثر من مرة بعد صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد إضافة إلى ثلاثين عاماً للتحقيق معه وممارسة تعذيب جسدي ونفسي بحقه كلما نفذ المهندس عملية جديدة(18). ورغم أوضاعه الصحية والنفسية الصعبة، إلا أن أبو إسلام ضرب مثالاً رائعاً في التحدي أرغم المحللين العسكريين الصهاينة على الاعتراف بصلابة المجاهد القسامي أمام محققيه. فها هو عمنوئيل روزان يكتب في صحيفة معاريف: «كان زاهر جبارين يعلم الكثير لكنه عرف كيف يسكت، وعندما اعتقل في الأول من نيسان الماضي أبلغ الشاباك بالتفصيل عن الأمور والقضايا التي يدرك جيداً بأن الشاباك يعلمها تماماً، لكنه لم يتطرق مثلاً إلى المقدسيين الأربعة الذين يعرفهم جيداً». ويضيف: «في مطلع نيسان الماضي اعتقل الشاباك ناشطاً في حركة حماس من قرية طمون وكان هذا الشاب يعلم بالإعداد للسيارة المفخخة التي انفجرت بعد عدة أيام في مستوطنة ميحولا، وعلى الرغم من ممارسة ضغوط جسدية عليه إلا أنه لم يتكلم ولم يقل كلمة واحدة ولو تحدث هذا الشاب لكان بالإمكان إحباط عملية ميحولا»(19).



1- ساهر التمام يحمل هدية المبعدين



الحصار العسكري والأمني حال دون وصول الاستشهاديين لأهدافهم في تل أبيب وبيت ليد والقدس، ولكنه لم ينل من عزيمة وتصميم المهندس. فبعد عدة عمليات رصد واستطلاع، وبحث عن منافذ من هذا الطوق، توصل جهاز الأمن إلى طريق آمن يستطيع من خلاله المهندس أن يُخرج السيارة المفخخة من مخازن الحركة المستأجرة. ومرة أخرى، يثبت المهندس وفريقه قدرتهم على التأقلم والتكيف مع الأوضاع الأمنية والإجراءات العسكرية الإسرائيلية، بل والمبادرة لابتكار أساليب مناسبة لمواجهة النشاط الاستخباري لأجهزة الاحتلال. فقد ركب المهندس العبوات الناسفة التي ربطت بثلاثة اسطوانات غاز في سيارة الجيب التي كانت تحمل لوحة ترخيص إسرائيلية وتم تكليف المجاهد ساهر حمد الله التمام النابلسي* [ساهر حمد الله تمام النابلسي: ولد في منطقة الجبل الشمالي بمدينة نابلس عام 1971 لعائلة تمتلك مصنعاً للحلاوة والطحينة قرب مخيم بلاطة. وعرف ساهر طريقه مبكراً لمسجد عقبة بن نافع ومسجد مخيم بلاطة بعد انتقال عائلته للسكن في عمارة بنتها فوق المصنع الخاص بها. وقدم المجاهد كل ما يملك من وقت وجهد وإمكانيات لهذا الدين ودعوة الإخوان المسلمين التي آمن بها وأخلص لها. وقد أنهى الشهيد عام 1990 تعليمه في المدرسة الثانوية، ومنذ ذلك الوقت انتظم في جامعة النجاح الوطنية إلى جانب مساعدته لوالده كموزع بضائع.] بقيادتها. وسوياً، مع جهاز الأمن، اختار المهندس هدفاً عسكرياً جديداً وهو مقهى (فيلج إن) الذي يعج عادة بالجنود الصهاينة، وهو يقع في مستوطنة ميحولا القريبة من منطقة العين البيضاء على بعد (15) كيلو متر من نهر الأردن. ويُعد هذا الاختيار، مؤشر هام على النقلة التكنولوجية والتطور النوعي، إذ أنها المرة الأولى -على مستوى جميع الفصائل والمنظمات الفلسطينية- تضع مجموعة مقاتلة نصب أعينها اختراق مستوطنة تضم مصانع حربية تابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية وتهاجم بنجاح كبيرالأهداف العسكرية المقررة لها مستخدمة سيارة مفخخة. وهو ما فاجأ الأجهزة العسكرية والدوائر السياسية الإسرائيلية، وجعل الجنرال يهودا باراك يسرع إلى المنطقة ويضع قواته التي قامت بتمشيط المنطقة تساندها الطائرات المروحية في حالة استنفار(20).



بدأ الهجوم الاستشهادي، الذي تزامن مع مسيرة (الأكفان) التي بدأها المبعدون باتجاه حاجز الجيش الإسرائيلي عند معبر زمريا على بعد كيلو مترين اثنين من مخيمهم في مرج الزهور، بعمليات رصد ومراقبة مكثفة من قبل أبطال سرية شهداء عيون قارة شارك في بعض مراحلها القادة الثلاث (أبو البراء وأبو جهاد وأبو مجاهد). وفي نحو الساعة الثانية عشر من بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 16 نيسان (إبريل) ،1993 انطلق الشهيد ساهر التمام بسيارته المفخخة التي اخترقت كل الحواجز والإجراءات الصهيونية، واتجه بأقصى سرعته نحو المستوطنة الإسرائيلية حيث انفجرت في ساحة المقهى بين حافلتين عسكريتين الأولى مستأجرة من شركة ايجد (خط 96) وتقل جنوداً إسرائيليين في طريقهم من طبريا إلى القدس، بينما أقلت الثانية جنوداً من غور الأردن إلى وسط فلسطين المحتلة. وقد أسفر الانفجار الهائل عن سقوط عشرات القتلى والجرحى واحتراق الحافلتين كلياً وإلحاق أضرار كبيرة بالمطعم (21).



وعلى الأثر، أغلقت قوات الاحتلال الطريق الرئيس في منطقة غور الأردن وقامت بأعمال التمشيط والتحقيق، فيما هبطت طائرتان مروحيتان بجانب الموقع لنقل القتلى والمصابين بجراح خطيرة، وحضرت عدة سيارات إسعاف في وقت لاحق لنقل بقية المصابين إلى مستشفى (هعيمك) في العفولة لتلقي العلاج.



لم يستطع يهودا باراك الذي هرع إلى مكان العملية برفقة قائد المنطقة الوسطى تحمل منظر جنوده المحترقين ونجاح كتائب القسام في اختراق إجراءاته وحواجزه العسكرية وتوجيه ضربة موجعة إليه في أكثر الأماكن أمناً بالنسبة للدولة العبرية. ولذلك أوعز للرقيب العسكري بمنع الصحفيين من دخول المنطقة نهائياً لتغطية تفاصيل العملية وقصر أخبارها على ما ينشره الناطق العسكري في محاولة لمراعاة مقتضيات الأمن والتوازن بين معطيات الموقف السياسي والعسكري والنفسي في تحديد حجم الخسائر التي يعترف بها. وانسجاماً مع هذه السياسة فقد حرص الناطق العسكري في هذه العملية على تقليص حجم خسائره بغية الحفاظ على الروح المعنوية للصهاينة، فأعلن أن جنديين فقط قتلا وأصيب ثمانية آخرين بجروح مع أن شاهدة العيان (يزيت ريس) قالت في حديث لراديو الجيش الإسرائيلي: «إن أشخاصاً كثيرين كانوا يقفون على مسافة قريبة جداً من السيارة الملغومة، إن كانت بالفعل سيارة، وكل المنطقة بين الحافلتين كانت مزدحمة بالناس»(22).



ومهما يكن من أمر الخسائر البشرية التي مني بها جيش الاحتلال فإن هذه العملية التي تمثل باكورة العمليات الاستشهادية التي خطط وجهز لها المهندس ألقت ظلالاً من الشك حول جدوى الانطلاقة الأمنية الإسرائيلية. إذ صرح المحلل السياسي الإسرائيلي أهارون كلاين عقب العملية بأنه يتوجب على الإسرائيليين وأجهزتهم الأمنية «الاستعداد لمواجهة مرحلة جديدة من عمليات المنظمات الإسلامية المتطرفة». واعترف كلاين وغيره من المحللين الإسرائيليين بأن عملية ميحولا تعيد إلى أذهان الإسرائيليين العمليات الاستشهادية التي نفذتها المقاومة الإسلامية والوطنية اللبنانية ضد التجمعات والأهداف العسكرية الإسرائيلية بعد احتلال الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان(23).



2- مفاجآت المطاردة المتبادلة



كثفت قوات الاحتلال ووحدات المخابرات جهودها لوضع اليد على المهندس وأخويه، فقامت قوات ضخمة بمداهمة قريتي قراوة بنى حسان ورافات وحاصرت منازل القادة الثلاثة وعائلاتهم. وكانت أول مداهمة لقرية رافات، مسقط رأس المهندس، بتاريخ 25 نيسان (إبريل) ،1993 حيث يعتبر هذا التاريخ بداية مطاردته الرسمية.واستمرت المداهمات وعمليات التفتيش والبحث عن يحيى في كل مكان، عشرات العملاء جندوا من أجل تصيّد أي معلومة عنه وعوقب أبناء رافات واعتقل أشقاء المهندس وأصدقائه ومعارفه، وبات ضباط الشاباك وجنود الوحدات الخاصة في منزله أملاً أن يحضر يحيى للقاء عائلته.



المطاردة المتبادلة بين القادة الثلاثة وقوات الاحتلال وأجهزتها الاستخبارية تواصلت وأضحت معلماً رئيساً وحدثاً اعتاد المواطنون الفلسطينيون في قريتي رافات وقراوة بنى حسان على مشاهدته ومعايشته بشكل يومي تقريباً. ومع تطور جهود ووسائل الشاباك وتحقيقاته، حقق العدو اندفاعاً مخابراتياً في الثلاثين من نيسان (إبريل) حين اعتقل الكابتن جميل وهو من ضباط المخابرات المسؤولين عن متابعة المهندس القائد عبد الحكيم حنيني وعثر في منزله بقرية بيت دجن على بعض الوثائق العائدة لجهاز الأمن في منطقة شمال الضفة الغربية. وكانت تلك الوثائق مفصلة وواضحة، بحيث لم تترك للمجاهد أي فرصة لإنكار صلته بالمهندس. ومع موجة المداهمات، توالت الاعتقالات التي طالت نحو (124) من أعضاء حركة حماس، اشتبه العدو بضلوع نحو عشرين منهم بتقديم مساعدة وخدمات لجهازي الأمن وكتائب الشهيد عز الدين القسام، وبعد تحقيقات مكثفة اتضح لجهاز الشاباك بأن أبو إسلام يعد القائد الكبير لمنطقة شمال الضفة الغربية. ولكن المعركة لم تكن من طرف واحد، ومثلما حققت الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بعض الاختراقات في جبهة الحرب ضد حركة حماس، كان مجاهدو الحركة يكيلون الصاع بصاعين عبر عدة عمليات عسكرية جريئة تميزت بالعنف وشدة الأثر على الجانب الإسرائيلي. فبعد نحو أسبوع من اعتقال قائد جهاز الأمن لحركة حماس في بيت دجن، عادت الوحدة الخاصة مرة أخرى إلى المناطق المحتلة منذ عام ،1948 وهي تحمل تعليمات جديدة من القادة الثلاث بتوجيه ضربة قاسية لأجهزة الأمن الإسرائيلية. وكان الهدف الذي نقل للوحدة عبر الشيخ إبراهيم نواهضة واضح، وهو أسر جندي والمحافظة عليه للمطالبة بالإفراج عن عدد من المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وفي نحو الساعة الرابعة من فجر يوم الخميس الموافق 6/5/،1993 رصدت الوحدة الخاصة سيارة شرطة متوقفة عند تقاطع للطرق في (بيلو) التي تبعد خمسة كيلومترات عن مستوطنة رحوفوت القريبة من تل أبيب وبداخلها ضابط شرطة برتبة كولونيل يدعى شالوم جيوتا (43 عاماً) كان على ما يبدو يستريح من عمله. وفوجيء قائد الوحدة الذي اقترب من الضابط الإسرائيلي شاهراً رشاش (عوزي) بأن باب السيارة مغلق من الداخل مما اضطره إلى إطلاق النار عبر النافذة. وفي هذه الأثناء اقتربت سيارات إسرائيلية من المفترق مما حال دون إكمال العملية وأسر العقيد جيوتا. وعندئذ، قررت الوحدة الفدائية الانسحاب بعد أن أطلق قائدها النار باتجاه الضابط وأصابه بجراح بالغة الخطورة(24). وزاد جلادي الشاباك من ضغوطهم الجسدية والنفسية على المعتقلين حتى قاد التحقيق معهم في نهاية شهر أيار (مايو) إلى الخلاصة الواضحة: زاهر جبارين يعرف جيداً شخصية المقدسيين الأربعة، أعضاء الوحدة الخاصة، ومن المحتمل وجود علاقة له بعملية أسر نيسيم طوليدانو وقتل الشرطيين في مدينة الخضيرة. فاعتقل إبراهيم نواهضة، ومن ثم أعضاء الوحدة الخاصة، وبعد أقل من مائة ساعة على الاعتقال سارع اسحق رابين الذي كان يشغل منصبي رئيس الحكومة ووزير الدفاع في نفس الوقت إلى عقد مؤتمر صحفي (زف) فيه للشعب الإسرائيلي خبر الاعتقالات والضربة القاسية التي اعتقد أنها أنهت منطقة الشمال في كتائب الشهيد عز الدين القسام(25).



وخاب ظن رابين إذ عاد المهندس إلى المواجهة المباشرة مع جنود الاحتلال من جديد مستهدفاً هذه المرة موقعاً عسكرياً حرص اسحق رابين على زيارته أثناء تفقده للوحدات الإسرائيلية العاملة في مدينة نابلس قبل بضعة أيام من العملية التي نفذها القادة الثلاث. ويومها، لم يكن أمام رئيس الأركان الإسرائيلي (يهودا باراك) سوى الاعتراف بأن «هذا الحادث خطير جداً وله نتائج أخطر، وسنجري تحقيقات كاملة لمعرفة كيف وقع الحادث بالضبط»(26). وتتلخص تفاصيل هذه المواجهة، بقيام القادة الثلاث بوضع الخطة التفصيلية لعملية الشهيد ساهر التمام اعتماداً على المعلومات التي جمعتها مجموعة الاستطلاع المكلفة بمراقبة تحركات الجنود في الموقع العسكري فوق عمارة العنبتاوي التي تطل على ساحة الساعة بوسط مدينة نابلس. وعلى الأثر، تحرك ثلاثة مجاهدين نحو الموقع العسكري الإسرائيلي صبيحة يوم الأربعاء الموافق 12/5/،1993 حيث باغت اثنان منهم جنديان وانهالا عليهما بالسكاكين دون أن يقوما بأية حركة حيث قتل أحدهما وأصيب الآخر بجروح خطيرة في رأسه، ثم استولى المجاهدان على بندقيتي الجنديين وهما من نوع (إم - 16). وعاد المجاهدون الثلاثة إلى قاعدتهم بسلام بعد أن ظن جنود الاحتلال الذين يقومون بأعمال الدورية في المدينة أنهم من «المستعربين» فتركوهم(27).



ومع أن اشتداد الهجمة العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية ضد حركة حماس، وتواصل حملات الاعتقال والمداهمة للمنازل يضغط على المجموعات الفدائية ويجعلها تقلص نشاطها مؤقتاً وتركز على إجراءات الطوارىء وترتيب المخابىء، إلا أن المهندس وإخوانه وإن لم يهملوا هذا الأمر، فإنهم استمروا في وضع الخطط التفصيلية للأهداف المنتخبة. فمنذ اللحظة الأولى لإعلان المتحدث العسكري الإسرائيلي نبأ إعدام مجاهدي القسام الستة* [الشهداء: حسين أبو لبن وحسن حموده وعماد نصار وبسام الكرد وخالد العالم وأنور أبو لبن.] أثناء محاولتهم اجتياز الحدود المصرية- الفلسطينية عند مدينة رفح، أعد المهندس خطة للرد على الجريمة والثأر لدماء الشهداء بضرب المراكز والمجمعات التجارية والاقتصادية باعتبار أن هذه المراكز تمثل أهدافاً استراتيجية بالنسبة للكيان الصهيوني والتعرض لها يعد ضربة موجعة بشرياً ومعنوياً ومادياً. وبسبب طبيعة الهدف، فقد قرر المهندس أن تكون العملية هذه المرة باستخدام المواد المتفجرة المتصلة بساعة وجهاز تفجير، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نشر حالة مستديمة من التوتر والقلق لدى سلطات الاحتلال والمستوطنين وتستنزف قدرتهم على الاحتمال كونهم لا يعرفون متى وأين وكيف ستأتيهم الضربة. وبعد تصنيع المواد المتفجرة، غادر المهندس قاعدته في صباح يوم الأحد الموافق 16 أيار (مايو) ،1993 ووضع عبواته الناسفة في أحد مطاعم الوسط التجاري بالطابق الأول من مجمع (لندن مينيستور) المؤلف من (12) طابقاً سكنياً وتجارياً، ويقع هذا المجمع في شارع رئيسي وسط مدينة تل أبيب يسمى (شارع بن غفيرول). وقد انفجرت العبوات عند الساعة السادسة والربع من صباح ذلك اليوم محدثة دوياً هائلاً وحريقاً كبيراً أتى على جزء كبير من المجمع، حيث هرعت فرق الدفاع المدني وسيارات الإسكان لنقل المصابين وإخلاء الطوابق العليا، بينما قامت الشرطة بإغلاق منطقة الانفجار. وقد اعترفت سلطات الاحتلال بمقتل إسرائيلي واحد وإصابة خمسة وثلاثين آخرين بجروح وحروق مختلفة، إلى جانب خسائر مادية بالغة في المكاتب والشقق التي يضمها المجمع قدرت بملايين الدولارات(28).



بعد ذلك وبناء على الاتفاق بين القادة الثلاثة، جهز المهندس عبوة ناسفة كبيرة وجهاز تفجير بحيث تنفجر العبوة حين تكون محطة انتظار الجنود على الشارع الرئيس (نابلس – القدس) قرب قرية حوارة مليئة بالجنود. وسلم المهندس العبوة للقائد أبو جهاد الذي قام بدوره بنقلها لمجاهد قسامي تدرب على تشغيل جهاز التفجير ودرس موقع محطة انتظار الحافلات العسكرية. ولئن سمع أهالي مدينة نابلس صوت الانفجار الضخم الذي دمر المحطة وحاجز قريب للجيش الإسرائيلي بشكل كامل في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 19 أيار (مايو) ،1993 إلا أن الناطق العسكري الإسرائيلي الذي اعترف بخسائره المادية لم يشر إلى حجم الإصابات التي لحقت بجنوده، بل إن الإذاعة الإسرائيلية زعمت أن الانفجار لم يوقع إصابات في صفوف الجنود الإسرائيليين.



3- لقاء في ربوع المدينة المقدسة



الانطباعات التي عكستها تحليلات العسكريين الصهاينة حول كتائب عز الدين القسام ووجود أجهزة أو غرف عمليات عسكرية ذات كفاءة متقدمة تشرف على وضع الخطط واختيار الأهداف وترشيح المجاهدين لهذه العملية أو تلك، تعود إرهاصاتها إلى ذلك اللقاء التاريخي بين قادة المطاردين في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة في كتائب الشهيد عز الدين القسام لتقييم الأوضاع ووضع الخطط الكفيلة بتصعيد الجهاد في كافة المناطق حسب ما سربته وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلاً عن مصادر استخبارية تولت التحقيق مع عدد من معتقلي الحركة الإسلامية. وما يهمنا من هذا اللقاء هو ما يخص المهندس تحديداً، إذ جرى انتداب القادة محمد عزيز رشدي وخالد الزير ويحيى عياش للعمل سوياً في منطقة وسط الضفة الغربية (القدس ورام الله) ومساعدة الشيخ عبد الرحمن العاروري (قائد المنطقة) لتفعيل وتنشيط المقاومة وربط الخلايا والمجموعات القائمة وتنظيم مجموعات جديدة. وعلى أهمية هذا الانتقال نستطيع القول بأن تبني القيادات الميدانية لرغبة المهندس بأن يتولى تدريب مجموعات قسامية منتقاة على تحضير وتجهيز العبوات الناسفة وتركيب السيارات المفخخة والقنابل البشرية كان له أثار وانعكاسات كبيرة على مسيرة الجهاز العسكري لحركة حماس و ظهور ما يسمى (تلاميذ المهندس). ولعل اهتمام المهندس بتوريث علمه وخبرته في هذا المجال جعلته يضع اللبنة الأولى لهذا المشروع الجهادي الكبير قبل أن يباشر مهامه في مدينتي القدس ورام الله.



4- الميجر حيون يقع في المصيدة



المصيدة هي سلاح بسيط لكنها خطرة نظراً لاعتمادها على الحيلة والذكاء. وهي تختلف عن العبوات الناسفة التي اعتاد المهندس تركيبها وتجهيزها، غير أن ما تخلقه في نفوس العدو من الاضطراب وإضعاف المعنويات شيء له قيمته في الحرب. ولكي تقوم المصيدة بعملها المطلوب، يجب أن يتوفر فيها عنصر المفاجأة، إذ أنه لا يصبح لها أي قيمة إن علم العدو مكانها أو توقع وجودها في مكان ما. وهذا يتناسب تناسباً طردياً مع التقدم في الابتكار والاجتهاد الشخصي في عمل المصيدة ووضعها ضمن أشياء جذابة لا بد من معالجتها عند رؤيتها.



وكما أشرنا في السابق، انتقل المهندس إلى مدينة خليل الرحمن والتقى قائداً منطقة الجنوب (محمد عزيز رشدي وخالد الزير)* [ محمد عزيز رشدي عيسى: ولد في مخيم العروب عام 1969 لعائلة فلسطينية هاجرت عام 1948 من مدينة الفالوجة. ونشأ منذ صغره في المسجد وتربى على مائدة القرآن وعلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وتميز بالذكاء والفطنة والحركة المكثفة. وبعد إتمامه الثانوية العامة، التحق بمعهد المعلمين في رام الله حيث أصبح لقوة شخصيته وذكائه وتربيته أميراً للكتلة الإسلامية في المعهد. ورغم حداثة سنه، كان مثالاً في القيادة والإدارة وفي لم الشمل وتجاوز التحديات والصعوبات. وقد اعتقل أكثر من مرة ولكنه كان صلباً.



خالد محمود مصطفى الزير: ولد في قرية حرملة عام 1969 لعشيرة معروفة بالإيمان والصلاح من عشائر التعامرة. تلقى تعليمه في إحدى مدارس قريته ثم أتم الإعدادية في مدرسة تقوع. وانتقل بعد ذلك إلى المدرسة الشرعية في المسجد الأقصى المبارك. وبين جنبات الأقصى وعلى مصاطبه، كانت البيعة لجماعة الإخوان المسلمين في عام 1984. وسار خالد في هذه الدعوة جندياً مخلصاً لا يعرف التعب ولا الكلل حيث أضحى إماماً وواعظاً ومحاضراً في مسجد قريته. وبعد تفجر الانتفاضة المباركة، لعب دوراً رئيساً في فعاليات حركة حماس بمنطقة بيت لحم، أصيب في إحداها بقدمه. وقد اعتقل أربع مرات كان آخرها في نوفمبر من عام 1992.]. وسوياً أقام القادة القساميون ثلاث خلايا ضمت أربعة عشر مجاهداً بالإضافة إلى ضابطي الارتباط، أمجد أبو خلف ممثلاً للقائد محمد عزيز رشدي ومحمد صالح أكميل ممثلاً للمهندس. ويستدل من التحقيق الذي أجرته سلطات الاحتلال مع أفراد هذه الخلايا بعد اعتقالهم في نيسان (إبريل)من عام ،1995 بأن مهمة هذه الخلايا كانت تتمحور حول التعلم على تركيب العبوات الناسفة والمواد المتفجرة وتجهيز السيارات المفخخة(29). وإن كنا سنعود مرة أخرى لهذه الخلايا عند حديثنا عن تلاميذ المهندس، إلا أن ذلك لا يمنع من الحديث عن مشاركة إحدى هذه الخلايا في المصيدة التي نصبتها كتائب الشهيد عز الدين القسام للإيقاع بكبير خبراء المتفجرات في الشرطة الإسرائيلية التي كانت صحف العدو تتحدث عنه وعن كفاءته في تعطيل العبوات الناسفة، ولم يكن الميجر يوسي حيون (35) عاماً صيداً سهلاً نظراً لخبرته الطويلة في مجال عمله.



قام المهندس بتجارب عديدة على أنواع العبوات، وصولاً إلى تصميم عبوة لا يستطيع الميجر حيون النجاة منها. وفي نهاية الأمر، جهز المهندس عبوة خاصة بيوسي حيون كانت عبارة عن أنبوب معدني (3 أنش) مغلق من أحد طرفيه بينما الطرف الأخر مسنن ويغلق بواسطة غطاء مسنن بعد حشو الأنبوب بحوالي خمسين جرام من المواد المتفجرة يتم وصلها ببطارية صغيرة وصاعق تفجير. وفي الوقت الذي تنفجر فيه العبوة لحظة إزالة غطاء الأنبوب، أخرج المهندس سلكين متصلين ببطارية من طرفي الأنبوب، ولم يكن لهذين السلكين أو البطارية علاقة بالعبوة، بل وضعها لإيهام خبير المتفجرات بأنه مع قص السلك يبطل العبوة ومن ثم يقوم بفتحها لتنفجر به. وبعد إعداده وتركيبه لهذه المصيدة، جهز المهندس أربع عبوات أخرى تنفجر في أوقات مختلفة، وقد استهدف المهندس من ذلك، أن تنفجر إحدى هذه العبوات، فيقوم جنود الاحتلال بتمشيط المنطقة فيعثرون على العبوات الأربعة الأخرى ومن بينها المصيدة. وعند استدعاء خبير المتفجرات، الميجر يوسي لتفكيك العبوات التقليدية، تنفجر المصيدة في وجهة فتقضي عليه.



وطبقاً للخطة المعدة، قام أحد المجاهدين بنقل العبوات الخمس ووضعها في أماكن متفرقة على طريق جانبي يؤدي إلى موشاف شيكيف الذي يقع على منحدرات جبال الخليل الغربية القريبة من فلسطين المحتلة منذ عام 1948. وفي الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم السبت الموافق 5 يونيو (حزيران) ،1993 وعند مرور سيارة جيب تابعة لجهاز الدوريات الخضراء المكلف بالسهر على المحميات الطبيعية، انفجرت عبوتان ناسفتان مما أدى إلى تدمير السيارة وجرح اثنان من ركابها وفق ما اعترف به الناطق العسكري الإسرائيلي. وعلى الإثر، دفع جيش الاحتلال وقوات الشرطة بقوات معززة من الجنود وحرس الحدود لتمشيط المنطقة حيث عثرت هذه القوات على العبوات الثلاث الأخرى. فتم الاتصال بقيادة الشرطة، التي أرسلت الميجر يوسي حيون لتفكيك العبوات المكتشفة. وأثناء محاولة الخبير الإسرائيلي تفكيك المصيدة، انفجرت العبوة وإصابته بجروح خطيرة نقل على إثرها بطائرة مروحية عسكرية إلى مستشفى هداسا بمدينة القدس حيث فارق الحياة بعد ثلاثة أيام(30).



5- القدس على خط النار



غادر المهندس مدينة خليل الرحمن بصحبة القائد محمد عزيز رشدي، وبين أودية القدس وكهوفها، عكف القائدان يحيى ومحمد على جمع المعلومات والتخطيط لوصول إحدى المجموعات القسامية إلى قلب المدينة المقدسة بعد اختراق الطوق الأمني والحصار العسكري المفروض على المدينة بهدف احتجاز عشرات المستوطنين الصهاينة كرهائن في عملية جريئة لمبادلتهم مع عدد من المجاهدين المعتقلين في سجون الاحتلال ومعتقلاته. ولم يكن نوع هذا العمل جديداً فقد سبق وأن نفذت مثل تلك العمليات داخل فلسطين، في فترة معينة وبخاصة بين عامي 1974 و،1978 إلا أن الجديد هذه المرة هو التخطيط للعملية وانطلاق المجموعة المجاهدة من داخل الأرض المحتلة بعد أن كان التخطيط والتدريب والتسليح والانطلاق يتم من قواعد المنظمات الفلسطينية في جنوب لبنان.



المعلق السياسي الإسرائيلي، يوآف كسبي، لخص في التحليل الذي كتبه إلى حد بعيد حجم التأثير النفسي لعملية الشهيدين حاتم المحتسب ويعقوب مطاوع على الحكومة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وقال: «ليس واضحاً حتى الآن كيف ينجح -رغم الحصار والحواجز- ثلاثة مطلوبين في التجول بحرية في شوارع القدس وهم مزودون بكميات كبيرة من البنادق والوسائل القتالية الأخرى. وعلينا ألا ننسى أن ماهر أبو سرور أحد كبار المطلوبين في المناطق التي يحاول أفراد الشاباك منذ نصف عام إلقاء القبض عليه عبثاً. وأبو سرور بالذات، بدل أن يهرب ويختفي يخطط ويخرج لتنفيذ عملية استعراضية على مقربة أمتار من مكتب مفتش عام شرطة إسرائيل»(31).



عملية الرصد والاستطلاع التي أجراها القائدان بشكل مكثف، وأشرفا على بعض مراحلها شخصياً، بينت أن أنسب هدف هو حافلة تابعة لشركة (ايجد) تعمل على خط رقم (25) الذي يمر في منطقة التلة الفرنسية باتجاه مقر القيادة العامة للشرطة الإسرائيلية وتكون هذه الحافلة عادة مزدحمة بالمستوطنين المتجهين إلى أعمالهم. وبعد وضع الخطط التفصيلية، جهز المهندس ثلاثة حقائب تحوي كل منها ست قنابل يدوية وعبوة ناسفة تكفي لتدمير الحافلة. ولأن هذا النوع من العمليات يعتبر من أخطر العمليات العسكرية، ذلك أن المجاهد المتجه لحجز الرهائن يعرف سلفاً أن فلسفة العدو العسكرية قائمة على أسطورة التفوق وعدم القدرة على احتمال أي هزيمة مهما كان حجمها، سترفض الرضوخ والقبول بإجراء عملية التبادل والإفراج عن المجاهدين المعتقلين، فقد اتفق القائدان على اختيار ثلاثة من المجاهدين المطاردين الذين يمتازون بالجرأة والتضحية الكبيرة إلى جانب القدرة القتالية العالية. وكان هؤلاء الثلاثة، وهم ماهر أبو سرور ومحمد الهندي وصلاح عثمان بإمرة القائد خالد الزير ويتبعون منطقة بيت لحم. وعلى الفور، أرسل القائد محمد عزيز رشدي أحد مساعديه لترتيب عملية انتقال الأبطال الثلاثة من قاعدتهم الجبلية في الجنوب إلى إحدى المغارات في منطقة القدس.



ولحساسية العملية، وأهمية السرية في مثل هذه الحالات، اتفق القائدان على أن يقتصر الاتصال بالمجموعة التي أطلق عليها اسم (سرية الشهيدين حاتم المحتسب ويعقوب مطاوع) على القائد محمد عزيز. فاستلم أسد الكتائب، وهو اللقب الذي عرف به البطل محمد عزيز رشدي، حقائب المتفجرات التي أعدها المهندس، والتقى بالمجاهدين الثلاثة وأطلعهم على تفاصيل الخطة وأهدافها. وبناء على الاتفاق مع المهندس، وزعت على أعضاء السرية بحيث يرتدي ماهر أبو سرور بزة عسكرية إسرائيلية ويتنكر بشخصية جندي ويحمل حقيبة متفجرات وعلى كتفه بندقية من نوع (أم - 16)، ويتولى الإعلان عن العملية ومطالب المجموعة وهي الإفراج عن الشيخين المجاهدين أحمد ياسين وعبد الكريم عبيد بالإضافة إلى خمسين معتقل من حركة حماس وخمسين معتقلا آخر من أسرى حركة فتح والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة). كما تضمنت الخطة أن يرتدي قائد العملية، محمد الهندي بدلة وربطة عنق حتى يظهر على هيئة رجل أعمال ويحمل معه حقيبة دبلوماسية بداخلها ست قنابل وعبوة ناسفة ويجلس في مؤخرة الحافلة. وأما صلاح عثمان فقد تقرر أن يتنكر بشخصية طالب جامعي ويحمل مسدس وحقيبة شبيهة بتلك التي يحملها محمد الهندي، ومهمته السيطرة على قائد الحافلة وتوجيهه بالابتعاد عن خط السير التقليدي(32).



انتقلت السرية المجاهدة في ساعات الفجر الأولى من يوم الخميس الموافق 1يوليو (تموز) ،1993 وهو اليوم المقر لتنفيذ العملية إلى موقع قريب من محطة انتظار الحافلات في التلة الفرنسية ريثما تمر الحافلة رقم (25). وفي الساعة السابعة والثلث صباحاً، توقفت الحافلة في المحطة، ليصعد إليها الأبطال الثلاثة ثم تنطلق مجدداً وعلى متنها أكثر من أربعين راكباً. وخلال دقائق معدودة، سيطرت السرية المجاهدة على الحافلة الإسرائيلية حيث وقف المجاهد صلاح عثمان بجانب السائق شاهراً مسدسه فيما تحصن البطلان ماهر ومحمد في وسط ومؤخرة الحافلة. ووزع المجاهدون بياناً كانوا يحملونه معهم تضمن أهداف العملية ومطالبهم العادلة، وهددوا بتفجير الحافلة بمن فيها وتحميل اسحق رابين المسوؤلية عن ذلك في حالة عدم استجابة السلطات العسكرية الإسرائيلية لمطالبهم. كما طالب القساميون في بيانهم بالسماح للحافلة بالتوجه إلى الحدود اللبنانية لتسهيل ترتيبات الإفراج عن الرهائن بعد إطلاق سراح المعتقلين(33).



وبدلاً من سماع لغة العقل والحكمة أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي (اسحق رابين) بصفته وزيراً للدفاع الوحدات الخاصة الإسرائيلية بالعمل على إيقاف الحافلة بالقوة ومنعها من مواصلة سيرها. وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، وبعد أن أجبرت الحافلة على التوقف على بعد مائة متر فقط من مقر قيادة الشرطة الإسرائيلية في حي الشيخ جراح، بدأ جنود الاحتلال بإطلاق النار مما أدى إلى سقوط العديد من الركاب الصهاينة برصاص جنودهم، كما أصيب عدد آخر غير محدد من الجنود خلال تبادل إطلاق النار مع المجاهدين. ولكن إصابة المجاهد صلاح عثمان المبكرة برصاصة في رأسه أفقدته الوعي حال دون استكمال العملية كما خطط لها، حيث فقد المجاهدان ماهر أبو سرور ومحمد الهندى السيطرة على الحافلة. وبدأ الركاب بالقفز من النوافذ مستغلين انشغال المجاهدين في مواجهة جنود الاحتلال وحرس الحدود الذين بدأوا بالإطباق على الحافلة ومحاصرتها. وعلى الرغم من ذلك، تمكن البطلان من مغادرة الحافلة واختراق الحصار حيث أوقفا سيارة من طراز (رينو-5) تقودها مهندسة إسرائيلية وآجبراها على التوجه نحو الطريق التي تربط جنوب القدس بالضفة الغربية لتأمين انسحابهما(34).



اصطدم المجاهدان أثناء محاولتهما مغادرة المدينة المقدسة متوجهين نحو مدينة بيت لحم بحاجز عسكري أقامته قوات الاحتلال عند أحد الجسور في مستوطنة جيلو (جنوب القدس الشرقية) حيث تبادلا إطلاق النار مع جنود العدو وألقيا قنبلتين يدويتين كانتا بحوزتهما مما أدى إلى سقوط عدد من قوات الاحتلال بين قتيل وجريح. وقد أصيبت المهندسة الإسرائيلية برصاصة قاتلة أطلقها أحد الجنود الإسرائيليين أثناء الاشتباك. وعلى الأثر، تولى المجاهد الذي كان يجلس في المقعد الأمامي القيادة وتمكن من تخطي الحاجز العسكري متابعاً السير نحو بيت لحم، ولكن استمرار إطلاق الرصاص المتبادل بين المجاهد في المقعد الخلفي للسيارة وقوات العدو التي استخدمت مختلف أنواع الأسلحة الآلية والقذائف الصاروخية أدى إلى انفجار سيارة الرينو واندلاع النيران فيها قبل أن تصطدم بجدار حجري على جانب الطريق عند مدخل بيت لحم مما أدى إلى ترجل الفارسين ماهر أبو سرور ومحمد الهندى إلى جنات الخلد(35).



6- حقيبة مفخخة في مفوضية الشرطة



لم يسع مجاهدو القسام للقتل من أجل القتل كما حاولت سلطات الاحتلال ترويجه على وسائل الإعلام العالمية، إذ أن الرهائن لاقوا كل معاملة إنسانية من قبل الأبطال الثلاثة. وكان باستطاعة المجاهدين إيقاع عشرات الإصابات القاتلة في صفوف الرهائن إثر الاشتباك المبكر ولكنهم تجنبوا ذلك، وجاءت الإصابات التي وقعت في صفوف الرهائن على يد الجيش الإسرائيلي نفسه رغم إنكار سلطات الاحتلال وتجاهلها المتعمد لهذه الحقيقة. إذ أعلن مفتش عام الشرطة الإسرائيلية أن العملية أسفرت عن مصرع مستوطنتين بالإضافة إلى إصابة سائق الحافلة واثنين من الركاب، مدعياً في نفس الوقت أنه لم تحدث إصابات في صفوف العسكريين الإسرائيليين.



وعلى الرغم من إعلان المتحدث العسكري الإسرائيلي عن استشهاد البطلين ماهر أبو سرور ومحمد الهندى ونقل البطل صلاح عثمان فاقداً الوعي إثر إصابته الخطيرة في رأسه إلى أحد المستشفيات، إلا أن فصول هذه العملية لم تنته على هذا الحد. ومرة أخر، تحول الصدفة دون أن يترك المهندس بصماته على مقر قيادة الشرطة الإسرائيلية في حي الشيخ جراح بمدينة القدس. فقد قام رجال الشرطة الذين وصلوا إلى مكان العملية بنقل الأمتعة التي تركها الركاب داخل الحافلة حين فروا مذعورين بما فيها حقيبة صلاح عثمان المفخخة في سيارة (ترانزيت) إلى قسم المفقودات في قيادة الشرطة. وبعد حوالي ساعة، وعندما انفجرت السيارة التي استقلها الشهيدان أبو سرور والهندى، ثارت الشبهات أنه قد يكون بين الأمتعة التي جمعت من الحافلة عبوات شبيهة. وبالفعل، عند فتح الحقائب في قسم المفقودات، عثر خبراء المتفجرات على العبوة وقاموا بإبطال مفعولها بعد أن تم إخلاء المبنى وجرى تحويل الشارع الذي يمر أمام مقر مفوضية الشرطة.(36)



7- يوم الوفاء والجمعة الحزينة



النهاية غير المتوقعة لعملية الشهيدين حاتم المحتسب ويعقوب مطاوع، وما آل إليه صلاح عثمان الذي بقي على قيد الحياة، دفع بالقائدين القساميين، يحيى عياش ومحمد عزيز رشدي اللذين لم تكن سلطات الاحتلال على علم أو دراية في وجودهما في المنطقة ووقوفهما خلف العملية، إلى مغادرة المدينة المقدسة والانتقال إلى مدينة رام الله. وهنا، نتوقف لعلنا نعيش لحظات في ذلك المناخ الجبلي الذي ذاق فيه القائدان ومساعديهما حلاوة الجهاد في سبيل الله. فقد كان القساميون يعيشون في إحدى المغارات التي كان ارتفاعها لا يتجاوز المتر وعرضها متر ونصف. ولذلك، كان المجاهدون يصلون وهم جالسون، دون أن يضيئوا إلا شمعة واحدة، يقومون بحجب ضوئها عن الخارج نظراً لأن الضوء مهما كان خافتاً إلا أنه يوحي بوجود أناس في تلك المنطقة الجبلية الموحشة. وعندما كان القساميون يخرجون من تلك المغارة، يقومون بربط الأشجار القريبة من المغارة بشبكة من الخيوط الرفيعة حتى يعرفوا إن كان أحد قد اهتدى إلى ملجأهم أم لا(37).



وفي منطقة رام الله، أعد الشيخ عبد الرحمن العاروري* [عبد الرحمن إبراهيم يوسف العاروري: ولد في قرية عارورة بقضاء رام الله عام 1962 وتلقى تعليمه في مدارسها حتى نال شهادة الثانوية العامة، ليعمل بعدها في حقل التجارة. والتزم بجماعة الإخوان المسلمين عام 1979 حيث عمل بنشاط في مجال الدعوة والتنظيم إلى جانب المشاركة في النشاطات العامة. وقد انضم الشيخ عبد الرحمن إلى كتائب عز الدين القسام منذ البدايات الأولى لتأسيس الجناح العسكري لحركة حماس، ورافق تطورات العمل حتى غدا مسؤول الكتائب في منطقة رام الله. فاعتقل في 6/8/1992 إدارياً، وكان من المقرر أن يفرج عنه في 6/3/1993 حين أبعد إلى مرج الزهور في 17/12/1992. ولكنه عاد في يناير 1993 ليقضي بقية مدة محكوميته حيث أفرج عنه في 4/3/1993 وعاد لمزاولة مهماته. وهو متزوج ولديه ثلاثة بنات وولد.] المأوى للمهندس ورفيقه عند المجاهد سليمان زيدان** [سليمان مصطفى حسن زيدان: ولد في قرية قبية عام ،1953 أي في نفس العام الذي ارتكب شارون مذبحته بحق أهل القرية. ونشأ في بيت مسلم، فوقف في وجه مخططات اليهود لإفساد الشباب وساهم في بناء مسجد القرية. ودخل دعوة الإخوان المسلمين وتربى في أحضانها عام 1976 وترقى في الدعوة حتى جاءت الانتفاضة المباركة، فانتظم في صفوف حركة حماس وشارك في فعالياتها. فاعتقل وسجن عام 1991 بتهمة وجود قنابل يدوية لديه، تم اعتقل مرة أخرى في آذار 1993 بتهمة قيادة حركة حماس في منطقة غربي رام الله، ولكنه خرج منها أشد عوداً في مواجهة الأعداء.] في قرية قبية التي تقع إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله. وانضم القائد خالد الزير لرفيقيه في وقت لاحق حيث اتفق القادة على الاستمرار في تصعيد الجهاد والتخطيط لعمليات نوعية باستخدام المواد المتفجرة والأسلحة الرشاشة. وبناء على هذا الاتفاق، أعد المهندس عبوات ناسفة قام أحد المجاهدين بزرعها في حافلة تابعة لشركة (ايجد) حيث انفجرت تلك العبوات يوم الخميس الموافق 29 يونيو (تموز) 1993 أثناء وجود الحافلة في المحطة المركزية بمدينة تل أبيب. وقد زعم العدو، أن انفجار العبوات الناسفة ألحق أضراراً مادية كبيرة في الحافلة دون أن يصيب أحداً من الركاب أو المتواجدين في المحطة.



لم يكد يمضي أسبوع على العملية السابقة، حتى غادر القائد خالد الزير متوجهاً إلى المدينة المقدسة للقاء إحدى الخلايا المجاهدة التي أقامها القائدان يحيى ومحمد قبل مغادرتهما للقدس. وكانت الخلية تتكون من خمسة مجاهدين هم: تيسير سليمان (أمير الخلية)، وفهد السلوادي، ومروان أبو ارميلة، ونائل سلهب وعثمان جولاني، حيث نقل الزير للمجموعة التي أطلقت على نفسها (سرية الشيخ تميم العدناني) تفاصيل الخطة التي أعدت في قرية قبية وفاءً للشيخ أحمد ياسين وإخوانه المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وعلى الأثر، تحرك المجاهدون تيسير سليمان وفهد السلوادي ومروان أبو ارميلة في سيارة تجارية (فان) تم تغيير أرقام هيكلها (الشاصي) وتحمل لوحة تسجيل إسرائيلية مزيفة وهم يحملون أنبوبة غاز مسيل للدموع ومسدس بهدف أسر أحد جنود الاحتلال واحتجازه في مكان آمن وإبلاغ القائد خالد الزير الذي سيتولى مع المهندس والقائد محمد عزيز صياغة البيان الذي يحدد مطالب حركة المقاومة الإسلامية (حماس).



وعند الساعة السادسة من مساء يوم الخميس الموافق 5 آب (أغسطس) ،1993 وصلت السيارة إلى مفترق الرام شمال مدينة القدس. وقام المجاهدون بالدوران أربع مرات إلى أن صادفوا أحد جنود سلاح الإشارة في جيش الاحتلال كان في طريقه من قاعدته العسكرية قرب رام الله إلى منزله في حي راموت بالمدينة المقدسة. وأثناء حديث المجاهد فهد مع العريف يارون حيمس (20 عاماً) باللغة العبرية الذي رفض الصعود في البداية، وصل جندي آخر وعندئذ، صعد العريف حيمس إلى السيارة وجلس قرب المجاهد تيسير في المقعد الخلفي. ولكن جندي سلاح الإشارة الذي كان يحمل بندقية آلية من نوع (جاليلي)، ولسبب غير معروف شك في الأمر، وبدأ بالمقاومة ومحاولة النزول بالقوة، فبدأ المجاهد تيسير بمصارعته ورش المجاهد مروان عليه الغاز المسيل للدموع إلا أن ذلك لم يحل دون قيام العريق حيمس بالصراخ طالباً النجدة. وعندها نجح المجاهد تيسير في إخراج المسدس وإطلاق رصاصتين في رأس الجندي(38).



شرعت قوات الاحتلال بأعمال تمشيط واسعة النطاق بمساعدة طائرات مروحية بعد فرض نظام منع التجول على رام الله والمنطقة المحيطة بها إثر ورود بلاغ من جندي كان يقف بالقرب من العريف حيمس عند مفترق الرام قام بإطلاق النار وحاول مطاردة المجاهدين بعد أن استقل سيارة جيب عسكرية تصادف مرورها في تلك اللحظة. وقد فشلت كل جهود حملات التمشيط التي أشرف عليها قائد المنطقة الوسطى الميجر جنرال نحيميا تماري وقائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية البريغادير شاؤول موفاز في اعتراض السيارة أو تعقب أفراد المجموعة الذين استولوا على سلاح الجندي وأمتعته الشخصية قبل انسحابهم إلى قاعدتهم، حيث عثرت قوات الاحتلال على السيارة التجارية التي استخدمت في العملية محترقة قرب قرية بيتونيا بقضاء رام الله وبداخلها جثة الجندي المختطف بعد ثماني ساعات من عمليات البحث المكثفة(39).



وعلى الرغم من انتهاء العملية دون تحقيق الأهداف المرجوة بالنسبة للمهندس ورفيقيه، إلا أن ذلك لم يحل دون تنفيذ الجزء الثاني من مخططات الوفاء للمجاهدين المعتقلين. فقد كانت الخطة الأصلية تتضمن تحرك إحدى المجموعات القسامية في منطقة شمال الضفة الغربية لضرب هدف عسكري كان المهندس قد رصده أثناء وجودة في تلك المنطقة، ويظهر ذلك الهدف بوضوح من شرفة منزل المهندس في قرية رافات بقضاء نابلس. وطبقاً لما اتفق عليه في قبية، فقد استهدف الهجوم تشتيت جهود قوات الاحتلال التي تقوم بالبحث عن منفذي عملية أسر الجندي عند مفترق الرام. وبالعودة إلى مساء ذلك اليوم، نجد أن المهندس قد أرسل المجاهد محمد ريان بسيارة بيجو (405) تعود للمجاهد سليمان زيدان إلى قراوة بني حسان لتبليغ القائد على العاصي بتفاصيل الهجوم وضرورة التحرك في الوقت المناسب لتحقيق الأهداف المرجوة. ولأن الوقت المتاح لم يكن كافياً لإصدار التعليمات إلى إحدى المجموعات القسامية العاملة في المنطقة، فقد قرر القائدان القساميان، أبو جهاد وأبو مجاهد أن يقوما بنفسيهما بتنفيذ الهجوم بمعاونة المجاهد محمد ريان الذي كلفاه بقيادة السيارة التي جاء فيها نحو الهدف العسكري.



الدلائل وتشير إلى أن الهجوم كان مخططاً له بإحكام، وهو يشبه في نمطه وجرأته عملية شهداء خان يونس التي استهدفت دورية عسكرية داخل مستوطنة جاني طال بقطاع غزة، حيث اقترب المجاهدون الثلاثة ببطء من موقع لجيش الاحتلال يقع بالقرب من مستوطنة (القاناة) القريبة من قرى دير بلوط ورافات وكفر الديك وبروقين في نحو الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الجمعة الموافق 6 آب (أغسطس) 1993. وما أن أضحت السيارة على بعد أمتار قليلة من الجنود الثلاثة الذين كانوا يحرسون مدخل الموقع حتى بادر المجاهدان أبو جهاد وأبو مجاهد بإطلاق النار باتجاههم، فقتل جنديان وأصيب الثالث بجروح خطيرة. وعند محاولة المجاهدين الانسحاب، تعرضوا لرصاص القنص من جندي كان يختبىء فوق سطح أحد المنازل القريبة مما أدى إلى استشهاد القائد البطل عدنان مرعي وإصابة المجاهد محمد ريان بجروح بليغة أفقدته الوعي، فيما تمكن القائد على عاصي من التواري تماماً عن الأنظار إذ قفز فوق سور قريب وألقى بكتلة كبيرة من القش كانت على السور فوق جسمه وكمن تحتها أكثر من أربع وعشرين ساعة دون أن تصدر عنه حركة(40).



وعلى الرغم من فرض حظر التجول الشامل على قرى كفر الديك ورافات واللبن الغربية وبروقين ودير بلوط لثلاثة أيام متواصلة، قام خلالها نحو (500) جندي من قوات الاحتلال تساندهم أثني عشر طائرة مروحية باقتحام المنازل وتفتيشها بشكل دقيق إلى جانب استخدام القنابل الضوئية بكثافة لإنارة كل القرى والجبال المحيطة بموقع العملية، إلا أن القائد أبو جهاد نجح في نهاية الأمر من العودة إلى قاعدته بسلام. ولم تنفع قوات الاحتلال كلاب تقصي الأثار التي استعانت بها لتعقب المجاهد القسامي في البيارات والجبال(41).





8- وداعاً رامبو الكتائب



لم يعد منزل المجاهد سليمان زيدان (أبو ايهاب) ملائماً لإقامة المهندس وإخوانه بعد إصابة واعتقال المجاهد محمد الريان قرب دير بلوط، فقد كانت سيارة المجاهد أبو إيهاب التي ضبطتها سلطات الاحتلال كافية لانكشاف شخصية ودور هذا البطل الذي غادر أيضاً مع المهندس إلى قاعدة سرية أخرى. وعليه لم تجد قوات الاحتلال التي داهمت قرية قبية بعد محاصرتها وفرض حظر التجول سوى بعض المواد الكيماوية الأولية التي تستخدم في صناعة المواد المتفجرة. وفشلت الشاباك التي تولت تفتيش منزل أبو ايهاب في العثور على أية أدلة تقود إلى معرفة شخصية المجاهدين الذين كانوا يختبئون في المنزل.



ومع إقدام القيادة الفلسطينية المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية على التوقيع على وثيقة اتفاق الحكم الذاتي (غزة - أريحا) في واشنطن وقرار القيادة المركزية لكتائب الشهيد عز الدين القسام تصعيد العمليات الجهادية رداً على التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني. فكانت عملية الكمين الذي نصبه مقاتلو حركة حماس جنوبي قرية الظاهرية في نحو الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الخميس الموافق 2 أيلول (سبتمبر) 1993 والذي أدى إلى تحطيم سيارة عسكرية ومقتل ضابط صف وإصابة آخر بجراح بليغة أول إعلان على رفض حركة حماس لما أقدمت عليه قيادة (م.ت.ف.). وعلى الرغم من حالة الاستنفار التي أعلنتها سلطات الاحتلال بين قواتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أنها لم تحل دون قدرة كتائب الشهيد عز الدين القسام على تنفيذ ما خطط له المهندس في مدينة القدس ومحمد عزيز رشدي في مدينة الخليل وعماد عقل في مدينة غزة.



القادة الثلاثة نفذوا عملياتهم بدقة وبعد تخطيط ورصد مسبقين، إلا أن مشيئة الله وقدره المكتوب أن يترجل القائد البطل محمد عزيز رشدي إلى عليين ويصاب البطل خالد الزير بإصابات بليغة جعلته يبتعد عن تحمل المسؤولية الكبيرة. ولعلنا نبدأ باستعراض بعض تفاصيل العملية التي أثرت في مسيرة المهندس الجهادية، كونها غيبت اثنان من عمالقة الكتائب القسامية وأبقت يحيى عياش وحيداً من بين أبناء جيله من المجاهدين والمطاردين. ففي حوالي الساعة التاسعة والنصف من مساء يوم الثلاثاء الموافق 14 أيلول (سبتمبر) 1993 تتبعت سيارة مسجلة باسم البطل خالد الزير كانت تقل مجموعة شهداء الأقصى المؤلفة من محمد عزيز رشدي وعبد الرحمن حمدان وإبراهيم سلامة وسليم صبيح، سيارة جيب عسكرية تحرس حافلة إسرائيلية تسير على الطريق المؤدي إلى مستوطنة (نتسارا) الواقعة جنوب مدينة الخليل. وأطلق المجاهدون النار من أسلحتهم الرشاشة حين محاذاة سيارتهم الجيب العسكرية فأصابوا جنوده الأربعة بإصابات مباشرة وقاتلة دون أن يتمكنوا من الرد، ثم ألقى الأبطال القنابل اليدوية باتجاه الحافلة الإسرائيلية وغادروا المكان في طريقهم إلى قاعدتهم.



وفيما كان القساميون يواصلون مسيرتهم المباركة، اصطدموا بحاجز عسكري عند مدخل المستوطنة الصهيونية، فتبادلوا إطلاق النار مع جنوده الأربعة الذين سقطوا بين قتيل وجريح دون أن يتمكنوا من النيل من المجاهدين. وعاودت سيارة القساميين الانطلاق من جديد بعد أن اقتحمت الحاجز العسكري، غير أنها سرعان ما واجهت قوات عسكرية ضخمة دفعتها السلطات الإسرائيلية في أعقاب العملية البطولية. فانقلبت السيارة إثر إصابة المجاهد خالد الزير خلال الاشتباك، ولكن المجاهدين تمكنوا من إخراج قائدهم من السيارة أثناء محاولة قوات العدو الانتشار ومحاصرتهم، حيث تولى القائد البطل محمد عزيز رشدي حماية إخوانه واستطاع إيقاف التعزيزات الإسرائيلية ومنعها من تعقب المجاهدين عبد الرحمن وسليم اللذان حملا البطلين خالد وإبراهيم. واستمر الاشتباك بين أسد الكتائب وقوات الاحتلال إلى أن ترجل البطل إلى عليين بعد أن صرع وأصاب عددا من الجنود الإسرائيليين(42).



وقبل أن نطوي هذه الصفحة الخالدة من حياة الشهيد يحيى عياش، لا بد أن نعرج على الجزء الخاص بمشاركته المباشرة في الملحمة الثلاثية، ألا وهي محاولته تفجير الحافلة رقم (23) التي تسير في منطقة محنى يهودا بمدينة القدس. ففي منتصف أيلول (سبتمبر) من ذلك العام، جهز المهندس حقيبة جانبية في داخلها عبوة ناسفة، وطلب من الخلية المقدسية التي نفذت عملية أسر الجندي الإسرائيلي في شهر آب (أغسطس) 1993 تكليف أحد أعضائها لهذه المهمة الجديدة. فتطوع المجاهد مروان أبو ارميلة، الذي سافر إلى محطة انتظار الحافلات قرب محنى يهودا حيث صعد في الحافلة وجلس في المقعد قبل الأخير. وبعد دقيقة فتح مروان الصمام وضغط الزر، إلا أن العبوات لم تنفجر رغم محاولات مروان المتكررة. ويبدو أن خللاً أصاب جهاز التفجير أو الصاعق. وهكذا، نزل مروان في منطقة باب الخليل، واستقل سيارة أجرة، عائداً إلى بيت حنينا، لتنتهي وبشكل غير متوقع تلك العملية الجريئة دون أن تحدث النتائج المرجوة منها(43).

السيف عدي
07-03-2008, 08:49 AM
ثالثاً: قيادة القافلة



تنفست الحكومة الإسرائيلية الصعداء، وأخذ قادة الشاباك والاستخبارات العسكرية يتحدثون بفخر عما أسموه إنجازاً كبيراً كونهم قد أخرجوا ثلاثة من القادة العسكريين لحركة حماس من دائرة الصراع والحرب الفدائية. فقد استشهد مهندس العمليات العسكرية في قطاع غزة، جميل الوادي في أواخر حزيران (يونيو) في اشتباك بطولي على طريق البحر المحاذي لمدينة خان يونس ولحقه القائد البطل عدنان مرعي في آب (أغسطس)، وأخيراً القائد الفذ محمد عزيز رشدي في أيلول (سبتمبر). وفي الوقت ذاته، اشتدت المطاردة وعمليات الحصار على من تبقى من القيادات العسكرية التي واكبت انطلاقة وتشكيل كتائب الشهيد عز الدين القسام. ومع كثافة حملات التفتيش التي نفذت بتنسيق وتخطيط مشترك بين الجيش الإسرائيلي ووحدات الشرطة وقوات حرس الحدود، والتي طالت قطاعات واسعة من أبناء شعبنا بهدف تشديد الخناق على المجاهدين القساميين، تحول المهندس إلى شبح أسطوري، مرعب بالنسبة للإسرائيليين بكافة قطاعاتهم وتصنيفاتهم.

ومنذ تلك اللحظة التاريخية، أخذت الحرب بين الكتائب القسامية والكيان الصهيوني بعداً جديداًً عبر الجنرال بنيامين بن اليعازر الذي كان يشغل منصب وزير البناء والإسكان في حكومة حزب العمل عنه بقوله: «إنها حرب عصابات من جانب مجموعات صغيرة متلهفة إلى الموت»حسب تعبيره(44).



1- لو كان غير الجنة لأثرته



مع اقتراب الذكرى السنوية الثالثة للجريمة الصهيونية التي ارتكبت في ساحة المسجد الأقصى المبارك، ووفاءً لأرواح الشهداء الأبطال من كتائب الشهيد عز الدين القسام، عكف المهندس على وضع اللمسات الأخيرة في خطة الحملة العسكرية الجديدة ذات الثلاث أذرع. ولأن الشهيدين القائدين عدنان مرعي ومحمد عزيز رشدي لم يغيبا عن فكر وقلب ووجدان المهندس الذي كان دائم الذكر لهما ولسيرتهما الجهادية المباركة. فقد أصر يحيى على المساهمة في اثنتين من تلك العمليات وإطلاق اسمي الشهيدين عدنان ومحمد على المجموعتين المنفذتين. ولذلك، صمم المهندس عبوة ناسفة تنفجر بمجرد اللمس أو الضغط بحيث تؤدي مفعول اللغم الأرضي. وكلف المهندس أحد مساعديه في منطقة القدس بزرع العبوة في إحدى الحقول القريبة من مستوطنة (رامات راحيل) المقامة فوق أرض عربية في الضاحية الجنوبية لمدينة القدس. ولدى تجول خمسة من المستوطنين الصهاينة في ذلك الحقل، صعد أحدهم على العبوة في صبيحة يوم الجمعة الموافق 1 تشرين أول (أكتوبر) ،1993 مما أحدث دوياً هائلاً سقط بعدها الخمسة مضرجين بدمائهم. وقد اعترفت السلطات الإسرائيلية بالعملية، وأعلنت أن مستوطنيها نقلوا إلى مستشفى هداسا حيث فارق أحدهم الحياة متأثراً بجراحه(45).



«لا شك أن بصمات أصابع يحيى عياش مطبوعة أيضاً على هذه العملية الصعبة»، عبارة رددها قائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية بعد زيارته لموقع الهجوم الاستشهادي الجريء الذي نفذه شيخ الاستشهاديين، سليمان مصطفى حسن زيدان ضد حافلة عسكرية بالقرب من مقر قيادة القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ونتوقف هنا أمام الشهيد الخالد مع النبيين والصديقين والذي كان يبلغ من العمر زهاء اثنين وأربعين عاماً، ونتساءل: لماذا يشرك المهندس ابن الأربعين في عملية من هذا النوع؟ وهل كان يعاني من نقص في المتطوعين أو الاستشهاديين؟. والحقيقة هي عكس ذلك، فالاستشهاديون عددهم كبير وقوائم المتطوعين تمتليء بالعشرات بل قل بالمئات ممن نذر نفسه لله وللإسلام. ولكن الشهيد سليمان زيدان، الذي رافق المهندس منذ انتقاله إلى منطقة رام الله، ينام ليله في الكهوف ويقضي نهاره بين الجبال ملازماً ليحيى ظل متطلعاً إلى السماء، وحينما سنحت الفرصة ورأى الشيخ سليمان زيدان المهندس يجهز السيارة المفخخة بعبوات ناسفة شديدة الانفجار وقنابل يدوية ومسامير، ناشده بالله أن يكرمه بقيادة السيارة وتحقيق أمنيته بالشهادة.



وهذا الإصرار من قبل الشهيد سليمان زيدان، والذي عبر عنه بأساليب وطرق جعلت المهندس ينزل عند رغبة أخيه ويقدمه على المجاهد الذي وقع عليه الاختيار لتنفيذ العملية، يذكرنا بقصة الصحابي خيثمة سيد بني عمرو بن عوف وابنه سعد قبيل غزوة بدر الكبرى، فحين قال خيثمة لابنه: «لا بد لأحدنا أن يقيم فأثرني بالخروج وأقم أنت مع نسائنا»، أجابه سعد على الفور: «لو كان غير الجنة لأثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا». واستجاب الله سبحانه وتعالى لرغبة الابن ولقي ربه في بدر، ثم مضت الأيام وتعاقبت الليالي، وبقيت كلمات الابن تتجاوب أصداؤها في قلب الشيخ الكبير حتى أقبلت غزوة أُحد. فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يستشيرهم في الخروج، وكان من بينهم خيثمة الذي أشار على الرسول برأي رآه ثم قال للرسول متوسلاً: «لقد أخطأتني وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً، وقد بلغ من حرصي أن ساهمت وابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنت على الشهادة حريصاً - وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا... والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ووهن عظمي، وأحب لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة». فدعا الرسول لخيثمة أن يرزقه الشهادة وتحققت دعوة الرسول وتحققت أمنية خيثمة ولقي الرجل ربه وهو يذب الأعداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد(46).

وكان لسليمان ما تمنى، وقاد السيارة المفخخة متتبعاً حافلة عسكرية إسرائيلية تحمل رقم (178) وتنقل جنوداً من القوات الخاصة في طريقهم إلى مقر قيادة القوات الإسرائيلية الذي يقع بالقرب من مستوطنة بيت إيل شمال مدينة رام الله. وبعد أن تخطى سليمان ثمانية حواجز عسكرية أقامتها سلطات الاحتلال بين مدينتي القدس ورام الله مستغلاً لوحة الأرقام الإسرائيلية المثبتة على السيارة، تمكن من اللحاق بالهدف (الحافلة) أثناء اقترابه من المستوطنة عند الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الاثنين الموافق 4 تشرين أول (أكتوبر) 1993. وما هي إلا ثوان معدودة، حتى كانت السيارة المفخخة تصدم الحافلة العسكرية من الجنب لتنفجر السيارتان محدثتا دوياً هائلاً وتناثرت الأشلاء والصفائح المعدنية على مساحة واسعة. وعلى الأثر، طوق جيش الاحتلال المنطقة وهرعت العشرات من سيارات الإسعاف لنقل القتلى والجرحى(47).

وإذا كان شهود العيان من المستوطنين اليهود قد أكدوا في حديثهم لوسائل الإعلام العبرية والعالمية أن الحافلة العسكرية التي كانت مكتظة بالجنود قد احترقت جراء الانفجار، إلا أن ذلك لم يثن المتحدث العسكري في جيش الاحتلال عن محاولته التقليل من شأن العملية البطولية التي أودت بحياة ثلاثة من جنوده وأصابت (28) جندياً وسائق الحافلة بالإضافة إلى مستوطن بجروح وحروق وإعاقات متفاوتة(48).

وبعد خمسة أيام من العملية الاستشهادية في بيت إيل، بر المهندس بوعده وأكمل حملته العسكرية ذات الثلاث أذرع حين أوعز إلى إحدى المجموعات القسامية العاملة في منطقة القدس بمهاجمة اثنين من جنود الاحتياط كانا يقضيان أجازتهما في منطقة وادي القلط السياحية في محاولة لأسرهما وإرغام حكومة اسحق رابين على الإفراج عن عدد من أبناء شعبنا المعتقلين في السجون وأقبية التعذيب الصهيونية. ولكن المقاومة التي أبداها الجنديان حالت دون تنفيذ هذا الهدف، مما اضطر المجموعة الفدائية إلى إطلاق النار على العسكريين الإسرائيليين وقتلهما ثم مغادرة المكان قبل أن تصل قوات الاحتلال(49).



2- ذكرى وعد بلفور



شكلت العملية الاستشهادية التي نفذها البطل سليمان زيدان تحدياً كبيراً لاسحق رابين بصفته وزيراً للدفاع، وكون هذه العملية استهدفت جنوداً مدربين ومدججين بالسلاح، وهذا تحد لم تعتاد عليه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. لم يكن هذا التحدي جديداً على المهندس، إذ استهدفت العملية البطولية التي نفذها الشهيد ساهر التمام حافلتين عسكريتين أيضاً. وعليه، غدا هذا الأسلوب، برنامج عمل ومنهاج سار عليه المهندس ولم يخرج عنه إلا للرد على الجرائم التي يرتكبها المستوطنون بحق أبناء شعبنا كما سنرى. وطالما نحن نتحدث عن هذا المنهاج، وفي إطار السياق التاريخي الذي سرنا عليه في هذا الفصل، نصل إلى العملية الاستشهادية التي شاءت قدرة الله سبحانه وتعالى ألا تكتمل فصولها الأخيرة، وإن كان المهندس وإخوانه في كتائب الشهيد عز الدين القسام قد أعدوا لها كافة المستلزمات الضرورية للنجاح. فقد أعد المهندس سيارة من نوع (سوبارو) وجهز عبوات ناسفة ربطها باسطوانات غاز وعدد من القنابل اليدوية داخل السيارة التي كان من المقرر تفجيرها بمحاذاة حافلة عسكرية تمر يومياً على الطريق المؤدي إلى مستوطنة (شيلو). وفي نحو الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الثلاثاء الموافق 2 تشرين الثاني (نوفمبر) ،1993 الذي يصادف ذكرى وعد بلفور المشؤوم، قاد المجاهد سلامة يوسف سلامة* [سلامة يوسف سلامة: ولد في قرية بدرس بقضاء رام الله عام 1973.] السيارة المفخخة. وما أن خرج الشهيد بسيارته على الطريق المتفرعة من قرية سنجل القريبة من المستوطنة، حتى انفجرت العبوة الناسفة مما أدى إلى استشهاد البطل دون أن يتمكن من إكمال مهمته والاصطدام بالحافلة العسكرية وتفجيرها(50). والحقيقة أنه لم يعرف، هل انفجرت العبوات بسبب خلل فني في أجهزة التفجير أم أن العبوات كانت مؤقتة بحيث تنفجر في وقت معين، وتأخر الشهيد في الوصول إلى هدفه أم أن الحافلة تأخرت ذلك اليوم. ورحم الله الشهيد سلامة يوسف الذي جعل قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال يعلن أمام الصحفيين بعد تفقده مكان العملية: «إن مشكلتنا هي بالأساس مع أولئك الشبان المستعدين لجعل أنفسهم قنابل حية، فمن الصعب جداً مواجهة هذه النوعية من الأشخاص»(51).



3- أطول الناس أعناقاً يوم القيامة



اعتاد أهالي قرية حرملة القريبة من بيت لحم على الاستيقاظ في صباح كل يوم على صوت خالد الزير وهو يؤذن داعياً أهل قريته إلى الفلاح. وبعد مطاردة سلطات الاحتلال للقائد القسامي بقي صوته الشجي حاضراً، تردده مئذنة مسجد حرملة خمس مرات في اليوم عبر أشرطة التسجيل التي حفظها أهالي حرملة وتداولوها فيما بينهم. وحين كان صوت الله أكبر يتردد من مئذنة المسجد الذي افتقد خالد دون صوته، كان شيوخ القرية يرفعون أيديهم بالدعاء للقائد القسامي الذي هجر متاع الدنيا وحمل في قلبه وفكره ووجدانه هموم شعبه.

في يوم الجمعة الموافق 26 تشرين الثاني (نوفمبر) ،1993 وبعد أقل من يومين فقط على استشهاد القائد عماد عقل في مدينة غزة، فجع المهندس باستشهاد مساعده في حي صور باهر بمدينة القدس على يد الوحدات الإسرائيلية الخاصة. وقد أتضح من خلال الشواهد وتقصي الحقائق أن عميلاً لسلطات الاحتلال قد تمكن من رصد منزل المجاهد إبراهيم عميرة (23 عاماً) الذي كان يختبىء به القائد خالد الزير. وعلى أثر هذه المعلومات، حاصرت الوحدات الخاصة و المستعربين الإسرائيليين المنزل في نحو الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة وطلبت من سكانه الخروج. وعند تجمع سكان المنزل في الساحة المقابلة، حاول المجاهد الابتعاد عن جمهور المواطنين حتى لا يصابوا بأذى في أي تبادل لإطلاق النار وعندئذ، شهر القائد مسدسه وأطلق بضع طلقات نارية باتجاه جنود العدو الذين صوبوا أسلحتهم الرشاشة باتجاه صاحب الإيمان والقرآن مما أدى إلى استشهاده على الفور(52).



وهكذا غاب رفيق آخر من رفاق المهندس عن الميدان، بينما أخضع المعتقلين المتهمين بالمشاركة في إيواء القائد الشهيد خالد الزير لعمليات تعذيب شديدة، وضغوط جسدية منتظمة ادعت بعدها سلطات الاحتلال بأن هؤلاء المعتقلين خططوا لأسر جندي إسرائيلي حيث أشارت لائحة الاتهام التي وجهت لأعضاء الخلية الخمسة وجميعهم من صور باهر بأنهم تزودوا بحبل وسكين طويل وجهاز فيه غاز مسيل للدموع وسافروا حتى طبريا بحثاً عن جندي مناسب، وحين لم يعثروا على هدف مناسب عادوا أدراجهم، ثم حاولوا مرة أخرى في منطقة الخان الأحمر ولكنهم لم ينجحوا كذلك. وزعمت الشاباك أيضاً، بأن القائدين يحيى عياش وخالد الزير قد خططا لتفجير سيارة مفخخة في مدينة القدس، إلا أن العملية لم تنفذ لظروف لم تشر إليها تحقيقات الشاباك(53).



4- الوحدة المختارة رقم صفر



لاشك أن الضربة التي تعرضت لها كتائب الشهيد عز الدين القسام في أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1993 تعد مؤلمة، ذلك أن فقدان اثنان من القادة العسكريين البارزين خلال أقل من أسبوع ليس بالأمر اليسير على أي حركة مجاهدة تعتمد منهاج الكفاح المسلح برنامجاً رئيساً في مواجهة أعدائها. ولكن معرفتنا بقدرة الجناح العسكري لحركة حماس على إعادة ترتيب أوضاعه والانطلاق بشكل سريع نسبياً خفف من آثار استشهاد القائدين عماد عقل وخالد الزير. فها هو عوديد غرانوت يكتب معلقاً: «إن خلايا حماس التي تتجول في المنطقة قادرة على تنظيم صفوفها بسرعة، وتنفيذ سلسلة من العمليات الانتقامية ضمن حيز زمني قصير بين هجمة وأخرى، وبرغم جهود أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إلا أنه لا يمكن التحدث عن نجاح في تصفية البنية الميدانية التي تستند إليها حركة حماس... يكفي أن تنشر حركة حماس عدة خلايا متفرقة في منطقة حتى تخرب من جديد وبكامل خطورتها، مسألة أمن التنقل على طرق المواصلات الرئيسة في المناطق»(54).



وفيما كان الشاباك يزف لحكومة تل أبيب أنباء نجاحاته المحدودة في الشجاعية وصور باهر ويقدم التهاني لضباطه وعناصره، كان المهندس ورفاقه قد انتهوا من تنظيم وتجهيز مجموعتين خاصتين. الأولى، وضمت ستة مجاهدين من مدينة القدس وعرفت باسم (الوحدة المختارة رقم ستة). وأما الثانية ، فقد عرفت باسم (الوحدة المختارة رقم صفر)، وضمت خمسة مجاهدين هم:



1- عبد الرحمن محمد عبد الرحمن حمدان: ولد في مخيم خان يونس عام ،1971 وتربى منذ صغره في مسجد فلسطين، وكان له دور كبير جداً ومشهور على مستوى قطاع غزة، حيث أضحى نائب مسؤول جهاز الأحداث في المنطقة الجنوبية من القطاع. وبعد فرزه للعمل في كتائب القسام، شارك مع عماد عقل في عدد من عملياته قبل أن ينتقل إلى الضفة الغربية إثر مطاردة سلطات الاحتلال له في كانون الثاني (يناير) 1993.

2- علي أحمد علي العامودي: ولد في مخيم خان يونس عام ،1974 وشارك القائد محمد مصطفى شهوان في عدد من عملياته في منطقة خان يونس قبل أن ينتقل مع عبد الرحمن حمدان إلى الضفة الغربية.



3- إسلام فوزي أبو إرميلة: ولد في مدينة القدس عام 1966 لعائلة من خليل الرحمن بالأصل، وكان من الغيورين على الإسلام وحرماته، وشارك في فعاليات الانتفاضة المباركة فاعتقل مرتين، الأولى لمدة أربعة أشهر والثانية لمدة (26) شهراً. وهو يعد من أجرأ من نقل السلاح والمطاردين بين المدن والقرى وبين الضفة والقطاع.



4- عبد المنعم محمد يوسف أبو حميد: ولد في مخيم الأمعري عام 1970 لعائلة مهاجرة من بلدة السوافير الشمالية كانت قد انتقلت إلى مخيم النصيرات قبل هجرتها مرة أخرى عام 1970 لأسباب اقتصادية إلى منطقة رام الله. ونشأ عبد المنعم وترعرع في المساجد مما ولد لديه مفهوماً خاصاً به حول الإسلام قربة من الحركة الإسلامية التي سرعان ما أصبح أحد أعضائها وهو طالب في كلية الآداب بجامعة بير زيت واعتقل مرة واحدة عام 1987.



5- زهير رضوان عبد الجواد فراح: ولد في الرام بضواحي القدس عام 1970 وهو طالب في قسم الحاسب الإلكتروني بكلية العلوم والتكنولوجيا، وهو زوج شقيقه إسلام أبو إرميلة.



نبدأ بالوحدة المختارة رقم صفر التي بدأت نشاطها الجهادي بتصعيد ملموس في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام ،1993 وكانت بإمرة الشيخ عبد الرحمن العاروري. فبعد استشهاد عماد عقل وخالد الزير والكثافة التي ظهرت عليها الانطلاقة القمعية للجيش الإسرائيلي، إلى جانب غض سلطات الاحتلال بصرها عن استفزازات وجرائم المستوطنين الإرهابية بحق المواطنين العرب، أصدرت غرفة العمليات في كتائب الشهيد عز الدين القسام بياناً أنذرت فيه بمطاردة المستوطنين الذين يعيثون فساداً وتخريباً. وجاء في البيان الذي صاغه المهندس وأخيه عبدالرحمن حمدان: «لقد كنا نفضل دوماً ضرب أهداف عسكرية بحتة، ولكن بعد قتل جنودكم ومستوطنيكم للصبي حازم مقداد ابن الـ 15 عاماً في غزة، والأب طلال البكري أبن الـ 54 عاماً، فقد قررت غرفة العمليات التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام الرد على سياستكم بالمثل وليكن ما يكون. إن من يمسنا بالماء من أعدائنا سنرد عليه بالنار، وعلى رئيس الأركان الإسرائيلي أن يفهم رسالتنا ويقوم باستيراد المزيد من الأكياس السوداء لتكفين جنوده ومستوطنيه»(55).



لم يكد يمضي خمسة أيام على هذا الإنذار، حتى أمر المهندس الوحدة المختار رقم صفر بالتحرك والانتقام لشهداء الانتفاضة المباركة من الأطفال والنساء حيث لاحقت سيارة المجاهدين سيارة إسرائيلية من طراز (فيات أونو) كانت متجهة من مستوطنة (إيلي) إلى مستوطنة (بساغوت) على طريق رام الله - القدس.وفي حوالي الساعة الثامنة من صباح يوم الأربعاء الموافق 1 كانون أول (ديسمبر) ،1993 أطلق المجاهدان عبد الرحمن حمدان وعبد الرحمن العاروري النار من رشاش كلاشنكوف وبندقية (أم-16) على السيارة الإسرائيلية التي كانت متوقفة على جانب الطريق بسبب خلل أصابها على ما يبدو. وقد أسفر الهجوم عن إصابة المستوطنين الأربعة بإصابات مختلفة ما لبث أن توفي اثنان منهم في وقت لاحق. وعلى الأثر، هرعت قوات معززة من جيش الاحتلال وقامت بأعمال التمشيط بحثاًً عن المجاهدين الذين انسحبوا إلى قاعدتهم بسلام(56).



وفي إطار الحرب التي أعلنتها كتائب عز الدين القسام على الجنود الإسرائيليين وقطعان المستوطنين، وفي ظل حظر التجول الذي فرضه جيش الاحتلال على مدينتي رام الله والبيرة إثر العملية السابقة، نقل المهندس الوحدة المختارة رقم صفر إلى مدينة خليل الرحمن لتهاجم في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين الموافق 6 كانون أول (ديسمبر) 1993 سيارة (فان) تقل عدداً من المستوطنين الصهاينة عند مفترق مستوطنة (خارصينا) الواقعة عند مشارف مدينة خليل الرحمن. وبثوان معدودة، أطلق خلالها المجاهدان عبد الرحمن حمدان وأمجد أبو خلف وابلاً من نيران أسلحتهما الأوتوماتيكية، فقتل اثنان من المستوطنين وخرج ثلاثة آخرون. كما خرج المجاهد عبد الرحمن حمدان مع عدد من مجاهدي الخليل في عدة مهمات جهادية كان من أبرزها، تنفيذ عملية ردع المستوطنين الثالثة. ففي نحو الساعة السادسة والنصف من مساء يوم الأحد الموافق 12 كانون أول (ديسمبر) ،1993 هاجمت المجموعة الفدائية حافلة إسرائيلية تابعة لشركة (إيغد) تعمل على خط رقم (51) الذي يصل بين كريات أربع ومدينة بئر السبع حيث تجاوزت سيارة البيجو التي أقلت المجاهدين الحافلة الإسرائيلية لدى مرورها عند مفترق (زيف)، وأطلق المجاهدون نيران أسلحتهم الرشاشة باتجاه الجنود والمستوطنين داخلها، ثم غادروا مكان العملية عائدين إلى قاعدتهم. ولئن اعترفت سلطات الاحتلال بالعملية، إلا أنها حاولت التقليل من شأن الإصابات التي لحقت بركاب الحافلة حيث اكتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالإعلان عن إصابة سائق الحافلة بجروح خطيرة في رأسه وبطنه، ثم عادت وأعلنت عن وفاته متأثراً بجراحه. وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع قادة جيش الاحتلال إلا الاعتراف بجرأة العملية. إذ علق ضابط إسرائيلي حضر مع القوات التي أغلقت المنطقة في أعقاب الهجوم بقوله: «إن الخليل مدينة بلا رحمة»(57).



عاد المهندس برفقة الوحدة المختارة رقم صفر إلى منطقة رام الله على وجه السرعة، فقد اغتالت الشاباك القائد القسامي البطل عبد الرحمن العاروري في منزله وأمام عائلته وأطفاله ظناً منها بأن ذلك سيوقف العمل الجهادي لحركة حماس. وإن كانت الشاباك قد زعمت في سياق تبريره الجريمة الاغتيال بأن الشهيد -رحمه الله- يقف وراء عملية البيرة، فإن المهندس بتحريكه الوحدة المختارة رقم صفر، أراد أن يثبت أن نشاط القساميين في منطقة رام الله ما زال مستمراً. فقد طاردت سيارة (أوبل اسكونا) أقلت أبطال الوحدة المختارة رقم صفر سيارة إسرائيلية من نوع (رينو ستيشن) كانت متجهة من مستوطنة (دولب) إلى ضاحية بني براك القريبة من تل أبيب. وعند مفترق (عين عريك-بيتوينا) على الشارع الرئيس القريب من المنطقة الصناعية بمدينة رام الله، وأثناء تجاوز سيارة المجاهدين للسيارة الإسرائيلية في نحو الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الأربعاء الموافق 22 كانون أول (ديسمبر)) ،1993 فتح المجاهدون (عبد الرحمن وعلي وأمجد) النار على المستوطنين من مسافة قريبة مما أدى إلى مقتل اثنين منهم وإصابة الثالث بجروح بليغة. وعادت الوحدة المختارة إلى قاعدتها بعد أن نثر أبطالها بيانات في مكان العملية تعلن مسؤولية كتائب عز الدين القسام عن هذا الهجوم بالإضافة إلى هجومي الخليل السابقين(58).



5- نزهة في حقل الرماية



وصلت الحرب الاستخبارية بين يحيى عياش والشاباك بعد سلسلة العمليات الجريئة للوحدة المختارة رقم صفر إلى مرحلة متقدمة. فالشاباك كثف من اهتماماته باختراق حركة حماس وجناحها العسكري على وجه التحديد، ولهذا أوكل مهمة متابعة العملاء المكلفين بنقل معلومات عن كتائب عز الدين القسام لكبار ضباطه العاملين في الضفة الغربية. وفي مقابل ذلك، وضع المهندس نصب عينيه تكتيك جديد يمكنه من خلخلة شبكة جهاز الاستخبارات الإسرائيلية. ويعتمد هذا التكتيك على زرع عملاء مزدوجين في الشاباك لنقل معلومات عن مشغليهم ومن ثم وضع الترتيبات لنصب كمائن لهؤلاء المشغلين. ويمكن القول أن بداية تفكير المهندس بهذا التكتيك تعود إلى يوم الخميس الموافق 16 كانون أول (ديسمبر) 1993 حين داهمت قوة من الجيش الإسرائيلي يرافقها ضباط من جهاز الشاباك منزل عائلة المجاهد عبد المنعم أبو حميد في مخيم الأمعري وعاثت فيه تفتيشاً وتخريباً وإتلافاً لمحتوياته وتركته في حالة دمار كاملة بعد أن سلمت صاحبه تبليغاً يقضي بمثول المجاهد عبد المنعم أمام ضابط الشاباك في الإدارة المدنية برام الله بعد ثلاثة أيام(59).



كان واضحا لقادة الكتائب بأن الشاباك بات يمتلك معلومات عن علاقة المجاهد عبد المنعم بنشاطات الجهاز العسكري لحركة حماس، وتقديمه خدمات ومساعدة لمطاردي الكتائب القسامية. ويعرف الكابتن نوعم كوهين، منسق نشاطات الشاباك في منطقة رام الله بأن هذه المعلومات كفيلة بإيداع المجاهد عبد المنعم السجن لمدة سبع سنوات على أقل تقدير. ولكن الضابط الإسرائيلي الذي كان يستخدم الاسم الحركي (الكابتن مجدي) أراد أن يختصر طريقه إلى قمة الهرم في جهاز الشاباك ويثبت لمرؤسيه كفاءته وتقدمه على نظرائه في محاربة كتائب الشهيد عز الدين القسام. إذ أوحى إليه خياله بأنه يستطيع، عبر الاغراءات والحوافز، أن يزرع عميلاً داخل الجهاز العسكري لحركة حماس. ولهذا، جاء تفتيش منزل أبو حميد ومن ثم تبليغ ذويه بمثوله في الإدارة المدنية على الشكل الذي جاء سابقاً.



وذهب المجاهد عبد المنعم أبو حميد إلى مقر الإدارة المدنية في رام الله، وقابل الكابتن مجدي في الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد الموافق 19كانون أول (ديسمبر) 1993. وخلال التحقيق الذي أشرف عليه الكابتن مجدي وعدد من مساعديه، نجح عبد المنعم بإيهام المحققين بأنه طالب في جامعة بيرزيت وأن همه ينحصر في مواصلة دراسته الأكاديمية. وهنا، وقع الكابتن في الفخ، فقد عرض على عبد المنعم إطلاق سراحه لتحقيق أمنيته في الدراسة وسلمه مبلغ 800 شيكل جديد (300 دولار) كمساعدة مادية لعائلته المكافحة. وأطلق الشاباك، سراح عبد المنعم بدعوى أنه لم تتوفر أدلة كافية لإدانته، وعاد المجاهد إلى إخوانه ليحدثهم كيف نجحت الخطة وكسب ثقة الشاباك والكابتن مجدي على وجه التحديد(60).

وبعد حسم الموضوع الرئيس وهو الإيقاع بالكابتن مجدي،طلب المهندس من أخيه علي عاصي أن يرافقه إلى معسكر للجيش الإسرائيلي يقع في منطقة روش حارنان بضواحي مدينة تل أبيب داخل المناطق المحتلة عام ،1948 وبعد اجتياز المجاهدان للأسلاك الشائكة والحراسات المكلفة بحماية المعسكر، قام المهندس بزرع العبوة الناسفة في ميدان الرماية الخاص بتدريب الجنود ثم انسحب مع أخيه إلى قاعدتهم بسلام. وفي مساء يوم الاثنين الموافق 3 كانون الثاني (يناير) ،1994 وأثناء قيام جنود المعسكر بالتدريب على إطلاق النار انبطح اثنان منهما فوق العبوة (اللغم) لتنفجر بهما على الفور حيث أصيبا بجروح خطيرة في البطن والساقين والوجه ما لبث أحدهما أن فارق الحياة في وقت لاحق.



6- العناية الإلهية



نشرت أسبوعية (يروشلايم) العبرية تقريراً مطولاً عن المهندس احتوى على رؤية إسرائيلية للظاهرة التي أرقت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية جاء فيه: «في كل مرة تنجح فيها قوات الأمن في تصفية أحد المطلوبين تظهر في اليوم التالي عناوين في الصحف تبهر الأنظار مثل: تم القضاء على مطلوب كبير. ولكن المطلوب الأبرز والأهم حقاً هو المهندس، يفلح دائماً في الإفلات من الذراع الطويل للجيش الإسرائيلي ولجهاز الشاباك منذ ما يقرب من ثلاث سنوات على الرغم من المطاردة الواسعة له، وهو ما زال يقوم بالتخطيط لهجمات وتشكيل خلايا. وبمقدار ما نسبت له أكثر وأكثر تخطيط هجمات، تتسع دائرة المطاردة ضد يحيى عياش والتي كادت أن تتكلل بالنجاح في عدد من الفرص لولا الأرواح السبعة المنسوبة إليه».



لم تكن الأرواح السبعة ولا غيره من الأسباب التي حاول الصهاينة تبرير فشلهم في الحرب ضد المهندس، وإنما هي العناية الإلهية التي بارك الله فيها هذا المجاهد وإخوانه في جهادهم ومعاركهم. فالثقة بالله والتوكل عليه بعد بذل الأسباب، تجعل من تلك العناية الإلهية خير حارس وحافظ لعباده المخلصين. والذي دفعنا للتطرق لهذا الموضوع وفي هذا المكان بالذات، هو مغادرة المهندس وصحبه (عبد الرحمن ومحمد وعبد المنعم وإسلام) منطقة شمال الضفة الغربية عائدين إلى المدينة المقدسة عبر طريق خارجي مواز لنهر الأردن مبتعدين قدر الإمكان عن التجمعات السكنية العربية، وتزامن عودة القافلة المباركة مع استنفار القوات الإسرائيلية إثر العملية البطولية في الخليل والاشتباك الذي دار في أعقابها بين المجموعة المجاهدة بقيادة البطل أمجد أبو خلف وجنود الاحتلال الذين حاصروا المنزل الذي تحصنت فيه المجموعة. وفي ظل هذه الأجواء المتوترة، وردت على ما يبدو معلومات لقيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال عن نية عدد من المجاهدين المطاردين مغادرة الضفة الغربية عبر نهر الأردن. وعندئذ، أعلنت القوات الإسرائيلية حالة الطوارىء القصوى في صفوف مجنديها على طول النهر، وانطلقت الطائرات المروحية للمساهمة في عملية البحث والتفتيش وإنارة المنطقة. وكانت الحملة العسكرية الإسرائيلية بقيادة الجنرال نحاميا تماري (قائد المنطقة الوسطى) الذي أشرف على قواته شخصياً واستقل إحدى الطائرات المروحية.



وبحمد الله ورعايته، نجحت القافلة القسامية في اجتياز الحواجز العسكرية والالتفاف على الدوريات والعودة إلى القاعدة الآمنة في القدس. وأما الجنرال تمارى الذي جمع شتات خيبته، فقد كانت العناية الإلهية له بالمرصاد. فتحطمت الطائرة العسكرية التي كان يستقلها وقتل مع مدير مكتبه واثنان من الضباط الطيارين يوم الأربعاء الموافق 12كانون ثاني (يناير) 1994(61).



7- رسالة حماس إلى الجنرال يعقوب بيري



استراح الكابتن نوعم كوهين، حين أخبره عبد المنعم أبو حميد بأنه سيوافيه بمعلومات عن المطاردين الخمسة الذين انتقلوا من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، وحدد له موعداً في أحد أحياء المنطقة الصناعية القريبة من قرية بيتونيا إلى الجنوب من مدينة رام الله. وعاد عبد المنعم إلى إخوانه يخبرهم أنه نفذ ما طلبوه، لتبدأ بعدها عمليات الرصد والاستطلاع للمنطقة تمهيداً لوضع الخطة التفصيلية للهجوم. وخلال ثلاثة أيام متتالية (10-13/2/1994)، قام المهندس وإخوانه في الوحدة المختارة رقم صفر بإجراء مسح ميداني للمنطقة حتى تم الاطمئنان في النهاية إلى الإجراءات والوسائل المتخذة.



وفي الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الأحد الموافق 13شباط (فبراير) ،1994 كان كل شيء عادياً في ذلك الحي، وحتى سيارة المرسيدس البيضاء التي كانت تحمل لوحة ترخيص رام الله، وبداخلها الكابتن مجدي ونائباه مرت بشكل عادي دون أن تثير الانتباه. وبناء على إشارة مسبقة من عبد المنعم، توقفت السيارة على جانب الطريق ثم تقدم عبد المنعم منها ويديه في جيبه، وما أن اقترب أبو حميد من سيارة الشاباك، حتى فتح السائق النافذة من جهته لتحيته. وعندئذ، استل المجاهد مسدساً وأطلق النار على السائق أولاً ثم على الجالس إلى يمينه قبل أن ينبطح أرضاً لئلا يصاب برصاص إخوانه . وكانت هذه إشارة للمجاهدين عبد الرحمن حمدان وعلى العامودي اللذين كانا خلف جدار من الحجارة ليمطرا السيارة بوابل من الرصاص مركزين على الراكب في المقعد الخلفي وهو الكابتن مجدي.وقد نجح المجاهدون الثلاثة في الانسحاب من المكان بعد أن أصابوا ركاب السيارة بنحو أربعين رصاصة من بندقية (أم-16) وكلاشنكوف حيث أسفرت العملية عن مقتل الكابتن مجدي الذي كرس حياته ووقته لخدمة قسم التحقيق في جهاز الشاباك، وحقق خلال عمله هذا «نجاحات» في محاربة المطلوبين على حد تعبير أحد قادة الشاباك(62).



وسائل الإعلام الإسرائيلية تناولت بإسهاب -بالكلمة والصورة- عملية قتل ضابط الاستخبارات نوعم كوهين وإصابة نائبيه بجروح خطيرة وفق اعتراف السلطات العسكرية، ونشرت تفاصيل كاملة عن العملية بما في ذلك البيانات الصادرة عن كتائب عز الدين القسام. فقد كتب المعلق الإسرائيلي غيلات في صحيفة يديعوت أحرونوت قائلاً: «لقد سجلت حماس لنفسها أمس إنجازاً هاماً، لقد نجحت في قتل خصمها المباشر بواسطة كمين مسلح... إن جهاز المخابرات العامة -الشاباك- تلقى ضربة قاسية، وتبين أنه حتى المقاتل المؤهل جداً ليس محصناً من خطر كهذا»(63).



8- عشر ساعات في أبو ديس



غادر المهندس ووحدته المختارة منطقة رام الله التي أعلنت منطقة عسكرية مغلقة وفرض العدو نظام منع التجول على المدينة ومخيماتها في أعقاب عملية صيد الكابتن مجدي. وانتقل القساميون الستة إلى أحد المنازل الآمنة في بلدة أبو ديس التي تبعد ثلاثة كيلومترات جنوب شرقي الحي القديم في القدس. ولكن أحد المجرمين من عملاء جهاز الشاباك تمكن من رصد تحركات غريبة في المنزل الحجري المكون من طابق واحد ويشرف على المنحدرات الشرقية للبلدة، رغم أن المجاهدين بذلوا أقصى درجات الحذر وتنقلوا داخل المنزل وخارجه وفقاً لأنظمة طوارىء تتسم باليقظة والتنبه. ولأنه لا راد لقضاء الله وقدره، فقد بدت أبو ديس كساحة حرب ابتدأ من الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس الموافق 24/3/،1994 حيث وصلت قوات كبيرة من الجيش والشاباك وفرضت حصاراً عسكرياً على البلدة بشكل عام، وحصاراً آخر على المنزل بشكل خاص. وأشرف الجنرال داني يتوم (قائد المنطقة الوسطى) والجنرال شاؤول موفاز (قائد الضفة الغربية) على القوات التي جرى تعزيزها بطائرة مروحية أخذت تحلق في الأجواء لتقديم الإرشادات للجنود على الأرض. وكانت أوامر القادة الإسرائيليين واضحة وحاسمة، خوض معركة طويلة مع مراعاة تجنب المواجهة المباشرة مع القساميين.



لاحظ القساميون تحرك قوات الجيش، وتعززت القناعات لدى المهندس وإخوانه بأن الهدف هو المنزل الذي يتحصنون فيه إذا اعتقل ضباط الشاباك عدداً من أنصار حركة حماس كانوا يقدمون المساعدة والخدمات للوحدة المجاهدة. وفي ظروف كتلك، ولأن العدو لم يكن يعلم بعدد الموجودين في المنزل أو شخصياتهم باستثناء عبد الرحمن وعلي، فقد تقرر أن يغطى هذين المجاهدين انسحاب يحيى وعبد المنعم، حيث فتح عبد الرحمن وعلي نيران كثيفة من بندقية (أم-16) وكلاشنكوف باتجاه الجنود وألقيا عدة قنابل يدوية حتى تمكن المجاهدان البطلان من مغادرة المنزل والتنقل خارج البلدة بعيداً عن أعين الشاباك وجيش الاحتلال. وفي ضوء إطلاق النار المستمر من قبل البطلين عبد الرحمن وعلي، قرر الجنرال ياتوم تجميد عملية الاقتحام لإجراء تقدير جديد للموقف. وشرع ضباط الشاباك بمطالبة المجاهدين تسليم نفسيهما، إلا أنهما ردا بإطلاق المزيد من الرصاص. واستمر تبادل إطلاق النار حتى الساعة الواحدة ظهراً حين جرى نصب صواريخ مضادة للدروع باتجاه المنزل، قامت وحدة من سلاح المدفعية بجيش الاحتلال بإطلاقها مما أدى إلى تدمير المنزل واحتراقه وتصاعد دخان كثيف منه. وتدريجياً، بدأ الجنود يضيقون الحصار فيما خفت حدة إطلاق النار من قبل المجاهدين عبد الرحمن وعلى اللذين أصيبا علي ما يبدو من جراء القصف. فقد خرج المجاهد علي العامودي من بين الأنقاض في نحو الساعة الرابعة من بعد الظهر، وسار وهو يترنح من شدة الإصابة نحو مدخل المنزل المقصوف وتمكن العدو من أسره . وأما القائد عبد الرحمن حمدان، فقد واصل -رغم جراحه البليغة- إطلاق النار ولم يبد أي حركة تشير إلى ضعفه، فصدرت الأوامر مرة أخرى بمواصلة إطلاق النار الكثيف والصواريخ حتى سقط البطل القسامي شهيداً في نحو الساعة السابعة مساءً. وعندها، تقدمت قوات كبيرة باتجاه المنزل، وأخذت تمشطه دون أن تجرؤ على الاقتراب من جثة الشهيد، أو قل بقايا الجثة، إذ تبين أن المجاهد قد أصيب بشكل مباشر بصاروخ (لاو) المضاد للدبابات(64).



9- شهيدي ليلة القدر



اتخذ المهندس من بلدة الرام بضواحي القدس مقراً جديداً مستفيداً من وجود الأخوين إسلام أبو إرميلة و زهير فراح في تلك البلدة. وفي إطار إعادة تنظيم المجموعات وتوجيه الخلايا العاملة، كلف المهندس أخيه زهير بتولي مسؤولية حماية المجاهد عبد المنعم أبو حميد وتوفير الملجأ الآمن له ومتابعة كافة احتياجاته. وبعد أن اطمأن لوضع الأسد المقنع، انتقل المهندس إلى الهم الكبير الذي شغل تفكيره في تلك الفترة، ألا وهو الانتقام لروح الشهيد عبد الرحمن حمدان وشهداء الحرم الإبراهيمي الشريف بتنفيذ عمليات نوعية في قلب العمق الإسرائيلي. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، اتصل المهندس بقيادات حماس العسكرية، وعلى وجه التحديد محمد شهوان ومحمد الضيف في خان يونس ورفيق دربه، القائد أبو جهاد في منطقة شمال الضفة الغربية. وبناء على هذه الاتصالات، عرض القائد محمد شهوان على المهندس أن يتم الاستعانة بالمجاهد إبراهيم سلامة* [إبراهيم خليل صلاح سلامة: ولد في مخيم خان يونس عام 1972 وبلدته الأصلية هي السوافير، ونشأ وترعرع في مسجد التقوى حيث تشرب معنى الجهاد والاستشهاد. وتميز بقوة جسمه وصلابته مما جعله مؤهلاً لأن يكون عسكرياً بارعاً. وعرف الشهيد بجراءته وغيرته على المسلمين فأصيب خلال الانتفاضة خمس مرات واعتقل لمدة ثلاثة أشهر في معتقل أنصار (3). وبعد خروجه تولى مسؤولية جهاز الأحداث في المخيم ثم اختير كمقاتل في صفوف الكتائب منذ آب 1992. وقد نفذ الشهيد عدة عمليات عسكرية جريئة في الضفة والقطاع من أبرزها، جاني طال والعملية المشتركة والرد الرافض وغيرها.] لكفاءته في عمليات القنص وخبرته في تنفيذ الكمائن والهجمات النوعية.



استدعى المهندس، مساعده إسلام أبو إرميلة الذي يعد من أجرأ المجاهدين المتخصصين في مهمات نقل المطاردين والسلاح بين الضفة الغربية وقطاع غزة وكلفه بمهمة إحضار المجاهد إبراهيم سلامة من قطاع غزة. وفي يوم الاثنين الموافق 7 آذار (مارس) 1994 غادر المجاهد إسلام المدينة المقدسة متوجهاً إلى قطاع غزة حيث عبر حاجز إيرز، المدخل الشمالي للقطاع، بناء على الاتفاق مع الكتائب القسامية هناك ومكث ذلك اليوم لدى القائد محمد شهوان. وفي صبيحة اليوم التالي، غادرت سيارة (أودي) حمراء اللون تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية المنطقة وهي تقل المجاهد إسلام يرافقه إبراهيم سلامة الذي امتشق سلاحه (العوزي) ووضعه في هيئة الاستعداد تحسباً لأي طارىء. ومر كل شيء بسلام عند الحاجز، واستعد إسلام للانطلاق بالسيارة مبتعداً، غير أن قضاء الله وقدره حال دون أن تنجح هذه المهمة. فبعد انتهاء الجندي الإسرائيلي من تدقيق الأوراق الثبوتية التي أبرزها إسلام أبو إرميلة نحو الساعة السادسة، لاحظ جندي كان يقف على منصة مراقبة قريبة من سيارة المجاهدين، رشاش العوزي، بجانب إبراهيم. وعندئذ أطلق الجندي رشقة في الهواء طالباً من إسلام التوقف والخروج من السيارة، إلا أن المجاهد رفض الأماكن ورد إبراهيم على إطلاق النار. وقبل أن يتمكن إسلام من مغادرة المنطقة والابتعاد عن مرمى النيران، انهمر الرصاص من كل صوب مما أدى إلى استشهاد إسلام وإبراهيم على الفور. وهكذا ابر الشهيدين بقسمهما بألا يعودا إلى السجن مرة أخرى وألا يمكنا الصهاينة من نفسيهما وترجلا إلى جنات النعيم صبيحة ليلة القدر(65).

السيف عدي
07-03-2008, 08:51 AM
رابعاً: تسديد حساب الحرم الإبراهيمي





صهاينة في الحرم الإبراهيمي







كان للمجزرة الوحشية التي ارتكبها المستوطنون اليهود بالتواطؤ مع جنود الاحتلال في الحرم الإبراهيمي الشريف أثناء أداء المؤمنين لصلاة الفجر يوم الجمعة الموافق 25شباط (فبراير) 1994 انعكاسات كبيرة ومؤثرة على مجريات الأحداث والعلاقات السياسية والدولية بين الدول ذات الاهتمام بالوضع السياسي والميداني للمنطقة. ومع تفاوت درجة التأثير بين دولة وأخرى، إلا أن حالة من الغليان والتوتر الشديدين سادت في كافة أنحاء المنطقة العربية والإسلامية والتجمعات والجاليات والأقليات العربية والإسلامية في دول المهجر والإقامة حيث طالبت الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية بتعبير عفوي صادق بالانتصار لكرامة الأمة المهدورة والرد على الجريمة الغادرة و عدم الاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار وذرف الدموع خلال خطب المناسبات ومهرجانات التأبين.



وفي المقابل، واجه الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن والاستخبارات بمختلف مسمياتها ووظائفها أوضاعاً معقدة جداً. فعلى الرغم أن حشد الجزء الأكبر من القوات الميدانية النظامية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعلى طول الخط الأخضر الفاصل بين هاتين المنطقتين وفلسطين المختلفة منذ عام ،1948 لا يغير كثيراً من الوضع العسكري المعقد لمحاربة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ولن يكون قادراً على منع كتائب الشهيد عز الدين القسام من تنفيذ خططها وعملياتها العسكرية الجريئة، إلا أن القيادة العسكرية وضباط العمليات يرون بأن هذه الانطلاقة الوقائية إلى جانب الاعتقالات الاحترازية لأكثر من (1300) مواطن فلسطيني يتعاطفون مع حركة حماس يمكن أن تعيق من نشاط الحركة الإسلامية وتثقل الأعباء على الكتائب القسامية وتقلص من احتمالات نجاحهم في تنفيذ عمليات كبيرة.



تضاعف عدد الوحدات العسكرية الإسرائيلية التي تخدم في الضفة الغربية وقطاع غزة من (120) سرية إلى (480) سرية، وعززت الوحدات المنتشرة إجراءات الحراسة المتبعة حول محطات السفر المجاني التي يستخدمها الجنود على طرق المواصلات وداخل المعسكرات وفي محيط المستوطنات اليهودية. كما أعادت سلطات الاحتلال نقاط المراقبة العسكرية التي أزيلت في وقت سابق، وكثفت من الحواجز المفاجئة وتفتيش السيارات بما فيها تلك التي تحمل لوحات تسجيل إسرائيلية. وصدرت تعليمات عن قيادة الجيش الإسرائيلي للمستوطنين تقضي بعدم المرور في التجمعات العربية والتحرك من خلال قوافل تحميها سيارات عسكرية. وفي نفس السياق، وجه ضابط العمليات والاستخبارات تحذيرات إضافية للقادة العسكريين الميدانيين حول إمكانية وقوع محاولات لاستخدام سيارات مفخخة ضد معسكرات الجيش أو المستوطنات اليهودية. وتجاوباً مع هذه التحذيرات نصبت وحدات الهندسة سواتر ترابية على محيط المعسكرات وحول عدد من المستوطنات التي اعتبرتها الشاباك كأهداف محتملة للعمليات الثأرية.



1- برنامج من خمس مراحل



وجاء في بيان كتائب عز الدين القسام أن غرفة عملياتها «عقدت أحد أهم اجتماعاتها، واتخذت عدة قرارات ميدانية سيدفع المستوطنون ثمن تطبيقها غاليا». ويضيف البيان: «إن قيادة الكتائب درست الأبعاد الحقيقية للمجزرة، وقررت بالإجماع توجيه الرد المسلح من خلال خمس مراحل، كل مرحلة ستجعل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين يبكون دماً على قتلاهم»(66). ومن خلال استقراء ملامح الخطة العسكرية وما جرى تطبيقه على أرض الواقع، يتضح بأن الرد القسامي على الجريمة تميز بدلالته وتوقيته وضخامته. ففيما يتعلق بالدلالة، تعتبر المراحل الخمس التي اشتمل عليها الثأر رسالة إلى القادة الإسرائيليين والمستوطنين اليهود مفادها أن جرائمهم تفتح باباً ومساراً لا نهاية له حين يعتدون على المواطنين العزل. وبالنسبة للتوقيت، فقد كان محكما وسليماً وذكياً كما سنرى حين نستعرض كل مرحلة على حدة، وأما النقلة النوعية في التخطيط، فقد تمثلت في ضخامة العمليات والعدد الكبير من القتلى والجرحى في صفوف الصهاينة، وهي خسائر لم تألفها الدولة العبرية من قبل.



2- سنابل عبد الرحمن حمدان



وقبل أن ندخل في تفاصيل وثنايا العمل الميداني للقادة الثلاثة، سيكون من الخطأ نسبة عمليات الثأر لرجل واحد أو حتى مجموعة حيث يدور الحديث عن شبكة واسعة جداً تشمل التخطيط وجمع المعلومات الاستخبارية المسبقة بخصوص الهدف وتحديد أسلوب التنفيذ وطريقة الاتصالات والنقل والخدمات. وعلى كل، فإن كل هؤلاء يحتسبون الأجر أولاً وأخيراً من الله سبحانه وتعالى ولا يلقون بالاً للإعلام أو الدعاية أو الشهرة. وليس سراً أن ما يصل وسائل الإعلام يقتصر فقط على دور الشهداء والمعتقلين في هذا الجانب أو ذاك.



جرى تشكيل مجموعتين استشهاديتين، الأولى في قطاع غزة وتتبع القائد أبو خالد وسنعود إليها في وقت لاحق. وأما الثانية، فقد شكلها المهندس وأبو جهاد وأطلقا عليها اسم (وحدة الشهيد عبد الرحمن حمدان)، وضمت في عضويتها كل من المجاهدين:



1- بشار حسن محمد العامودي: من مواليد مدينة نابلس عام ،1966 وشارك في فعاليات ونشاطات حماس في نابلس مند بداية الانتفاضة، فكان ينصب الكمائن لسيارات الجيش في منطقة رأس العين. وأصيب برصاصة دمدم في رجله أدت إلى تمزق فخذه، فمكث في المستشفى قرابة ثلاثة شهور وأمضى في السجن مدة سنتين خرج بعدها وهو عازم على العمل والشهادة. وهو متزوج ورزق بطفل بعد استشهاده.



2- سعيد محمد يوسف بدارنه: ولد في قرية يعبد عام ،1972 وتربى يتيماً بعد وفاة والده في بيت ملاصق لحائط جامع يعبد القديم. وبإصرار وعزيمة أنهى دراسته الثانوية بنجاح ولكن الأحوال المادية وكونه المسؤول عن البيت حالت دون إكمال الدراسة الجامعية. ومع اندلاع الانتفاضة، خرج سعيد مع الجماهير إلى الشوارع وسار في المظاهرات قائداً وموجهاً، حتى اعتقل يوم السبت 15نيسان (إبريل) 1994 وأصدرت محكمة عسكرية صهيونية عليه حكماً بالإعدام خفف لاحقاً إلى السجن المؤبد(67).



3- محمد مصطفى معالي سباعنة: مواليد قرية قباطية عام ،1967 وأصبح مطارداً إثر انكشاف أمر مشاركته في الكتائب ابتدأ من أيار (مايو) 1994. وكان قد اعتقل عدة مرات وتعرض لأساليب التعذيب الوحشية. وقد توفى البطل إثر مرض عضال في مستشفى المقاصد الخيرية بالقدس بتاريخ 24/8/،1994 وجرى تشيع جثمانه ودفنه في بلدته(68).



4- رائد محمد عبد الله زكارنه: ولد في قرية قباطية عام 1974 لعائلة كبيرة، وهو من شباب المسجد ويحضى باحترام خاص بين أقرانه. وقد اعتقل في شهر نيسان (أبريل) ،1993 وصمد في أقبية التحقيق (45) يوماً رغم العذاب والألم الذي تعرض له، ووقف وقفة مشرفة. فلم يركع أو يلين وتحدى ببطولة وشموخ الجلادين فلم يعترف. وبعد خروجه من المعتقل انضم إلى مجموعات المطاردين من كتائب القسام.



5- عمار صالح ذياب عمارنة: ولد في قرية يعبد عام ،1972 وواصل تعليمه في القرية حتى حصل على الشهادة الثانوية العامة. وخلال الانتفاضة شارك في الفعاليات، فاعتقل عدة مرات وأصيب مرات عدة أيضاً خلال المواجهات مع جيش الاحتلال.



6- أمجد ناصر حسين أكميل: ولد في قرية قباطية عام ،1972 وهو متزوج وله ثلاثة أولاد. وأصبح مطارداً ومطلوباً لسلطات الاحتلال في شهر يوليو (تموز) عام 1994.



7- أحمد سليم خليل أبو الرب: مواليد قرية قباطية عام ،1973 وقد أصبح مطلوباً لسلطات الاحتلال في شهر يوليو (تموز) 1994.



8- محمد أحمد صالح أكميل: مواليد قرية قباطية عام ،1975 وهو صديق رائد زكارنه ورفيق دربه. وقد اعتقل إثر مداهمة القرية في أواخر شهر آب (أغسطس) ،1994 وصدر عليه حكم بتاريخ 31/1/1995 بالسجن المؤبد إضافة إلى عشر سنوات لمساعدته وإخفائه الشهيد رائد(69).



ومنذ اليوم الأول لتشكيل وحدة الشهيد عبد الرحمن حمدان، ركز المهندس وأخيه أبو جهاد على ثلاثة محاور رئيسة شملت: الأهداف، والتوقيت، والإعداد. ففيما يتعلق بالأهداف، سرب المجاهدون عن طريق عملاء الشاباك الذين كانوا يتصيدون الأخبار عن برنامج المراحل الخمس بأن حركة حماس تنظر إلى مستوطنات نتساريم وغوش قطيف في قطاع غزة، وكريات أربع وقدوميم وتقوع في الضفة الغربية كأهداف عسكرية محتملة. ولهذا، قام سكان تلك المستوطنات أنفسهم بتعزيز الحراسات داخلها إلى جانب التعزيزات والتحصينات التي أقامها جيش الاحتلال وقوات حرس الحدود. وأما التوقيت، فقد كانت توقعات الشاباك والاستخبارات العسكرية بأن تشهد ذكرى يوم الأرض وذكرى مرور شهر على مجزرة الحرم الإبراهيمي (25/3) عمليات عسكرية كبيرة لحركة حماس. وبالنسبة لعملية إعداد المجاهدين، أظهر المهندس حرصاً شديداً على الجانب العملي والميداني وذلك من خلال تكليفه لأعضاء الوحدة ببعض المهمات العسكرية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، جهز المهندس عبوة ناسفة موقوتة، وأرسل ثلاثة مجاهدين بقيادة سعيد بدارنة لوضعها على الطريق المؤدي إلى مستوطنة شكيد القريبة من بلدة يعبد غربي مدينة جنين لتنفجر مساء يوم الخميس الموافق 17أذار (مارس) 1994 أثناء مرور حافلة عسكرية إسرائيلية على ذلك الطريق. ولكن سلطات الاحتلال تكتمت عن الإصابات والأضرار التي لحقت بالجنود والحافلة التي أصيبت بأضرار.



وجه المهندس المجاهدين رائد زكارنة ومحمد أحمد أكميل للقيام بعمليات رصد واستطلاع للهدف الأول في برنامج المراحل الخمس، وهو حافلة عسكرية تمر كل يوم سبت على طريق (جنين- العفولة) تكون عادة مكتظة بالجنود المجازين من وحداتهم المرابطة في مدينتي جنين ونابلس. وبعد جمع المعلومات الضرورية، وضع المهندس المخطط التفصيلي للعملية مع القائد أبو جهاد، وأعد سيارة مفخخة بشحنة ناسفة زنتها سبعة كيلو غرامات وخمس قنابل يدوية. وحسب الخطة، كان من المفترض أن يستقل البطلان رائد ومحمد السيارة ويسيرا على طريق (جنين - العفولة) حتى تتوازى السيارة مع الحافلة العسكرية، وعندئذ يتم تجاوز الحافلة، ووسط عملية التجاوز يقوم المجاهدان بتفجير العبوات الناسفة. ولكن هذه العملية لم تنفذ، إذ جرى تغيير الخطة في اللحظة الأخيرة، كما أن ذلك الهدف لم يعد على أجندة برنامج المراحل الخمس نظراً للتعقيدات الفنية التي طرأت جراء تشديد سلطات الاحتلال لإجراءات الحراسة على طريق (جنين - العفولة)، وتكثيفها للحواجز العسكرية وبخاصة المفاجئة منها. وعلى الأثر، انتقل المهندس للهدف التالي، وهو محطة الحافلات المركزية في مدينة العفولة داخل المناطق المحتلة منذ عام 1948.



3- عرس في ذكرى الأربعين



يعتبر اختيار المهندس للهدف الجديد وأسلوب التعامل معه موقفاً، فقد حمل هذا الاختيار دلالات سياسية ومؤشرات عسكرية أدرك الكيان الصهيوني قبل غيره خطورتها على أمنه. ومن هذه الدلائل والمؤشرات يمكن تحديد التالي:



أ- التخطيط المحكم والعناية في اختيار الوقت حيث تم تنفيذ العملية مع انقضاء فترة الأربعين على جريمة الحرم الإبراهيمي.



ب- تمت العملية بأسلوب عسكري دقيق ومباغت فاجأ سلطات الاحتلال وأجهزة أمنها مما يعني قدرة حركة حماس العسكرية على تخطيط وتنفيذ عملياتها في أشد ظروف يقظة وترقب جيش واستخبارات وشرطة الاحتلال. فقبل العملية، أشار موشيه شاحل، وزير الشرطة بأن وزارته اتخذت كافة الانطلاقة اللازمة لمنع وقوع مثل هذه العمليات، وخصوصاً في ذكرى الأربعين لشهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي.



جـ- تم تنفيذ العملية في عمق فلسطين وداخل المناطق المحتلة منذ عام 1948 التي يعتبرها الكيان الصهيوني (أرضاً إسرائيلية خالصة وبيتاً آمناً لليهود). وهذه النقطة تحمل في طياتها أكثر من مغزى، لعل أبرزه هو أن اتفاق غزة-أريحا لن يجلب الأمن لإسرائيل، مما يلغي نظريات بيريز القائلة بأن خروج الإسرائيليين من غزة سيؤدي إلى تقليص الهجمات التي يتعرضون لها.



بدأت كتائب الشهيد عز الدين القسام بالتجهيز والإعداد لتنفيذ العملية حين كلف المهندس أخاه بشار العامودي بنقل الأدوات والسيارة التي تم الاستيلاء عليها من داخل المناطق الإسرائيلية، في الأسبوع الأخير من شهر آذار (مارس) إلى مخزن قام مجاهدي قباطية باستئجاره في منطقة جنين. وفي وقت لاحق انضم المهندس إلى إخوانه في منطقة جنين وأشرف على تغيير رقمي المحرك والشاصي ثم باشر بتفخيخ السيارة بأكثر من (50) كيلو غراماً من المتفجرات وعدد من اسطوانات الغاز وكيس مسامير. وقام المجاهد بشار العامودي بتسليم السيارة بعد ذلك للمجاهدين أمجد أكميل وأحمد أبو الرب اللذين توليا ترتيب الدخول بها إلى مدينة العفولة. وأما المجاهد رائد زكارنة الذي تطوع لقيادة السيارة وتنفيذ الهجوم، فقد انتحل شخصية مواطن فلسطيني من سكان قرية المشهد في الجليل الأعلى، واجتاز الخط الأخضر مع المجاهد محمد مصطفى سباعنة الذي وفر لرائد هوية إسرائيلية باسم نزال أحمد كريم(70).



وفي نحو الساعة الثانية عشرة والنصف من بعد ظهر يوم الأربعاء الموافق 6نيسان (أبريل) ،1994 ووفقاً للخطة التي أعدها المهندس، تقدم رائد زكارنة بسيارته المفخخة نحو محطة الحافلات المركزية في مدينة العفولة وتتبع الحافلة التي تعمل على خط رقم (348) بعد خروجها من المحطة باتجاه (المجدل - مجدال هعيمق). وعند محطة انتظار الحافلات القريبة من المركز الثقافي بالشارع الرئيس لمدينة العفولة توقفت الحافلة. وفتح السائق بابها الأمامي لصعود الركاب. وعندئذ، تجاوز رائد الحافلة وأوقف سيارته على مسافة مترين فقط من مقدمة الحافلة وخلال ثوان، دوى صوت انفجار قوي حوَّل السيارة إلى أشلاء تطايرت على بعد عدة أمتار. كما تحطمت جميع نوافذ الحافلة واحترق هيكلها الداخلي وأصيب جميع من فيه بدرجات متفاوتة. كما جرح عدد من المستوطنين عندما تحطمت الواجهات الزجاجية لبعض المحلات التجارية القريبة بفعل انفجار السيارة.



وعلى الأثر، هرعت فرق الإنقاذ وسيارات الإسعاف، وهبطت الطائرات المروحية لإخلاء المصابين بجروح خطيرة. وكان المكان أشبه بساحة حرب حيث تناثرت جثث القتلى في الشارع، بينما كان عشرات الجرحى يصرخون والدماء تنزف من أجسامهم. وبلغت حصيلة العملية البطولية، ثمانية قتلى وواحد وخمسين جريحاً اعتبرت جراح تسعة منهم خطيرة جداً(71).



ويترجل رائد زكارنة إلى جنات الخلد بعد أن شفى غليل شعوب العالم الإسلامي التي كانت في توق شديد إلى الانتقام من الصهاينة. وشرب الصهاينة من نفس الكأس الذي شرب منه أهل الخليل قبل أربعين يوماً. وسيطرت حالة من الذهول على المجتمع الإسرائيلي، وخرجت تظاهرات هستيرية تطالب بالانتقام وتحمل اسحق رابين مسؤولية سقوط نظرية الأمن وتتهمه بالخيانة.



4- الكتائب وبصمات عيد الاستقلال



الانطلاقة القمعية التي اتخذتها حكومة اسحق رابين لم تكن مفاجئة، إذ أن حالة الهستيريا التي أصابت أركان الدولة والجمهور اليهودي، والفشل الذي منيت به قوات الشرطة وأجهزة الاستخبارات إثر عملية العفولة، دفع سلطات الاحتلال العسكرية إلى تشديد الطوق العسكري والحصار الأمني الشامل حول الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي غمرة التهديدات العنيفة التي صدرت عن رابين بأنه سيقضي على المهندس ومن وراءه، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي أوامره للجهات الأمنية والعسكرية بتشديد الإغلاق وعمليات التفتيش عن العمال الذين ما زالوا داخل المناطق المحتلة منذ عام ،1948 ووضع جميع الوحدات العسكرية التي تضم قوات من الجيش والشرطة وعناصر الأمن والاستخبارات وأفراد الوحدات الخاصة وقوات المظليين في حالة تأهب قصوى وألغى جميع الإجازات التي كان من المفترض أن تمنح للجنود بمناسبة احتفالات عيد استقلال الدولة حسب التقويم العبري الذي يصادف يوم الخميس الموافق 14نيسان (إبريل) 1994. وبموجب هذه الأوامر أيضاً، قامت الشاباك بحملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من (2700) مواطن باعتبارهم منتمين أو مؤيدين أو متعاطفين مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وتخلل عمليات الاعتقال مداهمة وتفتيش للبيوت بعنف وقسوة تجاوزت الغرض منها، حيث شملت تلك المداهمات تحطيم الأثاث وتخريب الممتلكات وترويع السكان الأمنيين(72). وفي غرفة العمليات المركزية لكتائب الشهيد عز الدين القسام، جمع المهندس مساعديه بعد انطلاق رائد نحو هدفه في العفولة للتشاور وتدارس المستجدات والتوقعات وأثار الانطلاقة الإسرائيلية على الجهاز العسكري لحركة حماس عامة وعلى مجموعة الشهيد عبد الرحمن حمدان وسط تصميم على تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج الثأر لشهداء الحرم الإبراهيمي في ذكرى عيد استقلال الدولة العبرية، وفي غمرة احتفالاتها بذكرى الجنود الإسرائيليين القتلى حيث أراد المهندس اختراق كل الانطلاقة العسكرية والأمنية وتحطيم أسطورة أجهزة الأمن الصهيونية وزعزعة الأمن الداخلي للدولة العبرية. ومن جهة ثانية تحويل ذكرى إعلان تأسيس إسرائيل إلى يوم مناحة وبكاء على القتلى أسوة بمعاناة الشعب الفلسطيني في عيد الفطر الذي أعقب جريمة الحرم الإبراهيمي الشريف.



بعد إقرار غرفة العمليات المركزية لاقتراح المهندس وخطته الجديدة، والتي اشتملت على تنفيذ عملية مزدوجة في محطة الحافلات المركزية بمدينة الخضيرة داخل المناطق المحتلة منذ عام ،1948 أعد المهندس برنامجه الجهادي، وبدأت مرحلة الاستعداد واختيار الطاقم المساعد وعناصر الإسناد والدعم اللوجستي. وبناء على ضروريات السرية، تم توجيه المجاهد سعيد بدارنه عبر ما يعرف باسم (النقاط الميتة) لاستلام الخطة والتوجيهات وتفاصيل وطريقة استعمال المتفجرات. فقد تضمنت خطة العملية، تجهيز عبوتين ناسفتين بطريقتين مختلفتين. فالأولى، جرى تركيبها وتشكيلها بحيث يتم وضعها على الجسم، بينما ركب المهندس العبوة الثانية في حقيبة سفر صغيرة تشبه ما اعتاد جنود الاحتلال على استخدامها خلال تنقلاتهم من وإلى معسكراتهم. ووضع المهندس العبوتين وإرشادات الاستخدام وتفاصيل العملية والهدف في النقطة الميتة وهي مقبرة بلدة يعبد، ليستلمها سعيد في وقت لاحق.



ارتكب المجاهد سعيد بدارنه خطأ أمنياً فادحاً، أدى إلى الكشف عن أعضاء مجموعة الشهيد عبد الرحمن حمدان واعتقال عدد من المجاهدين الذين قدموا الخدمات والمساعدة للمجموعة، وهذا ما قاد فيما بعد إلى اعتقال سعيد نفسه بعد ثلاثة أيام من العملية. فقد رضخ المجاهد القسامي لتوسلات وإصرار صديقه الحميم ورفيق دربه عمار عمارنه بأن يقر ترشيحه لتنفيذ العملية الاستشهادية. وكان سعيد وعمار يسكنان في بيتين متجاورين في يعبد ومعروفان كصديقين من مؤيدي حركة حماس. ومن البديهي، ولكون عمار غير مطلوب لسلطات الاحتلال، أن تبدأ الشاباك بعد تنفيذ عمار للعملية حملة اعتقالاتها في بلدة يعبد وبالتحديد تستهدف الأصدقاء والمقربين لعمار، خاصة وأن نشطاء حركة حماس في البلدة ارتكبوا هم أيضاً خطأً آخر حين جابوا البلدة فور الإعلان عن العملية معلنين بأن منفذها هو عمار عمارنه بناء على معلومات وأوامر من سعيد بدارنه. وعلى كل، لا نملك أية معلومات أو أسباب يمكن أن تنقض هذا الاستنتاج. ونعود إلى المجاهد البطل سعيد بدارنه الذي قام بشرح تفاصيل العملية للمجاهد عمار عمارنه وطبيعة الهدف وطريقة الصعود للحافلة ثم اصطحبه يوم الثلاثاء الموافق 12نيسان (إبريل) 1994 إلى قرية برطعة الشرقية، وهي قرية عربية متاخمة للخط الأخضر وتقع ضمن المناطق المحتلة منذ عام ،1948 وباتا ليلتهما عند ظاهر ربحي كبها الذي لم يكن يعرف بنيتهما. وفي صبيحة اليوم التالي، ربط سعيد العبوة الأولى على جسم عمار وسلمه الحقيبة السوداء التي تحوي العبوة الثانية ثم أرشده إلى طريقة التفجير. وغادر سعيد عائداً إلى بلدة يعبد بعد أن اهتم بتأمين سيارة إسرائيلية من نوع سوبارو يقودها عاطف أحمد كبها وهو أيضاً من قرية برطعة الشرقية لنقل عمار إلى مدينة الخضيرة مقابل أربعين شيكلاً (13دولار أمريكي)(73).



وصل البطل عمار عمارنه وقد ربط على جسده عبوة متفجرة فيما حمل الثانية داخل حقيبة سوداء إلى محطة الحافلات المركزية في مدينة الخضيرة، ووقف في مكان الانتظار الخاص بالحافلة رقم (820) والتي تعمل على خط (العفولة - الخضيرة - تل أبيب). وعند الساعة الثامنة وخمسين دقيقة من صباح يوم الأربعاء الموافق 13نيسان (إبريل) ،1994 وفي غمرة انشغال الكيان الصهيوني بعيد الاستقلال وذكرى جنوده القتلى، توقفت الحافلة (820) في المحطة لإنزال ركاب ونقل آخرين. وعندئذ، صعد عمار إليها من الباب الخلفي بعد أن ترك الحقيبة المفخخة في الموقف بناء على تعليمات المهندس. وخلال ثوان قليلة، فجر البطل العبوات التي تحزم بها ليقضي شهيداً ويقتل مالا يقل عن خمسة بينهم ثلاثة جنود ويصيب نحو اثنين وثلاثين آخرين بينهم ثمانية عشر جندياً وفق ما اعترف به الناطق بلسان الشرطة الإسرائيلية. وقد تحطم الجزء الخلفي من الحافلة وأصيبت المحطة بأضرار مادية جسيمة، وعلى الفور دفع العدو بتعزيزات من الشرطة وحرس الحدود وطواقم من محققي الشاباك، بينما قامت فرق الإنقاذ والإسعاف بنقل القتلى والجرحى إلى المستشفيات. وخلال عمليات التمشيط التي قامت بها وحدات الهندسة وخبراء المتفجرات، عثر العدو على الحقيبة المفخخة قبل انفجارها بلحظات قليلة، ليتم تفجيرها في مكانها بعد إخلاء المنطقة(74).



حملة الاعتقالات التي نفذتها الشاباك بتعزيز من المظليين والوحدات الخاصة في أعقاب العملية طالت نحو (500) مواطناً فلسطينياً جديداً، وضمت أئمة مساجد وطلاب وأطباء وأكاديميين ممن استثنوا في الحملات السابقة. وقد قادت الاعتقالات وعمليات التعذيب الشديدة التي تعرض لها المعتقلون من منطقة جنين بشكل عام وبلدة يعبد بشكل خاص إلى اعتقال سعيد بدارنه واثنين من مساعديه بعد ثلاثة أيام. وفي ضوء هذه التحقيقات، واعتراف مجموعة منطقة جنين على المجاهد بشار العامودي ودوره كحلقة وصل بين المجموعة والمهندس، غادر المهندس وإخوانه بشار وأمجد وأحمد ومحمد المنطقة عائدين إلى نابلس حيث انضموا إلى ركب المطاردين مع القائد القسامي أبو جهاد، ليكون لهم موعد آخر مع الشهادة.



5- إنها الجنة تبغي ثمنا



اتخذ المهندس وأركان عملياته ومساعديه من قرية قراوة بني حسان والمنطقة المحيطة بها مأوى وقاعدة لتخطيط العمليات وتوجيه المجموعات الفدائية المقاتلة، ورفع القائد أبو جهاد من حالة التأهب في صفوف المجموعات العاملة بإمرته وزاد من إجراءات الأمن في المنطقة لحماية غرفة العمليات المركزية لكتائب عز الدين القسام وصديقه الحميم، يحيى عياش. وسوياً عمل القائدان على تنظيم عناصر جديدة وتدريبها وتوزيعها على المجموعات، وباشرا بالتخطيط لتنفيذ العمليات النوعية الثلاث المتبقية من برنامج المراحل الخمس. ولكن هذا الانشغال بتأمين الحماية وتعزيز المجموعات لم يحل دون استمرار برنامج التصعيد الجهادي بكافة الوسائل القتالية المتاحة ومشاغلة قوات الاحتلال وارباك خططها. ويمكن القول بأن هذه الاستمرارية قد ساهمت، بشكل كبير وفعال، في تدريب العناصر الجديدة ميدانياً وبالذخيرة الحية. فعلى سبيل المثال، أرسل القائدان القساميان المجاهد حسن مصطفى حسن الزاغة (18 عاماً) وهو من سكان حي رفيديا بمدينة نابلس لمهاجمة جندي الحراسة الذي يتولى أمن مركز شرطة نابلس، ليئور مزراحي، وهو من لواء جولاني بعد أن تولت مجموعة الاستطلاع رصد الهدف وتحديد طريقة الانسحاب. وقد تم الهجوم باستخدام المسدس في صبيحة يوم السبت الموافق 23 نيسان (إبريل) ،1994 وأسفر الهجوم عن إصابة الجندي بجروح خطيرة. ونجح المجاهد بالانسحاب، رغم إصابته بجروح في ساقه اثر إطلاق جنود إسرائيليين آخرين تصادف مرورهم بالقرب من المكان(75).



وفي تقدم تقني عبر عن مهارة المهندس وإبداعاته، جهز أبو البراء عبوة ناسفة تنفجر بالتحكم عن بعد بواسطة الهاتف اللاسلكي حيث قامت إحدى المجموعات الجديدة بزرع تلك العبوة على الطريق العام القريب من المقبرة الغربية بمدينة نابلس. وعند مرور سيارة عسكرية في حوالي الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم الخميس الموافق 30 حزيران (يونيو) ،1994 فجر المهندس عبوته الناسفة لتتطاير السيارة في الهواء ثم ترتطم بالأرض محترقة. وقد اعترفت السلطات العسكرية بالعملية، ولكنها زعمت بأن التفجير قد أسفر عن جرح جنديين فقط. كما وضع المهندس عبوتين ناسفتين موقوتتين داخل محطة وقود خاصة بمستوطنة (غينوت شومرون) أعدتا للانفجار في صباح يوم الجمعة الموافق 1يوليو (تموز) ،1994 إلا أن العدو عثر على العبوتين وقام خبراء المتفجرات بتفكيكهما. وعلى الرغم من عدم وقوع إصابات أو أضرار، إلا أن المستوطنين أصيبوا بحالة من الهلع والخوف واعتبروا أن وضع العبوتين يشكل تصعيداً في العمليات التي تستهدفهم(76).



الوحدات العسكرية المحمولة والراجلة التي دفعتها قيادة جيش الاحتلال إلى المنطقة فشلت في تعقب أثار المهندس وأخيه أبو جهاد اللذين انسحبا بسلام مع مجموعاتهما باتجاه القاعدة الآمنة في منطقة قراوة بني حسان. ولم يكن القائدان القساميان يضعا رحالهما، حتى جوبها بإلحاح شديد من قبل المجاهد منصور عاطف ريان* [منصور عاطف ريان: ولد في قرية قراوة بني حسان عام ،1975 وهو من عناصر حركة حماس المعروفين بالقرية وإن كانت سلطات الاحتلال قد حاولت التشكيك به والزعم بأنه نفذ العملية لكي يبرهن للحركة بأنه ليس متعاوناً مع الشاباك. وقد اعتقل منصور يوم 6/7/1994 وحكم بالسجن المؤبد.] بأن يشركاه في العملية التالية، وهي مهاجمة مستوطنة (تنعيم) التي تقع شمال طريق (حوكسية شومرون) القريبة من قرية قراوة بني حسان. وأمام هذا الإلحاح، استجاب القائدان لطلبه وأكرماه بالدور الأكبر في العملية. ففي ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة الموافق 1/7/،1994 اقتحمت المجموعة الفدائية مستوطنة (تنعيم) وتوزع أعضاءها على شكل قتالي حول منزل الضابط في الاحتياط، يورام سكاوري (30 عاماً). وخلال ثواني معدودة، قفز المجاهد منصور إلى المنزل عبر النافذة، ودون أن يحدث صوتاً أو جلبة، طعن الضابط عدة طعنات في البطن والعنق والظهر ثم غادر المنزل تاركاً الضابط جثة هامدة بينما زوجته تتخبط بدمائها من جروح أصابتها اثر محاولتها الدفاع عن زوجها(77).



وبناء على الخطة التي وضعها القائدان القساميان، سارت المجموعة الفدائية بعد مغادرتها للمستوطنة على الطريق الترابي المؤدي إلى قرية قراوة بني حسان دون أن تزيل الآثار وذلك للتمويه على قوات الاحتلال وقصاصي الأثر. إذ إن المجموعة لم تستقر بالقرية، بل غادرتها على الفور عن طريق آخر حيث تولى أحد المجاهدين إزالة آثار الأقدام الجديدة. وقد انطلت الحيلة على السلطات العسكرية الإسرائيلية، خاصة وأنها اكتشفت العبوة الناسفة التي جهزها المهندس وتركتها المجموعة الفدائية عند مدخل المستوطنة، وهذا ما أغرى ضباط الشاباك الذين تحمسوا لتتبع الآثار اعتقاداً منهم بأن ذلك سيقودهم للمطلوب الأول على قائمتهم وصديقه. ومما يدل على الأهمية التي كانت توليها سلطات الاحتلال لعملية اقتحام قرية قراوة بني حسان، مشاركة الميجر جنرال ايلان بيران (قائد المنطقة العسكرية الوسطى) والجنرال شاؤول موفاز (قائد قوات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية) على رأس القوة المهاجمة والتي قدرت بنحو (1000) جندي من الجيش والوحدات الخاصة وقوات حرس الحدود ترافقهم (100) سيارة عسكرية إضافة إلى طائرتين مروحيتين لسلاح الجو وعدة مجموعات سرية من قوات المستعربين تنكرت بزي نساء عربيات(78). في البداية حاصرت القوة الإسرائيلية القرية من جميع الجهات، وحمل ضباط من الشباك مكبرات الصوت ليعلنوا فرض حظر التجول والطلب من السكان التزام منازلهم وعدم الخروج. وبعد ذلك، أخذت الوحدات الإسرائيلية تطبق على القرية وتمشطها بيتاً إثر بيت إلى أن وصلت إلى خمس منازل متجاورة تعود لعائلة عاصي، ومن بينها منزل القائد أبو جهاد وشقيقه. ومع حلول الساعة الحادية عشر مساءً، أصدر الجنرال بيران أوامره بإطلاق الصواريخ على منزل أبو جهاد رغم أنه لم تطلق من داخله أي رصاصة. وبعد أن اطمأن قادة الجيش الصهيوني، اقتحم الجنود المنازل الخمس وقاموا بتحطيم أثاثها والعبث بمحتوياتها إمعاناً بالتخريب تغطية على فشلهم في النيل من المجاهدين(79).



وعلى الرغم من نجاح الخديعة، إلا أن المقام في منطقة قراوة بني حسان لم يطل، فقد اعتقل المجاهد منصور ريان يوم الأربعاء الموافق 6يونيو (تموز) 1994 إثر كمين نصبته الوحدات الخاصة الإسرائيلية للمجاهد أثناء زيارته لمنزل العائلة في قراوة بني حسان. وعليه، غادر القائدان القساميان المنطقة نحو مدينة نابلس حيث كان المجاهد علي حجة وهو أحد القائمين على خدمة الكتائب القسامية قد استأجر شقة في منطقة المخفية لسكن القائدين قبل عشرة أيام. وبعد استقرار المجموعات العسكرية في مدينة نابلس، تدارس القائدان الوضع العام لغرفة العمليات المركزية والظروف التي تمر بها منطقة شمال الضفة الغربية، ووجدا أنه من الأنسب في تلك الظروف أن يتم نقل غرفة العمليات المركزية إلى منطقة جنوب الضفة الغربية، وبالتحديد إلى مدينة الخليل. ولكن عملية الانتقال لم تتم، فقد تسارعت الأحداث ابتداء من اعتقال المجاهد علي حجة ومغادرة المهندس وأبو جهاد إلى حارة الياسمينة إثر ذلك، وانتهاء بالمعركة العنيفة التي دارت بين الأبطال علي عاصي ويحيى عياش وبشار العامودي وقوات كبيرة من جيش الاحتلال حاصرتهم في المنزل الذي كانوا يتحصنون فيه.



كان بشار يعلم أن المنزل الذي انتقل إليه مع أخويه أبو البراء وأبو مجاهد غير آمن، ولكن المجاهدين الثلاثة اعتبروا انتقالهم إليه مؤقتاً ريثما تزول حالة الارتباك التي سادت في جهاز الأمن ومجموعات الدعم اللوجستي إثر اعتقال المجاهد علي حجة. ولأن قدر الله نافذ، والجنة بإبلاغ ثمناً، فقد شاهد أحد المجرمين المرتبطين بجهاز الشاباك المطاردين الثلاثة يدخلون إلى منزل مهجور يعود إلى عائلة جاد الله في حارة الياسمينة بالبلدة القديمة من مدينة نابلس. وما أن وصلت معلومات العميل إلى الضابط المسؤول عنه، ومن ثم إلى الجنرال يعقوب بيرى (رئيس الشاباك) والذي كان يولي حملات البحث والمطاردة لقتل المهندس اهتماماً شخصياً ومباشراً حتى بدأت الحرارة بالارتفاع وانشغلت أجهزة الهاتف داخل مقر الشاباك، وفي مقر رئاسة الأركان وقيادة المنطقة الوسطى بالاتصالات المتبادلة لحشد قوات منتخبة من الجيش والمظليين لهذه المهمة الخاصة. وفي نحو الساعة الثانية من فجر يوم الاثنين الموافق 11يوليو (تموز) ،1994 فرضت سلطات الاحتلال نظام منع التجول على مدينة نابلس وقطعت خطوط الهاتف إيذاناً بانتشار نحو ألف جندي من قوات المظليين والوحدة السرية الخاصة (دفدفان) بالتعاون مع أفراد من جهاز الشاباك، ولأن الهدف من العملية كان واضحاً ومحدداً، فقد أخذت الوحدات العسكرية الإسرائيلية تضيق الحصار حول حي الياسمينة من كافة الاتجاهات، وإن كانت طبيعة المنطقة التي يقع فيها الحي فد شكلت عائقاً أمام القوات المهاجمة. إذ أن البيوت المتلاصقة في البلدة القديمة من مدينة نابلس قد عطلت أحكام الحصار على المنزل الذي كان يتواجد فيه المجاهدون الثلاثة(80).



في البداية، طالب قائد الوحدات الإسرائيلية عبر مكبرات الصوت المجاهدين الثلاثة بالاستسلام وتسليم أنفسهم. فرد الأبطال بوابل من نيران الأسلحة الأوتوماتيكية، واشتبكوا مع القوات المهاجمة التي حاولت اقتحام المنزل في معركة ضارية استمرت حتى الساعة الرابعة صباحاً. وطبقاً لما أفاد به شهود عيان من سكان الحي، فقد قُتل ضابط إسرائيلي على الأقل وأصيب آخرون بجروح متفاوتة. وبعد توقف تبادل إطلاق النار، أوفد قائد القوة الإسرائيلية مواطن من سكان الحي لإقناع المجاهدين بتسليم أنفسهم، إلا أن القساميين رفضوا هذا العرض واستأنفوا إطلاق النار باتجاه الجنود لفترة محدودة عاد بعدها الهدوء يخيم على المنطقة. واستغل المجاهدون فترة الهدوء وإعادة تجميع قوات الاحتلال بالتغطية على مغادرة المهندس للمنزل. فانسحب يحيى دامع العين على فراق أخويه اللذين أصرا بشدة عليه بتنفيذ هذا الأمر لما يعرفانه من حاجة القساميين لهذه الكفاءة العلمية المبدعة. ولكن الأمر لم ينته عن هذا الحد، فقد طاردت قوات الاحتلال المهندس، وقامت بحملة تمشيط واسعة في مدينة نابلس بحثاً عنه، غير أنه بحمد الله وتوفيقه نجح في الوصول إلى إحدى القواعد السرية لحركة حماس بسلام(81).



أما في الطابق الثاني من المنزل المحاصر حيث تحصن علي وبشار، فقد استؤنف تبادل إطلاق النار واستمر دوي الرصاص وانفجارات القنابل اليدوية حتى الساعة السادسة والنصف صباحاً. وعندئذ، اجبر جنود الاحتلال أحد المواطنين على اقتحام المنزل بعد أن زودته بمهدة وشاكوش، ويبدو أن العدو أراد استغلال هذا الشاب لتحطيم الباب. وبعد فشل هذا الأسلوب الجبان أخرج قائد القوات المهاجمة من جعبة إجراءاته الإرشادات سلاح التدمير لكسر شوكة المجاهدين. وبدون سابق إنذار قصفت قوات العدو الطابق الثاني بالصواريخ المضادة للدبابات، ثم قامت وحدات (دفدفان) الخاصة والتي رابطت على أسطح المنازل المجاورة بإمطار الطابق الثاني بوابل من الرصاص مستخدمة الأسلحة الأوتوماتيكية. وفوجىء العدو ببقاء المجاهدين على قيد الحياة بعد القصف الصاروخي، إذ استمر تبادل إطلاق النار بين الطرفين نحو ربع ساعة. وعلى الرغم من استشهاد البطلين علي وبشار، إلا أن قوات الاحتلال تجنبت الاقتراب من المنزل، إذ طلب الجنود من ثلاثة أشخاص ممن تم احتجازهم بعيداً عن المكان بربط أرجل الشهيدين بالحبل وسحب الجثتين إلى الخارج ووضعهما على الأرض أمام المدخل(82). وهناك، أطلق الجنود النار بشكل وحشي على الجثتين. كما شوهد أفراد الجيش والوحدات الخاصة يطلقون النار بالهواء ابتهاجاً ويرقصون ويتصافحون مهنئين أنفسهم على هذا الإنجاز الذي علق عليه خبير الشؤون الأمنية والاستخبارية، روني شيكد حين كتب في يديعوت أحرونوت عن المعركة يقول: «عامان كاملان حاولت أجهزة الأمن الإسرائيلية فيهما اعتقال علي عاصي وجندت خلال هذه الفترة قوات عديدة من أفراد الاستخبارات والجنود وحرس الحدود وفرق المستعربين، ولكنه أفلح في كل مرة في الإفلات من الطوق الذي فرضوه على كل مكان اختبأ فيه. ولكن عندما دنت الساعة التي كتب عليه الموت فيها، فعل ذلك بكل جرأة مع رفيق دربه وكفاحه بشار العامودي»(83).



6- خلية صيادي الجنود



يجب أن نعترف بأن استشهاد القائد أبو جهاد ترك جروحاً عميقة لدى كتائب الشهيد عز الدين القسام بشكل عام، وصديقه الوفي الذي عاش أوقاتاً صعبة حزيناً على فراق رفيقه. وعكف أبو البراء، بعد أن تجاوز هذه المحنة، على ترتيب أوضاع منطقة شمال الضفة الغربية وتوزيع المسؤوليات. ولكنه لم يسلم الراية إلا بعد أن وضع المنطقة على الطريق الصحيح مرة أخرى وسار بها إلى سابق العهد. فجهز مجموعة فدائية ووضع في تصرفها وسائل قتالية وسيارة من نوع (سوبارو) تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية، وسلمها خطة كمين تتضمن مهاجمة سيارة نقل عسكرية تسير على الطريق الرئيس في منطقة الغور الشمالي في ساعة متأخرة من المساء باتجاه مستوطنة ميحولا القريبة من مدينة بيسان حيث، خرجت المجموعة القسامية في ساعة متأخرة من مساء يوم الأربعاء الموافق 3 آب (أغسطس) 1994 وتتبعت السيارة العسكرية ثم تجاوزتها، وأثناء عملية التجاوز ، أطلق المجاهدون نيران أسلحتهم الرشاشة على جنود الاحتلال داخل سيارة النقل، فأوقعوا عدة أسطورة مباشرة في صفوف ركابها. وقد اعترف الناطق العسكري الإسرائيلي بالعملية، ولكنه زعم بأنها لم تسفر سوى عن إصابة أحد الجنود بجروح بالغة الخطورة(84).



بعد هذا النجاح عاد المهندس إلى منطقة الوسط وتولى ترتيب أوضاع الوحدة المختارة رقم (6) على وجه التحديد بعد الظروف الاستثنائية والقاسية التي مرت بها. ولمعرفة هذه الظروف والأوضاع التي وجدها المهندس أمامه، لا بد من العودة بضعة أشهر إلى الوراء، وتحديداً إلى شهر تشرين أول (أكتوبر) من عام 1993. وكنا قد أشرنا في معرض الحديث عن الوحدة المختارة رقم (صفر) إلى المجاهدين الستة الذين جرى تنظيمهم في منطقة القدس لهدف محدد وهو أسر جندي إسرائيلي والاحتفاظ به حياً تمهيداً لمبادلته بعدد من المعتقلين الفلسطينيين لدى الكيان الصهيوني.



ولأن الوقت قد حان للحديث عن هؤلاء المجاهدين وعلاقتهم بالمهندس، نعيد إلى الذاكرة بأن الوحدة المختارة رقم ستة هي الشقيقة التوأم للوحدة المختارة رقم صفر. فالخليتان نظمتا للعمل في نفس الوقت تقريباً وإن كان قد أنيطت بهما مهمتين مختلفتين. وقد ضمت وحدة صيادي الجنود ستة مجاهدين اتصفوا بالجرأة والإقدام وسرعة الحركة والمباغتة، وجميعهم يحملون الجنسية الإسرائيلية بسبب مكان السكن. وهؤلاء المجاهدون هم:



أيمن أبو خليل (22 عاماً)، وحسن تيسير عبد النبي النتشة (22 عاماً)، وعبد الكريم ياسين بدر المسلماني (23 عاماً)، وطارق إبراهيم اسحق أبو عرفة (21 عاماً)، وراغب رفيق عابدين (20 عاماً)، وعصام طلعت أحمد قضماني (19 عاماً).



ولتحقيق الهدف الذي نظمت هذه الوحدة من أجله، انتقل المجاهد حسن النتشه للسكن في بلدة بني براك القريبة من القدس حيث يعيش يهود متدينون، فتعلم اللغة العبرية وتقاليد وعادات المتدينين حتى أجاد الحديث بتلك اللغة أكثر من غالبية اليهود، إذ أنه اكتسب مهارة التحدث بأكثر من لهجة. ولهذا، كانت مهمة حسن أثناء تنفيذ العمليات هو التوجه إلى الجنود والتحدث إليهم وإقناعهم بعرضه السفر مجاناً بسيارته. وكان المجاهدون ينتدبون ثلاثة من بينهم في كل عملية حيث يتظاهر الثلاثة بأنهم يهود متدينون - يرتدون الكيبة ويستخدمون سيارة تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية. وبهذا الشكل، خرجت الوحدة بسيارتها في مساء يوم الأربعاء الموافق 20نيسان (إبريل) 1994 وتمكنت من أسر الملازم شاهار سيماني (21 عاماً) أثناء انتظاره عند محطة كريات ملاخي القريبة من بئر السبع، إلا أن الضابط الذي يخدم في وحدة (دفدفان) اكتشف الأمر وحاول المقاومة مما أضطر المجاهدين إلى التخلص منه وإلقاء جثته في اليوم التالي في مكان قريب من بيت حنينا. وقد أصيب المجاهد أيمن أبو خليل أثناء العراك بكسور في كتفه ورجله مما جعله يغيب عن المشاركة في العملية التالية، والتي استهدفت أيضاً أسر الجندي أرييه فرنكتال (19 عاماً) الذي كان في طريقه يوم الأربعاء الموافق 6يوليو (تموز) 1994 من قاعدته في بئر السبع إلى منزله في مستوطنة (جمزون) الواقعة بين مطار اللد والرملة. ولم تتمكن الوحدة الفدائية مرة أخرى في الاحتفاظ بأسيرها حياً. فقد عثر على جثته داخل منزل مهجور في قرية كفر عقب التي تقع شمال المدينة المقدسة. وفي كلتا العمليتين استولى المجاهدون على الأسلحة العائدة للجنديين ووثائقهما الشخصية. واستناداً للوائح الاتهام التي وجهتها المحكمة الإسرائيلية للمجاهد أيمن أبو خليل فيما بعد، حاول مجاهدو الوحدة المختارة القيام بعمليات أخرى إلا أن النجاح لم يحالفهم بسبب حالة الاستنفار التي أعلنتها قوات الاحتلال في صفوف وحداتها العاملة في مدينة القدس، إلى جانب تركيز محققي الشاباك نشاطهم لتعقب الوحدة، إذ أن اكتشاف جثتي الجنديين في مكانين قريبين من القدس أثار الشبهات بأن المنفذين هم من سكان المدينة المقدسة(85).



كان هذا هو وضع الوحدة المختارة رقم (6) التي شكلت بجهود مشتركة بين المهندس والقائد محمد الضيف، وكلف المهندس بعد انتقاله للمدينة المقدسة في صيف عام 1994 بتولي أمورها وتوجيه دفة القيادة نحو تحقيق المهمة الرئيسة وهي أسر جندي والاحتفاظ به حياً. وعلى هذا الأساس، أتصل المهندس بالمجاهد حسن النتشه الذي انتدب لتولي القيادة الميدانية للوحدة في أعقاب إصابة أيمن أبو خليل، كما أعاد المهندس خطوط الاتصال مع القائد محمد الضيف في مدينة خان يونس، والذي أوفد المجاهد صلاح جاد الله كضابط اتصال وتنسيق. وأثمرت هذه الاتصالات بعودة الوحدة المختارة للعمل من جديد بدافع وحماس يتجاوز ما كانت عليه في بداية تشكيلها. ففي فجر يوم الجمعة الموافق 12آب (أغسطس) ،1994 انطلق أربعة مجاهدين بقيادة حسن النتشه في سيارة (رينو 9) حصلوا عليها عن طريق المجاهد المصاب أيمن أبو خليل. وكان الهدف المبتغى أسر جندي يتولى حراسة المنزل الذي استولى عليه الإرهابي أرييل شارون في وسط القدس والعودة به إلى مكان آمن قامت القيادة بتحديده لهم. ولأسباب لم تحدد حتى الآن، لاحقت دورية للشرطة الإسرائيلية سيارة الرينو في نحو الساعة الرابعة وثمانية عشر دقيقة وطلبت منها التوقف ثم انضمت دوريتان أخريان من الشرطة لعملية المطاردة حيث وفدت الأولى من وادي الجوز، بينما جاءت الثانية من شارع السلطان سليمان. وبعد عدة دقائق، استدعى العدو قوات ضخمة من الشرطة وحرس الحدود لإقفال المنطقة الممتدة من سوق الحلال القديم وحتى مفترق شارع صلاح الدين (باب الساهرة). وفيما بدت المنطقة أشبه ما تكون بساحة قتال توقفت سيارة المجاهدين عند حاجز أقامته الشرطة بين متحف روكفلر والمدرسة الرشيدية الثانوية في باب الساهرة، فتوجه ثلاثة من أفرد الشرطة الإسرائيلية نحو السيارة، وعند اقترابهم منها، فتح المجاهدون النيران بكثافة من بندقيتين من طراز (أم-16) وبندقية من طراز (جاليلي). ومع سقوط أفراد الشرطة الثلاثة بعد أن مزق الرصاص كافة أنحاء أجسادهم، تبادل القساميون إطلاق النار مع دوريات العدو قبل أن ينجحوا في مغادرة المكان. وعند وصول سيارة الرينو منطقة وادي الجوز، اشتبك المجاهدون مرة أخرى مع قوات حرس الحدود، حيث استمرت المعركة فترة طويلة تم خلالها تبادل إطلاق الرصاص بكثافة. وطبقاً لماأورده المجاهد حسن النتشه، فقد سقط نحو عشرين جندياً إسرائيلياً بين قتيل وجريح، فيما أصيب المجاهد عصام قضماني بجروح خطيرة أفقدته الوعي(86).



نجح المجاهدون في تشغيل سيارتهم التي أصيبت بعشرات الطلقات، وتمكنوا من مغادرة المنطقة وتجاوز قوات الاحتلال وحواجزها. ولكن السيارة تعطلت مجدداً في منطقة قريبة من فندق حياة ريجنسي تسمى (حي السمار) وهي منطقة تفصل بين ضاحيتي العيسوية و شعفاط. وعندئذ، انسحب القائد حسن النتشه مع اثنين من إخوانه راجلين نحو منطقة الرام ظناً منهم بأن المجاهد عصام قضماني قد استشهد. وقد عثرت قوات الاحتلال على السيارة وبداخلها المجاهد المصاب في نحو الساعة الثامنة من صباح نفس اليوم، إلا أن التحقيق لم يسفر عن شيء. ولذلك شنت السلطات العسكرية الإسرائيلية عمليات اعتقال وحملات مداهمة لعدد من المؤسسات الإسلامية في القدس. وفي نفس الوقت فرض العدو طوقاً أمنياً شاملاً على الأحياء العربية ونصب الحواجز العسكرية على مداخلها، بينما أجرت الشرطة عملية تفتيش من منزل لآخر في حي الشيخ جراح في نحو الساعة التاسعة والنصف. ومن خلال المستندات التي كانت في السيارة، توصلت الشاباك إلى صاحب السيارة الذي اعتقل بتهمة التعاون مع أفراد الخلية. وقاد التحقيق مع هذا الشخص، إلى المجاهد أيمن أبو خليل الذي كان قد غادر منزله متحاملاً على إصابة للاطمئنان على إخوانه بعد أن سمع عن الاشتباك. وبناء على المعلومات التي سربتها الشاباك، فإن الاتصال الهاتفي الذي أجراه أيمن ببقية أعضاء الخلية الذين كانوا في منزل راغب عابدين قد حدد مكان تواجد المجاهدين. فاعتقل أيمن أبو خليل في حوالي الساعة العاشرة وخمس دقائق أثناء تواجده في منزل عمته بوادي الجوز، بينما جهزت الوحدات الخاصة الإسرائيلية قوة كبيرة لمداهمة منطقة الرام حيث بدأت المعركة بفرض القوات الإسرائيلية طوقاً أمنياً مشدداً على البلدة، ثم أقامت الوحدات الخاصة التي انتشرت داخلها عدة حواجز على مختلف الطرق. ويبدو أن المجاهدين شعروا بحركات غير عادية تجري داخل البلدة وبخاصة قرب منزل المجاهد راغب عابدين الذي خرج لتفقد المنطقة. وبعد عودة راغب اتفق المجاهدون على مغادرة المنزل والبلدة حيث استقلوا سيارة من طراز (فولكسفاجن كابينة) في نحو الساعة التاسعة إلا دقيقتين من مساء يوم الجمعة. وبالقرب من أحد الطرق الفرعية، فاجأ القساميون فصيل من الوحدات الخاصة كان يكمن هناك وأطلقوا عليه نيران أسلحتهم الآلية لعدة دقائق فأوقعوا أسطورة قاتلة في صفوف عناصره. ولكن المجاهدين الأربعة تعرضوا بدورهم لوابل من الرصاص أطلقه جنود إحدى الدوريات العسكرية التي طاردتهم مما أدى إلى إصابتهم واصطدام سيارتهم بجدار ثم توقفها. وخلال تبادل إطلاق النار، نجح المجاهدان حسن وعبد الكريم في كسر الطوق الأمني والحصار ومغادرة المنطقة بينما أصيب راغب في رأسه بجروح بالغة الخطورة (توفى متأثراً بجراحه بعد يومين)، واستشهد طارق إثر قيام جنود الاحتلال الإمكانات النار عليه من مسافة قصيرة على الرغم من عدم تمكنه من الحركة بسبب إصابة في يديه وكتفه(87).



أما المهندس، الذي كان ينتظر منذ ساعات الصباح الأولى في قاعدته السرية بالمدينة المقدسة، فقد باشر بإجراء الاتصالات وإرسال مجموعات لاستطلاع الخبر. ومع توالي وصول المعلومات عن المعارك التي خاضتها خلية صيادي الجنود وما جرى لأعضائها، أبلغ المهندس جهاز الأمن التابع لحركة حماس بأن المجاهدين حسن النتشه وعبد الكريم بدر لم يصلا لأي من القواعد السرية لكتائب الشهيد عز الدين القسام وأن الاتصالات معهما مقطوعة. وعلى الأثر، أعلن الاستنفار وحالة الطوارئ لدى كافة المجموعات والخلايا الأمنية العاملة في منطقة الوسط، وانتشر الجميع يستقصي المعلومات والأخبار إلى أن تم العثور على الاثنين وإعادتهما إلى المدينة المقدسة، فقد تبين بأن المجاهدين المصابين لم يستطيعا الاتصال بالمهندس بسبب القوات العسكرية الكبيرة التي كانت تطاردهما، مما اضطرهما إلى دخول منطقة أريحا التي تخضع لسلطات الحكم الذاتي حيث مكثا هناك أسبوعاً قبل أن يعودا متخفين إلى القدس.



وعلى الرغم من صعوبة ما حدث، وجسامة التضحيات التي قدمتها الوحدة المختارة رقم (6)، إلا أن المهندس وإخوانه في العمليات المركزية لكتائب عز الدين القسام يدركون جيداً أهمية الهدف الذي شكلت هذه الوحدة من أجله. ولأن إخراج المعتقلين وتحريرهم من أقبية التعذيب الصهيونية، لم يغب لحظة عن تفكير وخطط الجناح العسكري لحركة حماس، فقد طلبت القيادة القسامية من القائدين يحيى عياش ومحمد الضيف أن يجعلا جل اهتمامهما في الفترة القادمة تحقيق هذا الهدف. ووضعت تحت تصرفهما كافة الإمكانيات المتاحة وخدمات الدعم اللوجستي وغيره. وباشر القائدان القساميان، فور تلقيهما التعليمات، بجمع المعلومات ووضع التفاصيل الدقيقة والمهمة لخطة أسر جندي إسرائيلي. كما اتفق القائدان على اختيار الأبطال صلاح جاد الله وجهاد يغمور وزكريا نجيب، وغيرهم من بين الذين تم ترشيحهم لعضوية الخلية الجديدة. وأضيف في وقت لاحق المجاهدين حسن وعبد الكريم.



7- عيد رأس السنة العبرية



تقاطعت عملية الإعداد والتخطيط والتجهيز لأسر الجندي الإسرائيلي التي أنشغل فيها الثنائي يحيى عياش ومحمد الضيف بشكل أساسي، مع المخطط الذي اعتمد لتنفيذ العملية الثالثة من برنامج المراحل الخمس للثأر لشهداء الحرم الإبراهيمي الشريف. ولكون هذه العملية قد قطعت شوطاً كبيراً سواء بالنسبة لرصد الهدف ووضع الخطة وتفاصيل التنفيذ، فقد استقطع المهندس من جهده ووقته لوضع اللمسات النهائية لتلك العملية والتي كان من المقرر أن تكون عملية استشهادية داخل المناطق المحتلة عام 1948. واختارت غرفة العمليات المركزية في كتائب عز الدين القسام توقيت العملية بحيث تتزامن مع احتفالات العدو الصهيوني بعيد رأس السنة العبرية والذي يبدأ عادة في يوم الاثنين الموافق 5 أيلول (سبتمبر) 1994.



وبناء على الخطة المعدة ركب المهندس عبوات ناسفة تزن حوالي مئة كيلو جرام من المتفجرات المصنعة في سيارة من نوع سوبارو تحمل لوحات تسجيل إسرائيلية، قام أحد المجاهدين بالاستيلاء عليها يوم الأحد الموافق 28 آب (أغسطس) 1994 من حي النبي يعقوب في القدس. وسلم المهندس السيارة المفخخة للمجاهدين أمجد أكميل وأحمد أبو الرب لنقلها إلى المنطقة الشمالية من الضفة الغربية كمرحلة أولى في عملية إدخال السيارة إلى المنطقة المحتلة منذ عام 1948.



تمكن المجاهدان القساميان من تجاوز الانطلاقة الأمنية المشددة وحواجز التفتيش الفجائية التي أقامها العدو على المداخل ومفترقات الطرق والشوارع الرئيسة. ووصل أمجد وأحمد بالسيارة إلى منطقة نابلس مساء يوم الخميس الموافق 1 أيلول (سبتمبر) ،1994 غير أنهما لم يستطيعا نقلها إلى فلسطين المحتلة عام 1948. فقد قدر الله سبحانه وتعالى لهم الفوز بالشهادة ومجاورة النبيين والصديقين والشهداء، إذ انفجرت العبوات الناسفة -لسبب غير معروف- أثناء قيادتهما للسيارة في مكان ناء بمنتصف الطريق بين قريتي عقربة ومجدل بني فاضل الواقعتين جنوب شرقي مدينة نابلس(88).



8- أسماء لها تاريخ

ليس من المبالغة القول بأن اسحق رابين لم يكن يتوقع الصفعة المفاجئة التي تلقاها من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد أن شعر طوال الأشهر القليلة الماضية أن عمليتي العفولة والخضيرة ربما تكون آخر مبتكرات المهندس في الحرب القائمة بين كتائب الشهيد عز الدين القسام وجيش الاحتلال. فقد اعتقد رابين خطأ بأن عودة ياسر عرفات إلى غزة سينهي فاعليه حركة حماس ويحولها إلى تنظيم لا يختلف عن غيره من الفصائل الفلسطينية التقليدية. وهذه الأحلام التي راودت رابين وعاش على أنغام إيقاعاتها انتهت في شهر تشرين أول (أكتوبر)، وتحولت بسرعة كبيرة إلى كوابيس مرعبة طاردته حتى أكثر الأماكن آمناً في دولته. ففي غضون عشرة أيام فقط، اعتبرها المحللون العسكريون الصهاينة بأنها من أطول وأصعب الأيام التي مرت على رابين كرئيس للوزراء، نفذت كتائب الشهيد عز الدين القسام ثلاث ضربات موجعة ومتتالية، عبرت عن قدرة الجناح العسكري لحركة حماس على اختراق جميع الحواجز الأمنية والعسكرية والاستخبارية في المناطق المحتلة منذ عام ،1948 والتي يعتبرها الصهاينة قلعتهم وحصنهم الآمن. وبذلك تكون حركة حماس قد نقلت المعركة مرة أخرى إلى ساحة الصهاينة وبثت الرعب في صفوف مجتمعهم من جنود ومستوطنين. كما عبرت العمليات عن قدرة حركة حماس على اختيار تواريخ تنفيذ العمليات وأماكن التنفيذ بطريقة تخدم أهداف الحركة.



وبالإضافة إلى كل ما سبق، فإن المهندس وإخوانه في الجهازين الأمني والعسكري قد نجحوا في خداع جهاز الشاباك وجيش الاحتلال. ففي أعقاب انفجار السيارة المفخخة في منطقة نابلس يوم الخميس الموافق 1 أيلول (سبتمبر) ،1994 أوعزت الشاباك لجيش الاحتلال وقوات الشرطة الإسرائيلية بشن حملة اعتقالات في منطقة قلقيلية اعتقداً منه بأن المهندس وإخوانه من طلاب الشهادة يتخذون من تلك المنطقة قاعدة آمنة ينطلقون منها. وبالفعل، داهمت قوات العدو منازل (15) موطناً فلسطينياً وفتشتها قبل أن تعمد لاعتقال أصحابها(89).ولكن المهندس كان في قاعدته الآمنة في أكناف بيت المقدس يخطط مع مساعديه لترتيب أوضاع المناطق الثلاث، الشمال والوسط والجنوب، وينتدب القادة العسكريين ويوزع المهام والواجبات بينهم. ولئن كنا سنعود إلى هذا الأمر فيما بعد، فإن ما يهمنا حالياً هو الترتيبات التي اتخذها المهندس ومحمد الضيف فيما يتعلق باستكمال برنامج المراحل الخمس وتنفيذ عملية أسر الجندي التي كُلف الاثنان بالتخطيط لها وتنسيق الجهود بهذا الشأن.



إجراءات التنظيم وتوزيع الطاقات التي وُضعت بإمرة المهندس اشتملت على تشكيل ثلاث مجموعات خاصة بغرفة العمليات المركزية لتنفيذ ثلاث عمليات نوعية محددة وفق برنامج زمني وضعه المهندس ومساعديه. وبالإضافة لعدد من المساعدين ومجاهدي الدعم والخدمات المساندة ضمت تلك المجموعات أعداد متفاوتة من المجاهدين الرئيسين. فالمجموعة الأولى، والتي حملت اسم (وحدة الشهيد رائد زكارنة) تشكلت من الأبطال: حاتم إسماعيل، وعصام الجوهري، وحسن عباس. وثلاثتهم جاءوا من قطاع غزة، فالأول من مخيم البريج أصلاً ويسكن المدينة المقدسة، والثاني مولود في شبرا الخيمة بجمهورية مصر العربية عام 1975 وحضر إلى قطاع غزة بتأشيرة سياحية في 14 يوليو (تموز) واتصل مع القائد محمد الضيف وأبلغه بأنه (حضر للاستشهاد على أرض الرباط)، والثالث مولود بحي الدرج بمدينة غزة عام 1975 أيضاً واعتقل في السابق وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة تقديم خدمات للقائد الشهيد عماد عقل، وخرج من المعتقل قبل ثلاثة أشهر فقط من تنفيذ الهجوم.



وضمت المجموعة الثانية التي عرفت فيما بعد باسم (وحدة الشهيدين راغب عابدين وطارق أبو عرفة) كلاً من: صلاح جاد الله* [صلاح الدين جاد الله حسن سالم: ولد في حي الشيخ رضوان عام 1972 لعائلة مهاجرة من برير عام ،1948 وأصيب خلال الانتفاضة مرتين بالرصاص الحي وتعرض للضرب من قبل جنود الاحتلال مرتين أيضاً. وقد اعتقل بتاريخ 6/8/1992 بتهمة تقديم خدمات لكتائب عز الدين القسام حيث كان أحد ضباط الاتصال بين الضفة والقطاع، ومكث في السجن حتى 14/12/1993.] وحسن النتشه وعبد الكريم بدر وجهاد يغمور وزكريا نجيب بالإضافة لعدد آخر من المجاهدين الذين عملوا بإمرة القائد محمد الضيف في المنطقة الجنوبية من قطاع غزة. وأما بالنسبة للمجموعة الثالثة، وهي (وحدة الشهيدين عبد المنعم أبو حميد وزهير فراح)، فقد كان لها صفة اعتبارية بسبب الهدف أو المهمة التي أنيطت بها. ولذلك لم يعرف من هذه الوحدة سوى البطل صالح نزال صوى، الشهيد الحي من مدينة قلقيلية والذي كانت له مكانة خاصة عند المهندس .



كان عصام مهنا إسماعيل الجوهري يتمنى الشهادة منذ أكثر من عشر سنوات، وظلت هذه الرغبة الكامنة داخله تزداد يوماً بعد يوم. وترافقه حتى وصلت به أن يتطوع جندياً مقاتلاً في صفوف القوات المسلحة المصرية. ولكن الجيش المصري ما لبث أن أنهى خدمته بسبب نشاطه الإسلامي، بل صدرت ضده عدة أحكام بالحبس لمدد مختلفة وصل مجموعها أربعة عشر شهراً. وعندئذ، قرر صاحب القلب الكبير الذي امتلاء حباً بالشهادة على أرض الإسراء، أن يدخل فلسطين المحتلة بأية وسيلة وكان له ما تمنى، ووصل قطاع غزة في صيف عام 1994(90). وبعد عدة محاولات وجهود مضنية، استطاع المجاهد عصام الجوهري أن يتصل بكتائب الشهيد عز الدين القسام التي رتبت أمر نقله مع المجاهد حسن محمود عيسى عباس إلى مدينة القدس حيث استقبلهما المهندس وزودهما بالأسلحة والوسائل القتالية. والحقيقة أنه لا يعرف كم من الوقت مكث المجاهدان عصام وحسن في المدينة المقدسة، غير أن الثابت لدينا أن المدة كانت كافية لاستطلاع الهدف ودراسة الخطة وطريقة الهجوم والمهمة التي حدها المهندس.



تضمنت خطة العملية القيام بهجوم استشهادي في الذكرى الخامسة للمذبحة التي ارتكبتها قوات حرس الحدود ضد المصلين في المسجد الأقصى المبارك. وبناء على المعلومات الواردة من مجموعات الاستطلاع والرصد، فقد قرر المهندس بأن يكون الهدف المنشود هو النيل من رواد مجموعة المطاعم والمقاهي المنتشرة في شارع يؤال موشيه سلومون بحي نحلات شيفع وهو حي يهودي مجاور لشارع يافا في وسط الشطر الغربي من مدينة القدس. والسبب الذي جعل غرفة العمليات المركزية في كتائب الشهيد عز الدين القسام تختار هذا الهدف وتفضله على غيره من الخيارات البديلة هو حقيقة رواد هذه المطاعم وطبيعة عملهم. إذ أفادت المعلومات التي تجمعت للمهندس من عناصر الرصد أن معظم مرتادي المطاعم والبارات في ذلك الشارع من ضباط وكوادر ومحققي جهاز المخابرات العامة (الشاباك) حيث يقع المركز الرئيس للجهاز على بعد مائتي متر فقط من تلك المطاعم. واعتمد المهندس توقيت العملية بحيث تتزامن مع نهاية فترة المناوبة المسائية للعاملين في المركز.



وبعد الاتكال على الله سبحانه وتعالى، غادر المجاهدان عصام الجوهري وحسن عباس القاعدة بصحبة المجاهد حاتم إسماعيل الذي نقلهما بالسيارة إلى حديقة (الاستقلال) التي أقيمت على أرض مقبرة مأمن الله. وهناك، تفقد المجاهدان أسلحتهما التي اشتملت على بندقيتين آليتين من نوع كلاشنكوف ومسدسين وثمانية قنابل يدوية ثم ترجلا من السيارة، وسارا في طريق مبلط يسمى شارع هيلل حتى وصلا مفترق يسمى (ميدان صهيون)، وكان باستطاعتهما أن يرديا العشرات من المستوطنين الصهاينة في ذلك المفترق، لكنهما التزما بالأوامر والتعليمات.



وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من مساء يوم الأحد الموافق 9 تشرين أول (أكتوبر) ،1994 وصل المجاهدان هدفهما، وشرعا فوراً بإطلاق النار بغزارة على كوادر ومجرمي الشاباك حيث كانا يفرغان مخازن الذخيرة ويستبدلانها الواحد تلو الآخر، كما ألقيا أربعة قنابل يدوية على الأقل. وسادت حالة من الذعر والهلع بين رواد المطاعم الذين تصرفوا بصورة هستيرية حيث كانوا يهربون بكافة الاتجاهات ويدوسون على بعضهم البعض. وتابع المجاهدان اللذان سيطرا على الوضع تماماً ضباط الشاباك الهاربين إلى داخل قاعات ومطابخ المطاعم والبارات التي ألتجؤوا إليها دون أن يجرؤ أولئك على استخدام أسلحتهم الشخصية. وبعد عشرة دقائق من بداية الهجوم، وصلت قوة من الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود وعشرات السيارات العسكرية، وبدأت حملة تفتيش واسعة في أزقة وسط المدينة المقدسة وعلى أسطح الأبنية بعد أن نصبت قوات أخرى حواجز عسكرية على مداخل القدس وأطلقت طائرة مروحية قنابل مضيئة. واندلع اشتباك عنيف جداً بين المجاهدين والقوات المهاجمة استمر أربعين دقيقة متواصلة، سقط خلالها عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف الشرطة وحرس الحدود، بينما استشهد عصام وحسن إثر إصابتهما برصاص ستة من جنود الوحدة الخاصة التابعة لحرس الحدود تمكنوا من مباغتة المجاهدين من الخلف. وقد حقق الله لصاحب العصبة الحمراء وأخيه حسن ما تمنياه ولقيا ربهما بعد أن نالا من العشرات من ضباط الشاباك وجنود الاحتلال، وإن كانت سلطات الاحتلال قد اكتفت بالاعتراف بمقتل خمسة من كوادر الشاباك ومجندة واحدة وإصابة أربعة عشر آخرين بجروح وصفت إصابة عدد منهم بأنها خطيرة(91).



9- الحرب خدعة



في الوقت الذي كان فيه اسحق رابين وأركان حكومته وقادة جيشه يتفقدون موقع المعركة البطولية في مدينة القدس، ويتلقون تقارير ضباط المخابرات حول الكابوس الذي عاشته الدولة العبرية ونتائج عمليات البحث والتفتيش التي أجرتها قوات الشرطة وحرس الحدود التي استمرت حتى الساعة الثالثة من فجر يوم الاثنين، كان المهندس وإخوانه في غرفة العمليات المركزية يستقبلون وحدة الشهيدين طارق أبو عرفة وراغب عابدين العائدة بأسيرها الثمين، لتبدأ بعدها فصول الملحمة الخالدة التي هزت أركان الكيان الصهيوني وطغت على أخبار وكالات الأنباء وجعلت حكومة اسحق رابين وحلفائها يعيشون (120) ساعة من حرب الأعصاب. وتعتبر عملية أسر العريف نحشون يهودا فاكسمان (20 عاماً) وهو جندي مقاتل في لواء جولاني أطول وأقسى عملية فدائية ينفذها فدائيون فلسطينيون، إذ لم يسجل تاريخ فلسطين الحديث وعلى مدى سنوات الصراع والكفاح المسلح أي عملية استمرت مثل هذه المدة من الزمن.



وحين يعود بنا الزمن إلى يوم الأحد الموافق 9 تشرين أول (أكتوبر) ،1994 نجد أن الأوامر قد صدرت للوحدتين الفدائيتين بالتحرك في نفس الوقت تقريباً. إذ تحركت وحدة الشهيد رائد زكارنه نحو هدفها في القدس، بينما غادرت وحدة الشهيدين طارق أبو عرفة وراغب عابدين قاعدتها نحو مدينة الرملة بحثاً عن جندي يقف منتظراً في محطة أو مفترق طرق سيارة تقله بالمجان إلى الوجهة التي يبتغيها (المعسكر أو المنزل). وقد عبرت الخطة التي اعتمدها المهندس ومحمد الضيف وجرى تنفيذها على أرض الواقع عن ذكاء في التخطيط العسكري وإبداع من قبل الوحدة الفدائية في تنفيذ الأوامر. ومن خلال استقراء أحداث العملية البطولية ميدانياً، يمكن تلخيص تلك الخطة وما رافقها من خداع وتضليل مارسته كتائب الشهيد عز الدين القسام على سلطات الاحتلال وأجهزة أمنها. ولعلنا لا نكون مخطئين إن قلنا بأن حركة حماس كادت تحقق هدفها من تلك العملية، ألا وهو الإفراج عن عدد من المعتقلين والأسرى في سجون الاحتلال، لولا الخيانة والتواطؤ الذي مارسته سلطة الحكم الذاتي والذي أدى إلى أن تنتهي العملية بالصورة التي حدثت. وعلى كل، سارت أحداث العملية وفق الخطة المعدة على النحو التالي(92) :



1- استأجرت الوحدة الفدائية الطابق الثاني من منزل في قرية بير نيبالا، وقام المجاهد زكريا نجيب بإعداده وتجهيزه لإخفاء الأسير فيه. وقد شارك المهندس بشكل مباشر في تلغيم النوافذ وإحكام إغلاقها بالمتفجرات إلى جانب تلغيم المدخل الرئيس والبوابة الحديدية.



2- توجه المجاهد جهاد يغمور للبلدة القديمة بالقدس واشترى من إحدى المحلات أربعة قبعات صغيرة وقبعتين سوداوين لمتدينين يهود. وفي يوم الأحد الموافق 9 تشرين أول (أكتوبر) 1994 توجه إلى شارع الملك داود لاستئجار سيارة كبيرة من نوع فولكسفاجن ترانسبورتر.



3- قاد جهاد السيارة المستأجرة إلى بير نيبالا، ليجد المجاهدين صلاح جاد الله وحسن النتشة وعبد الكريم بدر في انتظاره. وطبقاً للخطة، أخذ حسن معه بندقية جاليلي ومسدس بينما تسلح كل من عبد الكريم ببندقية عوزي وصلاح بمسدس وقيود (كلبشات) وجنازير وأقفال وأكياس نايلون.



4- وضع المجاهدون الأربعة القبعات التي يعتمرها عادة اليهود المتدينون على رؤوسهم، وانطلقت بهم السيارة باتجاه فلسطين المحتلة عام 1948. ومن مفترق اللد، توجهت السيارة شمالاً إلى بيتح تكفا حيث لاحظ المجاهدون العريف نحشون فاكسمان يقف على جانب الطريق بالقرب من مستوطنة بني عطروت القريبة من مطار اللد في انتظار سيارة تقله إلى مدينة الرملة لزيارة صديقته.



5- توقفت السيارة قرب الجندي الإسرائيلي، وعرض عليه جهاد أن ينقله إلى مبتغاه، فصعد إلى السيارة. وعند وصول السيارة، منطقة مطار اللد، سيطر حسن وصلاح وعبد الكريم على العريف الإسرائيلي وقيدوه بالكلبشات المعدنية وغطوا عينيه بقطعة قماش سوداء ووضعوا كيس نايلون أسود على رأسه بما يسمح له بالتنفس ثم قيدوا رجليه بسلاسل حديدية.



6- قام حسن وجهاد بعد ذلك بتهدئة الأسير وطمأنته بأنهم لن يقتلوه وأن هدفهم هو المحافظة على حياته ريثما تستجيب حكومته لمطالبهم بإطلاق سراح عدد من المعتقلين في السجون الإسرائيلية.



7- طلب المجاهدون من أسيرهم أن ينبطح على أرضية السيارة التي توجهت نحو القدس، وتجاوزت الحاجز العسكري دون أن يلاحظ الجنود ما يجري داخل السيارة.



8- أنزل جهاد المجاهدين الثلاثة وأسيرهم في بيرنيبالا، ثم عاد إلى منزله في بيت حنينا لإحضار آلة تصوير تلفزيونية كان قد استأجرها في وقت سابق. وبواسطة هذه الآلة، تم تصوير الأسير جالساً أمام صلاح، وقام أحد المجاهدين بتلقين العبارات والأقوال التي يتعين على فاكسمان قولها في النداء الذي وجهه إلى والديه وإلى اسحق رابين، بينما تلا المجاهد صلاح جاد الله نص بيان كتائب عز الدين القسام باللغة العربية معلناً مسؤولية حركة حماس عن العملية.



9- وفق خطة المهندس، بقي حسن وعبد الكريم في المنزل لحراسة الأسير، بينما عمل جهاد كمسؤول عن الاتصالات بين المجاهدين الثلاثة والقائد محمد الضيف الذي تقرر بأن يدير المفاوضات ومتابعة التطورات. وأما المجاهد زكريا نجيب، فقد حددت مهمته بتزويد المجاهدين وأسيرهم بالمواد التموينية والغذائية وتلبية كافة احتياجاتهم إلى جانب نقل الأخبار المهمة إليهم.



10- سافر جهاد في صبيحة اليوم التالي (الاثنين) إلى قطاع غزة، حاملاً معه شريط الفيديو وبطاقة هوية الجندي. والتقى جهاد بصاحب مصنع للطوب في مدينة غزة يدعى محمد علي حرز الله (أبو علي) وسلمه الشريط والهوية.



11- انتقل القائد محمد الضيف إلى منزل أبو على، وقامت إحدى المجموعات القسامية بإحضار مصور وكالة رويتر في قطاع غزة وطلبت منه تصوير القائد وهو يحمل بطاقة هوية الجندي وبيده بندقية من طراز (أم-16) شبيهة ببندقية فاكسمان. وقرأ محمد الضيف بيان كتائب عز الدين القسام الذي تضمن مطالب حركة حماس للإفراج عن الأسير وهي: الإفراج الفوري والسريع عن الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وزعيمي حزب الله عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني بالإضافة إلى جميع معتقلي كتائب عز الدين القسام و180 أسيراً من حركة حماس والجهاد الإسلامي وفتح وحزب الله والجبهة الشعبية والديمقراطية والقيادة العامة والمعتقلات الفلسطينيات.وقد تضمن البيان أيضاً، تحديد الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة الموافق 14 تشرين أول (أكتوبر) 1994 كموعد نهائي لتنفيذ المطالب السابقة، وإلا فإن الكتائب ستقوم بقتل الجندي والاحتفاظ بجثته.



12- طلبت الكتائب من مراسل وكالة رويتر تسليم الشريط الخاص بمحمد الضيف للتلفزيون الإسرائيلي الذي قام ببثه يوم الثلاثاء. وفي يوم الأربعاء سربت الكتائب شريط الفيديو الذي يظهر فيه الأسير مع المجاهد الملثم صلاح جاد الله. وبذلك تكون حركة حماس قد ضللت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية التي انطلى عليها الأمر، وبدا وكأن الجندي محتجز في قطاع غزة. وقد عزز المجاهدون هذا التضليل، بتسريبهم لشائعات بأنه تم نقل الأسير من منزل إلى آخر في غزة. كما سرب جهاز الأمن الخاص بحركة حماس معلومات في نفس اليوم (الأربعاء) عن تحركات مشبوهة في منزل بعبسان الكبرى التي تقع إلى الشرق من خان يونس، حيث قامت الشاباك برصد هذه التحركات وأرسلت قوات تابعة لدورية هيئة الأركان الإسرائيلية التي وضعت على أهبة الاستعداد لتنفيذ عملية الاقتحام. وقد اتضح فيما بعد للشرطة الفلسطينية التابعة لسلطة الحكم الذاتي التي داهمت المنزل بأن أفراد حماس الذين كانوا في داخله لا صلة لهم بالعملية.



13- عامل المجاهدون أسيرهم معاملة حسنة حيث سمحوا له بحلق ذقنه وتبديل ملابسه ومكنوه من الاستماع إلى برامج الإذاعة العبرية.



14- كان من المقرر أن يطلق المجاهدون سراح أسيرهم في حالة الاستجابة لشروطهم، إذ كانت الأوامر بأن يقتاد جهاد يغمور الجندي إلى منطقة معينة قريبة من الشارع. ومن هناك يجري، جهاد اتصالاً مع الحكومة الإسرائيلية ويبلغ عن مكان وجود الجندي.



استنفرت حكومة اسحق رابين كافة قواتها وأجهزة أمنها، وجندت الآلاف من الجيش والشرطة وطواقم الاستخبارات في حملات التفتيش بحثاً عن العريف نحشون فاكسمان. وأصدرت سلطات الاحتلال أمراً عسكرياً بإغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة وعزلتهما عن العالم الخارجي بهدف منع إخراج فاكسمان أو جثته. وشملت استراتيجية الحكومة الإسرائيلية للتحرك ثلاثة أصعدة: ممارسة ضغوط كبيرة على السلطة الفلسطينية وتحميلها مسؤولية إعادة الجندي سالماً، وتحريك جميع أجهزة الاستخبارات (الموساد، الشاباك، آمان) وجمع كافة المعلومات لمعرفة مكان احتجاز الجندي، واستنفار الوحدات الخاصة ونقلها إلى المناطق المتاخمة لقطاع غزة للتدرب على سيناريوهات محتملة للقيام بعملية إنقاذ. وعلى الرغم من علم رابين أنه وفقاً لاتفاق أوسلو فإنه لا يستطيع استخدام قوة عسكرية داخل منطقة الحكم الذاتي إلا بعد إبلاغ السلطة الفلسطينية، فإنه كان على استعداد لاستخدام قوات من الجيش الإسرائيلي إذا ما اتضح له مكان احتجاز الجندي متجاهلاً وجود السلطة الفلسطينية.



وأما سلطة الحكم الذاتي، فقد تكشفت حقيقتها والدور الذي لعبته في البطش بأبناء الشعب وبدت صورة طبق الأصل عن جيش انطوان لحد في جنوب لبنان. فقد قامت شرطة الحكم الذاتي ومخابراتها بجهد كبير لملاحقة المجاهدين من كتائب الشهيد عز الدين القسام، وقدمت للعدو كل المعلومات المتوفرة لديها، وعملت كل ما بوسعها لمساعدة الشاباك. فمن المشاركة في دوريات مشتركة مع جيش الاحتلال في تمشيط قطاع غزة إلى التحقيق بعنف وبشدة فاقت ما دأبت أجهزة المخابرات الإسرائيلية على القيام به مع (400) من أعضاء وكوادر حركة المقاومة الإسلامية. كما شاركت سلطة الحكم الذاتي وتواطأت بشكل فاضح في مؤامرة الخداع والتضليل عبر الإيحاء بأن العدو قد استجاب لشروط المجاهدين حيث أسهم ذلك في إعطاء فرصة زمنية جديدة (24 ساعة). وجاء طرف الخيط في تحديد مكان احتجاز الأسير من أعلى المستويات في سلطة الحكم الذاتي. فمن خلال تحقيق المخابرات الفلسطينية مع أعضاء طاقم وكالة أنباء رويتر في قطاع غزة، كشفت السلطة الفلسطينية شخصية أبو علي وحددت المنزل الذي جرى فيه تصوير القائد محمد الضيف. وبعد وجبات شديدة من التعذيب الجسدي والنفسي، توصلت السلطة الفلسطينية إلى رقم هاتف قاد إلى المجاهد جهاد يغمور.



قدم ياسر عرفات شخصياً اسم جهاد يغمور إلى مبعوث رئيس الوزراء الإسرائيلي، يوسي جينوسار الذي اجتمع به عند حاجز ايرز يوم الخميس الموافق 13 تشرين أول (أكتوبر) 1994. وبذلك تكون سلطة الحكم الذاتي هي المسؤولة عن عدم الوصول بالعملية إلى محطتها الأخيرة، وبالتالي حرمت المئات من المعتقلين ومن بينهم أعضاء في حركة فتح من الخروج إلى الحرية. فقد التقطت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية طرف الخيط، واعتقلت جهاد يغمور مساء الخميس من بيته، واستمر التحقيق معه حتى فجر الجمعة. وبدأ جهاد بالاعتراف بالمعلومات المتوفرة لديه مرغماً وتحت ضغط عنيف لم يسبق له مثيل من التعذيب الجسدي. وهكذا، حددت سلطات الاحتلال المنزل الذي يحتجز فيه العريف نحشون فاكسمان، ورغم ذلك فقد بقيت المفاجأة التي خطط لها المهندس وأعدها للقوة المهاجمة طي الكتمان. ومع كفاءة الشاباك وآمان والموساد والكوادر الفنية وطواقم الضباط الذين جلسوا لوضع خطة اقتحام المنزل، إلا أن أحداً منهم لم يكن يتوقع احتمالية تلغيم الأبواب الحديدية والنوافذ والمداخل المؤدية للدور الثاني من المنزل.



تقدمت طلائع القوات الإسرائيلية المشاركة بالعملية إلى محيط المنزل دون اكتشافها، مساء يوم الجمعة الموافق 14 تشرين أول (أكتوبر) ،1994 وأخذ الجنود يراقبون أي حركة داخله. وبعد عشرين دقيقة من وصوله، غادر المجاهد زكريا نجيب بسيارة كان يقودها بنفسه بعد أن أوصل الطعام للمجاهدين وأسيرهم. وقد اعتقلت القوات الإسرائيلية زكريا بعد ابتعاده عن مجال رؤية المتواجدين داخل المنزل. واقتنع الجنرالات بأن العريف فاكسمان ما زال حياً حين قال لهم زكريا بأنه رآه مستلق على الأرض يأكل (كنافة)، فأصدروا الأمر بمواصلة العملية العسكرية ومحاصرة المنزل من كافة الجهات ريثما تصل الوحدة الخاصة المسماة (دورية هيئة الأركان) التي كلفت باقتحام المنزل وتحرير الأسير.



وحدات الرصد الإسرائيلية اكتشفت بأن المنافذ العشرة كانت محكمة الإغلاق بأبواب حديدية بينما غطيت النوافذ ببطانيات حجبت الرؤية عن وحدات الرصد والقوات المهاجمة فيما بعد. وفي محاولة لتضليل المجاهدين، طلب اسحق رابين بإغلاق طريق غزة - عسقلان، وشوهدت سيارات إسعاف تتجه جنوباً مما حدا بوكالات الأنباء إلى التحدث عن عملية عسكرية يجري التخطيط لها في قطاع غزة. ولكن هذه الحيلة لم تنطل على كتائب عز الدين القسام، إذ أن عدم وصول جهاد يغمور إلى المنزل صباح يوم الجمعة كما كان متفقاً، جعل المجاهدين يشعرون بأن شيئاً ما قد حصل، ولذلك طلبوا من زكريا العمل على ترتيب عملية الاتصال والانتقال من المنزل. وفي غضون ذلك، جهز الأبطال الثلاثة أسلحتهم تحسباً لأي طارىء.



وفي الطرف المقابل، بدأت القوات المهاجمة الزحف نحو المنزل في نحو الساعة الثامنة إلا عشر دقائق من مساء يوم الجمعة. وفيما كان الجنرال يعقوب بيري (رئيس جهاز الشاباك) يداعب أحلامه قائلاً لمساعديه: «إن أول شيء سأفعله هو إحضار نحشون فاكسمان إلى بيته القريب جداً من بير نيبالا لأفاجىء عائلته وهم يوقدون الشموع إيذاناً بحلول يوم السبت»، فوجئت الوحدات الخاصة الإسرائيلية المهاجمة بالباب الحديدي السميك الذي يؤدي للدور الثاني وقد لحقت به أضرار طفيفة من جراء المتفجرات التي وضعت لنسفه، ومع فقدان العدو لعنصر المفاجأة، جاء دور المفاجأة التي أعدها المهندس، فقد توالت الانفجارات في وجه الجنود الإسرائيليين الذين حاولوا الدخول عن طريق النوافذ والباب الجانبي مما أدى إلى سقوط عدد كبير منهم بين قتيل وجريح. وحين نجحت قوة بقيادة الكابتن نير فوراز، في دخول المنزل عن طريق نافذة المطبخ، اصطدمت بمجاهد كان يتخذ موقعاً قتالياً في الغرفة المجاورة للصالة. وبعد نحو خمسة دقائق من تبادل إطلاق النار العنيف سقط خلالها الكابتن الإسرائيلي وعدد من جنوده صرعى، انسحب المجاهد إلى السلم الداخلي لمجابهة قوة أخرى كانت تحاول التقدم عن طريق الباب الجانبي. وتمكن البطل من مفاجأة القوة الإسرائيلية وإصابة معظم جنودها ومن ضمنهم خمسة ضباط قبل أن يترجل شهيداً إلى عليين. وعندئذ، واصلت القوة المتبقية الركض نحو الدور الثاني حيث يحتجز فاكسمان، لتكون المفاجأة التالية بوجود باب خشبي سميك جرى تفخيخه ووضعت كمية من الأثاث ورائه، ومع إخفاق القوة المهاجمة في كسر قفل الباب، عرض العدو على المجاهدين أن يستسلما، فرد البطلان باللغة العبرية بأن فاكسمان قد قتل وأنهما سيقاتلان حتى الموت. واستمر تبادل إطلاق النار الكثيف لعدة دقائق، عدها القادة والجنرالات الذين كانوا يتابعون المعركة عن كثب بأنها ساعات طويلة، وحين توقفت المعركة بعد استشهاد البطلين، وجد رئيس شعبة الطاقة البشرية في جيش الاحتلال نفسه أمام مهمة عصيبة. فقد انزوى رئيس جهاز الشاباك الذي كان يعد نفسه لنقل البشرى لعائلة فاكسمان بعيداً عن دائرة الضوء تاركاً للجنرال يورام يئير مهمة تبليغ عائلة العريف الإسرائيلي بمقتل ابنهم(93).



يعتبر العدد الكبير من المصابين في صفوف الوحدات الإسرائيلية المهاجمة، وإن كان الناطق العسكري الإسرائيلي قد حاول التقليل من شأنها وقصرها على ثلاثة قتلى وعشرين جريحاً، دليلاً على فشل قدرة القوات الإسرائيلية الخاصة التي تمتلك ترسانة ضخمة من الوسائل القتالية والتكنولوجيا في مواجهة ثلاثة شبان يمتلكون أسلحة تقليدية. ولا يقتصر الأمر على هذا الشأن، إذ عجزت كافة أجهزة الاستخبارات وأذرعها وعلى مدى ستة أيام في معرفة مكان احتجاز الجندي الأسير، وكان هذا العجز سيستمر لمدة أطول لولا مبادرة المسؤولين في سلطة الحكم الذاتي بإبلاغ اسحق رابين عن المجاهد جهاد يغمور. وعملياً، فإن العملية كادت أن تحقق النجاح الكامل لو بقي مكان احتجاز الأسير مجهولاً. وقد تسبب اكتشاف العدو للمنزل في إضاعة الورقة القوية التي كان من الممكن عبر اللعب بها إتمام العملية على الوجه المأمول به.



10- الشهيد الحي يهتف في ساحة ديزنغوف



بدت علامات الكآبة والذهول واضحة على وجه اسحق رابين وهو يلقي البيان أمام الصحافيين وممثلي وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية موجزاً الوقائع التي حدثت أثناء اقتحام قوات العدو المنزل الذي تحصن فيه مجاهدو حماس مع أسيرهم وهو الجندي الإسرائيلي نحشون فاكسمان في بير نيبالا، وكان هو شخصياً أحد شهودها. ولأن التاريخ لا يكرر نفسه في كل مرة بالطريقة نفسها، فإن العلامات التي بدت على وجه رابين تختلف عما نقله مراسلي وكالات الأنباء قبل ثمانية عشر عاماً حين أعلن رابين نفسه تحرير الرهائن الإسرائيليين من مطار عتيبى بأوغندا.



وهكذا، أصبحت عنتيبي شيئاً من الماضي بعد أن خلقت كتائب الشهيد عز الدين القسام ظروفاً وأوضاعاً جديدة مع مرور الزمن جعلت رئيس الحكومة الإسرائيلية يتلعثم وهو يتلو بيانه فيما جلس يهودا باراك، رئيس هيئة الأركان العامة في جيش الاحتلال إلى جانبه مطاطىء الرأس. واعترف رابين وهو يلعق جراح هزيمته، بأنه يواجه نقصاً كبيراً في المعلومات عن المهندس الذي أعد ونفذ العمليتين في القدس وبيرنيبالا، كما أقر رئيس الحكومة الإسرائيلية بكفاءة كتائب عز الدين القسام حين قال في مؤتمره الصحفي: «لقد تمكنت حماس من خداعنا وتضليل الاستخبارات الإسرائيلية عندما توهمنا جميعاً بأن الجندي المخطوف موجود في غزة»(94).



وعلى الرغم مما آلت إليه نتيجة أسر العريف نحشون فاكسمان، إلا أن العملية تركت آثاراً إيجابية كثيرة وحققت لحركة حماس إنجازات ونجاحات عديدة وعززت موقع الحركة السياسي والعسكري والتنظيمي والإعلامي. وإذا ما تجاوزنا هذه الإنجازات، نظراً لكون المجال ليس ملائماً التعرض لها في هذا الموضع، نجد أن العملية وضعت المهندس أمام تحد مزدوج. فجانب سلطة الحكم الذاتي بات غير مأمون على الإطلاق، كما أن حكومة اسحق رابين أعلنت استنفار كافة أجهزتها وقواتها العسكرية والأمنية والاستخبارية ووضعت كل الجهود والإمكانيات في الحرب الشاملة ضد حركة حماس.



ولأننا أمام مجاهد نذر نفسه وجهده وحياته لله، فإن المهندس لم تكن لتين عزيمته أو تصاب بالفتور أو التراجع. وعلى هذا الأساس يمكن تناول التحرك السريع لمهندس الأجيال لتنفيذ الضربة الثالثة التي خطط لها والتي جاءت لتحتل المكانة الخامسة في برنامج المراحل الخمس للثأر لشهداء الحرم الإبراهيمي الشريف.



إذ انتقل القائد مع مساعديه إلى المربع الذي انطلق منه (رافات - قراوة بني حسان - الزاوية - سلفيت)، وباشر بالإعداد للعملية الاستشهادية الجديدة. ووفقاً للوائح الاتهام التي وجهتها المحاكم العسكرية الإسرائيلية لعدد من المجاهدين المعتقلين من قريتي الزاوية وقراوة بني حسان في وقت لاحق من عام ،1994 فإن المهندس وضع هدفين تحت المراقبة والرصد. وكان الأول يتعلق بساحة ديزنغوف وهي الساحة الرئيسة في الوسط التجاري لتل أبيب، وتعد هذه الساحة بالنسبة للعدو الصهيوني مرادفة لجادة الشانزيليزيه في باريس وبيكاديللي سيركس في لندن وتايمس سكوير في نيويورك نظراً لاتساعها والأشجار التي تحيط بجوانبها وكثرة المقاهي ودور السينما والمتاجر والمسارح فيها. وأما الهدف الثاني، فقد شكل السوق التجاري الرئيسي لمستوطنة بتاح تكفا القريبة من تل أبيب، موقعاً مقبولاً لتنفيذ عملية استشهادية توقع عدداً كبيراً من الإصابات وتجعل الإسرائيليين يبكون دماً. وبعد دراسة كافة الجوانب المتعلقة بالموقعين، استقر رأي المهندس على الهدف الأول، نظراً لتأثيره على الأمن الإسرائيلي عندما يتم اختراق قلب أكبر مدينة داخل العمق الإسرائيلي وتحويل الساحة الرئيسة فيها إلى ساحة هلع ورعب.



نفذ المهندس وعيده الخامس، وجهز الحقيبة المتفجرة وسلمها للمجاهد صالح صوي* [صالح عبد الرحيم حسن صوي: ولد في قلقيلية عام ،1967 فنشأ وترعرع والحقد يربو ويكثر في قلبه على من احتل أرضه.فانضم إلى الإخوان المسلمين قبل الانتفاضة المباركة بعام ليسير في طريق الجهاد بانضمامه لحركة حماس واشتراكه في فعالياتها. وقد اعتقل ثلاث مرات، وقضى أربعة عشر شهراً في سجون الاحتلال، خرج بعدها ليواصل حديث الجهاد والاستشهاد مع اخوته. واستمر على هذا المنوال حتى أصبح مطارداً من قبل الاحتلال بعد مجزرة الخليل مباشرة. ومنذ ذك الحين ، غدا أحد مساعدي المهندس ورفقاء دربه.] بعد أن دربه على طريقة تشغيل العبوات الناسفة، وشرح له خطة العملية وكيفية الوصول للهدف والهيئة التي يتعين عليه الظهور من خلالها حتى يتسنى له الصعود إلى الحافلة المتجهة إلى ساحة ديزنغوف. ولأول مرة، يطلب المهندس آلة تصوير سينمائية، ليقوم أحد المجاهدين بتصوير البطل صالح صوي وهو يلقي بياناً كتبه مهندس الأجيال باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام بدأه بقوله: «أنا الشهيد الحي صالح عبد الرحيم حسن صوي أسكن مدينة قلقيلية الصمود.. كنت مطارداً قسامياً في كتائب الشهيد عز الدين القسام». وأضاف صالح وهو يتلو البيان المكتوب: «تحدث الحقير رابين والحقير باراك بأنه لم يكن لديهما أي خيار إلا قتل الخلية التي حافظت على حياة الجندي المخطوف نحشون فاكسمان وعدم تلبية مطالبنا الإنسانية بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين»، واختتم المجاهد قائلاً: «لم يكن أمامنا سوى خيار واحد، وهو جعل كل الشعب اليهودي رهينة الخوف والرعب اللذين ستبثهما عملياتنا الاستشهادية.. إن الحل الوحيد لقضيتنا هو الجهاد ولا حل غيره، فلماذا الركون لهذه الدنيا الفانية.. وإلى اللقاء على حوض الكوثر نشرب ماء لا نظمأ بعده»(95).



وبناء على الترتيبات المسبقة، قامت إحدى مجموعات الإسناد بتسهيل عملية انتقال الشهيد الحي إلى مدينة قلقيلية حيث بات ليلة الأربعاء في منزل عائلته ثم غادر في صبيحة اليوم التالي مع إخوانه الذين كلفوا بإيصاله إلى مدينة تل أبيب في رحلة المجد نحو العلا بعد أن حمله المهندس بحقيبة الموت لأعداء الإسلام. وحين وصل البطل إلى محطة الحافلات المركزية، ووقف ينتظر حافلة شركة (دان) رقم (90) التي تعمل على خط رقم (5) والذي يبدأ من بلدة حولون بجنوب تل أبيب وينتهي بمنطقة الفنادق في هيرتسليا مروراً بساحة ديزنغوف، لم يستطع إخفاء البسمة التي زينت شفتيه والفرحة التي غمرت طلعته البهية. ولم يكن أحداً يدرك سر هذه الفرحة أو مناسبتها، فهو الوحيد الذي يحسن الإدراك وقد تجمع أمامه المئات إن لم يكن الألوف من الملائكة الأطهار في هذا اليوم الجميل يزفونه بعد أن استنفرت حور الجنة وعرائسها وتنافسن للظفر بالشهيد العريس.



وقفت حور العين في طابور ممتد ترقب عريسها وتلوح له وهو يقفز الدرجات صعوداً في حافلة الشهادة الأجمل في نحو الساعة الثامنة وخمس وخمسين دقيقة من صباح يوم الأربعاء الموافق 19 تشرين أول (أكتوبر) 1994. وسارت الحافلة في طريقها المعتاد، وقد أخذ الشهيد الحي مقعده في الصف السادس خلف السائق، وخلال دقائق معدودة، وصل الموكب ساحة ديزنغوف، ولاحت الفرصة الذهبية للارتقاء حين اقتربت حافلة أخرى، وأضحت في محاذاة الحافلة رقم (90). وعندئذ هتف الشهيد بالنداء الخالد (الله أكبر) ثم فجر عبواته الناسفة لتتحول الحافلة إلى كومة من الحطام بعد أن تطاير سقفها كلياً وتناثرت قطع من الحديد الملطخة بالدماء في دائرة قطرها يتجاوز الخمسين متراً. ولم تسلم المحلات والمخازن والمقاهي، فقد أحدث الانفجار أضراراً جسيمة وفادحة في المنطقة التي اهتزت وتصاعد عمود من الدخان إلى علو ستة أمتار بفعل الحريق الذي اندلع في الحافلة، ويبدو أن العملية بما انطوت عليه من خسائر بشرية (22 قتيلاً و 47 جريحاً) ومادية (سبعة ملايين شيكل - مليونين وثلاثمائة ألف دولار أمريكي)، لم تهز تل أبيب فحسب، بل جميع أنحاء الكيان الصهيوني حيث أصيب الناس بالذهول وهرعوا في بعض المدن إلى الشوارع في تظاهرات صاخبة كانت تنادي بالموت للعرب والقضاء على حركة حماس، وتطالب باستقالة اسحق رابين ومحاسبة القيادات العسكرية والأمنية على التقصير(96).



ولأن عملية الثأر الخامسة لشهداء الحرم الإبراهيمي شكلت واحدة من أكثر العمليات قوة وتأثيراً ونجاحاً خلال ثلاثين عاماً من الكفاح الفلسطيني المسلح، فقد سعى رابين الذي قطع زيارته لبريطانيا فور سماعه الخبر وعاد لتل أبيب ليعقد اجتماعاً طارئاً لقادة الأجهزة الأمنية ومن ثم اجتماع للحكومة لدراسة الخطوات والإجراءات المضادة لحركة حماس. ومن المفارقات العجيبة، أن رابين لم يتخل عن غطرسته ولم يتواضع في ادعاءاته الزائفة حين حسم النصر لصالحه في معركته مع المهندس بحجة أنه ودولته كانوا الفائزين دوماً في معاركهم مع أعدائهم. ولكن رئيس الحكومة الإسرائيلية، لم يستطع المكابرة طويلاً، فها هو يعلن انكساره في نهاية الخطاب القومي الذي وجهه للشعب، ليأتي توعده على شكل استجداء: «أقول للخاطفين ومفجري القنابل، إن قوات الأمن سيمسكون بكم عاجلاً أو آجلاً»(97).



11- استنفار لمواجهة الهدف المركزي الأول



تجنبت السلطات الإسرائيلية الإعلان عن الإجراءات التي تنوي اتخاذها ضد كوادر ونشطاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وإن كانت قد لوحت بتوسيع إطار حملة الاعتقالات والمداهمات لتشمل كافة المجالات والأجهزة التي تتبع الحركة بهدف ضرب وتقويض البنية التحتية وشبكة الدعم والمساندة التي تعمل في خدمة الجهاز العسكري. فعندما سئل شمعون بيريز الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية عن هذه الخطوات، أجاب: «لن نكسب شيئاً الآن إذا أعلنا عن أي شيء أو إذا خضنا في التفاصيل لأن هذه الإجراءات سرية بطبيعة الحال»(98).



وبعيداً عن تبريرات السرية، ومفردات الخصوصية التي حاول القادة السياسيون والعسكريون تقديمها، فإن سلطات الاحتلال لم تترك أصلاً وسيلة أو إجراء إلا اتخذته وطبقته على أرض الواقع في مواجهة كتائب عز الدين القسام. وبالتالي، لم يعد هناك ما يمكن اعتباره جديداً أو مستحدثاً. ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن لقاء قادة الأجهزة الاستخبارية وضباط الجيش في مختلف المستويات استهدفت شيئاً واحداً وضعته كهدف مركزي، ألا وهو المهندس، الذي اعتبرته عدو الدولة العبرية الأول والأخطر والأعنف منذ زمن طويل. فها هو معاون رئيس الحكومة الإسرائيلية يحضر اجتماعاً مشتركاً لرؤساء الموساد والشاباك وآمان ثم يخرج ليعلن بأن هؤلاء: «قرروا تلقين هؤلاء الأوباش درساً لن ينسوه أبد الدهر». ويضيف الجنرال الإسرائيلي في لهجة اتسمت بالتحدي: «إن مسألة وضع يدنا على يحيى عياش هي مسألة وقت فقط، ولذلك فهو يعتبر في عداد الأموات. وإن كان قد نجح في كل مرة بالإفلات بطريقة عجيبة، فإننا نقول له إن يد إسرائيل طويلة جداً، وقادرة على الوصول إليه في أماكن اختبائه الأكثر سرية.. من الآن فصاعداً لن يشعر بالأمن والآمان في كل مكان يتواجد فيه»(99).



لم تكن تلك التصريحات المتوعدة للاستهلاك الإعلامي، فقد تحركت قوات الجيش وحرس الحدود والشرطة وكافة أجهزة الاستخبارات على أكثر من صعيد وباتجاهات عدة بحثاً عن المهندس حيث شنت حملة اعتقالات ومداهمات تخللها نصب كمائن وشراك. واعتبر المحللون العسكريون والأمنيون الإسرائيليون تلك الحملة التي ضمت الآلاف من العسكريين والمخبرين بأنها الأوسع والأعنف في تاريخ الدولة العبرية. ولئن تسرب القليل من المعلومات حول هذه الحملة، فإننا سنذكر ما تناقلته وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية. ففي رافات، مسقط رأس المهندس، دفعت سلطات العدو بقوات كبيرة من الجيش وحرس الحدود ترافقها وحدات مستعربين وضباط من الشاباك إلى الجبال والمناطق المحيطة بالقرية. وأعادت تلك القوات نصب النقطة العسكرية الموجودة على مدخل القرية في اليوم التالي للعملية البطولية في تل أبيب. وتمكنت قوات الاحتلال من مراقبة الحركة داخل رافات عبر هذه النقطة(100). وحين أشارت تقارير وحدات المستعربين السرية بأنها تشتبه بوجود المهندس في منزله، داهمت قوات كبيرة من المظليين المنزل يوم السبت الموافق 29 تشرين أول (أكتوبر) 1994 وأجرت فيه عملية تفتيش دقيقة وواسعة حطمت خلالها معظم محتويات المنزل.



وسارت الأمور على نفس المنوال في قراوة بني حسان باعتبارها المستودع الرئيس وخزان المجاهدين الذي لا ينضب والذي يمد المهندس بمقاتلين ومساعدين حسب تقرير الشاباك، إذ داهمت مجموعة من الوحدات الخاصة ترافقها (15) دورية عسكرية القرية في نحو الساعة السادسة والنصف من صباح يوم السبت الموافق 22 تشرين أول (أكتوبر) 1994 وحاصرت محلاً تجارياً وسط القرية وحطمته واعتقلت محمد مصطفى مرعي (25 عاماً) بتهمة المساعدة في تقديم مأوى للمهندس وللشهيد صالح صوي ونقلهما في سيارته وتوفير آلة تصوير استخدمت في إعداد شريط الفيديو الخاص بالشهيد الحي. كما اتهمت الشاباك محمد مرعي بأنه جهز أربع صور فوتوغرافية وهوية إسرائيلية مزورة للشهيد صالح صوي وعمل كقناة لنقل المواد المتفجرة للمهندس. واعتقل العدو أيضاً بهجت عاصي (28 عاماً) وهو ابن عم الشهيد القائد أبو جهاد في نفس اليوم، وقدمت الشاباك في لوائح الاتهام التي وجهت إليه تجهيز منزله كقاعدة للمهندس والاشتراك بالتخطيط لعمليتين استشهاديتين كانتا من المفترض أن تستهدفا سوق بتيح تكفا وحافلة ركاب إسرائيلية قرب نابلس(101).



وتوالت الاعتقالات المنظمة لمن يشتبه بأنه قدم العون أو المساعدة أو الملجأ، وحتى من تصادف أن التقى دون ترتيب مسبق بالمهندس، وقد اعترفت الشاباك، بأن التقدم الذي أحرزته في مطاردتها للمهندس جاء بعد أن خولت اللجنة الوزارية لشؤون جهاز المخابرات التي يرأسها اسحق رابين شخصياً لمحققي الشاباك باستخدام أساليب الضغط والتعذيب الجسدي بشكل مكثف ومتزايد مع معتقلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الذين تتوفر شبهات قوية تؤكد أن بحوزتهم معلومات حول المهندس. واستناداً لما ذكرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، فقد أسهم استخدام هذا الأسلوب من الضغط الجسدي المشدد في انتزاع اعترافات من بعض المعتقلين قادت لاعتقال آخرين، ومن بينهم (43) عضواً من مجموعات الرصد والاستطلاع والخدمات والتموين الذين عملوا بخدمة المهندس بشكل أو بآخر في منطقة شمال الضفة الغربية(102).



وبطبيعة الحال، لا يمكن التسليم بهذه المعلومات أو اعتبارها من المسلمات، إذ أن الدعاية الصهيونية درجت على تضخيم إنجازات مخابراتها وجيشها وشن حرب نفسية بهدف النيل من عزيمة وقوة الطرف المقابل. فمن بين العشرات الذين ادعت سلطات الاحتلال أنهم من مساعدي المهندس، لم تقدم للمحاكمة سوى سبعة من بينهم الشيخ صبري حسين موقدة (65 عاماً) وهو إمام مسجد قرية الزاوية واثنان من أبنائه الذين اعتقلوا يوم السبت الموافق 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1994 بتهمة قيام الشيخ بتدريب المهندس على صناعة المتفجرات، في حين اتهم عصام ومعتصم صبري موقدة بتقديم المساعدة للمهندس وصالح صوي. كما أصدر القضاة العسكريون حكماً بالسجن ست سنوات منها ثلاثة سنوات بالسجن الفعلي على حازم فايز عمر فيومي (22 عاماً) وعبد الرحمن محمد سعيد حامد (27 عاماً)، والاثنان من مدينة قلقيلية بتهمة التعاون مع المهندس وتقديم خدمات للشهيد الحي(103).



ولا يقتصر أمر الحرب النفسية على عدد المعتقلين فحسب، بل إن قضية صمود هؤلاء المعتقلين وفاعلية إجراءات التعذيب الإرهابي الذي طبق عليهم تحتاج هي الأخرى إلى التوقف عندها. فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية بأن أعضاء مجموعات الإسناد والخدمات الذين قالت الشاباك أنها نجحت في كشفهم واعتقالهم قد صمدوا أمام المحققين رغم المعاناة والعذاب الذي انصب عليهم، ولذلك -تضيف يديعوت احرونوت- وصل التحقيق معهم إلى طريق مسدود على الرغم من توفر معلومات لدى الشاباك تدينهم. وقد اتضح لمحققي المخابرات الإسرائيلية أن معظم المعتقلين اجتازوا فصلاً خاصاً تدربوا فيه على كيفية الصمود في التحقيقات التي تجريها الشاباك(104). ونتوقف عند هذه النقطة، ذلك أنها تعطي انطباعاً مهماً وصورة ناصعة جديرة بالدراسة حول نوعية الرجال الذين اعتمد عليهم المهندس حتى وإن كانت مهمتهم بسيطة أو ثانوية في مفهوم الحياة العصرية. فقد كانوا عند حسن ظن قائدهم وإخوانهم، فلم يخذلوهم ولم يقدموا للعدو منفذاً.



لم تكن سلطات الاحتلال لتكتفي بما حققته، إذ أن حملتها باتجاه المهندس لم تتقدم رغم هذه الإنجازات، وإن كانت قد أحدثت بعض الإرباكات في الخطط والبرامج لدى حركة المقاومة الإسلامية (حماس). ففي واحدة من فصول العلاقة القاسية التي نشأت بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والمهندس، توسعت دائرة المطاردة لتشمل مختلف أنحاء الضفة الغربية. ففي مدينة نابلس، أجرت قوات الاحتلال عمليات مداهمة وتفتيش للمنازل طالت أيضاً عدد من قرى ومخيمات المدينة، وكان جنود العدو يستجوبون سكانها عن علاقتهم بالمهندس. وجرت أحداثاً مماثلة في سلفيت وقلقيلية حيث حوصرت المنازل في المدينتين وشنت قوات الاحتلال حملة تفتيش من منزل إلى آخر بحثاً عن يحيى عياش. كما قامت قوات أخرى بحملة اعتقال وتفتيش في مدينة طولكرم وقرى حبلة وكفر لاقف شملت منازل ومساجد اشتبه العدو أن المهندس قد يستخدمها كمخبأ له.



ووصل الإرهاب الصهيوني إلى مدن جنين ورام الله وبيت لحم في تصعيد ملفت للعيان، وكأن الدولة العبرية قد خرجت بجيشها وأجهزتها وكوادرها وطاقاتها وراء المهندس، إذ لم يبق إلا أن توجه النداء للجمهور اليهودي بمؤازرة قواته ومعاونتها في تلك العملية. ومع اتساع إجراءات البحث، توسعت حملة الاعتقالات، وأضحت تجري بطريقة عشوائية بعد أن كانت وفق قوائم معدة مسبقاً، ووصل عدد المعتقلين إلى أكثر من ألفين، وهذا عدد لم تشهده الضفة الغربية في تاريخها. واعترفت سلطات الاحتلال العسكرية بأن حملتها الرامية لإلقاء القبض أو قتل يحيى عياش قد امتدت إلى المناطق المحتلة منذ عام ،1948 بعد أن انتشرت الإشاعات داخل المجتمع الإسرائيلي بأن المهندس يختبىء هناك متقمصاً شخصية حاخام يهودي(105).



وقادت الشائعات وهوس المخبرين السريين آلاف الجنود وضباط الشاباك ترافقهم طائرة مروحية إلى إجراء عملية تمشيط واسعة يوم السبت الموافق 22 تشرين أول (أكتوبر) 1994 استغرقت ست ساعات. واستهدفت ست منازل مبنية بالحجارة في قرية بيت تعمر وهي قرية تقع على تل قرب بيت لحم، وغادر الجنود بعد «عملية بحث غير مجدية عن والأماكن عياش» وفق العبارة التي رددها الناطق العسكري مراراً، بخفي حنين في صف طويل من المركبات العسكرية(106). وتكررت مثل هذه العملية في مخيمات نابلس الأربع وعدد كبير من القرى وخاصة قراوة بني حسان، وشملت عمليات التمشيط والتفتيش يوم الأربعاء الموافق 2 تشرين ثاني (نوفمبر) 1994 الكهوف الواقعة في جبال جرزيم وعيبال اللواتي يحطن بمدينة نابلس من الشمال والجنوب.



منذ العملية البطولية في تل أبيب، لم يعد جنود الاحتلال وأفراد المخابرات ووحدات المستعربين يفارقون نابلس وقلقيلية والقدس ورام الله والخليل. وباعتراف الجنرال بنيامين بن اليعيزر الذي كان يشغل منصب وزير البناء والإسكان في حكومة اسحق رابين بأنها «حرب طويلة ومن يتعب أولاً سيكون الخاسر» فإن حادثة استشهاد الفتى مصطفى عاصي (16 عاماً) مساء يوم الاثنين الموافق 24 تشرين أول (أكتوبر) 1994 تدل بشكل واضح أن لغز المهندس قد أضحى كابوساً على جنود العدو الذين يطاردونه. ففي ظل أجواء التوتر والخوف التي انتشرت بين الآلاف من الجنود المنتشرين، قامت وحدة من المستعربين بنصب كمين عند مسجد قرية قراوة بني حسان بعد ورود معلومات بأن المهندس سوف يمر من هناك. وحين ظهر مصطفى عاصي، أطلق الجنود عليه النار وأصابوه في ظهره، فسقط عند باب بيته بعد أن مشى عدة أمتار. وعندئذ، ركض الجنود باتجاهه، وقالوا: «قتلنا المهندس». وعندما تبين لهم بأن مصطفى ليس المهندس المطلوب، بل صبي عابر سبيل، ألقى أحد المستعربين سلاحه وانفجر بالبكاء(107).



بإيجاز، لا يمكن إغفال التأثير الذي أحدثته الحملة الصهيونية ضد كوادر ونشطاء حركة حماس في الضفة الغربية على خطط الحركة وبرامجها، وبخاصة تلك التي تتعلق بالجهاز العسكري ومن ضمنه مهندسنا. ذلك أن الجهاد هو عمل مؤسسي يقوم على أكتاف وجهود المجموعة. ولأن يحيى عياش يمثل نموذجاً جديداً في العمل العسكري تخطيطاً وتنفيذاً ويتميز بكفاءته فيما يتعلق بتصنيع المتفجرات وتجهيز العمليات الاستشهادية وهو جانب كان مفقوداً في السابق، فقد ارتأت قيادة الحركة الإسلامية نقل المهندس إلى مكان جديد، أكثر أمناً حتى يتمكن من تنفيذ مشروعه الجهادي الجديد، ألا وهو توريث علمه وخبرته العسكرية إلى إخوانه حتى يتواصل الجهاد بنفس الوتيرة إذا ما غاب المهندس عن ساحة الصراع لسبب من الأسباب. ويستجيب الجندي لأمر قادته، ويغادر المهندس الضفة الغربية إلى قطاع غزة بعد أن أعاد ترتيب وتنظيم كتائب الشهيد عز الدين القسام في الضفة الغربية ووضع على رأس كل منطقة قائداً ومعاونين وقسم الاختصاصات وطرق الاتصال الآمن ونقل الوسائل القتالية والمجاهدين بين تلك المناطق وداخلها وعلاقتهم بالأجهزة الأخرى.

السيف عدي
07-03-2008, 08:53 AM
خامساً: جولات غزية

1- هجرة رجل جريء وشجاع

لم يكن أحد يتأثر بحساسية مفرطة تجاه المهندس بقدر ما كان يتأثر اسحق رابين الذي يضطلع بالمسؤولية المباشرة عن عمليات الموساد والشاباك بحكم توليه منصب رئيس الوزراء. ففي اجتماعه الدوري مع القيادة المشتركة لأجهزة الاستخبارات الثلاث في شهر آذار (مارس) من عام ،1995 ضرب رابين الطاولة بغضب شديد حين عرضت عليه الشاباك اعترافات وسام فرحات، وهو أحد الذين اعتقلوا على خلفية شاحنة تل السبع. فقد تضمنت تلك الأوراق استنتاجات وخلاصات توصل إليها الجنرال يعقوب بيرى (رئيس الشاباك) بأن يحيى عياش قد نجح في مغادرة الضفة الغربية ووصل إلى قطاع غزة. ولم يجد رابين إجابات صريحة ووافية عن التساؤلات التي أثارها حول هذا الموضوع. ورغم ذلك، فقد طالب بإصرار من رؤساء أجهزة الاستخبارات بتفسيرات واضحة حول الكيفية التي استطاع المهندس من خلالها أن يتجاوز آلاف المخبرين الإسرائيليين الذين كلفوا بمتابعته وعشرات الآلاف من الجنود وحرس الحدود ورجال الشرطة الذين انتشروا في الضفة الغربية وقطاع غزة وبحوزتهم صور ملونة ليحيى عياش بأشكال مختلفة (حليق وملتحي وبشارب وبغير شارب...) ولديهم أوامر عسكرية مباشرة بقتله فوراً وحال القبض عليه(108).

ولكن خبراء الأمن والاستخبارات الإسرائيليون هم أول من اعترف بأن (هجرة) المهندس إلى قطاع غزة وجه ضربة قاسية لمكانة الحكومة وسمعة القدرات الأسطورية لأجهزة استخبارات الدولة العبرية. ففي الوقت الذي يفتخر فيه كل إسرائيلي بمآثر الموساد والشاباك وآمان التي تضمنت اغتيال قادة بارزين في منظمة التحرير الفلسطينية وتدمير المفاعل النووي العراقي بالقرب من بغداد، وعملية الأماكن الفذة لرهائن طائرة الركاب الفرنسية المختطفة إلى عنتيبى بأوغندة، بدا ضرباً من المستحيل وصعباً على التصديق عند المواطن الإسرائيلي أن يحير قروي فلسطيني بنفر قليل من الأتباع أكبر العقول الاستخبارية في الدولة اليهودية.

أحد الخبراء الأمنيين الإسرائيليين لم يستطع أن يخفي إعجابه بالمهندس ليس بسبب مهارته في التخطيط وصناعة القنابل فحسب، وإنما بسبب مهارته في التخفي وقدرته على التفكير وحساسيته تجاه السرية. وينقل هذا الخبير، والذي لم تشر صحيفة الأوبزيرفر البريطانية في تقريرها المطول عن المهندس إلى اسمه أو رتبته، عن أحد المعتقلين الذين عملوا في خلايا عسكرية لحركة حماس كانت تتبع يحيى عياش بأنه مضت عدة شهور قبل أن يكتشف أن المرأة التي كانت تجلس في أحد الحقول بمنطقته هي في الحقيقة (المهندس).

تقارير الاستخبارات الإسرائيلية حول الصراع اللامنتهي والخفي مع المهندس كانت تتضمن معلومات تفصيلية اجتهد عملاؤها في الحصول عليها. ولأننا أمام طرفان لا يستهين أحدهم بالآخر، فإن طبيعة الحرب بين المهندس والشاباك لا بد أن تتضمن تسريب معلومات يراد منها التضليل وإبعاد الأنظار عن أمر معين.

وفي إطار عملية التضليل التي مارسها المهندس على أجهزة الاستخبارات، نقل أحد المجاهدين المعتقلين -بإيعاز من المهندس- بأن التخفي خلف حجاب امرأة، واحد من أكثر التشكيلات التنكرية المفضلة ليحيى عياش كونها تمكنه من عبور نقاط التفتيش العسكرية بسهولة كبيرة. ففي أوساط الرجال الفلسطينيين قلما تثير امرأة محجبة أثناء سيرها في شوارع رام الله مثلاً انتباه المارة(109).

عبقرية المهندس وشخصيته الأسطورية التي تكاد تخلط الحقيقة بالخيال إذا ما أُسقطت عليها معايير العصر الحديث تتقدم على أعتى العقول العسكرية وأكفأها في حرب العصابات. فالرجل رغم غموض هدفه من تسريب هذه المعلومات عند رفاقه في قيادة كتائب عز الدين القسام ومساعديه، كان يخطط للطريقة التي سينتقل من خلالها إلى قطاع غزة. وعندما نقارن الأسلوب الذي اختاره يحيى عياش للهجرة مع شخصية المهندس المثيرة، نجد أنفسنا أمام إنسان غير عادي بقدراته وجرأته وشجاعته. فقد رفض أن ينتقل في عتمة الليل كخفافيش الظلام أو يجتاز السلك الإلكتروني المحيط بقطاع غزة عن طريق المهربين وغيرهم، وإنما اختار طريقاً اعتاد المتميزون من قادة ومجاهدي كتائب عز الدين القسام سلوكه. وإن كنا لا نقلل من قدر أحد أو جهاده، فإنه حتى هؤلاء المتميزون لم يكونوا مطلوبين بالشكل الذي كانت عليه حالة يحيى عياش مع سلطات الاحتلال. وما نقصده هنا، حول الطريقة أو الأسلوب الذي اختاره المهندس في الهجرة إلى قطاع غزة، هو العبور بشكل رسمي وفي وضح النهار عبر حاجز ايرز الذي يمثل البوابة الشمالية الشرقية للقطاع مستخدماً سيارة تحمل لوحات إسرائيلية صفراء وهوية حاخام يهودي، وهذه بلا شك مجازفة خطيرة. ولأنها تمت، وبنجاح، فإنه يسجل للمهندس وكتائب عز الدين القسام القدرة على حفظ السر والكتمان، إذ استمرت قوات الاحتلال والشاباك في حملتها المكثفة للبحث عن يحيى عياش في الضفة الغربية.

وفي يوم جميل من أيام الشتاء المعتدلة، انطلق المهندس في سيارته باتجاه حاجز ايرز في رحلة حبس القساميون في الضفة الغربية وقطاع غزة أنفاسهم لساعات عديدة بانتظار كلمة السر ترد عبر الأثير من المجاهد البطل كمال كحيل -قائد الكتائب في المنطقة الشمالية من قطاع غزة الذي خرج بدوره من قاعدته لاستقبال المهندس في الطرف الثاني من الحاجز الإسرائيلي. وقد روى أحد المجاهدين الذين عملوا مع المهندس في قطاع غزة لمراسل صحيفة بريطانية كيف اجتاز المهندس حاجز ايرز، حيث كتب شيام بهاتيا وتحت عنوان (بطل إرهابي يترصد إسرائيل) ما يلي: «بكل أدب، رد الجنود الإسرائيليون عند نقطة التفتيش في حاجز إيرز على تحية الحاخام الإسرائيلي، الذي اعتمر قلنسوة ضيقة -شالوم- وهم يلوحون لسيارته السبارو بالعبور إلى داخل مناطق الحكم الذاتي، معتبرين إياه واحداً من أربعة آلاف مستوطن يقطنون القطاع، خاصة وأنه لم يثر انتباه أي منهم. ولم يعلموا، أن اليهودي المبتسم وصاحب العيون الغائرة هو يحيى عياش، المطلوب الفلسطيني الأول، والذي يعتقد أنه وراء سلسلة من العمليات الانتحارية أسفرت عن مصرع 70 إسرائيلياً وجرح عشرات آخرين. فعندما اختار عياش التخفي في صورة حاخام يهودي حرص على التأكد من كتابة كل الشعارات الضرورية على سيارته، من قبيل: الله أعطى هذه الأرض لليهود، والجولان لنا، والخليل مدينة يهودية. كما وضع عياش رشاش العوزي بشكل ظاهر للعيان في المقعد المجاور للسائق. وعلى الرغم من مزاج التصالح بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإن مجرد ذكر اسم المهندس يثير موجات من الذعر في صفوف الإسرائيليين. وبالنسبة للعديد من أبناء شعبه فإن عياش قدم للأهداف والقضية الفلسطينية خلال ثلاث سنوات، ما لم تستطع م.ت.ف تقديمه خلال ثلاثة عقود»(110).

2- في حي الشيخ رضوان

لم يكد المهندس يستقر في حي الشيخ رضوان حيث يتخذ القائد كمال كحيل إحدى قواعده السرية بين أهله الذين يعرفون بتأييدهم ومساندتهم لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تمهيداً لدراسة الأوضاع ميدانياً بهدف اختيار أفضل وأنجع الخطط لتنفيذ الأهداف التي من أجلها وفد لقطاع غزة، حتى وجد المهندس نفسه أمام حالة استثنائية تتطلب منه التدخل بشكل مباشر ورد كيد الصهاينة إلى نحورهم بجواب عملي على رسالتهم الدموية. فقد اغتالت الشاباك المجاهد هاني عابد -أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة- بتفجير قنبلة متقنة الصنع وضعت خلف مقعد السائق في سيارته أثناء توقفها خارج مبنى كلية العلوم والتكنولوجيا في خان يونس، حيث يعمل كمدرس لمادة الكيمياء. وكان واضحاً بأن اغتيال عابد الذي تم يوم الأربعاء الموافق 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1994 يشكل (رسالة) أرادت الشاباك إسماع صداها لقادة حركة حماس، إذ علق إليكس فيشمان -المحلل العسكري في صحيفة معاريف الإسرائيلية- على عملية الاغتيال ومغزى اختيار أحد قادة الجهاد الإسلامي بدلاً من استهداف حماس بعد أن أوحت حكومة اسحق رابين بنيتها تنفيذ سلسلة اغتيالات في صفوف قادة حماس بعد عملية تل أبيب، قائلاً: «إن اغتيال عابد جاء ليؤكد أن قواعد اللعبة قد تغيرت، فهذه العملية تنطوي على عنصر عقوبة شخصية مباشرة يقول: إن من له ضلع في الإرهاب سيدفع الثمن. وهذه هي الرسالة التي حرصت إسرائيل على نقلها لحركة حماس، الفصيل الأكبر والأنشط، عن طريق حركة أصغر تعتقد إسرائيل أنها أقل قدرة على الرد. ومن جانب آخر، فإن إسرائيل لم توجه الضربة لحركة حماس مباشرة، رغم التهديدات الأخيرة، فهذا يعود إلى حرص إسرائيل على عدم توسيع نطاق حربها مع حركة حماس الأقوى من حركة الجهاد الإسلامي، ومقتل عابد جاء كرسالة عملية منها لزعماء في حركة حماس من أجل أن يأخذوا تهديداتها هذه المرة مأخذ الجد». وقد أكدت الحكومة الإسرائيلية ما جاء في تحليل فيشمان حين وصف أوري درومي، المتحدث الرسمي للحكومة، مقتل عابد بأنه كان «رسالة من جانب من قام بقتله»(111).

وفي رد فعل طبيعي، بدأ التوتر في قطاع غزة شديداً، وظهر جلياً أثناء تشييع جثمان الشهيد هاني عابد إذ أن مشاعر الغضب والتحفز قد طغت على أحاسيس الحزن لدى آلاف المشيعين. وفي أجواء مثل تلك، لم تغب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بطبيعة الحال، بل إنها كانت حريصة على إظهار مساندتها ووقوفها إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي. وظهر ذلك جلياً من خلال البيان المشترك الذي توعدت فيه الحركتان بأن تجعلا العدو الصهيوني يدفع ثمن هذه الجريمة(112)، إلى جانب تنظيم مظاهرة ضخمة شارك فيها نحو (18) ألف فلسطيني انطلقت من مسجد فلسطين في مدينة غزة عقب صلاة الجمعة أطلق فيها القائد كمال كحيل والمجاهد حاتم حسان النار في الهواء تكريماً للشهيد هاني عابد(113). ولم تكتف حركة حماس بهذه الفعاليات فحسب، بل اتبعتها بما هو أكبر وأقوى تأثيراً على الكيان الصهيوني. فقد طلب المهندس من القائدين كمال كحيل ومحمد الضيف رصد المواقع العسكرية والاستيطانية الإسرائيلية وترشيح أهداف مختارة بعناية بحيث يُحدث التعرض لها آثاراً حسية ومعنوية لدي العدو تتناسب مع عملية اغتيال القائد هاني عابد.

لم تكن تلك المهمة بالأمر السهل، في ضوء استنفار القوات الإسرائيلية وإعلانها حالة الطوارىء في صفوف قواتها العاملة في كافة أرجاء القطاع وداخل المستوطنات اليهودية فيه. ورغم هذه الحقيقة، رشحت وحدات الاستطلاع والرصد عدة أهداف منها ما هو عسكري كالنقطة العسكرية عند مفترق مستوطنة نتساريم ومنها ما هو استيطاني كغوش قطيف جنوب قطاع غزة. وبعد موازنة بين تلك الأهداف، استقر رأي المهندس على المباشرة بالتخطيط لتنفيذ عملية استشهادية ضد ضباط قيادة كتيبة المظليين المرابطين في مفترق نتساريم. ولإبعاد العيون عن عملاء الاحتلال، طلب المهندس من المجموعات التي كانت تعمل بإمرة القائد كمال كحيل تسريب معلومات استخبارية حول نية كتائب الشهيد عز الدين القسام تنفيذ هجوم استشهادي بواسطة سيارة ملغومة ضد إحدى المستوطنات اليهودية في منطقة غوش قطيف. وبالفعل، عززت قوات الجيش ووحدات المخابرات الإسرائيلية من تدابيرها وحراستها حول تلك المستوطنات، وعلى الطرق المؤدية إليها. كما قامت قوات الاحتلال بإجراء تفتيشات دقيقة جداً في سيارات المواطنين الفلسطينيين المارة على الطرق المؤدية لغوش قطيف أو المحاذية لها(114).

المعلومات التي جمعتها مجموعات الرصد التابعة للكتائب حول مفترق نتساريم دلت بأن الهدف قد تم تحصينه بمكعبات إسمنتية إلى جانب توسيع المنطقة الأمنية المحيطة والإعلان عن حالة الطوارىء في صفوف كتيبة المظليين. وبعد دراسة المهندس لتلك المعطيات، وجد أن استخدام سيارة مفخخة للهجوم يعد مجازفة غير مضمونة النتائج، خاصة وأن المركبات المسافرة على الطريق المؤدي للمفترق تسير ببطء شديد في انتظار الفحص الأمني عند الحاجز الإسرائيلي. وفي ضوء هذا الواقع، أخذ مهندس الأجيال يفكر بوسيلة يستطيع من خلالها إيصال قنبلة بشرية (استشهادي يحمل حقيبة متفجرات) إلى داخل الموقع العسكري بالمفترق متجاوزاً رتل السيارات ودون أن يثير شبهة أو انتباه جنود الحراسة في برج المراقبة. ولم يطل الأمر، حتى توصل المهندس إلى مبتغاه، والتي اعترف العسكريون الإسرائيليون بأنه لم يخطر على بالهم مواجهة عملية استشهادية على دراجة هوائية(115).

ولم يكن الاستشهادي الذي تطوع لتلك المهمة سوى الشيخ هشام إسماعيل عبد الرحمن حمد (أبو محمد) البالغ من العمر (21) عاماً والذي يعمل إماماً لأحد مساجد حي الشيخ رضوان، وهو أصغر أشقائه الستة سناً. ولأن اليوم المفترض لتنفيذ العملية لم يكن عادياً، بالنسبة للشيخ هشام، فقد طلب من والدته حين توجه للمسجد كعادته لأداء صلاة الفجر بأن تباركه وتدعو له بالجنة. وبعد الصلاة، التحق شيخنا بإخوانه حيث تم تدريبه على تشغيل المتفجرات وطريقة الوصول للموقع والنقطة العسكرية المقصودة، وهي تجمع ضباط الكتيبة. وعاد الشيخ إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، ثم ركب الدراجة الهوائية واتجه نحو المكان المعد لاستلام الحقيبة التي أعدها المهندس والتي احتوت على حزام من المتفجرات شديدة الانفجار تزن نحو عشرة كيلوجرامات(116).

بناء على التعليمات والخطة المعدة، غادر الشيخ هشام حي الشيخ رضوان ماراً ببيارات البرتقال المجاورة، ومن هناك صعد إلى الطريق الرئيسي المؤدي للمفترق. وتقدم المجاهد بدراجته دون أن يثير الشبهات عند أحد، وتابع طريقه نحو الضباط الإسرائيليين الذين كانوا يصدرون تعليماتهم إلى الجنود لاتخاذ جانب الحذر من عمليات متوقعة ويرشدونهم حول كيفية مواجهة مظاهرات غضب فلسطينية قد تصل حتى المفترق. ومن بين السيارات، انطلق الشاب الأسمر بسرعة فائقة نحو هدفه في نحو الساعة الثانية إلا ربع من بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1994. وفجر البطل عبواته الناسفة على بعد أقل من متر من الضباط الثلاثة (مقدم ونقيب وملازم أول) فقتلوا على الفور وأصيب ستة من الجنود وأفراد حرس الحدود، اعتبر الأطباء إصابة اثنان منهم خطيرة، وأحدهم أصيب بشلل جسدي كامل. وعلى الأثر، هرعت قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي إلى المكان، وأغلقته، ومنعت أحداً من الوصول إليه، وأشرف قائد المنطقة الجنوبية الجديد، الميجر جنرال شاؤول موفاز على عمليات التمشيط التي جرت في محاولة لتقصي أي أثر يقود إلى من أرسل الشهيد هشام حمد(117).

كانت العملية بما أحدثته من خسائر بشرية ومادية، وما أثارته من مناقشات وتصريحات حول العبء الأمني الكبير الذي يقع على الجيش الإسرائيلي نظير قيامه بحماية وحراسة المستوطنات، بالإضافة إلى اهتزاز الروح المعنوية لدى الصهاينة، رداً مناسباً على جريمة اغتيال الشهيد هاني عابد. وهذا ما دفع اسحق رابين ونائبه، شمعون بيريز على انتقاد هبوط الروح المعنوية وتآكل الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني، إذ قال رابين خلال لقاء عقده مع الصحفيين: «كانت الكوارث والعمليات تعطينا المناعة وترص صفوف الجمهور، أما اليوم فلست متأكداً من ذلك، إذ أن الجمهور الإسرائيلي ليس لديه مناعة ضد ظاهرة العمليات الانتحارية». كما حذر شمعون بيريز في تعليقه الجمهور الإسرائيلي من التعامل مع العملية الاستشهادية في نتساريم بروح ونفسية مهزومة إذ «إننا نتعامل مع منظمة سرية بالغة الخطورة لديها كثير من المهاجمين الانتحاريين في صفوفها» على حد تعبيره(118).

3- تحية عسكرية لعماد عقل

مثلت عملية الشهيد البطل هشام حمد في مفترق نتساريم بداية مرحلة جديدة ليحيى عياش، مهندس العمليات الاستشهادية الأول في فلسطين. وهذه البداية لا تقتصر على كون العملية، هي الأولى التي يشرف على تنفيذها في قطاع غزة فحسب، بل لكون المهندس قد اتفق مع قيادة الحركة الإسلامية في القطاع بألا تعلن كتائب الشهيد عز الدين القسام أو حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن تبني العمليات الاستشهادية التي تنفذ في قطاع غزة أو تنطلق من هناك. وكان البعد الأمني لهذا الموضوع واضحاً في هذا الاتفاق، إذ أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لم تكن على علم بأي شكل من الأشكال -حتى الأسبوع الرابع من آذار (مارس) 1995- بوجود المهندس في قطاع غزة، وكان آلاف الجنود والمخبرين ورجال الشرطة يبحثون عنه كما أشرنا في الضفة الغربية.

ويعود المهندس بنا إلى حي الشيخ رضوان حيث اجتمع مع مساعديه والقائد كمال كحيل لتقييم الهجوم الاستشهادي في مفترق نتساريم ودراسة الآثار والتوقعات المحتملة لردود الفعل الإسرائيلية، وتحرك أجهزة أمن واستخبارات شرطة الحكم الذاتي بحثاً عن الخلايا التي تقف وراء الشهيد هشام حمد. وفي ضوء التقارير الواردة من جهاز الأمن التابع لحركة حماس ومجموعات الرصد السرية في كتائب الشهيد عز الدين القسام، وجدت الكتائب بأن الوضع يتطلب نقل قاعدة المهندس إلى المنطقة الجنوبية من قطاع غزة (خان يونس - دير البلح - رفح)، خاصة وأن شرطة الحكم الذاتي قد ركزت مجهوداتها على مدينة غزة والمخيمات المحيطة بها.

لم تكن أجواء خان يونس غريبة على يحيى عياش، فقد عاصر الكثير من مجاهديها الذين وفدوا إلى الضفة الغربية مثل عبد الرحمن حمدان وإبراهيم سلامة ومحمد شهوان وغيرهم. كما أن صديقه القديم، محمد الضيف (أبو خالد) الذي وفد أيضاً إلى الضفة وعمل مع المهندس في أوقات سابقة، يقف اليوم على رأس الجهاز العسكري لحركة حماس في المنطقة. وسوياً، بدأ القائدان القساميان بتدريب وتأهيل المرشحين للعمل الجهادي إلى جانب وضع الخطط والتفاصيل الدقيقة لتنفيذ عمليات عسكرية تستهدف منشآت عسكرية وأهداف استيطانية ليس في قطاع غزة فحسب، وإنما في القدس والمناطق المحتلة منذ عام 1948 بالتعاون مع المجموعات التي نظمها المهندس في الضفة الغربية قبل مغادرته.

«قتل اليهود عبادة نتقرب بها إلى الله» عبارة كان الشهيد القائد عماد عقل يرددها في مجالسه وأمام إخوانه، ولئن غادر عماد مبكراً بعد أن ساهم في وضع القواعد الأولى وأساسات البناء السليم لكتائب عز الدين القسام، فإن آثاره وجهوده ما زالت راسخة يحفظها الصغير قبل الكبير والشاب قبل الشيخ. ولذلك، لم يكن مستهجناً أن يحتشد ما يزيد عن سبعين ألف شخص في حي الشجاعية الذي تشرف بإيواء القائد الشهيد في آخر أيامه، للمشاركة في المهرجان الإسلامي الكبير الذي نظمته حركة حماس في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده. ولأن عماد الفكر والممارسة والجهاد لم يمت، والشعب لم ينس ابنه البار حين هتفت الجماهير المحتشدة بصوت واحد كالهدير (تحية للكتائب، عز الدين) فإنه من باب أولى أن تتقدم كتائب الشهيد عز الدين القسام لتكون في طليعة الصفوف عند أداء التحية للبطل في ذكرى رحيله.

تحية الكتائب لم تكن تحية تقليدية يطلق خلالها مجاهدون ملثمون عيارات نارية في الهواء خلال مهرجان التكريم. فقد اتفق المهندس مع أبو خالد على إحياء احتفال القساميين بطريقة تليق بمآثر الشهيد عماد عقل. ولم تكن تلك الطريقة سوى المزاوجة بين الرشاش والعبوات الناسفة.

فالأولى، تمثل السلاح الرئيسي الذي استخدمه عماد وتميزت به عمليات الكتائب منذ انطلاقتها وحتى العام ،1993 بينما السلاح الثاني يمثل التطور الذي وصلت إليه حركة حماس وعنوان النجاح الذي بدأ يرافق الكتائب منذ بداية العام 1994. وأما الهدف، فقد كان سيارة جيب عسكرية تقوم بأعمال الدورية على طول السلك الحدودي الذي يفصل بين مدينة رفح وجمهورية مصر العربية. وبعد أن صمم المهندس ثلاث عبوات ناسفة تنفجر بواسطة جهاز تحكم عن بعد، قامت إحدى المجموعات القسامية بوضع تلك العبوات التي قدر خبراء سلاح الهندسة في الجيش الإسرائيلي قوتها بما يعادل انفجار ست قنابل يدوية في طريق الدورية القريب من بلوك (ج) بمخيم تل السلطان. وعند مرور السيارة العسكرية في حوالي الساعة الخامسة وسبع دقائق من صباح يوم الخميس الموافق 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1994 فجر المجاهدون العبوات الناسفة ثم أطلقوا زخات كثيفة من الرصاص باتجاه الجيب الذي دمر نهائياً جراء الانفجار مما أدى إلى مقتل أو إصابة العسكريين الثلاثة الذين كانون داخله(119).

وعلى الأثر، هرعت قوات كبيرة من جنود الاحتلال لتغلق المنطقة وتمنع الاقتراب منها ، فيما قامت الرافعات بنقل الجيب المدمر وإزالة الآثار. وقد اعترف المتحدث العسكري الإسرائيلي بمقتل ضابط برتبة كابتن، وضابط صف برتبة رقيب أول بينما أصيب ثالث بجروح بالغة(120).

4- أول ضابط طيران في الكتائب

لا بد من الإقرار بمقدرة وإمكانيات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فتلك الأجهزة أدركت السياسة الجديدة للمهندس ورفيقه. ولذلك، أوعزت لقوات الجيش والشرطة بالاستمرار في إجراءاتها الاحترازية والإبقاء على حالة الاستنفار واليقظة وبخاصة في الأماكن الحساسة والمهمة. وظهر ذلك بوضوح في مدينة القدس على وجه التحديد، فقد حذر وزير الشرطة الإسرائيلية من مغبة التراخي أو ترك ثغرة مفتوحة في جدار الأمن الذي أقامته الوحدات التابعة لوزارته بالمدينة. وإن كان موشيه شاحل قد توقع في سياق تحذيره بأن تنجح الكتائب القسامية في تنفيذ عملية كبيرة في القدس، وأن القضية هي مسألة وقت فقط(121)، فإن هذا التحذير لم يحل دون استمرار المهندس في وضع اللمسات الأخيرة في خطته الجديدة والتي تستهدف ضباط وطواقم الجنود العاملين في سلاح الطيران الإسرائيلي الذين يتجمعون في محطة كبيرة لنقل الركاب تقع قبالة مركز المؤتمرات الرئيسي وعلى بعد بضعة أمتار من مباني الكنيست عند مدخل القدس الغربي. ويستقل هؤلاء الضباط حافلة ركاب تابعة لشركة إيجد تعمل على الخط رقم (23) الذي يمر عبر الطريق السريع المؤدي إلى مدينة تل أبيب. وبعد أن رتب المهندس كافة الأمور المتعلقة بتفاصيل العملية، ابتدأ من تجهيز عبوة ناسفة تزن عشرة كيلوجرامات وإجراء الاتصالات مع المجاهد حاتم إسماعيل الذي أبقاه في المدينة المقدسة كضابط ارتباط لتوفير بدلة عسكرية مشابهة لما يستخدمه جيش الاحتلال وانتهاء باختيار موعد التنفيذ وطريقتها، حيث طلب من القائد أبو خالد أن يرشح له أحد المجاهدين لتنفيذ العملية. ولم يكن المجاهد المرشح سوى البطل أيمن كامل جمعة راضي (21 عاماً) وهو أحد شباب مسجد الشافعي بمخيم خان يونس الذين شاركوا بفعالية خلال الانتفاضة المباركة حتى أنه أصيب في إحدى المواجهات بعيار ناري في قدمه. ورغم أنه كان معروفاً كأحد نشطاء حركة حماس، إلا أنه التحق بشرطة الحكم الذاتي في أول دفعة لها وعمل في مركز شرطة الرمال بمدينة غزة كشرطي مرور(122).

ويغادر المجاهد أيمن راضي موقعه يوم الاثنين الموافق 19 كانون أول (ديسمبر) 1994 ليلتحق بالقاعدة السرية للمهندس حيث تم تدريبه على تشغيل العبوات الناسفة. كما وضع المهندس أمامه المخطط التفصيلي للعملية، وشرح له طريقة الخروج من قطاع غزة وكيفية الاتصال بالمجاهد حاتم إسماعيل بمدينة القدس. وركز المهندس في توجيهاته على ضرورة الالتزام بالسرية المطلقة وعدم التحدث عن العملية أو أي أمر يتعلق بها مع الأصدقاء والمقربين وحتى الأهل والوالدين. وعلى الرغم من الحصار المفروض على الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن مجموعات الإسناد التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام تمكنت من تحقيق إنجاز استخباري وأمني حين استطاعت إيصال البطل أيمن راضي إلى قلب التجمعات الإسرائيلية في مدينة القدس يوم الجمعة. وهناك، قام المجاهدان حاتم وأيمن بالتجول في المنطقة ورصد الهدف والتعرف على موقع الهجوم ميدانياً.

«وداعاً يا أهلي ويا أحبائي، فأنا سأمضي إلى الجنة مع الحور العين بعد أن أطرق أبوابها بجماجم بني صهيون.. وداعاً شباب الكتائب.. أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير»(123). بهذه الكلمات، طوى الشهيد أيمن راضي صفحة مشرقة من حياته عندما كان على موعد مع الشهادة. ففي صبيحة يوم الأحد الموافق 25 كانون أول (ديسمبر) ،1994 صلى ضابط الطيران الفجر ثم انطلق يحمل حقيبة المتفجرات نحو محطة انتظار الحافلات. وتكون المفاجأة غير المتوقعة أمام مجاهدنا حين يجد نفسه في مكان متأخر من طابور الضباط والجنود المصطفين بانتظار الحافلة. وعند وصول الحافلة في نحو الساعة السادسة والربع، حاول المجاهد الصعود إليها، غير أن كثافة الأعداد التي كانت أمامه حالت دون ذلك حيث قام السائق بإغلاق الأبواب بعد صعود نحو أربعين من ضباط وجنود سلاح الطيران الإسرائيلي. فلحق المجاهد بالحافلة التي سارت سبعة أو ثمانية أمتار بعيداً عن المحطة، وشغل جهاز التفجير ليدوي انفجار شديد دمر المحطة بشكل كامل وأصاب الحافلة الإسرائيلية بأضرار وركابها بحالة من الهلع الشديد. وقد أسفرت العملية عن مقتل وإصابة ثلاثة عشر ضابطاً وجندياً يخدمون في سلاح الطيران وأنظمة الدفاع الجوي(124).

تقارير الشاباك وخبراء المتفجرات أشارت بأن العبوة الناسفة التي حملها الشهيد أيمن راضي أعدت بطريقة مشابهة تماماً للعبوة الناسفة التي استخدمها الشهيد صالح صوي في عملية تل أبيب، وهذا يعني بأن المهندس يقف وراء إعداد وتنفيذ الهجوم الاستشهادي بالقدس. وعلى الأثر، شنت قوات الاحتلال حملة تفتيش مكثفة في منطقة نابلس اعتقاداً بأن المهندس ما زال مختبئاً هناك. وتركزت الحملة في بلدتي بديا وياسوف تم خلالها تفتيش عشرات المنازل بعد إخراج أصحابها منها، واعتدى الجنود الصهاينة بالضرب المبرح على العديد من الشبان بعد أن اتضح لهم بأن حملتهم قد فشلت في تحقيق أي تقدم باتجاه الكشف عن المكان الذي يتوارى فيه المهندس ومجموعاته. كما قامت وحدات الهندسة بجيش الاحتلال بتفجير سيارة تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية أثناء توقفها في محيط مقام النبي يوسف القريب من بلدة بلاطة بعد أن اشتبهت سلطات الاحتلال بها نظراً لوجودها في مكان حساس وهام لليهود(125).

5- عربة مفخخة في كفارداروم

لم تكن النتيجة التي آلت إليها العملية الاستشهادية للبطل أيمن راضي لترضي المهندس أو تشفي غليل الثأر لاستشهاد القائد القسامي إبراهيم ياغي الذي اغتيل غدراً في أريحا قبل عدة أيام من العملية. وعلى الرغم من ذلك، أدركت الشاباك والقيادة العسكرية الإسرائيلية بأن الحظ وحدة كان الحاجز الذي حال دون إتمام العملية على الشكل الذي خططت له. وهذا الأمر، كان من أكثر المعطيات إثارة لقلق الأجهزة الأمنية والاستخبارية، لعلمها بأن المهندس يحتفظ بمخزون كبير من أنماط وأشكال مختلفة للمقاومة يستطيع من خلالها تجاوز إجراءات الأمن الاحترازية والوقائية التي تتخذها عادة تلك الأجهزة. ولم يطل الأمر بالمهندس ليثبت أن قلق الشاباك كان في محله، فقد طلب المهندس من إحدى المجموعات العاملة في المنطقة الجنوبية من قطاع غزة رصد خطوط المواصلات ورحلات الحافلات الإسرائيلية التي تعمل بين المناطق المحتلة منذ عام 1948 ومستوطنات غوش قطيف القريبة من خان يونس.

المعلومات الأولية التي وفرتها مجموعة الاستطلاع دلت على أن هناك حافلة تمر بشكل يومي وفي وقت محدد على الطريق الشرقي بعد عبورها حاجز ايرز باتجاه مستوطنة كفارداروم. وأشارت المعلومات أيضاً إلى وجود سيارة جيب عسكرية تقل عدداً من جنوب حرس الحدود تسير أمام الحافلة لحراستها ومنع مرور السيارات ذات اللوحات الخاصة بقطاع غزة بمحاذاتها. وهذا يعني أن استخدام سيارة مفخخة غير مضمونة النتائج، وعليه بدأ المهندس بالتفكير بطريقة أخرى تتيح تحقيق الأهداف ونجاح العملية. وتفتقت العبقرية العسكرية على استخدام حمار يجر عربة محملة بالأغراض، وهي وسيلة نقل شائعة في القطاع ولا تثير الشبهة. وبعد دراسة هذا الاقتراح وتقليب الاحتمالات، ووفق الخطة المرسومة، جهز المهندس العبوات الناسفة ووضعها على العربة حيث انطلق المجاهد في صبيحة يوم الاثنين الموافق 9 كانون ثاني (يناير) 1995 نحو مستوطنة كفارداروم واجتاز كافة الدوريات العسكرية الإسرائيلية التي لم تكن تتوقع من المهندس استخدام هذا الأسلوب في الهجمات الاستشهادية. وما أن مرت سيارة الجيب التي تتقدم الحافلة الإسرائيلية، حتى تحرك المجاهد بعربته المفخخة باتجاهها. ويبدو أن سرعة تحرك المجاهد جعلته غير قادر على السيطرة على العربة، لتتساقط منها ما تحمله من بضاعة، ومن بينها حقيبة المتفجرات عند محاذاته لحافلة النقل العام التي كانت تقل جنوداً يحرسون مستوطنة كفارداروم.

وقد أدى انفجار العبوات إلى تحطيم نوافذ الحافلة وإلحاق خسائر مادية جسيمة فيها وإصابة المجاهد وعدد من جنود الاحتلال دون أن توقع قتلى. وعلى الأثر، انتشرت قوات مكثفة من الجيش ووحدات حرس الحدود وقامت بتفتيش المنطقة تفتيشاً دقيقاً وأغلقت الطريق الرئيسي، بينما قام المستوطنون الغاضبون بإشعال عدد من إطارات السيارات بالقرب من مدخل المستوطنة ورشقوا سيارات المواطنين الفلسطينيين بالحجارة(126).

6- هزيمة الجنرال يعقوب بيري

ستة أشهر مضت على غياب القائد القسامي علي عاصي، رفيق درب المهندس وأقرب الأصدقاء إليه. ورغم هذه المدة والانشغال بالجهاد والعمل الميداني اليومي، إلا أن اسم أبو جهاد وصورته ومآثره لم تغب عن الحضور بشكل دوري كلما جلس المهندس مع مساعديه يعد ويخطط للعمليات العسكرية النوعية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فكثيراً ما جاء علي عاصي وعدنان مرعي للمهندس في المنام ليسلما عليه ويسألاه عن أخبار الجهاد. ويعبر هذا الحضور عن طبيعة العلاقة التي كانت سائدة بين أقطاب الفريق الرباعي الذي قاد الجهاز العسكري لحركة حماس في منطقة شمال الضفة الغربية منذ عام 1992. ومع اتساع نطاق حركة المهندس وامتداد المجموعات التي أقامها في الضفة الغربية وتلك التي تعمل في قطاع غزة بقيادة محمد الضيف وكمال كحيل، وجد مهندسنا بأن الظروف والإمكانيات ملائمة لتنفيذ العملية التي خطط لها الشهيد علي عاصي قبل عامين تقريباً ضمن سياق سلسلة العمليات التي كان من المقرر تنفيذها تكريماً للمبعدين في مرج الزهور.

وفي ضوء الحقائق التي تراءت، وضع أبو البراء مخططات مفترق بيت ليد أو ما يعرف باسم مفترق هشارون إسرائيلياً أمام القيادة العسكرية لحركة حماس في قطاع غزة وشرح لإخوانه طبيعة هذا المفترق وأهميته لجنود الاحتلال، وتفاصيل العملية المقترحة ودور مجموعات الضفة الغربية في الدعم والإسناد وما يريده من المجموعات العاملة تحت قيادة محمد الضيف وكمال كحيل. وبعد دراسة مستفيضة لمشروع العملية، باركت القيادة العسكرية الخطة وأعطت الضوء الأخضر للتنفيذ بشرط ألا يصدر إعلان مسؤولية أو تبني باسم حركة حماس، حفاظاً على سرية وجود المهندس في قطاع غزة.

يعتبر مفترق بيت ليد من بين المفترقات الأكثر ازدحاماً في فلسطين المحتلة، وطبقاً لتقديرات دائرة المواصلات الإسرائيلية العامة، فإن ما يقرب من ثمانين ألف سيارة وحافلة تعبر هذا المفترق يومياً. وتتوزع من الموقع الاستراتيجي حركة المرور بين مناطق غوش دان والخضيرة وحيفا في شارع رقم (4) وبين مدن ناتانيا وطولكرم ونابلس في شارع رقم (57). وقد جعل الموقع المركزي للمفترق بين مناطق غوش دان (منطقة تل أبيب الكبرى) وشمال فلسطين منه نقطة انطلاق ونقل رئيسة للجنود الإسرائيليين في طريقهم إلى معسكراتهم وثكناتهم الكائنة في الضفة الغربية، ومكاناً يغص بالجنود الذين يسافرون بالحافلات إلى الخضيرة وحيفا وطبريا وكريات شمونة أو باتجاه تل أبيب والقدس. وإلى جانب ذلك، يوجد بمحاذاة المفترق سجن كفاريونا الذي يحتجز فيه مؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين(127).

ووفق الوقائع التي نشرت في وسائل الإعلام، واعترافات المجاهد عبد الحليم البلبيسي (29 عاماً) التي انتزعها الشاباك منه بالقوة وعن طريق استخدام أسلوب الهز العنيف بعد اعتقاله في 6 كانون أول (ديسمبر) 1995م، فإننا نستطيع رسم المخطط الذي وضعه المهندس على النحو التالي:

1- تجهيز ثلاثة حقائب، شبيهة بتلك التي يحملها جنود الاحتلال، بنحو عشرة كيلو جرامات من المتفجرات شديدة الانفجار لكل حقيبة.

2- يرشح قادة الكتائب في غزة ثلاثة من المجاهدين الاستشهاديين، ويقوم المهندس بتدريبهم على تشغيل المتفجرات.

3- تقوم مجموعات الإسناد بنقل المجاهدين الثلاثة من قطاع غزة إلى مدينة القدس.

4- تتولى مجموعات الإسناد في القدس استقبال المجاهدين كل على حدة، وتعمل على توفير ملابس عسكرية لهم ثم تقوم بنقلهم إلى منطقة شمال الضفة الغربية.

5- مجموعات الرصد والاستطلاع في منطقة شمال الضفة الغربية مسؤولة عن رصد المفترق والحراسات الإسرائيلية وأي تغيرات تطرأ حولها.

6- تقوم مجموعات الإسناد في الشمال بنقل المجاهدين الثلاثة إلى المفترق في يوم الأحد الموافق 22 كانون الثاني (يناير) ،1995 حيث تصل في أيام الآحاد من كل أسبوع حافلات لنقل أو إنزال الجنود الذين يخرجون في إجازات من الخدمة العسكرية أو يعودون من إجازاتهم للالتحاق بوحداتهم.

7- يقوم المجاهد الأول بتفجير عبواته قرب الاستراحة والكافتيريا التي يرتادها الجنود. وبعد أن يخرج الجنود من المحطة المحمية جيداً هرباً، يتسلل المجاهد الثاني بينهم ويحيط بأكبر عدد ممكن منهم ثم يفجر حقيبته المفخخة. وأما الثالث، فإنه ينتظر قدوم طواقم الإنقاذ ووحدات التعزيز والحراسة ليفجر عبواته الناسفة وسط الحشود الكثيفة.

ترشح للعملية ثلاثة مجاهدين من قطاع غزة، نجح منهم اثنان في الوصول للهدف وتنفيذ الدور المطلوب منه بينما تأخرت مجموعات الإسناد في إيصال المجاهد الثالث إلى المفترق في الوقت المحدد مما جعل أمر تنفيذ ما خرج لأجله صعب التحقيق. وأما المجاهدان اللذان وصلا مفترق بيت ليد في الوقت المحدد فكان أحدهما صلاح عبد الحميد شاكر محمد (27 عاماً) وهو من سكان مخيم يبنا بمدينة رفح، واعتقل خلال الانتفاضة لمدة (18) يوماً وأصيب ست مرات. وكان صلاح قد انضم في بداية دراسته الثانوية إلى حركة الجهاد الإسلامي، إذ أن أخوته الكبار ينتمون إليها، ولكنه ترك الحركة وانضم لحماس التي أفرزته بعد عمليتي العفولة والخضيرة إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام وعمل في المنطقة الجنوبية من قطاع غزة. والمجاهد الثاني الذي نجح في الوصول للهدف، هو البطل أنور محمد عطية سكر (25 عاماً) الذي يسكن قرب مسجد الشهداء بحي الشجاعية في مدينة غزة. واعتقل أنور مرة واحدة خلال الانتفاضة وقضى أحد عشر شهراً في سجون الاحتلال، وعند قدوم السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، اعتقل مرتين خلال الحملات التي نفذتها شرطة الحكم الذاتي ضد المجاهدين(128).

وبعد أن قام المهندس بتدريب المجاهدين الثلاثة وتوجيههم، كلف المجاهد عبد الحليم البلبيسي بالتنسيق مع القائد محمود الخواجة والمجاهدين نضال برعي وأيمن الرزاينة وعلاء الأعرج، وهم من أبطال حركة الجهاد الإسلامي لترتيب عملية مغادرتهم لقطاع غزة. وفي نفس الوقت، أجرى المهندس اتصالاته مع المجموعات التي أقامها في القدس ونابلس وطولكرم ورتب معها كافة التفاصيل المتعلقة بنجاح الهجوم وتعليمات الانسحاب من المكان بعد إيصال المجاهدين. وسارت الأمور كما رتب لها بالنسبة للمجاهدين صلاح وأنور اللذين ارتديا زي الجنود الإسرائيليين ووقفا في صباح يوم الأحد الموافق 22 كانون الثاني (يناير) 1995 في محطة الحافلات العسكرية بانتظار تجمع مئات الجنود. وحسب الخطة المعدة، دخل المجاهد أنور سكر الاستراحة والكافتيريا التي يرتادها الجنود وفجر عبواته الناسفة في نحو الساعة التاسعة وعشرون دقيقة مما أدى إلى تدمير المبنى وسقوط عدد كبير من الجنود بين قتيل وجريح. وعلى الأثر، خرج العشرات من الجنود الذين نجوا من الإصابة وهم في حالة فزع شديد وعدد منهم يبكي من هول الانفجار، وتجمع حول هؤلاء جمهرة من الجنود الذين وصلوا لتوهم إلى المفترق. وبعد دقيقتين إلى ثلاثة دقائق من التفجير الأول، تسلل المجاهد صلاح شاكر بين العشرات من العسكريين الإسرائيليين المذهولين من مشهد أشلاء القتلى والجرحى، وقام بتفجير الحقيبة التي يحملها بينهم مما أدى إلى سقوط عدد أكبر من الإصابات واحتراق حافلة عسكرية بالكامل بالإضافة إلى عدد من السيارات المتوقفة في المكان(129).

شكلت العملية البطولية للشهيدين صلاح وأنور سابقة متقدمة في تاريخ الجهاد على أرض فلسطين، فهي العملية الأولى من نوعها التي تستهدف هذا العدد من جنود الاحتلال وتحقق هذا النجاح على صعيد التخطيط والتنفيذ. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن المهندس عرف أين هو مكمن ضعف الكيان الصهيوني، فوجه ضربته بإتقان مخترقاً أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي تتمتع بسمعة خرافية. وجعل الآلاف من الإسرائيليين يتجمعون في مدافن الجيش ويبكون بألم أمام جثث الجنود القتلى عبرت عنه صحيفة هيرالدتربيون البريطانية بقولها: «فيضان من الدمع ينهمر عندما دفنت الدولة المضطربة شبابها»(130). ولم تقتصر آثار الهجوم الاستشهادي على سقوط اثنان وعشرون قتيلاً (أربعة ضباط وثمانية عشر جندياً وضابط صف) وخمسة وستون جريحاً من المظليين، فقد بدا المفترق أشبه ببقايا معركة خاطفة حيث تناثرت أشلاء القتلى والجرحى وطارت أجزاء من أجسامهم المحترقة في الهواء وتعلق بعضها فوق الأشجار، وتناثرت الأكياس والحقائب التي كان يحملها الجنود وبعض البزات العسكرية والعديد من البنادق المحطمة والتي تفتت إلى قطع، فيما انتشر الدمار الذي لحق بالمحطة وقطع السيارات وبقع الدماء في دائرة قطرها نحو (200) متر. كما أدى الانفجاران إلى اقتلاع بعض الأشجار القريبة وتطاير زجاج سجن كفاريونا الذي يبعد (30) متراً عن المفترق(131).

اهتزت أركان المجتمع الإسرائيلي برمته جراء الهجوم الاستشهادي، واختل توازن حكومة اسحق رابين التي وجدت نفسها في مأزق حقيقي معقد دفع برئيسها إلى فض الاجتماع الدوري لها والمغادرة في طائرة عسكرية مروحية إلى نتانيا حيث كان المئات من المتظاهرين الغاضبين يرددون هتافات تقول: (رابين خائن) و(الموت للعرب) و(الموت لرابين.. رابين مجرم) و (الدم العربي هو الذي يجب أن يسفك وليس الدم اليهودي) احتجاجاً على سياسة الحكومة الأمنية. وبعد أن تجول بالمكان برفقة قائد الجبهة الداخلية في الجيش ورئيسي الشاباك والاستخبارات العسكرية، عقد اسحق رابين مؤتمراً صحافياً قرب المفترق وسط حراسة مشددة شاركت فيها الطائرات المروحية التي حلقت فوق المنطقة ساهمت في عمليات التفتيش وتوجيه الأطقم الأرضية لإقامة الحواجز العسكرية على طول الشارع الذي يصل بين مدينة طولكرم ومدينة نتانيا. وفيما بدت آثار الإرهاق والإحباط بادية وواضحة على وجهه، لم يستطع اسحق رابين إخفاء حزنه وتأثره، فبدأ خطابه قائلاً: «إنه يوم رهيب وفظيع وأليم بالنسبة لكل شعب إسرائيل.. إن الحل الأمثل والجذري على المدى المتوسط والبعيد هو الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين بما لا يتيح للفلسطينيين من مواطني الضفة والقطاع الدخول إلى مناطق السيادة الإسرائيلية. وحتى هذا الفصل قد لا يمنع شخصاً انتحارياً مستعداً للموت من التسلل إلى داخل إسرائيل، إذ لا سلاح رادع في مواجهة انتحاري كهذا»(132). وأضاف رابين الذي كانت عيناه تبحثان طيلة الوقت في السقف عن الكلمات المناسبة مخاطباً المهندس دون أن يذكره بالاسم: «سننتصر عليكم وسنواصل السلام وضربكم ومطاردتكم في آن واحد، وأية حدود لن توقفنا وسنقضي عليكم»(133).

وأما رؤساء الأجهزة الأمنية والقادة العسكريون، فقد أجمعوا على ذكاء المهندس ومقدرته في التخطيط، وبالمقابل فشل أجهزتهم في وضع الإجراءات المناسبة للحيلولة دون نجاح ما يخطط له. فقد وصف الجنرال اساف حيفيتس، المفتش العام للشرطة العملية بقوله: «عملية التفجير تعتبر شديدة الإحكام ودقيقة. ووصول منفذي العملية إلى العمق الإسرائيلي هو فشل أمني يصعب تبريره»(134). وذهب الجنرال يعقوب بيري، رئيس جهاز الشاباك إلى أبعد من ذلك حين أعلن استقالته من منصبه بعد يومين من العملية حيث قبلها رئيس الوزراء بصفته مشرفاً على الجهاز، وعزت وسائل الإعلام الإسرائيلية سبب الاستقالة وموافقة رابين عليها إلى إخفاق الجنرال بيري في العثور على المهندس وإحباط العمليات الاستشهادية التي يجهزها ويشرف على تنفيذها(135).

وضمن السياق نفسه، أبرز المحللون العسكريون جرأة المخططين للعملية بتركيزهم على العسكريين. ومن المفيد في هذا الخصوص، استعراض ما كتبه امير اورن في دافار تحت عنوان (هزيمة الجيش الإسرائيلي في بيت ليد) والذي يرى بأن الهجوم يعد ضربة لجوهر قوة الدولة وأسطورة العزة الإسرائيلية، إذ جاء في التحليل: «هذه الأجواء الشعبية الحزينة، وما يرافقها من تخبطات سياسية، يجب ألا تطمس الحقيقة الخطيرة، وهي أن الجيش الإسرائيلي قد مني بهزيمة ذريعة، مقدارها الكمي انتزاع فصيلتين من حجم الجيش، ومقدارها النوعي خدش آخر لكلام أفضل جيش في العالم. فقد استطاع المتعصبون المسلمون أن يقوموا بعملية حرب عصابات واضحة، ضد جيش كبير مترهل وهش. وهذه ليست مجزرة، لأن الجنود سقطوا وهم موجودون في الحراسة. ولكن من ذا الذي يحرس الجنود؟ لقد أصبح كل جندي هدفاً للهجوم عليه أو اختطافه.. لو أتقنت القيادة والشرطة العسكرية مهمتها، لشعر كل عسكري، من الجندي حتى الميجر جنرال في مفرق بيت ليد، أنه نحشون فاكسمان القادم»(136).

المهندس من جهته التزم بقرار القيادة عدم إصدار بيان باسم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يتبنى العملية، ولكن بعض القيادات العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة تحركت بدون موافقة المهندس حيث اتصل مجهول بوكالة أنباء أجنبية في القدس وأعلن مسؤولية كتائب الشهيد عز الدين القسام. وفي قطاع غزة، أعلن عدد من نشطاء الحركة مسؤولية حماس عن العملية عبر مكبرات الصوت في مساجد مدينة غزة(137). ويبدو أن هذه التحركات قد تلقت ضوءاً أخضراً حين نشرت القيادة التنظيمية لحركة حماس في قطاع غزة بياناً في الصفحة الأولى من صحيفة الوطن الناطقة باسم الحركة تنعى فيه الشهيدين صلاح شاكر وأنور سكر، ولم يقف الأمر عند ذلك، إذ حيت حركة حماس العملية الاستشهادية وكتب شبابها شعارات على جدران منزل الشهيدين في غزة ورفح عُرف منها: «تحية عطرة من حركة حماس إلى المجاهد الشهيد.. كتائب عز الدين القسام تعاهدك يا شهيد فلسطين على الثأر والانتقام لدمائك الطاهرة التي نزفت من أجل الله... لتتعانق روح الشهيد أنور سكر مع روح الشهيد صالح نزال لتصنع المجد والكرامة». وفي مدينة رفح، ظهر مسلحون ملثمون من كتائب القسام وأطلقوا النار في الهواء مساء يوم العملية تحية للشهيد صلاح شاكر(138).

7- رجل يعيش بزمن مستعار

كانت عملية بيت ليد الاستشهادية بمثابة انعطاف حاد في طبيعة الصراع القائم بين فصائل المقاومة الإسلامية والكيان الصهيوني بشكل عام، وبين المهندس واسحق رابين وأجهزته الأمنية بشكل خاص. إذ أن استمرار المهندس في توجيه الضربات العنيفة جعلت رابين وحزبه يفقدان مبرر وجودهما في السلطة أمام الجمهور الإسرائيلي الذي يريد الأمن باستمرار. ولذلك، انتفض رابين بشدة عندما مرر مرافقه العسكري التقارير الاستخبارية وتحاليل مختبرات خبراء المتفجرات في جهازي الشرطة والشاباك له أثناء تفقده آثار العملية البطولية. ويقول المحلل العسكري الشهير، زئيف شيف في تحليله للعملية الاستشهادية نشرته هآرتس يوم الاثنين الموافق 23/1/1995 ناقلاً بعض ما ورد في تلك التقارير: «يدل طابع العملية وأسلوب تنفيذها أن المهندس الفلسطيني يحيى عياش له ضلع فيها كما هو الحال في العمليات السابقة. وهناك علامة أخرى تدل على أن للمهندس ضلعاً في العملية هي وجود مواد متفجرة معيارية أضيفت إليها كميات كبيرة من المسامير، وبهذا الشكل يزداد عدد الإصابات. ولكن توجد تقديرات أن العملية نفذت بالتعاون بين حماس والجهاد الإسلامي، إذ يوجد مثل هذا التعاون في قطاع غزة منذ فترة من الزمن»(139).

وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية قد أشارت أيضاً إلى ذلك حين كتبت: «ويجزم الخبراء العسكريون في حقل المتفجرات بأن ثمة تعاوناً وتنسيقاً بين حركة الجهاد الإسلامي التي تبنت العملية الانتحارية وحركة حماس التي تحمل العبوات المتفجرة بصمات المطلوب رقم واحد في إسرائيل. ويؤكد مراقبون أن إعلان حركة حماس مسؤوليتها -ولو بلسان فرد- عن تنفيذ العملية ثم تراجعها بعد تبني الجهاد الإسلامي، دليلاً على وجود نوع من التعاون الذي يزيد من فاعلية مثل هذه العمليات وتطورها»(140).

يقول مسؤول عسكري إسرائيلي أن رابين الذي اجتمع مع كبار القادة العسكريين والأمنيين بعد وقوع عملية بيت ليد استغرق في التفكير وهو يقلب ملفاً عن المهندس ثم التفت إليهم قائلاً: «إن أمر اعتقال يحيى عياش يجب أن يكون في رأس قائمة أولويات نشاطاتكم اعتباراً من هذه اللحظة»(141). ثم تابع رابين خلال عرضه تقويماً للأوضاع ولمسار الأمور الذي ستسلكه حكومته خلال المرحلة المقبلة بأن «الإرهاب الإسلامي الذي يعبر عن نفسه في العمليات الانتحارية يعتبر تهديداً ذا مغزى استراتيجي بالنسبة لإسرائيل، وعائقاً أمام تقدم مسيرة السلام. لأن ظاهرة الشبان الانتحاريين الفلسطينيين، ظاهرة صعبة وأشد خطورة من كل أنواع الإرهاب التي عرفناها حتى الآن»(142).

وحيال المأزق الذي واجهته الدولة والمجتمع، تحرك الجيش وحرس الحدود وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية المختلفة في حملة مشتركة واسعة النطاق استهدفت تقويض البنية المدنية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) والمؤسسات الخيرية والاجتماعية والإنسانية التي تقدم العون والخدمات للمحتاجين من أبناء الشعب الفلسطيني بتهمة أن القائمين عليها يؤيدون الحركة الإسلامية ويعلنون مناصرتهم لها. وإلى جانب هذه المؤسسات، داهمت قوات الاحتلال مقرات رابطة علماء فلسطين والكتل الطلابية الإسلامية ونقابات العمال الإسلاميين ولجان الزكاة، حيث أشار روني شيكد -وهو مقرب من الشاباك- في تقرير خاص أعده لصحيفة يديعوت أحرونوت بأن أجهزة الأمن الإسرائيلية أدركت أن المؤسسات المدنية تعمل في خدمة الأجهزة السرية لحركة حماس وتقدم لها الغطاء الاقتصادي والسياسي ومخزوناً من القوى البشرية لنشاطات المهندس وكتائب عز الدين القسام(143).

ولم يكن توسيع حكومة اسحق رابين لجبهة المواجهة بحيث تشمل كافة أطر وأجهزة حركة حماس بالأمر الجديد، فقد اتبعت سلطات الاحتلال أساليب مشابهة بعد عمليات العفولة والخضيرة وتل أبيب. والجديد هذه المرة، هو إشراك مصورين تابعين لدائرة المتحدث العسكري الإسرائيلي خلال عمليات المداهمة، وهذا ما دفع مراسل صحيفة هآرتس العبرية ومعلقها لشؤون المناطق المحتلة، أوري نير إلى الاعتقاد بأن السلطات العسكرية الإسرائيلية أرادت من وراء هذه المواجهة التظاهر أمام الجمهور اليهودي بأنها تقوم باتخاذ إجراءات مضادة ضد «الإرهاب الإسلامي»(144).

ومع هذه الإجراءات، ازدادت المعركة بين المهندس والشاباك وبين المهندس والجيش الإسرائيلي شراسة. ففيما يتعلق بجهاز الشاباك الذي أجرى حملة تغييرات واسعة في صفوف الهيئات القيادية الأولى لمواجهة الأساليب المتطورة للمهندس، طالت خمسة من كبار المسؤولين وعلى رأسهم الجنرال جدعون عيزرا -نائب رئيس الجهاز- الذي كان يتولى قيادة الفريق المكلف بالبحث عن المهندس وتصفيته بالإضافة إلى الجنرال يعقوب بيري الذي قدم استقالته من الخدمة بعد عملية بيت ليد مباشرة، فقد عهد رابين إلى الجنرال كارمي غيون قيادة الجهاز وإثبات كفاءته ومهارته بالإجابة عن السؤال الذي يستهل به عادة اجتماعات القيادة المشتركة للموساد والشاباك وآمان، وهو أين المهندس؟. وجاء تعين الجنرال غيون على رأس الشاباك ليس لبراعته الفائقة في التعامل مع مثيري الاضطرابات من اليهود المتدينين وإنما لقدرته المفترضة على مواجهة التهديد الجديد الذي تشكله كتائب الشهيد عز الدين القسام وعلى رأسها القائد العبقري يحيى عياش. ولم يكن استبدال الجنرال غيون لرؤساء الأقسام الرئيسة والضابط المسؤول عن متابعة شؤون العملاء العرب العاملين لحساب الشاباك بأجيال شابة من الخبراء المحترفين في مجال الاستخبارات يتمتعون بكفاءات عالية مجرد إشارة عابرة على ضخ دماء جديدة في الجهاز، فقد علق أحد ضباط الشاباك على هذه التغييرات بقوله: «علينا أن نغير الاتجاه لأننا نواجه الآن عدواً من نوع مختلف»، في إشارة مؤكدة للمهندس(145). وإلى جانب ذلك، عبر التصريح الذي أدلى به رئيس الشاباك الجديد عن مغزى اختياره لهذا المنصب، إذ نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن الجنرال كارمي غيون قوله: «لا أذكر، منذ سنوات طويلة جهداً مكثفاً ومركزاً يشارك فيه مثل هذا العدد الضخم من الناس من أجل ملاحقة شخص واحد كما هي هذه الحالة. فمنذ بضعة أشهر تبذل قوات الأمن جهوداً حثيثة ومكثفة ليلاً ونهاراً في سبيل اعتقال المهندس الذي توارى عن الأنظار قبل نحو سنتين، ومنذ ذلك الحين اختفى وكأن الأرض انشقت وابتلعته». وأضاف غيون: «إن عياش يبرهن على قدرة عالية جداً في البقاء، وقد تبين أنه ذكي ومتملص وبارع. وعلى ما يبدو فهو يحرص على استبدال مخبئه بوتيرة عالية، وهذا يجعل عملية العثور عليه بالغة الصعوبة. ورغم ذلك، فإن إلقاء القبض عليه هي مسألة وقت فقط. فالرجل يعيش في زمن مستعار»(146).

لم يكتف الجنرال غيون بدراسة ملف المهندس المحفوظ في أرشيف الشاباك، وإنما طلب لوائح الاتهام التي وجهت لكافة معتقلي حركة حماس التي ورد فيها اسم يحيى عياش. وكان رئيس الشاباك يستهدف جمع تفاصيل دقيقة عن خطوات المهندس ودوره في تجهيز العمليات وتنفيذها(147). وفي نفس السياق طالب غيون الوحدات الخاصة وعناصر الشاباك الذين يراقبون منزل المهندس في قرية رافات بتوسيع مهمتهم بتفتيش المنزل بدقة ونقل أية معلومات أو أوراق تفيد في عملية المطاردة إلى جانب مضايقة عائلته وتهديدها. فأحاطت مجموعة كبيرة من جنود الاحتلال بالفناء الخارجي لبيت المهندس، وبدأوا بإلقاء الحجارة بصورة مفاجئة باتجاه زجاج النوافذ والأبواب في حوالي الساعة الحادية عشرة قبل منتصف ليل يوم السبت الموافق 1 شباط (فبراير) 1995 الموافق الأول من شهر رمضان المبارك ثم اقتحم الجنود بعد ذلك المنزل وأرغموا زوجة المهندس ووالده المسن ووالدته العجوز وشقيقه وزوجته وأطفالهم على مغادرة المنزل لعدة ساعات، وقام ضباط الشاباك بتفتيش أبو يحيى تفتيشاً دقيقاً بعد أن طلبوا منه خلع (كمباز) كان يرتديه. ولم تتوقف المضايقات عند هذا الحد، إذ كرر ضباط الشاباك تهديداتهم لزوجة المهندس بوضع فوهة البندقية في رأس ابنها الصغير وقتله إن لم يسلم والده نفسه(148).

وبلغت وحشية جهاز الشاباك بقيادته الجديدة ذروتها حين اتخذت اللجنة الوزارية المكلفة بشؤون الأمن قراراً يوم الاثنين الموافق 23 كانون الثاني (يناير) 1995 بتمديد الإذن الممنوح لمحققي جهاز الشاباك بإجراء تحقيقات أكثر قساوة مع المجاهدين من حركة حماس بشكل عام والمشتبه بانتمائهم لكتائب الشهيد عز الدين القسام أو تقديمهم خدمات لها بشكل خاص(149). ولم يضيع هؤلاء المحققون الوقت، فباشروا باستعمال ضغوط جسدية متطورة بحق كل من اشتبه بعلاقته بالمهندس والمجموعات التي نظمها في الضفة الغربية. وكان من نتيجة هذه الضغوط أن استشهد المجاهد ناظم محمود عبد الله عمران (18 عاماً)، وهو من قرية عزون بقضاء طولكرم، اعتقل في أعقاب عملية البطل صالح صوي، في زنازين التحقيق بمعتقل الفارعة(150). كما استشهد المجاهد بلال محمد عبد الرحمن أبو زيد (21 عاماً) وهو من قرية قباطية القريبة من جنين وعثر على جثته في 28 شباط (فبراير) 1995 وبها (37) طعنة سكين في منطقة تخضع للسلطة الإسرائيلية محاذية لأريحا. وكان الشهيد قد اعتقل في آب (أغسطس) من عام 1994 وقضى خمسة أشهر في المعتقل بتهمة الانتماء لحركة حماس وتقديم خدمات للمهندس وللشهيد رائد زكارنة. وبعد خروجه، استدعاه ضابط الشاباك المسؤول عن منطقة جنين وطلب منه أن يندس بين كتائب عز الدين القسام ويعاود الاتصال بالمهندس. ولكنه رفض، فاستدعاه مرة أخرى في 12 شباط (فبراير) 1995 لمراجعة الإدارة المدنية الإسرائيلية، واختفت آثاره منذ ذلك الوقت(151).

وترجل الشهيد الثالث، عبد الصمد سلمان حسن حريزات (30 عاماً) في أقبية التعذيب بسجن المسكوبية يوم الثلاثاء الموافق 25 نيسان (إبريل)،1995 ولم يستطع محققو الشاباك وعملائهم انتزاع أية معلومة من الشهيد الذي قالت سلطات الاحتلال بأنه كان ضابط الاتصال بين المهندس والقائد طاهر قفيشة الذي أوكل إليه المهندس مسؤولية المطاردين في كتائب الشهيد عز الدين القسام بمنطقة الخليل(152). وربط الضباط الإسرائيليون بين ما يمارسونه من إجراءات قاسية أثناء التحقيق مع المشتبه بعلاقتهم مع المهندس وقصور الوسائل التقليدية كالاعتقالات الكثيفة والفصل بين المناطق في مواجهة العمليات الاستشهادية. فكتب المحرر الأمني لصحيفة يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي حول هذا الأمر مشيراً إلى ذلك التبرير: «إذا لم يكن لديك معلومات دقيقة حول المكان والساعة التي ستتم فيها العملية فليس بمقدورك أن تحول دون تنفيذها، وسيجد المخرب المنتحر ومخططو العمليات دائماً بطناً فارغاً يوجهون الضربة المفاجئة نحوه. وحتى إغلاق محكم لن يمنع من إحباط عمليات كهذه حيث من الممكن دائماً الوصول مشياً على الأقدام مع 10 كلغم من المواد المتفجرة من قلقيلية إلى مفترق بيت ليد أو رعنانا»(153).

أما في إطار الحرب بين المهندس والجيش الإسرائيلي. فقد دخلت مرحلة مهمة بعد عملية بيت ليد الاستشهادية، تمثلت بموافقة الميجر جنرال امنون شاحك الذي خلف يهودا باراك في رئاسة الأركان على إدخال مهمة (مكافحة الإرهاب) ضمن خطة عمل الجيش السنوية باعتبارها مهمة رئيسة تضاهي المهام الأساسية الثابتة للجيش تماماً كحماية (المجال الجوي للدولة) على سبيل المثال. وتنطوي المهمة الجديدة على الأهمية البالغة التي يوليها الجيش الإسرائيلي ولموقعها في سلم الأولويات من ناحية تخصيص الموارد. ويوضح المعلق العسكري لصحيفة معاريف، أليكس فيشمان بأن الانعكاس الفوري لهذا التحديد يتعلق ببلورة نظريات جديدة في كيفية (محاربة الإرهاب) وإنشاء هيئة قيادية معنية تجمع تحت سقف واحد كافة الجهات والأجهزة في الجيش الإسرائيلي التي تعنى بمواجهة المجموعات الفدائية(154).

الحرب بلا هوادة هي الوسيلة التي تعامل بها الجنرال امنون شاحك مع المهندس، ولذلك صدرت الأوامر للآلاف من الجنود وبضمنهم وحدات استخبارية خاصة ووحدات مختارة من الجيش لمشاركة قوات حرس الحدود والشرطة وأفراد الشاباك في المطاردة الواسعة لاعتقال أو تصفية القائد القسامي. وشددت الأوامر العسكرية الإسرائيلية على ضرورة تركيز الحصار الذي يستهدف شل حركة المهندس وإرباك خططه إلى جانب تنشيط الوحدات الخاصة (فرق الموت) العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة ومضاعفة نشاطاتها وجهودها(155). ولأن المعلومات الاستخبارية قد اقتصرت على تحديد الأماكن التي تفترض الشاباك بأن المهندس يتجول بحرية فيها، فقد اقتصرت نشاطات الجيش الإسرائيلي على منطقتي نابلس وطولكرم. فوضعت قوات الجيش الحواجز العسكرية على مداخل قرى عصيرة القبلية ومادما والزاوية يوم الأحد الموافق 22 كانون ثاني (يناير) ،1995 وأوقفت السيارات التي تقل المواطنين المتجهين إلى مدينة نابلس واعتقلت عدداً من ركابها(156). وفي منطقة طولكرم، نفذت قوات الجيش الإسرائيلي أوسع حملة مداهمة وتفتيش لها في المنطقة، حيث قامت باقتحام خمسة مساجد في مدينة طولكرم بآن واحد يوم الأربعاء الموافق 25 كانون ثاني (يناير) 1995. وبررت سلطات الاحتلال هذه الحملة بأن الشاباك تُرجح تواجد المهندس في المنطقة باعتبار أن طولكرم وقلقيلية هي الأقرب إلى مفترق بيت ليد. وعاودت قوات الاحتلال مداهمة مسجدين من الخمسة في الأسبوع التالي واعتقلت ثلاثة شباب من أنصار حركة حماس. كما قامت وحدات من المظليين انتقلت بطائرة عامودية بعملية إنزال فوق الجبال وأراضي قرية كفر عبوش، وأجرت عملية بحث وسط الأحراش عن القائد والأماكن عياش. وتزامنت تلك العملية بقيام وحدات أخرى عبرت بالسيارات العسكرية بنصب حواجز عسكرية فجائية وتنظيم دوريات راجلة جابت شوارع مدينتي طولكرم وقلقيلية(157).

ولم تسلم قرى كفر الديك وقراوة بني حسان ودير بلوط وبروقين وصرة وكفر قدوم وعوريف وتل بالإضافة إلى مخيم بلاطة من عمليات البحث والتفتيش التي طالت معظم المنازل. وشملت حملة التفتيش أيضاً الكهوف والأحراش المجاورة لتلك القرى بحجة أن المهندس والمجموعات التي تعمل معه يستخدمون المناطق المهجورة والمخابىء داخل الجبال كقواعد آمنة لهم(158).

8- خاروف ينسف سيارة عسكرية

منذ أن انتقل المهندس إلى قطاع غزة، قفزت العمليات العسكرية باستخدام العبوات الناسفة إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه سابقاً. وهذه الظاهرة لم تترك آثاراً على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فحسب، وإنما شملت أيضاً وسائل الإعلام والصحافة التي أولتها عناية خاصة بعد أن استمعت إلى تقارير الوحدات العسكرية الإسرائيلية المجاورة لمنطقة الحكم الذاتي في قطاع غزة. ويشير نداف هعتسنى في مقال نشره حول هذا الموضوع إلى أن الخطورة لا تنحصر في الكمية فقط، وإنما بنوعية تلك العمليات، والجودة العالية التي ميزت المواد المتفجرة المستخدمة. وقال هعتسنى في تحليله الذي بدا واضحاً أنه كان يستند إلى معلومات عسكرية خاصة: «تفيد المعلومات الواردة من الإسرائيليين والفلسطينيين، أنه منذ حادثة المسجد، ارتقت صناعة الإرهاب في غزة عدة صفوف، والنتائج في غزة ومحيطها واضحة. فهناك تطور مستمر على نوعية عمليات وضع العبوات وإطلاق النار.. وقعت حوادث إطلاق نار بكمية تجاوزت كل المقاييس، تقع خمس حوادث في اليوم أحياناً. وغالبية هذه الأحداث لا تصل إلى الصحافة، ففي الأسابيع الست الماضية تم اكتشاف سبع عبوات ناسفة، وبمعجزة لم تسبب خسائر في الأرواح. ولكن، في يوم الاثنين الماضي (23/1/1995)، انفجرت إحدى العبوات في موقع على محور كيسوفيم وأسفر الانفجار عن إصابة جنديين بجراح. وفي اليوم التالي، انفجرت عبوة أخرى على مسافة 200 متر من الموقع ذاته»(159).

كانت الدولة العبرية بأجهزتها وجيشها وإمكانياتها المتطورة تجتهد في عمليات البحث والتفتيش عن المهندس في الضفة الغربية، وتقيم الدنيا على سلطة الحكم الذاتي مطالبة الأخيرة بالمساهمة في المجهود عبر التضييق ومطاردة كوادر الحركة الإسلامية في مناطقها. وفي الطرف المقابل، ورغم ظروف المطاردة العصيبة والإجراءات الأمنية الاحترازية التي اتخذتها حركة حماس لحماية مجاهديها، فإن المهندس استمر في برنامجه الجهادي بعد أن أخذ في الحسبان التغييرات التي طرأت بعد عملية بيت ليد، وبخاصة انضمام سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وشرطتها وأجهزة استخباراتها إلى الفريق العسكري والأمني الإسرائيلي الذي يطارده. فعلى عكس ما ورد في الوثيقة التي وزعها هاني الحسن (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح) بعد مجزرة حي الشيخ رضوان التي راح ضحيتها عدد من قادة ومجاهدي الكتائب القسامية والتي أشارت إلى أن سلطات الاحتلال قد اكتشفت سر وجود المهندس في قطاع غزة، بعد الكشف عن شاحنة في تل السبع فإن الدلائل التي توفرت من خلال دراسة المصادر الصحفية المتعددة وبخاصة تلك التي تصدر في داخل الأرض المحتلة، تشير إلى أن المخابرات الفلسطينية العامة بقيادة أمين الهندي توصلت عبر تعريض المعتقلين من حركتي حماس والجهاد الإسلامي لأصناف قاسية وشديدة من التحقيق والتعذيب المستمرين منذ العملية البطولية في بيت ليد وحتى بداية الأسبوع الثاني من شهر شباط (فبراير) إلى حقيقة انتقال المهندس إلى القطاع. وإن كنا لا نملك أدلة تثبت بأن المخابرات الفلسطينية أوصلت ما توصلت إليه إلى الشاباك، فإننا متيقنين بأن أجهزة سلطة الحكم الذاتي قد سارعت إلى التحرك باتجاه القبض على المهندس.

فقد اعتقلت المخابرات العامة التابعة للسلطة خليل إبراهيم قدورة من حي الشيخ رضوان والبالغ من العمر 45 عاماً، ووجهت إليه تهمة إيواء المهندس وعدد من مطاردي الكتائب بالإضافة إلى حيازة كميات كبيرة من الأسلحة وتمويل عدد من التنظيمات. ويصف حسن خليل -ابن المعتقل- والبالغ من العمر (18 عاماً) طريقة الاعتقال وإجراءات التفتيش، فيقول: «لقد داهمت قوة كبيرة من رجال المخابرات والانضباط منزلنا في الساعة الثانية عشرة ليلاً من يوم الثلاثاء الموافق السابع من هذا الشهر (شباط - فبراير) وقاموا بتفتيش البيت بدقة ثم أخبروا والدي بأنهم يريدونه أن يذهب معهم إلى السرايا وطلبوا منه أن يخبرهم عن المكان الذي يختبىء فيه المطارد يحيى عياش الملقب بالمهندس وأن يسلمهم الأسلحة التي بحوزته. وعندما هددهم بأنه سوف يشنق نفسه إذا قضى ليلته في السرايا. أعادوه إلى البيت في الساعة الثانية ليلاً تقريباً بعد أن أعطوه بلاغاً بالعودة إلى السرايا في الساعة السابعة صباحاً من اليوم التالي.. وحتى هذه اللحظة لم يعد. وكانت قد انقطعت عنا أخباره في الخمسة أيام الأولى من اعتقاله، بعدها اتصل بنا تلفونياً أحد رجال المخابرات وطلب مني أن أذهب إلى السرايا لمقابلة والدي وعندما ذهبت وضعوني في زنزانة لمدة ساعتين بعدها أدخلوني في غرفة تحقيق وجاء أحد رجال المخابرات وأخذ يطلب مني أن أكشف عن مكان المطاردين والأسلحة، بعد أن قال لي أن والدي قد اعترف على كل شيء وأنه اعترف بأنه يمول التنظيمات وأنا الذي أقوم بتوصيل هذه الأموال. وعندما أنكرت ذلك وطلبت منهم أن يحضروا والدي أمامي رفض ذلك. وبعد ساعتين أحضروا أبي كي أراه وكان يبدو عليه التعب والإعياء وعرفت حينها أنهم يحققون معه في التهم التي ذكرتها مسبقاً»(160).

هذه هي قضية خليل قدورة مع الشرطة الفلسطينية التي أخذت على عاتقها مسؤولية البحث عن مهندس الأجيال بعد أن فشلت كل الأجهزة الاستخبارية والعسكرية الإسرائيلية في العثور عليه. وتشكل هذه القضية بداية دور السلطة في المخطط الذي وضعته سلطات الاحتلال للإطاحة بالمهندس، إذ أن شرطة الحكم الذاتي استمرت في حملتها بتتبع كل من تشتبه بعلاقته بالمهندس أو تقديمه المساعدة والمأوى له. وترافقت هذه الحملة بإجراءات تفتيش وتحقيق عنيفة، فكان المشتبه به يودع المعتقل لفترة طويلة يتعرض خلالها للتعذيب النفسي والجسدي. ففي حالة خليل قدورة، استمرت عملية الاعتقال ثلاثة وعشرون يوماً، ولم يفرج عنه إلا بعد ضغط من أهله وبمناسبة عيد الأضحى(161).

وفي هذه الأثناء، واصل المهندس توزيع المهام والواجبات على مساعديه والمجموعات التي أفرزت للعمل معه. وعلى الرغم من تركيز القائد القسامي على عمليات تأهيل تلاميذه وإقامة مخازن ومستودعات في أماكن مختلفة يجري تخزين المواد المتفجرة فيها، إلا أنه لم يهمل دوره في مساعدة القائدين محمد الضيف وكمال كحيل. وفي إطار هذا الدور، توصلت عبقرية يحيى عياش إلى الاستعانة بخاروف ميت لتدمير دورية عسكرية إسرائيلية تمر في وقت محدد على الخط الشرقي. وكانت المجموعات التي تعمل في المنطقة الشمالية من قطاع غزة قد رصدت الدورية وأبدت استعدادها لنصب كمين لها ومهاجمتها بالأسلحة الرشاشة. ولكن المهندس وجد أن استخدام السلاح الآلي في تلك المنطقة يتسم بالمجازفة نظراً لحيوية ذلك المكان وكثافة السيارات العسكرية الإسرائيلية التي تستخدمه. وبدلاً من ذلك، صمم المهندس عبوتين ناسفتين وصلتا بسلك كهربائي تنفجرا بالتحكم عن بعد وخبأهما في جوف خاروف ميت. وقامت المجموعة الفدائية بوضع الخاروف على بعد (500) متر من محطة وقود تقع بين مفترق نتساريم ونحال عوز، وعند مرور سيارة الجيب التابعة لقوات حرس الحدود، في صباح يوم الثلاثاء الموافق 21 شباط (فبراير) 1995 ضغط أحد المجاهدين على زر التفجير فتمزقت السيارة العسكرية وتطايرت أجزاءها إلى مناطق بعيدة. وعلى الفور، أغلقت سلطات الاحتلال المنطقة، وهبطت طائرتان عموديتان قامتا بإنزال جنود من لواء المظليين لتعزيز عمليات البحث والتمشيط. وقد أسفرت العملية الجريئة عن مقتل ضابط برتبة ملازم وجندي. حيث أكد شهود عيان أن الجيب قد دمر بالكامل وشاهدوا جثتين إلى جانب أجزائه(162).

9- شاحنة تل السبع تكشف سر أبو حسن

بعد الضربات العنيفة التي وجهها المهندس وهزت أركان الدولة والمجتمع الإسرائيلي على حد سواء، وجعلت المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن تتخبط في إجراءاتها وتحاول بشتى الوسائل والأساليب كشف وإحباط العمليات العسكرية المعدة قبل شروع الكتائب القسامية بالتنفيذ، وجدت الشرطة والشاباك في الشاحنة الغزية التي ضبطتها بالقرب من مدينة تل السبع بالنقب والتي كانت تحوي كمية من المتفجرات غير الجاهزة للانفجار قصة تستطيع فبركة فصولها بشكل يضفي إشارات النجاح على أجهزة الأمن كونها أحبطت عملية كبيرة كان المهندس قد أعد وخطط لها بعناية وإحكام. فقالت وزارة الشرطة الإسرائيلية بأن الشاحنة كانت محملة بعشرات الكيلو غرامات وأسطوانات الغاز وأن الهدف هو تفجيرها بمركز سكاني إسرائيلي في جنوب فلسطين المحتلة. وعدلت الشرطة في وقت لاحق روايتها وضخمت الإنجاز الذي حققته بالزعم أن الشاحنة فخخت بمئة كيلوجرام على الأقل من المواد المتفجرة ثم رُفع الرقم إلى مئتين كيلوجرام من مادة (ت.ن.ت) شديدة الانفجار(163). وأوردت الإذاعة الإسرائيلية من جهتها بأن الشاحنة كانت محشوة بأكثر من مائة كيلوجرام من المتفجرات فخخها «عدو إسرائيل الأساس يحيى عياش الذي يعيش متخفياً منذ عدة سنوات»(164). وأخيراً، عادت الإذاعة الإسرائيلية لتنقل عن متحدث باسم الشاباك بأن الشاحنة لم تكن معدة للاستخدام في عملية وإنما لغرض نقل مواد متفجرة غير جاهزة للانفجار عبأت في صناديق، والشابان اللذان اعتقلا لم يكونا ينويان تنفيذ عملية استشهادية كما روجت الشرطة في روايتها الأولى(165).

ومع هذا الوضوح في التخبط الذي وقعت فيه أجهزة الأمن الإسرائيلية، والتي أكدت بصورة قاطعة بأن القضية لا تعدو أن تكون فبركة إعلامية مقصودة، فإن قصة شاحنة تل السبع وإن كانت قد أربكت الشرطة الإسرائيلية لدرجة أنها لم تستطع مداراة ارتباكها، إلا أنها كشفت للشاباك سر كان حتى تلك اللحظة مجهولاً للمحققين. والسر الذي نعنيه هو أن القائد كمال كحيل لم يكن خبيراً بالمتفجرات ولم يتعامل في هذا السلاح أصلاً، بخلاف ما ورد في اعترافات المجاهد الجريح ضياء الشرفا الذي قال للمحققين بأن كمال أعد أكثر من عبوة ناسفة وأنه -أي كمال- جهز العملية الاستشهادية التي نفذها المجاهد أيمن عطا الله في أيلول (سبتمبر) من عام 1993(166).

تبدأ قصة شاحنة المتفجرات من قضية اعترضت استراتيجية المهندس الجهادية التي اعتمدها للتخفيف من آثار محدودية تحركه خارج قطاع غزة والإغلاقات المستمرة والحصار العسكري الذي تفرضه سلطات الاحتلال على القطاع في أعقاب كل عملية تنفيذ داخل فلسطين المحتلة منذ عام 1948. وتتمثل هذه المشكلة بشكل واضح بالحواجز العسكرية وقوات الشرطة والمفاجآت التي قد تعترض عملية نقل المجاهد الاستشهادي بالمتفجرات إلى داخل المناطق المحتلة. وحتى يتغلب المهندس على هذا العائق، وضع خطة تتضمن إقامة مخازن أو مستودعات آمنة في مناطق غير مأهولة بالسكان نسبياً يجري تخزين كميات كبيرة من المواد المتفجرة فيها بصورة سريعة ومتتالية، وفي وقت لاحق، تقوم مجموعات الإسناد بنقل المجاهد الاستشهادي إلى مكان المخزن ويتزود بالمتفجرات ثم ينطلق إلى هدفه بعد تزويده بالمعلومات والتفاصيل المطلوبة لتشغيل العبوة(167).

وبعد دراسة مستفيضة، وجد القائد القسامي أن منطقة تل السبع في النقب تعد غير مأهولة نسباً وقريبة في نفس الوقت على قطاع غزة والضفة الغربية. وعليه، طلب المهندس من أخيه كمال كحيل أن يتولى عملية تجهيز قاعدة آمنة في المنطقة بالتعاون مع عناصر سرية من أبناء الحركة الإسلامية. ولأن المجاهد وسام فرحات* [وسام فتحي رباح فرحات: من سكان حي الشجاعية شرق مدينة غزة ويبلغ من العمر 22 عاماً، وهو من مؤيدي حركة حماس وشقيقه نضال معتقل في سجن النقب على قضية لكتائب عز الدين القسام. وقد استشهد القائد عماد عقل في منزل عائلة وسام.] اعتاد العمل في قطاع البناء منذ فترة طويلة بمدينة تل السبع، فقد وجد فيه القائد كمال كحيل الشخص المناسب لترتيب إجراءات نقل وتخزين المواد المتفجرة، خاصة وأنه أقام علاقات جيدة مع عماد أبو رقيق (23 عاماً) وهو بدوي من سكان تل السبع ومؤيد للحركة الإسلامية.

وخلال اللقاء الذي تم بين كمال كحيل ووسام فرحات في منزل الأول بحي الرمال، في شهر كانون الثاني (يناير) من عام ،1995 بهدف تحديد دور وسام في المساعدة بتأسيس المخزن وتسهيل عملية نقل المجاهدين الاستشهاديين من حاجز إيرز إلى تل السبع، اقترح وسام استخدام الشقة التي استأجرها في تل السبع والاستعانة بعماد أبو رقيق. وبناء على ذلك، التقى القائد كمال كحيل مع عماد وتحدث معه عن أفضل الطرق للوصول بالمواد المتفجرة إلى داخل الخط الأخضر، واتفق معه أن ينتظر المجاهدين عند حاجز ايرز ويرشدهم للطريق إلى تل السبع(168).

ولكن الخطة جمدت بسبب الإغلاق الشامل الذي فرض على قطاع غزة بعد عملية بيت ليد. وما أن أعيد فتح حاجز ايرز بتاريخ 19 آذار (مارس) ،1995 حتى طلب المهندس من القائد كمال كحيل المباشرة بتنفيذ الخطة السابقة حيث اتفق مع وسام فرحات ورياض محمد أحمد السمري، وهو سائق شاحنة من غزة يبلغ من العمر (44 عاماً) ولديه شاحنة من طراز فولفو تحمل تصريح إسرائيلي بدخول المناطق المحتلة منذ عام 1948 لنقل الدجاج من قطاع غزة، على اللقاء في ورشة تقع بين بيت لاهيا والشجاعية في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الاثنين الموافق 20 آذار (مارس) 1995. وفي الموعد المحدد، وصل وسام ورياض وأدخلت الشاحنة إلى الورشة التي كانت محاطة بجدار حجب ما يجري بالداخل.وكشف وسام للمحققين الإسرائيليين فيما بعد بأن أربعة أشخاص فقط اشتركوا في نقل عبوتين جانبيتين وأربعة حقائب من نوع جمسبون، تزن الواحدة بين 5 و7 كيلوجرامات من المتفجرات (المجموع الكلي بين 30 و42 كيلوجرام)، إلى مكان أعلى كابينة السائق وموهت بشكل لا يستطيع من يبحث في الشاحنة أو يفتشها اكتشاف الحقائب.

ولم يكن الأربعة سوى وسام ورياض وأبو حسين وهو أحد قادة حركة حماس في مدينة غزة، وفق ما ذكره وسام، بالإضافة إلى شاب التقاه أكثر من مرة عند القائد كمال كحيل ولكنه لم يتعرف على اسمه حيث اكتفى بتعريف نفسه باسم (أبو حسن). ولأن وسام لا يحمل تصريح دخول للمناطق المحتلة منذ عام ،1948 فقد اختبأ داخل الشاحنة التي انطلقت باتجاه حاجز ايرز. وبعد عبور حاجز ايرز، تتبعت الشاحنة سيارة عماد أبو رقيق نحو تل السبع حيث وصلت المنطقة المسكونة في نحو الساعة السادسة والربع مساءً. وعندئذٍ، نزل رياض السمري من غرفة السائق وتوجه إلى الجزء الخلفي للسيارة وطلب من وسام الخروج من مخبأه. وما أن بدأ وسام بالنزول حتى عاد رياض وأشار إليه بالبقاء في مخبأه داخل الشاحنة، إذ لاحظ دورية شرطة تقترب من الشاحنة. وهنا حدث الخلل، فقد ارتبك عماد أبو رقيق وأطلق العنان لسيارته رغم تحذيرات دورية الشرطة التي توقفت بجانب الشاحنة. وازدادت شكوك الشرطيين الإسرائيليين عندما تلعثم رياض بالإجابة عن أسئلتهما، فطلبوا منه تفريغ الشاحنة من أقفاص الدجاج، بينما قام أحدهما بالتفتيش داخل غرفة القيادة. فارتبك المجاهد رياض السمري، وقام بمهاجمة الشرطيين بقضيب حديد وضربهما بقوة على رأسيهما قبل أن يهرب باتجاه قرية تل السبع. ومع قدوم التعزيزات من قوات الشرطة وحرس الحدود وتفتيش الشاحنة وإلقاء القبض على وسام فرحات ومن ثم رياض السمري في اليوم التالي، قام خبراء متفجرات من الشرطة الإسرائيلية بتفجير الشاحنة التي تطايرت بقاياها على مسافة مئات الأمتار بعد فشلهم في إبطال مفعول العبوات الناسفة والحقائب المفخخة التي أعدها المهندس(169).

وتلقفت أجهزة الإعلام الإسرائيلية الموضوع، وبدأت تنسج الأكاذيب والقصص الخيالية عن الشاحنة وعن كمية المتفجرات في سياسة مقصودة ومبرمجة. وفي نفس الوقت، تعرض المجاهدان لظروف اعتقالية خطيرة بسبب التحقيق والتعذيب الشديدين في سجن عسقلان. فقد نقل المحامي صالح محاميد الذي سمحت له سلطات الاحتلال زيارة المجاهدين المعتقلين يومي 28 و29 آذار (مارس) 1995 «أنهما يتعرضان لتعذيب جسدي عنيف خلال التحقيق من قبل ضباط المخابرات الإسرائيلية لانتزاع اعترافات منهما حتى أن رياض بسبب التعذيب الوحشي أغمي عليه ثلاث مرات خلال اللقاء ولم يستيقظ خلال ساعة الزيارة سوى خمس دقائق فقط». ويضيف المحامي محاميد: «إن وضعهما سيئ للغاية وبحاجة سريعة لعلاج طبي ونقل للمستشفى»(170). وتؤكد مصادر أمنية رفيعة المستوى تعمل مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة بأن الجنرال كارمي غيون - رئيس الشاباك- أشرف بنفسه على التحقيق بشكل مباشر مع وسام ورياض حيث اعترف المجاهد وسام فرحات بأنه خطط مع كمال كحيل وأبو حسن وعماد أبو رقيق لأسر جندي إسرائيلي من إحدى المحطات بين اسدود وبئر السبع بعد إقناعه بركوب سيارة من نوع (GMC) مزودة بلوحات إسرائيلية صفراء كان عماد قد اشتراها لهذا الهدف. وتضمنت الخطة أيضاً، تنويم الجندي بغاز التنويم ثم نقله إلى اسدود، ومن هناك يدخل إلى شاحنة كبيرة تقله إلى قطاع غزة، ويضيف وسام بأن أبو حسن طلب منه مرافقة عماد أبو رقيق في جولاته الاستكشافية بين أسدود وبئر السبع لفحص المنطقة والتأكد من وجود جنود في الطريق إلى جانب فحص الوضع العام من ناحية الحواجز العسكرية. وقد تجمدت عملية التنفيذ بعد وقت قصير من الجولة الاستكشافية بسبب الطوق الشامل إثر عملية بيت ليد(171).

اسم أبو حسن هذا عاد إلى تصدر أوراق التحقيق مرة أخرى حين اعترف المجاهد وسام فرحات بأنه كان أحد أفراد المجموعة التي وضعت عبوات ناسفة بالقرب من مفترقات الطرق المؤدية إلى المستوطنات والثكنات العسكرية، ثم.. وهنا كانت المفاجأة الأهم، كشف للجنرال غيون أن القائد كمال كحيل لم يقم بتجهيز العبوات الناسفة ولا الحقائب المفخخة لأنه يجهل التعامل مع المتفجرات، وأن الذي قام بذلك هو أبو حسن الذي التقاه أكثر من مرة ليتسلم منه عبوات ناسفة. وحين ضغط الجنرال غيون وكبار مساعديه على المجاهد المعتقل طالبين أوصاف هذا الشخص، قدم وسام إجابة دقيقة مكنت المختصين في الشاباك من رسم صورة تقريبية بُنيت على الوصف، فكانت الملامح فيها أقرب ما تكون إلى ملامح القائد يحيى عياش. وعندئذٍ اطمأن رئيس الشاباك إلى المعلومات التي وردته من بعض مسؤولي الأجهزة الأمنية في سلطة الحكم الذاتي، فأمر المحققين بالضغط أكثر على وسام لتقديم معلومات وافية عن مكان إقامة كمال كحيل في حي الشيخ رضوان، وهو المكان الذي التقى فيه وسام بالمهندس دون أن يتعرف على شخصيته(172).

10- ويمكرون ويمكر الله

اعتبر المحققون الإسرائيليون، وأولهم رئيس جهاز الشاباك، أن فرصة القضاء على المهندس والتخلص من الرعب الذي يشكله داخل المجتمع الإسرائيلي قد أصبحت فرصة واقعية بعد انتهاء التحقيق مع المجاهدين المعتقلين، فالاعترافات التي توفرت للجنرال كارمي غيون تشير إلى أن المهندس والعديد من قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام يقضون وقتاً محدداً في شقة سكنية بحي الشيخ رضوان. وحتى لا تضيع هذه الفرصة، وضع قسم العمليات بجهاز الشاباك خطة لمراقبة الشقة ومعرفة كل من يتردد عليها، وأوقات وجود المهندس فيها، ومداخلها ومخارجها، قبل الإقدام على تنفيذ أي عملية عسكرية. وقامت خطة المراقبة على ثلاثة أسس هي:

أ- الاعتماد على العملاء المحليين الذين يعرفون سكان المنطقة لرصد وتسجيل أوصاف كل الغرباء، وتمرير المعلومات أولاً بأول إلى ضباط الاتصال بالطرق المعتادة. ويستهدف هذا الأمر، التأكد من وجود المهندس بشكل محدد.

ب- تقديم رسم دقيق جداً للمبنى الذي تقع فيه الشقة، وتصوير مداخله إن أمكن، إضافة إلى تصويره من الخارج، مع تركيز الاستطلاع على الدرج الممتد من بداية المبنى إلى طابقه العلوي، ومعرفة ما إذا كان السكان يستخدمون بيت الدرج في تخزين أي مواد وما هي طبيعة هذه المواد وحجمها.

ج- التعاون مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والتنسيق مع مسؤولي الأجهزة الذين يمكنهم المساعدة في تقديم التسهيلات اللازمة والمشاركة في العملية مباشرة. واستناداً لما كشفه هاني الحسن (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح) فإن العميد غازي الجبالي الذي كان يتولى مسؤولية إدارة شرطة الحكم الذاتي في مدينة غزة في ذلك الوقت، استطاع إقناع القائد كمال كحيل بأن المخابرات الإسرائيلية تعتزم تصفيته، وأن الشاباك تمارس ضغوطاً كبيرة عليه -أي الجبالي- لتقديم المساعدة. واقترح العميد الجبالي على القائد القسامي وضع ضابط للاتصال بينهما من أجل تلافي اعتقال كحيل أو تصفيته. وبناء على ذلك، عين الجبالي شخصاً يدعى عاطف العايدي كضابط اتصال مع القائد كمال كحيل. وأكمل الجبالي مسرحيته بإيهام القائد القسامي بصدق نواياه حيث قام بتسريب جملة معلومات أمنية قيمة حتى بات الشهيد كمال كحيل ميالاً للاقتناع بصدقه وحسن نواياه(173).

وبعد انتهاء عملية المراقبة وجمع المعلومات من عملاء الشاباك ومخبري غازي الجبالي، تسلم محققو الشاباك النتائج والتقارير. وعند مقارنة أوصاف المطلوبين من كتائب الشهيد عزالدين القسام، تبين أن أبرز الذين يترددون على الشقة هم: يحيى عياش، وكمال كحيل، ونضال دبابش وحاتم حسان. كما أشارت التقارير أيضاً إلى وجود ما يشبه المستودعات المليئة بصناديق القمامة والصناديق الفارغة تحت بيت الدرج، وهي صناديق تحوي مواد كيماوية خاصة بالدهان وصبغ السيارات تعود لصاحب الشقة كونه يعمل في تلك المهنة.

وقد ركز ضباط الشاباك على هذه النقطة بشكل كبير لاستغلالها لاحقاً في وضع العبوات الناسفة شديدة الانفجار في أسفل الدرج المقابل للطابق الثاني حيث تقع الشقة. وفيما يتعلق بأنسب الأوقات لعملية التفجير، أفادت التقارير الاستخبارية بأن المهندس وعدد كبير من مقاتلي الكتائب يتواجدون في الشقة بين الثانية عشرة ظهراً والرابعة بعد الظهر. ولأن أجهزة الأمن الإسرائيلية تعرف المنطقة جيداً، فقد تم تأشير المبنى على خارطة مدينة غزة، وخارطة حي الشيخ رضوان تحديداً، وعرضت الخارطتان على العملاء الذين قاموا بالاستطلاع لإضافة أي معلومات ممكنة بشأنها قبل تنفيذ عملية التفجير. وأما فيما يتعلق بالعملية نفسها، فقد تقرر وضع العديد من العبوات الناسفة في بيت الدرج وعبوة ناسفة تحتوي على كيلو غرامين من مادة (ت.ن.ت) في صندوق القمامة القريب من الباب الرئيسي للشقة، حيث أكدت الاستطلاعات بقاء هذا الباب مغلقاً بشكل دائم، وهو ما أدى إلى تسهيل العملية إلى حد كبير. وفي أثناء وضع اللمسات الأخيرة على خطة تفجير المبنى، قررت الشاباك إخلاء المنطقة من العملاء بشكل كامل في ساعة التفجير(174).

وبعد أخذ موافقة القيادة السياسية الإسرائيلية، أمر الجنرال كارمي غيون بالمباشرة بالعملية حيث قامت خلية تجسس تعمل لصالح الشاباك يتزعمها رفيق عليان ومن أبرز أعضائها، رائد العجور الذي يشغل منصب قائد القوة التنفيذية لأمين الهندي (رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية العامة) وأسامة الغول الذي يشغل أيضاً منصب قائد القوة التنفيذية للعميد موسى عرفات (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية) بوضع العبوات الناسفة في بيت الدرج يوم الأحد الموافق 2 نيسان (إبريل) 1995. وحتى تتأكد الشاباك من وجود المهندس في ذلك الحين داخل الشقة، قام عاطف العايدي وبرفقته رفيق عليان بزيارة القائد كمال كحيل. ولكن عناية الله، جعلت تلك الزيارة تحقق عكس ما هو مرجو منها، إذ أثارت استياء المهندس الذي احتج بعد خروج العايدي وعليان على قبول الشهيد كمال كحيل باستقبال أشخاص لا يعرف انتماءهم الحقيقي. ولذلك، خرج المهندس وبرفقته عبد الفتاح السطري من الشقة مباشرة بعد مغادرة العايدي وعليان، أي في تمام الساعة الثالثة من بعد الظهر.

وفي نحو الساعة الثالثة والثلث، عاد رفيق عليان إلى المبنى متنكراً بزي امرأة، دون أن يدري بخروج المهندس -وكان يحمل بيده حقيبة سوداء تحوي كيلو غرامين من المتفجرات وسلمها إلى الطفل بلال سعيد دعبس (ابن صاحب الشقة)، وطلب منه أن يسلمها إلى القائد كمال كحيل* [ذكر تقرير لحركة حماس في قطاع غزة بأن شباب عاديين من حماس شكوا برفيق عليان في ذلك اليوم لأنهم رأوه متنكراً بزي امرأة، وقد حلق شاربه، واعترف لهم بما فعل. ولكنه تمكن من الهرب منهم حيث لم يكونوا مسلحين، وتوقع التقرير أن العميل هرب إلى مصر أو ألمانيا.]. وما هي إلا ثوان حتى دوى انفجار هائل دمر المبنى وأودى بحياة القائد كمال كحيل وحاتم حسان وبلال دعبس وسعيد إبراهيم دعبس الذي توفي متأثراً بجراحه بعد خمسة أيام من الجريمة بينما أصيب على الصباح ونضال دبابش بجروح وحروق متوسطة نقلا على أثرها إلى المستشفى حيث قامت عناصر تابعة لجهاز الأمن الوقائي بسلطة الحكم الذاتي باختطاف الأخير للتغطية على (المجزرة - المؤامرة) كونه الساعد الأيمن للقائد كمال كحيل وشارك منذ خمس سنوات في الجهاز العسكري لحركة حماس وعمل بشكل أساسي بالتنسيق بين المهندس والقائد الشهيد لنقل الوسائل القتالية ووضع الخطط لتنفيذ العمليات العسكرية وتصفية خلايا التجسس الإسرائيلية في مناطق قطاع غزة(175).

لم تكتف شرطة الحكم الذاتي بالدور الذي قامت به، بل عملت على ترويج الأكاذيب والافتراءات في محاولة مكشوفة لبث الدعاية المغرضة بأن حركة حماس غير مهتمة بأمن وسلامة الجمهور الفلسطيني. فقالت السلطة الفلسطينية عبر العميد غازي الجبالي والطيب عبد الرحيم بأن الشقة في الحقيقة هي «مركز تستخدمه حماس لصنع المتفجرات، والانفجار ناتج عن أخطاء ارتكبها أعضاء الحركة أثناء عملية التعامل مع هذه المتفجرات»(176). ومع أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لم تكلف نفسها عناء الرد على هذه الأكاذيب لوضوح الحقيقة لدى جماهير الشعب الفلسطيني، فإن بعض الشرفاء من داخل سلطة الحكم الذاتي نفسها انبروا يفندون هذه الافتراءات حيث عقد خبيرا المتفجرات في مديرية الدفاع المدني مؤتمراً صحافياً في غزة نفيا فيه رواية غازي الجبالي، وأشارا إلى أن الانفجار ناجم عن عبوة ناسفة موقوتة وضعت بفعل فاعل أثناء غياب سكان المنزل عنه(177). كما شاهد الجميع على شاشات التلفاز كيف أن أحد ضباط غازي الجبالي ضغط بقدمه على الحقائب التي قيل أنها كانت مفخخة، ثم ادعى أنه يفكك عبوات، وبعد ذلك حمل العبوات وسار وسط حشود من أفراد الشرطة الفلسطينية، وهو ما لا يقبله عقل أو منطق. إذ لو كان ما يحمله عبوات، لما سار معه أحد، ولما حملها على صدره خشية انفجارها(178).

11- لغز القبر الرابع

بعد الانفجار العنيف في حي الشيخ رضوان، راجت شائعات قوية بأن المهندس قد قتل، وأخذت وكالات الأنباء الأجنبية ووسائل الإعلام المختلفة تبث في صدر نشراتها بأن يحيى عياش الذي اشتهر بلقب (المهندس) كان بين قتلى الانفجار في غزة. واستندت هذه الإشاعات إلى معلومات سربتها الشاباك بشكل غير مباشر بطلب من الجنرال كارمي غيون الذي حاول أن يضفي هالة من العبقرية على هذا الإنجاز الذي يشكل حلم الدولة العبرية. ومما دعم هذه الروايات، تضارب الأنباء حول عدد الشهداء الذين قضوا في (المجزرة - المؤامرة) التي استهدفت قادة ومجاهدي كتائب عز الدين القسام. فقد بدأت بيانات شرطة الحكم الذاتي بالإعلان عن سقوط ثمانية شهداء، ثم خفضت العدد إلى ستة قبل غروب شمس اليوم. ولم يمض أربع وعشرون ساعة حتى نقص العدد إلى خمسة. وأخيراً، أعلنت الشرطة الفلسطينية في بيانها العثور على أربعة جثث تعود ثلاث منها للشهداء: كمال كحيل وحاتم حسان والطفل بلال الدعبس بينما لم يتم تشخيص الجثة الرابعة نظراً لعدم توفر وسائل فنية لتشخيص الجثث وفحص أنسجة العظام. ولم تكن هذه الجثة التي دفنت في قبر مستقل إلى جانب قبور الشهداء الثلاثة سوى أشلاء الشهداء أنفسهم التي تناثرت لمسافات كبيرة نتيجة شدة الانفجار. ولئن تجاوزنا هذه الحقيقة، فإن (الجثة المجهولة) كانت مشوهة بدرجة كبيرة جعلت التعرف على صاحبها أمراً متعذراً. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن العميد غازي الجبالي الذي كان متيقناً من وجود المهندس داخل الشقة، أراد أن يكون صاحب البشرى بأن الجثة المجهولة قد تكون ليحيى عياش. ولم يكتف العميد الجبالي بذلك، بل أنه حاول تأكيد هذه الرواية بالزعم «أن مسؤولي الأمن الفلسطينيين ضبطوا وثائق في المبنى المكون من ثلاثة أدوار تفيد بأن يحيى عياش وكمال كحيل تعاونا في إعداد المواد المتفجرة التي كانت حماس تعتزم استخدامها في غزة ضد مسؤول رفيع في منظمة التحرير الفلسطينية»(179).

وتلقفت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذه الأخبار، لتضع صحيفتي يديعوت أحرونوت ومعاريف الصادرتين يوم الثلاثاء الموافق 4 نيسان (إبريل) 1995 في صدر عناوينها الرئيسة أن الشرطة الفلسطينية تعتقد أن المهندس يحيى عياش من بين قتلى الانفجار في حي الشيخ رضوان. وأبرزت الصحيفتان توضيحات قائد شرطة غزة، العميد غازي الجبالي التي جاء فيها: «إن الشرطة الفلسطينية تفحص إمكانية أن إحدى الجثث التي لم يتم تشخيصها حتى الآن هي جثة يحيى عياش». واستخدم الجبالي كلمات (قد تكون) و(إمكانية) و(نعتقد) حتى لا يفهم بأنه كان على علم بوجود المهندس داخل الشقة.

وكان سفيان أبو زايدة، عضو اللجنة الحركية العليا لحركة فتح بقطاع غزة، أكثر حذراً حين دعا المتفائلين الإسرائيليين بنجاح جريمتهم إلى التريث ريثما يتم التأكد من الجثة الرابعة، وإذا كان يحيى عياش من بين الأشخاص الذين قضوا في عملية التفجير أم لا، وإن كان أبو زايدة قد قال صراحة للإذاعة الإسرائيلية بأنه (يعتقد) أن التحقيقات وتشخيص الجثة ستقود إلى هذه الحقيقة، أي مقتل المهندس(180). وانجر اليكس فيشمان، المحرر المسؤول عن الشؤون الأمنية في صحيفة معاريف وراء هذه الإشاعات، فأخذ يحلل طبيعة العلاقة بين كمال كحيل ويحيى عياش وتعاونهما في التخطيط والتنفيذ، ومما جاء في المقال الذي كتبه تحت عنوان (الحكم الذاتي ليس ملجأً آمناً لمطلوبي حماس): «الانفجار الذي وقع أمس في شقة في حي الشيخ رضوان، شطب من رأس قائمة المطلوبين القساة جداً في القطاع اسم كمال كحيل رئيس خلايا عز الدين القسام، الذي تلوح صورته في ملصق المطلوبين المعلق في غرف وحدات الجيش والشرطة، إلى جانب صورة المطلوب رقم واحد في الضفة المهندس يحيى عياش. إن حقيقة وجود صورهما الواحدة إلى جانب الأخرى ليست عفوية، حيث تعاونا لفترة طويلة سواء بتحضير العبوات على اختلاف أنواعها أو بترويج أسلوب المنتحرين»(181).

نام الإسرائيليون، حكومة وشعباً، تلك الليلة بهدوء واطمئنان بعد أن وضع الجنرال كارمي غيون الذي تعهد لدى تسلمه مهام منصبه بأن تكون مهمته الأولى تصفية المهندس، النهاية السعيدة -باعتقادهم- للمطاردة المتبادلة مع الأسطورة التي أقلقتهم لثلاث سنوات، والذي تصادف مع مرور ثلاث سنوات على الإعلان عن يحيى عياش كمطلوب للحكومة الإسرائيلية. ولم يكن يخطر ببال أحد منهم، وحتى رابين أو غيون، بأن تتبخر السعادة وتستبدل الطمأنينة بالشك والخوف بعد أربع وعشرين ساعة فقط. ففي اليوم التالي للجريمة، بدأ الغموض يحوم حول ما اعتبره الجبالي وغيره حقيقة، إذ أوضحت تحقيقات أجراها طاقم خاص بشرطة الحكم الذاتي بأن يحيى عياش لم يكن من بين القتلى.

ونقلت صحيفة معاريف تصريحاً لمسؤول كبير في السلطة الفلسطينية لم تشر إلى اسمه جاء فيه: «لدينا دلائل أن يحيى عياش كان بالفعل في مصنع المتفجرات في حي الشيخ رضوان، ولكنه خرج من البناية قبل بضع دقائق من وقوع الانفجار». وفي إشارة إلى الدلائل التي توفرت لديه، أضاف المسؤول الفلسطيني بأن جميع القادة السياسيين لحركة حماس في قطاع غزة توجهوا بسرعة بعد وقوع الانفجار إلى مستشفى الشفاء وتفحصوا هوية الشهداء، ولم يغادروا إلا بعد أن تيقنوا بأن المهندس قد نجا(182). وازداد الغموض لدى سلطات الاحتلال وأجهزتها الأمنية حين أكدت الشرطة الفلسطينية في اليوم التالي أنه لا يوجد قتيل رابع. وعليه، فإن القبر الرابع احتوى على أشلاء للشهداء الثلاثة لم يتم تحديدها بالضبط. وعندئذ، تنصل العميد غازي الجبالي من روايته وادعى بأن وكالة رويتر نقلت عنه معلومات غير دقيقة، بل أنه نفى أن يكون قد تحدث مع المراسلة أصلاً(!). وليس هذا فحسب، فحين توجهت صحيفة يديعوت أحرونوت بالسؤال لعدد من المسؤولين في غزة حول ما إذا كان المهندس حي أم ميت أو يعيش في الضفة الغربية، رد العميد الجبالي بالقول: «إن يحيى عياش لم يكن هناك». وجاءت الردود الأخرى مثيرة للتكهنات المتناقضة أوقعت جهاز الشاباك في حيرة من هذا الأمر. فمن جهة حركة حماس في ذلك الوقت، قال عماد الفالوجي: «لا توجد معلومات واضحة، هذه كلها إشاعات وسيظهر الأمر لاحقاً ونحن لسنا متعجلين من أمرنا»، بينما رد الدكتور غازي حمد على تساؤلات الصحيفة: «إذا كان المهندس قتل فلن نخفي ذلك، وأنه لشرف له أن يكون شهيداً.. إن هذه الأنباء ما هي إلا تصريحات من الشرطة الفلسطينية تستهدف تهدئة الإسرائيليين، ولكن هذا النبأ عار عن الصحة». ويضيف سفيان أبو زايدة بما يناقض ما ذهب إليه في يوم الانفجار بقوله: «ليس هناك أحد يعرف ما حل بمصير يحيى عياش وأين يتواجد»(183).

أما عائلة المهندس، فقد بدت غير مكترثة لكل هذه الشائعات، لإيمانها بأن كل شيء في يد الله سبحانه وتعالى. ولم تخرج إجابة أبو يحيى عن هذا المفهوم، إذ أجاب مذيع القناة الأولى بالتلفزيون الإسرائيلي الذي زار رافات لمعرفة رد فعل العائلة بقوله: «إن كان موجوداً في غزة فلم يبحثون عنه عندنا، بإمكانهم التفتيش عنه في غزة، وإذا كان قد قتل فهذا من عند الله والموت حق على كل إنسان، وكلنا سنموت وليس يحيى فقط.. عدا عن ذلك، فإن يحيى ليس وحيداً، فكل الناس هم يحيى.. إياك أن تظن أن يحيى يعمل لوحده، فكل الشعب هو يحيى»(184).

ويبقى الأثر الأهم للغز القبر الرابع، ما يتعلق بجهاز الشاباك نفسه، الذي دبر عملية التفجير للتخلص من المهندس. فقد بقي ضباط الاستخبارات ومحققي الشاباك أسبوعاً كاملاً يتساءلون هل قتل يحيى عياش أم لا زال بين الأحياء يتجول بصمت في منطقة ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة وربما حتى داخل الخط الأخضر.

فيكتب محرر الشؤون الأمنية في صحيفة يديعوت أحرونوت تقريراً مطولاً تحت عنوان (المهندس: حي أم ميت) جاء فيه: «ليس هناك معلومات تتيح الرد على هذا السؤال. ولكن يبدو أن هذا الأمر لا يحول دون رواج الشائعات في غزة والضفة وحتى داخل إسرائيل ذاتها من قبل: كان في البيت في حي الشيخ رضوان أثناء الانفجار؟ تمكن من الخروج من البيت قبل لحظات؟ قتل؟ يتجول بين نابلس ورام الله؟ كل وإشاعته، فإذا كان المهندس لا زال بين الأحياء، فإن ذلك يعد إخفاقاً لجهاز المخابرات الإسرائيلي لا سيما وأن هذا الرجل لا يعمل كذئب منفرد وإنما بالاستعانة بشبكة كبيرة من المعاونين الذين يزودونه بالوثائق اللازمة لتنقلاته والمواد المتفجرة والمأوى والغذاء، كما يزودونه بالملابس ويجرون لحسابه اتصالات مع منفذي الهجمات ومع القيادة».

وتمضي الصحيفة إلى القول: «في أوساط الهيئة الأمنية الإسرائيلية باتوا يشعرون بالجنون، ويتساءلون، إذا كان عياش على قيد الحياة فلماذا لا يظهر دلائل تشير إلى أنه حي يرزق؟ غير أن هذه الأوساط تعتقد أن الرجل الذي يتوق الإسرائيليون شوقاً إلى شطبه من قائمة الأحياء يتجول سالماً معافى، وربما كان يعد العدة لهجوم مباغت غير مبال بالأسئلة التي تحوم في الفضاء حوله»(185).

12- شيخ أزهري يشارك في جنازة بدون شهداء

«قاس، ومجنون، وماكر.. الأكثر جرأة والأقل خوفاً» هذه هي بعض الأوصاف التي نسبت للشهيد القائد كمال كحيل. والتعابير الأولى مأخوذة من انطباعات إسرائيلية لضباط ومعلقين عسكريين، بينما الأوصاف الأخيرة ترددت على لسان جماهير الشعب الفلسطيني التي عرفت كمال عن قرب. فالشهيد القائد الذي ولد في حي الرمال بمدينة غزة عام ،1961 كان الابن الرابع لأسرة فقيرة عاشت أوضاعاً اقتصادية صعبة، الأمر الذي اضطر معه إلى ترك الدراسة في الصف الثالث الإعدادي ليعمل مع والده في المخبز الصغير بحي الصبرة، قبل أن يتحول للعمل في مهنة السمكرة داخل الخط الأخضر. وعرف الشهيد طريقه إلى مسجد العباس منذ نعومة أظافره فكان شبلاً إسلامياً، تميز على الدوام بنشاطه وفعاليته في صفوف الحركة الإسلامية في القطاع. وحين تفجرت الانتفاضة المباركة، شارك الشهيد بفعالية في المواجهات والصدامات ليلتحق بكتائب الشهيد عز الدين القسام بعد تشكيلها بفترة قصيرة ضمن مجموعة الشهيد طارق دخان والشهيد ياسر الحسنات. وسرعان ما تحول إلى واحد من أخطر المطلوبين الذين كانت تبحث عنهم الشاباك وعرف عنه بأنه المطلوب رقم واحد لسلطات الاحتلال في قطاع غزة حيث لعب دوراً مهماً في تنظيف غزة من العملاء إلى جانب مسؤوليته في انتقاء وتجنيد المجاهدين وتأهيلهم. كما نفذ الشهيد القائد العديد من العمليات البطولية، والهجمات الناجحة ضد دوريات وجنود العدو، إذ كان من أبرزها الثأر للشهيد عماد عقل بقتل الكولونيل مئير مينتس -قائد الوحدات الخاصة في القطاع- وضابط آخر برتبة رائد بعد شهر واحد فقط من استشهاد عماد. وإلى جانب هذه المساهمات، بذل القائد القسامي ماله في سبيل دعم الجهاد وظل حاملاً روحه على كفه يرافقه الشهيد حاتم حسان والجريح نضال دبابش في سبيل الله. وحين وفد المهندس إلى قطاع غزة، أوكل للشهيد كمال كحيل توفير الحماية ومجموعات الإسناد والدعم له، ولم يكتف بذلك، فقد أصر على مشاركة المهندس في وضع (14) عبوة ناسفة والتخطيط لثلاث عمليات استشهادية(186).

ولأن القساميون يمتلكون مصداقية عالية في أوساط الشعب تراكمت عبر العطاء الجهادي المتواصل، فقد تجمع نحو خمسين ألف شخص من أبناء قطاع غزة في صلاة ظهر اليوم التالي بالمسجد العمري الكبير بمدينة غزة حيث كان مفاوضون من حركة حماس قد اتفقوا مع سلطة الحكم الذاتي أن تُسلم لهم -أي حماس- جثث شهداء مجزرة حي الشيخ رضوان لتشيعها. وتتفاجأ الجماهير المحتشدة بأن السلطة قد تراجعت عن الاتفاق بحجة البيان الذي أصدرته كتائب الشهيد عز الدين القسام حول الجريمة. وليس هذا فحسب، وإنما قامت الشرطة الفلسطينية بدفن الجثث دون أن يعلم أحد أو تسمح لأهاليهم بإلقاء نظرة الوداع عليهم. وعندئذٍ، غضبت الجماهير، وقررت القيام بمسيرة تنطلق من المسجد باتجاه المقبرة الشرقية في حي الشجاعية حيث دفن الشهداء. وتحولت الجنازة الرمزية التي حملت خلالها ثلاث نعوش فارغة إلى تظاهرة عارمة ضد سلطة الحكم الذاتي، وعبرت الجماهير وكلمات المشيعين عن غضب وسخط لا حدود لهما جراء إجراءات السلطة حيث رفعت الجماهير صوراً ليحيى عياش ورددت هتافات من قبيل: (الانتقام.. الانتقام يا كتائب القسام)، (ولازم يعرف كل الناس.. مين رجالك يا حماس) و(عياش انتقم لشهدائنا)(187).

المئات من أفراد شرطة الحكم الذاتي راقبوا المسيرة، والطائرات المروحية الإسرائيلية حلقت فوق الحشود، وطواقم التلفزيون الإسرائيلي صورت الجنازة الرمزية من المسجد وحتى المقبرة لتبث مشاهدها في المساء. وكل هؤلاء، أو بعضهم، لا بد أن يكون قد مر بالقرب أو حتى لمح ذلك الشيخ الأزهري، ذو اللحية الطويلة الذي يرتدي جلابية ويضع على عينيه نظارة. فقد كان هذا الشكل مميزاً في وسط هذه الجموع. ولم يكن أحد من بين هؤلاء وحتى من بين آلاف المشاركين في الجنازة يعلم بأن هذا الرجل يتنكر وراء هذه الهيئة. وكما هو الحال بالنسبة لكل شخصية أسطورية، فقد اتضح فيما بعد بأن المهندس يحيى عياش الذي كان المئات من الشبان يرفعون صوره مطالبين بالثأر قد ضلل الجميع بتنكره على هيئة الشيخ الأزهري حيث كان يلازمه أثناء تواجده في المسجد وطوال المسيرة مرافقاه، أبو مصعب وأبو سليمان(188). ولئن كانت هذه مجازفة خطيرة من قبل القائد القسامي، فإنها تعبر بصدق عن مدى العلاقة الأخوية الصادقة التي توثقت عبر المعايشة اليومية والجهادية.

13- عاصفة الثأر

كتائب الشهيد عز الدين القسام لم تسكت في الماضي، وبادرت إلى الانتقام الفوري لكل جريمة صهيونية استهدفت جماهير الشعب الفلسطيني أو قادة المقاومة الإسلامية، وهذا الأمر كانت تدركه حكومة اسحق رابين التي أعلنت الاستنفار في صفوف جيشها وقوات حرس حدودها وطالبت المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة بالحذر وعدم التحرك إلا بمرافقة وحدات عسكرية. وفي الطرف المقابل، ثارت تكهنات في أوساط مؤيدي الحركة الإسلامية حول طبيعة الرد المتوقع وما إذا كان المهندس ما يزال قادراً على الرد بقوة توازي ما قام به بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي ومسجد فلسطين. وتعود هذه التكهنات إلى المعلومات التي وردت للشاباك بأن المهندس قد غادر قطاع غزة عائداً إلى الضفة الغربية بعد استشهاد رفيقه وساعده الأيمن حيث شنت قوات الاحتلال ليلة الخميس الموافق 6 نيسان (إبريل) 1995 حملة مداهمات وتفتيش في منازل العديد من أهالي قرية كفر الديك أثر ورود إخبارية من العملاء بوجود المهندس هناك(189). ولذلك، ليس من قبيل الصدفة أن يرد أحد قادة الحركة الإسلامية السياسيين في قطاع غزة على شائعات مقتل المهندس في جريمة التفجير التي نالت من الشهيد القائد كمال كحيل بقوله: «نحن ننتظر من يحيى عياش دلائل من نوع آخر تثبت أنه ما زال حياً»(190).

باختصار، يمكن القول بأن المهندس يختار أهدافه ويضع خططه بعناية لا تقل بحال من الأحوال عن اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة لعملية التنفيذ. ولذلك، حين سار مهندس الأجيال في جنازة كمال كحيل وحاتم حسان الرمزية، كان مطمئناً بأن الثأر للشهداء سيكون موجعاً وعنيفاً، ولن يتأخر. وبدا واضحاً، منذ أن طلب المهندس من القائد محمد الضيف أن يرشح له مجاهدان استشهاديان، بأنه وضع نصب عيناه أن يثبت لاسحق رابين بأن بقاء قواته ومستوطنيه في قطاع غزة بات مكلفاً للغاية، مالياً وبشرياً. وإلى جانب ذلك، أراد أن يوصل لحكومة تل أبيب أن سلطة الحكم الذاتي قد فشلت في المهمة التي رسمت لها في اتفاق أوسلو، أي منع المقاومة الإسلامية من ممارسة أي نشاط سياسي أو عسكري، وحماية حدود الدولة العبرية ومستوطنيها.

الاستشهاديان اللذان تطوعا لتنفيذ برنامج المهندس بالانتقام للعملية الجبانة هما خالد محمد محمود الخطيب من مخيم النصيرات وعماد محمود سليمان أبو أمونة من مخيم الشاطىء، وكلاهما من أسرة متوسطة الحال ويبلغان من العمر (24 عاماً). فخالد، عمل في مهنة البناء وشارك في الانتفاضة المباركة، وقضى وقته من المسجد للبيت ويمارس الرياضة والكاراتيه، ويتمنى الشهادة ويتحدث عنها كثيراً. وعلى غرار البطل خالد الخطيب، فإن البطل عماد أبو أمونه التزم في الصلاة بالمسجد منذ صغره وشارك في فعاليات الانتفاضة، واعتقل مرتين احترازياً (1989 و 1990) وأصيب مرتين في قدمه خلال المواجهات في مخيم الشاطىء أيضاً. ويعمل عماد الذي أنهى دراسة السمكرة ودهان السيارات وحصل على دبلوم من معهد في مدينة غزة، في مصنع للملابس(191).

وقبل مرور أقل من أسبوع على استشهاد كمال كحيل وحاتم حسان، وضعت إحدى مجموعات الاستطلاع التابعة لكتائب عز الدين القسام أمام المهندس تقريراً عن رصد تحركات الحافلات والسيارات العسكرية المرافقة لها ومواعيد انطلاقها من المحطة المركزية في عسقلان باتجاه المستوطنات اليهودية في قطاع غزة. وبعد دراسة كافة الظروف المحيطة، والإمكانيات المتاحة، استقر الرأي لدى المهندس وأبو خالد على استخدام سيارتين مفخختين، الأولى ضد حافلة تعمل على الخط رقم (36) بين عسقلان ومستوطنات غوش قطيف المحاذية لساحل خان يونس، بينما تهاجم الثانية حافلة أخرى متجهة إلى مستوطنة نتساريم الواقعة إلى الشرق من مدينة غزة.

وعلى هذا الأساس، قام المهندس بتجهيز سيارة من طراز فولكس فاجن وسيارة أخرى من طراز سوبارو بالمتفجرات حيث اشتملت كل منهما على ثلاثة ألغام مضادة للدبابات (سبعة كيلو غراما/ اللغم) وثلاثة ألغام مضادة للأفراد (كيلو غرام واحد/ اللغم) وكمية كبيرة من البارود ورزم من الديناميت والمتفجرات المصنعة والمسامير. وقد قدر خبير المتفجرات في الشرطة الإسرائيلية كمية هذه المتفجرات بين أربعين وسبعين كيلو غرام(192). وبعد تدرب المجاهدان على تفاصيل الخطة وطريقة تفجير السيارتين، قامت مجموعات الإسناد بنقل السيارتين اللتين كتب عليهما شعارات باللغة العبرية للتمويه إلى موقعين قريبين من مكان الهدف(193).

وفي الموعد المحدد، غادر المجاهد خالد الخطيب منزل ذويه في نحو الساعة السادسة من صباح يوم الأحد الموافق 9 نيسان (إبريل) 1995 دون أن يدري أحد من المقربين له والأصدقاء عما خطط له. وقاد خالد سيارة فولكس فاجن على الطريق الواصل بين مستوطنتي كيسوفيم وكفاردروم، وانتظر لفترة من الوقت على الجانب الشرقي من الطريق. وعندما وصلت الحافلة الإسرائيلية التي خصصت لنقل الجنود من مدينة عسقلان وتوزيعهم على القواعد العسكرية في مستوطنات غوش قطيف في نحو الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق ظهراً، خرج المجاهد بسيارته المفخخة من الطريق الجانبي وتوجه بسرعة كبيرة متجاوزاً سيارة الجيب التي كانت تحرس الحافلة من الخلف واصطدم بالحافلة من الوسط لتنفجر السيارة والحافلة معاً على بعد (200) متر من مدخل مستوطنة كفاردروم. وتحولت المنطقة إلى ما يشبه ساحة حرب، إذ احترقت الحافلة بالكامل وقتل وجرح كل ركابها، واندفع مئات الجنود من مواقعهم المخصصة لهم عند مداخل المستوطنات إلى مكان الانفجار. ووصلت ثلاث مروحيات عسكرية وعشرات من سيارات الإسعاف لنقل القتلى والجرحى إلى المستشفيات الإسرائيلية في المدن المجاورة، وأعلن جيش الاحتلال قطاع غزة منطقة عسكرية مغلقة(194).

وظنت سلطات الاحتلال العسكرية أن إغلاق حاجزي ايرز ونحال عوز ومنع حركة السيارات الفلسطينية بين المدن الواقعة تحت سلطة الحكم الذاتي كفيل بتحقيق الأمن لجنودها ومستوطنيها، ولم يكن يخطر ببال أحد من القادة العسكريين والأمنيين بأن المهندس قد جهز ضربة أخرى للأمن الإسرائيلي. فبعد ساعة تقريباً من العملية البطولية التي نفذها الشهيد خالد الخطيب، والتي أسفرت -وفق الرواية الإسرائيلية- عن مقتل سبعة جنود وإصابة اثنين وخمسين آخرين بجروح وصفت جروح خمسة منهم بأنها خطيرة، اندفع المجاهد عماد أبو أمونة بسيارته المفخخة على طريق (كرني - نتساريم) واتجه بسرعة فائقة نحو حافلة تقل عسكريين ومستوطنين متجهين إلى مستوطنة نتساريم. ولكن سيارة الجيب التي كانت تحرس الحافلة اعترضت سيارة السوبارو واصطدمت بها لتنفجر السيارتين وتندلع النار بهما. وقد أسفرت العملية الثانية عن مقتل جندي من حرس الحدود وإصابة أحد عشر جندياً ومستوطناً اعتبرت جروح ستة منهم خطيرة(195).

لم يخف الغزيين هذه المرة شعورهم بالنشوة لما حدث أو ما سموه (الانتقام السريع)، بينما اعتبرت حكومة اسحق رابين العمليتين ضربة قوية للجهاز الأمني الإسرائيلي الذي كان قد اتخذ الاحتياطات وأعلن حالة التأهب القصوى. وما أن تلقى رئيس الوزراء ووزير الدفاع، خلاصات التقرير الذي قدمه جهاز الشاباك بعد يومين عن عاصفة الثأر والذي حدد بأن بصمات يحيى عياش تبدو واضحة في الهجومين، حتى خرج اسحق رابين عن طوره معترفاً ومتوعداً في نفس الوقت حيث صرح للإذاعة الإسرائيلية بأنه «شبه متأكد أن عياش حي يرزق وأنه موجود في قطاع غزة حيث يمارس نشاطه». وأضاف رابين في نبرة حادة: «إن يحيى عياش سيسعى إلى توجيه ضربات إلينا، لكن نهايته آتية وسيكون مصيره مثل مصير غيره من الإرهابيين»(196).

14- معلومات مضللة لصرف أنظار الشاباك

قد يختلف البعض مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ولا يوافقها الرأي في توجهات سياسية معينة أو يأخذ عليها في الموقف من قضايا محددة، ولكن أحداً من أبناء الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية لا يختلف معنا حول والأماكن عياش باعتباره أسطورة ورمزاً للجهاد والمقاومة في العصر الحديث. وكلما تعمقنا في دراسة وتحليل هذه الشخصية المبدعة، نجد بأن يحيى عياش أو المهندس كان مصدر قلق ورعب للكيان الصهيوني، وسيبقى كذلك بما أورثه لتلاميذه.

وطالما وصلنا إلى المحطة الجهادية الجديدة من حياة القائد القسامي، وهي محطة يبرز من خلالها الكفاءة الأمنية والبعد الاستخباري في الحرب بين المهندس والكيان الصهيوني. ومع أن هذا البعد قد يثير التساؤلات حول اختلال الموازين والإمكانيات بين طرفي الصراع، إلا أن المهندس أداره بنجاح حقق به الإنجازات والأهداف المرجوة بتضليل الآلاف من أفراد الشاباك وعملائها. ويكفي أن يكون المهندس هو المبادر في تفجير هذه المحطة في الحرب الاستخبارية، إذ تم الاتفاق بين قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام في قطاع غزة على كتابة شعارات على جدران منازل حي الشيخ رضوان وفي بعض المساجد يوم 19 أيار (مايو) 1995 بأن (المجاهد الكبير يحيى عياش نجح في الوصول إلى مصر) و (يحيى عياش غادر مدينة غزة ووصل بأمان إلى بلد عربي مجاور) و(يحيى عياش في السودان) وغيرها من العبارات التي استهدفت خداع الشاباك وتضليله ومساعدة المهندس بتخفيف الضغط عنه(197). وتكمن العناية الآلية التي تدخلت للمساهمة بشكل كبير في الحرب النفسية إلى جانب المهندس، برفع وحدة عسكرية إسرائيلية كانت تقوم إحدى مجموعاتها بدورية على امتداد خط الحدود مع مصر تقريراً عن نشاطاتها في الليلة التي أعلن عن مغادرة المهندس لقطاع غزة يفيد بأنها رصدت وسط الظلمة الحالكة شبح إنسان يرتدي عباءة، ويحاول أن ينسل بحذر للجانب المصري. وعندئذٍ -يضيف التقرير- ألقت الدورية حزمة قوية من الضوء على جدار الحدود وأطبقت أضواء سيارة الجيب فجأة على هذا الشبح، ولكنه استمر في عدوه بسرعة ليتوارى في الظلمة داخل الأراضي المصرية دون أن يتمكن الجنود الذي شرعوا بإطلاق النار باتجاهه في تحقيق هدفهم بمنعه من الهرب. وقبل أن يتضح لحكومة تل أبيب وأجهزتها الأمنية أو العسكرية بأن الشخص المجهول الذي نجح في الفرار إلى مصر، والذي كانت الإشاعات تقول بأنه يحيى عياش، لم يكن إلا أحد السكان البدو من مدينة رفح الذي كان مطلوباً لسلطة الحكم الذاتي بتهمة ارتكاب مخالفات جنائية، وقع الجنرال كارمي غيون في حيرة من أمره بعد أن تلقى تقارير ومعلومات متضاربة من الطاقم المكلف بمتابعة المهندس، فمنهم من قال إنه فعلاً هرب إلي مصر، والبعض ما زال مصراً بأنه قتل في الانفجار الذي وقع داخل البيت بحي الشيخ رضوان. وفريق ثالث رفض هذه التحليلات وأصر بأن المهندس ما يزال يختبىء في الضفة الغربية، وشكل هذا الارتباك الذي استمر لفترة طويلة من الوقت، ظاهرة أرقت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية إلى أن انحصرت التحليلات بين بقاءه في القطاع أو مغادرته للضفة الغربية بعد أن انكشف سر الرجل المجهول عند خط الحدود(198).

وبانشغال الكثيرين من ضباط القيادة العسكرية والأمنية في تل أبيب في التكهن من صحة الأنباء حول مغادرة المهندس لقطاع غزة، تناولت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذه القضية مثيرة جوانب مهمة من شخصية المهندس وتساؤلات كلها تصب بشكل غير مباشر في قدرة القائد القسامي على مناكفة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي تطارده. فتحت عنوان (عياش يخلف وراءه جرحاً مفتوحاً في الشاباك)، كتب المعلق روني شيكد في صحيفة يديعوت أحرونوت يوم 21/5/1995: «إن هرب المهندس يحيى عياش سيبقى كالجرح المفتوح في جهاز المخابرات الإسرائيلي، إذ أن ملاحقة عياش كلفت أجهزة الأمن وقتاً وموارداً وجهوداً تفوق كل الجهود التي بذلت لاعتقال أي مطلوب آخر حيث أن ملاحقته والبحث عنه استمرت طيلة السنوات الثلاثة الماضية». وأشار شيكد إلى أن «المهندس وبسبب الأعمال المنسوبة إليه والتقارير التي نشرتها وسائل الإعلام عن أعماله وشخصيته جعلت منه أسطورة ورمزاً للأعمال المسلحة النوعية التي تقوم بها حركة حماس، ولذلك فان تصفية عياش أصبحت مسألة اعتبارية بالنسبة لجهاز المخابرات، خاصة وأن رئيس جهاز المخابرات الجديد تعهد لدى تسلمه لمهام منصبه أن مهمته الأولى ستكون القضاء على المهندس الذي تجول خلال السنوات الأخيرة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وفي قطاع غزة ولربما داخل إسرائيل أيضاً . إذ أنه يستعين بشبكة تضم نحو ثلاثين مساعداً على الأقل يوفرون له الغطاء والمأوى والبطاقات المزورة وغير ذلك من الأمور والاحتياطات اللازمة له في تخطيط وإعداد الهجمات». واختتم المعلق الأمني بقوله: «إذا صحت أنباء هرب عياش فإن ذلك يعتبر فشلاً ذريعاً لجهاز المخابرات، خاصة وأنه لم يكن يعمل بمفرده».

وفيما أشارت الصحف العبرية إلى مصادر في الشاباك شككت في صحة أنباء مغادرة المهندس إلى دولة عربية مجاورة، نظراً إلى عدم توفر معلومات موثوقة لدى الهيئة الأمنية الإسرائيلية، تناول الكولونيل شمعون رومح، وهو مسؤول كبير سابق في جهاز المخابرات، في حديث للإذاعة العبرية في سياق تقرير حول نبأ نجاح يحيى عياش في الوصول إلى مصر الموضوع من جانب تأثير ذلك على العمل العسكري لحركة حماس حيث قال: «حتى إذا كانت هذه الأنباء صحيحة فإن الأمر لا يعني توقف الهجمات المسلحة وعمليات التفجير التي تقوم بها حركة حماس، إذ أنه لا زال هناك من بين تلامذة المهندس عدد كاف من الأشخاص القادرين على إعداد عبوات ناسفة نوعية يمكن لها التسبب بوقوع هجمات جديدة»(199).

في نهاية المطاف، رجحت المخابرات الإسرائيلية أن يكون المهندس قد غادر قطاع غزة وعاد للاستقرار في الضفة الغربية. وعلى هذا الأساس، كثفت قوات الجيش والعملاء من تحركاتهم في منطقة نابلس على وجه التحديد حيث أوقفت الحواجز العسكرية المارة والسيارات العربية ابتداء من يوم 20 أيار (مايو) ،1995 وكان الجنود يحملون صورة المهندس ويسألون الركاب عنه. كما نفذت سلطات الاحتلال واحدة من أكبر حملات التفتيش في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية حين جمع الجنود الإسرائيليون المئات من سكان حي الصناعية الواقع على سفح جبل جرزيم، شرقي مدينة نابلس وفتشوا بيوتهم. ففي الساعة السابعة من مساء يوم الاثنين الموافق 13 حزيران (يونيو) ،1995 بدأت الحملة الإسرائيلية باقتحام قوات ضخمة للحي بعد فرض الطوق العسكري وحظر التجول الشامل عليه ثم أمر الجنود السكان بمغادرة منازلهم بعد تركها مفتوحة الأبواب والنوافذ. ونقلت الوحدات العسكرية الإسرائيلية النساء والأطفال إلى مسجد الحي، بينما جمعت الرجال في الملعب البلدي. وفي ظل الإسناد الجوي الذي قامت به الطائرات المروحية، شرع الجنود بتفتيش سبعمائة منزل بحثاً عن القائد يحيى عياش الذي وردت معلومات من العملاء بأنه يختبىء في إحداها. وداهم الجنود أيضاً منزلين في طور البناء بعد إطلاق عدة صواريخ وصليات كثيفة من أسلحتهم الرشاشة، ولكنهم لم يعثروا على أحد. وقد غادر الجنود الحي خائبين في ساعات الفجر من اليوم التالي دون أن يعثروا على أحد أو يكشفوا أي وسائل قتالية قد تكون مخبئة هناك(200).

15- الجهاد أصبح غريباً على قطاع غزة

أصبح أسطورة شعب فلسطين يعيش في مناخ وبيئة لا يحسد عليها، وهي لا شك، بيئة لم تعد تسمح للحركة الإسلامية أن تقول كلمتها بصراحة، ولا أن ينفذ المهندس برنامجه الجهادي بحرية. فالإسلام الحكومي أو الإسلام (المستأنس والموجه)، الذي جرد من كل سلاح من أسلحة القوة والحيوية هو الإسلام المسموح له في مناطق سلطة الحكم الذاتي. ولم يكن هذا فحسب، فقد مر علينا كيف تطوعت الشرطة الفلسطينية لمساندة القوات الإسرائيلية ومخابراتها في مطاردة المهندس في مناطقها وساهمت بشكل كبير ومؤثر في تنفيذ الجريمة في حي الشيخ رضوان، إلى جانب الاستمرار في اعتقال نشطاء وأنصار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والتحقيق معهم وتعذيبهم بهدف الحصول على معلومات تساعدهم في تتبع خطوات القائد القسامي. واستكمالاً لهذه المهمة، داهمت قوات كبيرة من جهاز المخابرات العامة بقيادة العقيد أمين الهندي قدرت بمئات الأفراد المدججين بالسلاح عدة منازل في منطقة النصيرات ليلة الاثنين الموافق 12 حزيران (يونيو) ،1995 بعد أن تلقت معلومات استخبارية حول وجود المهندس داخل أحد هذه المنازل. وقد طلب العقيد الهندي من القوات المداهمة اعتقال يحيى عياش حياً. ولمعرفتهم بخطورة المهمة وصعوبتها، يقول أحد ضباط المخابرات بأن علامات الخوف والترقب والرعب بدت بوضوح على وجوه الجنود وأفراد الشرطة الذين اشتركوا بهذه الحملة. وعلى الرغم من تفتيش المنازل بدقة وحذر، إلا أنه لم يتم العثور على أي شيء في هذه المنازل(201).

لم يكن ما واجهه المهندس من قبل السلطة الفلسطينية وشرطتها وأجهزة مخابراتها بالأمر الجديد أو المؤثر على قدرته بالحركة والعمل الجهادي، بل أنه اعتاد على مواجهة ما هو أشد منه. فالمخابرات الإسرائيلية والشرطة والقوات العسكرية ذات كفاءة مشهود لها على مستوى دول العالم المتقدم، ورغم ذلك، استطاع أن ينتصر عليها ويربك مخططاتها في مراحل عديدة وفي مواقع كثيرة. ولكن عدم وضوح الرؤية وحسم التوجه لدى القيادة المحلية للحركة الإسلامية في قطاع غزة، والوهم الذي عاشه البعض من ناحية العلاقة مع سلطة الحكم الذاتي، جعلت من إقامة المهندس في القطاع تفقد مبرراتها شيئاً فشيئاً. ولأنهم أصبحوا ينظرون إلى العمل الجهادي الذي يقوم به القائد القسامي وإخوانه إحراجاً لياسر عرفات وسلطته الذاتية. وذهب البعض منهم إلى إصدار بيانات تنفي مسؤولية كتائب الشهيد عز الدين القسام عن بعض العمليات البطولية التي نفذها المهندس. فحين سألنا الأخت هيام عياش، زوجة المهندس، التي انتقلت إلى قطاع غزة للعيش معه ابتدأ من آذار (مارس) ،1995 عن آخر ما دار بينها وبينه من حديث، أجابت: «في الفترة الأخيرة، كان أبو البراء، متضايق من بقائه في غزة، وكان يود العودة إلى الضفة. ويوم الخميس، وقبل أن يخرج، قال: أن هذا آخر مشوار لي، وقريباً سنعود إلى الضفة وربما قبل العيد»(202). وكان أبو مصعب، أحد مرافقي المهندس لفترة طويلة قد صرح بشكل أكثر وضوحاً حين قال: «أن العمل العسكري كان قد تقلص في الآونة الأخيرة لاعتبارات متعددة، يحيى كان يشعر كالسمكة التي تخرج من الماء. فهو لا يقدر أن يعيش طوال حياته في مخبأ لا يستطيع فيه أن يمارس نشاطه الجهادي، وكان مرغماً على ذلك، ولكنه كان يقول: آمل أن أترك ورائي آلاف المهندسين، فلربما يطول هذا الأمر»(203).

وفي هذا الجو الخانق، عمل المهندس ويده مغلولة وأقدامه مقيدة، تشن عليه الحرب من كل الجبهات، داخلية وخارجية، وبكل الأسلحة: جسدية ونفسية، فكرية وإعلامية، اقتصادية وسياسية. وعلى الرغم من هذه الظروف الصعبة التي عاش المهندس في ظلها آخر ستة أشهر من حياته، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر نشاطه وما قدمه على صعيد توريث علمه وخبرته لإخوانه. وإلى جانب ذلك، فإن المهندس قدم لنا إثباتات بأن دوره لم ينتهي. وأدرك اليهود أنفسهم هذه الحقيقة، فهم يعلمون أن المارد المحبوس في قمقمه يمكن أن يفك الطلاسم ويبطل السحر في أي لحظة ويخرج من أسره عملاقاً جباراً، وهذا ما كان في مستوطنة نتساريم ونيفية ديكاليم، حيث نفذ المهندس عمليتين نوعيتين خلال أقل من أربعين يوماً.

في يوم السبت الموافق 20 أيار (مايو) ،1995 أرسل المهندس أحد المجاهدين إلى منطقة الدفيئات الزراعية داخل مستوطنة نتساريم. وقام المجاهد بوضع عبوة ناسفة في بيت بلاستيكي للزراعة، وأوصلها بسلك كهربائي ربطه في الباب. وعندما فتح المستوطن اليهودي الباب محاولاً الدخول، شد السلك، فانفجرت العبوات الناسفة محدثة خسائر مادية جسيمة، ونقل المستوطن الذي أصيب بجروح من جراء الشظايا إلى أحد المستشفيات. ولم يكن هذا المستوطن هو المطلوب من وراء هذه العملية، إذ أن المهندس استهدف خبير المتفجرات في الجيش الإسرائيلي. ولذلك، صمم القائد القسامي عبوة ناسفة كبيرة شبيهة بتلك التي جهزها للنيل من الميجر يوسي حيون في يونيو (حزيران) عام 1993. ونجح المهندس هذه المرة أيضاً في صيد خبيرين كانا يبحثان عن عبوات ناسفة وألغام في أعقاب الانفجار السابق، حيث انفجرت العبوة الكبيرة في الساعة الثانية عشرة من بعد ظهر يوم الأحد الموافق 21 أيار (مايو) 1995. وقد اعترف الناطق العسكري الإسرائيلي بإصابة الخبيرين العسكريين بجروح خطيرة نقلا على أثرها إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع(204).

وأما العملية الثانية، فقد استهدفت حافلة عسكرية إسرائيلية تنقل جنوداً بين مدينة عسقلان ومستوطنة نيفية ديكاليم. وبسبب الإجراءات الأمنية المشددة التي جعلت من استخدام سيارة مفخخة أمراً صعباً، فإن المهندس صمم عبوة ناسفة كبيرة وضعها على عربة يجرها حمار حيث قاد المجاهد معاوية روكة* [معاوية أحمد إسماعيل روكة: ولد في مخيم خان يونس عام 1974 لأسرة ملتزمة إسلامياً. وهو طالب في قسم التاريخ في كلية العلوم والتكنولوجيا، اعتقل ثلاث مرات خلال الانتفاضة المباركة خضع خلالها للتحقيق العنيف رغم إصابته في إحدى المواجهات الجماهيرية مع قوات الاحتلال برصاصة في قدمه حيث كان يقود المواجهات في المخيم.] العربة في حوالي الساعة الرابعة من فجر يوم الأحد الموافق 25 حزيران (يونيو) 1995 مغادراً منزل والديه بحجة إحضار سمك من البحر. وتوجه معاوية ناحية الجهة الشمالية من المستوطنة. وبناء على التوجيهات التي قدمت له، والتي تشير بموعد وصول الحافلة الإسرائيلية التي تسير بحراسة سيارتين جيب، تحرك الشهيد في حوالي الساعة الحادية عشر إلا ربع واقترب من المفترق الذي ستصل إليه الحافلة. وكانت المفاجأة، بمرور إحدى الدوريات العسكرية في تلك اللحظة. وما أن هم الشهيد بمعاودة التحرك بعد أن أوقفه الجنود وسألوه عن وجهته، انفجرت العبوات الناسفة التي كانت مؤقتة مما أدى إلى تدمير السيارة العسكرية الإسرائيلية واستشهاد البطل القسامي ومقتل جندي وإصابة اثنان آخران بجروح متوسطة(205).

وجاءت العملية، وفق البيان العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام، تضامناً مع المعتقلين المضربين عن الطعام وانتقاماً لاغتيال المخابرات الإسرائيلية للمجاهد محمود الخواجه، المسؤول في حركة الجهاد الإسلامي(206).

لم يكن عدم تحقيق النجاح الكامل في عملية الشهيد معاوية روكة هو ما ألم قلب المهندس وجعله يشعر بالغربة بين إخوانه ورفقائه، وإنما كان البيان الذي صدر باسم كتائب عز الدين القسام بعد يومين من العملية البطولية، ويبدو أن الذين أصدروه كانوا يريدون تجنب الاعتقال من قبل سلطة الحكم الذاتي. وقد تيقنا من ذلك، أثر إفراج السلطة التي شنت حملة اعتقالات طالت أكثر من خمسين من نشطاء وأنصار حركة حماس في القطاع عن بعض الرموز والقادة. فقد جاء في ذلك البيان: «إننا في كتائب عز الدين القسام نعلن ونؤكد أن لا علاقة لنا من قريب أو بعيد بهذه العملية.. إن الشاب الشهيد معاوية روكة قام بعمله بعيداً عن الجهاز ومثل هذه الأعمال الفردية حدثت في عهد الانتفاضة وحتى في عهد السلطة.. إن الشهيد ربما فعل عمله الاستشهادي بصورة فردية، أو بالتعاون مع أشخاص أو جهات أخرى». واستغلت إحدى المنظمات هذا البيان لتعلن مسؤوليتها عن الهجوم بدون وجه حق(207) .

السيف عدي
07-03-2008, 08:54 AM
سادساً: المعلم والتلاميذ

تحفل كتب التاريخ الإنساني بشكل عام بأسماء المئات، بل الآلاف من القادة والأبطال الذين قدموا مساهمات جليلة لشعوبهم ودولهم. ومن بين هؤلاء ليس من اليسير أن نجد أفذاذاً يتركون وراءهم مدرسة ترثهم في منهاج عقيدتهم ومسيرة جهادهم. ولا يختلف معنا أحد، حتى أعداءنا الصهاينة أنفسهم، أن القائد الرمز يحيى عياش يعد أحد هؤلاء الأفذاذ بتميزه في دقة التخطيط والتنفيذ إلى جانب توريثه مدرسة متكاملة في القيادة والتخطيط والخبرة العملية والفنية. فهذا رئيس جهاز المخابرات العامة (الشاباك) الذي جعل جل اهتمامه، ووضع كافة الإمكانيات المتاحة لمطاردة المهندس، باعتباره عدو الدولة الأول، يعترف بقدرة القائد القسامي وتميزه في هذا المجال.

ويجد الجنرال كارمي غيون نفسه مدفوعاً لهذا التصريح، بعد أن وصلته تقارير عملائه ومحققيه بأن المهندس قد بدأ تخريج أفواجاً عديدة من تلاميذه النجباء. ولذلك، صرح الجنرال الإسرائيلي بألم: «لقد آن الأوان بعد ثلاث سنوات لتصفية المهندس. فكل يوم يمر دون القبض عليه يزيد من مهمتنا تعقيداً، إذ أنه يتعلم باستمرار وينشر ما يتعلمه بين النشطاء الذين يرون فيه بطلاً يريدون المشي على خطاه ورفع جزء من الثقل عنه»(208). كما نشر المعلق السياسي في صحيفة دافار مقالاً عبر فيه عن نفس المخاوف حيث قال: «من الطبيعي أن يوجه رجال الأمن إصبع الاتهام إلي المهندس يحيى عياش، فهو مسؤول عن تنفيذ أربع عمليات على الأقل، وتخطيط أربع عمليات أخرى، وتجري ملاحقة عياش على نطاق واسع، ولكن بدون جدوى. فليس عياش وحده يعرف سر العبوات المتفجرة، وبالتالي فإن إلقاء القبض عليه لن يؤدي إلى وقف العمليات»(209).

الجهاز العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) شهد مراحل وأطوار مختلفة، ابتدأ من استخدام السكين والقنبلة الحارقة وغيرها من الوسائل وحتى وضع الخطط والبرامج لشراء السلاح أو الحصول عليه بطرق عدة وتنفيذ الهجمات والكمائن النوعية. وخلال تلك الأطوار، كانت هناك محاولات لتصنيع المتفجرات وتجهيز العبوات الناسفة، إذ أن حماس عانت لفترة نقصاً كبيراً في الكوادر الفنية المؤهلة وذات الخبرة في هذا المجال. ولذلك، كان يرافق المحاولات السابقة وقوع حوادث أدت إلى استشهاد العديد من المجاهدين مثل الأبطال عامر ثوابته وعبد الرزاق أبو شخيدم وهشام السقا وغيرهم. وحين جاء يحيى عياش، وضع أساساً متيناً وسد نقصاً خطيراً كانت تعاني منه كتائب الشهيد عز الدين القسام. ولم يكتف المهندس بذلك، بل وضع خبرته الفنية في خطط قدمها لقيادته تقضي بتدريب أكبر عدد من الكوادر القادرة على إعداد المتفجرات بمثل كفاءته(210).

وإن كنا لا نملك معلومات دقيقة حول جهود المهندس في تدريب تلاميذه، فإن العمليات العسكرية التي نفذها تلاميذه والوقائع الميدانية وما كشفته المخابرات الإسرائيلية عن اعتقال بعض الخلايا التي نظمها المهندس يعد مرجعاً أساسياً لنا للحديث عن هذا الجانب. ويشير المعلق العسكري المعروف، زئيف شيف في تحليل يعد مرجعاً أساسياً لنا للحديث عن هذا الجانب، حيث كتب تحت عنوان (الإرهاب قد يفاجىء مجدداً) فيقول: «إن خلايا حماس التي جرى اعتقال أفرادها مؤخراً على يد جهاز المخابرات الإسرائيلية تشكل دليلاً لنشاطات متشعبة وواسعة تجري تحت السطح من قبل المهندس يحيى عياش. وهذا يعني أنه على الرغم من النجاح في إحباط عدد من الهجمات فقد تواجه إسرائيل بصورة مباغتة موجة عنف واسعة جديدة»(211).

وفي تقرير سري حول حركة المقاومة الإسلامية (حماس) رفعته الأجهزة الأمنية الفلسطينية لرئيس السلطة يوم 10 آذار (مارس) ،1996 نجد إشارات كثيرة للدور الذي قام به المهندس. إذ يشير التقرير إلى أن القائد يحيى عياش قام -قبل انتقاله لقطاع غزة- بتشكيل خلايا سرية في مناطق الضفة الغربية الثلاث، الوسط والشمال والجنوب، ووضع على رأس كل منطقة مسؤولاً. ودرب المهندس تلك الخلايا على تجهيز ووضع المتفجرات للقيام بالأعمال الجهادية. ويقول التقرير في فقرات أخرى بأن القائد القسامي، أصر أن تبقى أسماء المجاهدين غير معروفة في قطاع غزة، وكان الهدف من ذلك هو رغبة المهندس بأن تكون المجموعات العسكرية في الضفة الغربية منفصلة تماماً عن قطاع غزة نظراً للظروف التي تواجه قيادات الحركة الإسلامية في القطاع وممارسات السلطة الفلسطينية ضدها(212).

ولم يغادر المهندس الضفة إلا بعد أن اطمأن إلى البنية التحتية للكتائب هناك وقوتها ومتانتها وسلامة تشكيلها. وعند هجرته لقطاع غزة، سلم القائد القسامي المسؤولية لقادة ميدانيين قادرين على تحمل المسؤولية من أمثال: طاهر قفيشة وجهاد غلمة -مسؤولا الخليل وبيت لحم، ومحي الدين الشريف - مسؤول القدس، ويعقوب نزال محيسن - مسؤول رام الله والبيرة، وعبد الناصر عيسى - مسؤول نابلس.

1- وحدة الأهوال ترد بالبارود والنار

حينما نكتب عن (وحدة الدفاع عن المدنيين الفلسطينيين) كما سميت في بداية تشكيلها أو (وحدة الأهوال)، وهو الاسم الذي اشتهرت به بعد ذلك، فإننا نكتب عن البطولة بكل أبعادها، والجهاد بكل مضامينه، والرجولة بكل معانيها. فحياتها كلها جهاد، ووقت مجاهديها كله جهاد ومقاومة، واسم قائدها جهاد.ويكفي هذه الوحدة فخراً، أنها حققت ذلك الوعد الإلهي الذي يؤكد حقيقة (^كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، وأضحت مصدر رعب لكل صهيوني في منطقة عملياتها.

خاض جيش الاحتلال ومخابراته مطاردة شرسة وراء الوحدة القسامية، وأخذت صور جهاد غلمة وطاهر قفيشة وحامد يغمور مكاناً في جيب كل جندي يخدم في الضفة الغربية، ومعلقة بشكل دائم في مواقع الجيش الصهيوني في منطقة الخليل. ورغم ذلك، مضت الوحدة بعملياتها البطولية مطيحة برؤوس العسكريين والمستوطنين دون أن تعبء بتهديدات قائد المنطقة الوسطى بجيش الاحتلال والتي جاءت شهادة لها وليس ضدها. فبعد العملية الجريئة ضد الحافلة رقم (160) بالقرب من مفترق القزازين، وقف الميجر جنرال ايلان بيران قائلاً: «إننا نخوض صراعاً ضد هذه الخلية الصعبة جداً، ولكننا سننالها مهما كانت المهمة صعبة وسنطاردها حتى ننجح»(213).

ويعود أساس هذه الوحدة إلى أول مجموعة تشكلت لكتائب عز الدين القسام في منطقة الخليل بقيادة الشهيد عماد عقل، ولئن قاد النشاط الاستخباري لسلطات الاحتلال إلى اعتقال عدد من أفرادها ومن بينهم جهاد غلمة وطاهر قفيشة، فإن مجاهدينا لم يأبها بالجدران العالية ولا القضبان المتعامدة. وما هي إلا أشهر قليلة حتى حررا نفسيهما مع المجاهد أمجد شبانة من معتقل الظاهرية القريب من الخليل وعادا مجدداً لكتائب عز الدين القسام. وبعد استلام يحيى عياش لغرفة العمليات المركزية في الكتائب، قام بتنظيم المجموعة من جديد تحت اسم (وحدة الدفاع عن المدنيين الفلسطينيين) حيث نفذت عدة عمليات عسكرية أسفرت عن مقتل وإصابة اثنان وعشرون جندياً ومستوطناً، واستطاع جهاد وطاهر في معركة وادي القاضي التي خاضها خمسة من المجاهدين ضد عدة مئات من جنود الاحتلال بتاريخ 23 آذار (مارس) ،1994 واستمرت (18) ساعة أن يخترقا الطوق العسكري وينسحبا إلى قاعدتهما بسلام. ويومها سئل أحد ضباط الاحتلال في الخليل كيف استطاع الجنرال وهو اللقب الذي أطلق على جهاد غلمة أن يهرب من بيت يطوقه مئات الجنود؟ أجاب: «إن لجهاد ألف روح»(214).

وإثر استشهاد أمجد أبو خلف، أعاد المهندس تشكيل الوحدة من جديد، وأصبحت تعرف باسم (وحدة الأهوال) نظراً لامتلاكها صواريخ مضادة للدروع من طراز (لاو). وقامت الوحدة بشن أول هجوم صاروخي على مبنى الدبويا الاستيطاني، وسط مدينة الخليل في 15 كانون ثاني (يناير) ،1995 حيث اخترق الصاروخ نافذة المبنى وتسبب في حدوث أضرار مادية بالغة دون وقوع إصابات بشرية(215). وفي الذكرى السنوية الأولى لمذبحة الحرم الإبراهيمي، شنت الوحدة هجوماً صاروخياً آخر على مقر الحاكمية العسكرية في منطقة الخليل. وأطلق المجاهدون الصاروخ الذي كان يحمل رأساً متفجراً باتجاه المبنى عن بعد مئتين متر من المقر متحدين كل أبراج المراقبة وكثافة جنود وضباط الاحتلال. وقد اخترق الصاروخ المبنى محدثاً انفجاراً بداخله، ثم واصل المجاهدون عمليتهم بإطلاق النار باتجاه مجموعة الجنود ورجال المخابرات الذين كانوا يتجولون في الساحة الرئيسة لمبنى الحاكمية مما أدى إلى وقوع إصابات في صفوف هؤلاء ودب الذعر والصراخ بينهم وهروبهم إلى داخل المبنى للاحتماء به دون أن يجرؤ أحد منهم على إطلاق رصاصة واحدة(216).

واستهدفت الوحدة في عمليتها الثالثة عام 1995 حافلة تقل عدداً من الجنود والمستوطنين كانت تسير بشكل يومي بين القدس ومستوطنة كريات أربع حيث نصب المجاهدون كميناً على سطح أحد المساجد المشرفة على الطريق عند مفترق القزازين مساء يوم الأحد الموافق 19 آذار (مارس) 1995. وأسفر الهجوم عن مقتل مساعد للحاخام المتطرف موشيه ليفنغر، مؤسس حركة غوش ايمونيم الاستيطانية وأحد مستوطني كريات أربع وإصابة ستة آخرين بجروح متفاوتة. ولم تتمكن الدورية المرافقة للحافلة من ملاحقة المجاهدين الذين انسحبوا إلى قاعدتهم بسلام(217).

استعان جهاز المخابرات الإسرائيلية بعلماء النفس وخبراء تحليل الشخصية في نشاطاتها لملاحقة وحدة الأهوال ومحاولة إلقاء القبض على أعضائها. ولمعرفة ضباط القيادة والعمليات في الجيش والمخابرات بنوعية المجاهدين القساميين، فإن الأجهزة الإسرائيلية اعتمدت سياستها المعروفة بقصف المنازل التي يختبىء فيها المجاهدون بالصواريخ قبل أن يتقدم أي جندي لاقتحامها. ففي ساحات القتال، لم يجرؤ الجنود المدججون بالسلاح على المواجهة والرد قبل نسف المكان على من فيه. ورغم ذلك، لم يستطع ضباط الاحتلال إلا أن يقفوا إجلالاً وإكباراً ويقدموا التحية لمجاهدي كتائب عز الدين القسام. وكمثال على ذلك، ما قاله الجنرال شموئيل غورين (القائد السابق للضفة الغربية) لصحيفة إسرائيلية، إذ جاء على لسانه: «لم يكن حامد يغمور هو الوحيد الذي رفض الاستسلام بالرغم أنه يعلم أنه لن يخرج من البيت حياً، كان جميع مقاتلي الجناح العسكري لحركة حماس يفضلون المقاومة حتى الموت على الاستسلام، إنه لأمر غريب وعجيب أن يبدي مقاتلو حماس هذه الإرادة القوية والعناد الكبير عندما يُحاصرون بالدبابات والجنود وتحلق الطائرات فوق رؤوسهم ومع ذلك لا يستسلمون، وإنه حقاً لشيء يثير الإعجاب أن يقاوم مقاتل ويصمد لأكثر من 12 ساعة في مواجهة مئات الجنود المزودين بأحدث الأسلحة والمعدات». ويضيف الجنرال الإسرائيلي: «لقد تحول هؤلاء المقاتلون إلى أسطورة في نظر قادة الجيش وجهاز الشاباك، بل لقد اهتزت المعنويات في صفوف الجنود لليأس من القضاء على هؤلاء. إذ أن مهمة البحث عن ما يقارب العشرين مطارداً من حماس تتطلب أكثر من 3000 جندي بالإضافة إلى المجهودات التي يستثمرها جهاز المخابرات وعملاؤه في جمع المعلومات الاستخبارية عنهم». ويختتم القائد السابق للضفة الغربية حديثه بتحذير الجمهور الإسرائيلي قائلاً: «إن العقيدة التي تحرك هؤلاء قوية وتمنعهم من الخضوع والاستسلام وإسرائيل لم تجرب مواجهة مثل هذا النوع من المقاومة، وعلى الإسرائيليين أن يتريثوا ولا يبالغوا بالفرح عند تصفية فرد من هؤلاء الإرهابيين»(218).

استشهد جهاد غلمة وطارق النتشة وعادل الفلاح بعد قصف سيارتهم في منطقة الحاووز بالضواحي الجنوبية لمدينة الخليل بتاريخ 16 نيسان (إبريل) ،1995 ويومها قال يوسي ساريد الذي كان يشغل منصب وزير البيئة في حكومة اسحق رابين: «بعد مقتل المخرب جهاد غلمة، ما يزال المرعب طاهر يتجول طليقاً». ونال حامد يغمور وطاهر قفيشة الشهادة بعد عدة محاولات فاشلة من قبل أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، إذ ترجل حامد إلى عليين في 2 حزيران (يونيو) ،1995 بينما سطر طاهر ملحمة جهادية جديدة بمواجهة قوات ضخمة وطائرتان مروحيتان ووحدات خاصة تحمل صواريخ مضادة للدروع في حي رأس الجورة بمدينة الخليل يوم الخميس الموافق 29 حزيران (يونيو) 1995(219).

لم تكن وحدة الأهوال هي الوحيدة التي أقامها المهندس في منطقة الخليل، فقد كشفت التحقيقات الإسرائيلية عن خلية مسلحة قالت أنها الأخطر، إذ أن أعضاء هذه الخلية تلقوا تدريبات على إعداد عبوات ناسفة متطورة بما في ذلك عبوات كيماوية، وعلى تفجير العبوات لاسلكياً بواسطة جهاز تحكم عن بعد. واتهم جهاز الشاباك الخلية القسامية التي كانت على علاقة بالقائد الشهيد حاتم المحتسب ثم القائد جهاد غلمة بأنها مسؤولة عن تنفيذ (13) عملية بواسطة العبوات الناسفة، عشر عمليات منها ضد أهداف عسكرية في الخليل وثلاث أخرى نفذت في بئر السبع. كما خطط قائد المجموعة، محمد نبيل عرفات، ونائبه شكري الفاخوري لتنفيذ سلسلة هجمات أخرى من بينها التخطيط لتفجير حافلة إسرائيلية بواسطة سيارة مفخخة على الطريق المؤدي من مستوطنة كريات أربع إلى مدينة الخليل إلى جانب وضع عبوات ناسفة في تجمعات عسكرية داخل المناطق المحتلة منذ عام ،1948 ومن ضمن ذلك بلدة حولون إلى الجنوب من تل أبيب ومحطة لنقل الجنود في مفترق المسمية وبيت هداسا في وسط الخليل(220).

وأما في مدينة بيت لحم، فقد أعلنت مصادر عسكرية إسرائيلية بأن جهاز الشاباك تمكن من كشف عدد من الخلايا الخطرة التي نظمها المهندس في إطار كتائب عز الدين القسام. وقالت الاستخبارات الإسرائيلية، بأن أفراد إحدى هذه الخلايا خططوا لتفجير سيارة مفخخة بالقرب من حافلة عسكرية في بيت لحم، ووضع عبوة ناسفة كبيرة في عربة قمامة وسط شارع يافا بالشطر الغربي من مدينة القدس. ووفقاً لمصادر الشاباك، خططت خلية أخرى لقتل ضباط كبار يعملون في الإدارة المدنية بمدينة بيت لحم، حيث جمعوا معلومات حول تحركات هؤلاء الضباط والطرق التي يسلكونها للوصول إلى أماكن عملهم في المدينة. وخطط أعضاء خلية أخرى لأسر جندي إسرائيلي في مدينة القدس عن طريق استخدام سيارة تحمل لوحات تسجيل إسرائيلية، ومن ثم نقل الجندي الأسير إلى منطقة آمنة بهدف إجراء مفاوضات لإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين. ولئن دأبت، سلطات الاحتلال على تضخيم إنجازاتها وما تحققه في مواجهة الكتائب القسامية، فإن ما أعلنت هذه السلطات عن كشفه يلقى، بلا شك، جوانب مهمة على نشاط المهندس وتحركاته وآثاره. فقد أعلنت السلطات الإسرائيلية بأنها ضبطت بطاقات هوية إسرائيلية مزورة وكمية من الأسلحة والذخائر ومن بينها صاروخان من طراز (لاو) في حوزة عدد من المعتقلين، وأن المجاهد مهند جبارين (21) عاماً كان يقود هذه الخلايا ويوجهها وينقل التعليمات لأعضائها من المهندس، بينما تولى المجاهد محمد مللا، وهو من أهالي مخيم عايدة القيادة الميدانية(221).

2- مرحلة متقدمة لخلايا القدس الشرقية

منذ أن تسلم الجنرال كارمي غيون قيادة جهاز الاستخبارات العامة (الشاباك)، طرأ تغير على العمل الاستخباري من حيث أسلوب العمل ومن حيث أسلوب التحقيق باعتبار أن مكافحة الخلايا العسكرية لكتائب الشهيد عز الدين القسام تعد مهمة صعبة للغاية وفق ما أشار إليه المحققون. وفي إطار التعاون بين الشاباك والجيش الإسرائيلي، تمكنت سلطات الاحتلال من اكتشاف طرف خيط أدى إلى تفكيك خمس خلايا عسكرية أقامها «المهندس» في شرقي مدينة القدس، كانت قد وصلت إلى مرحلة متقدمة من التخطيط والتجهيز والإعداد لتنفيذ البرنامج الجهادي الذي كلفت به. وحسب المعلومات التي سربتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن المجاهد أيمن عبد المجيد سدر (29 عاماً) الذي يقيم في أبو ديس ويحمل هوية إسرائيلية تلقى وأفراد خليته تدريبات عسكرية في قطاع غزة بإشراف المهندس والقائد محمد الضيف لتنفيذ هجوم استشهادي في الجامعة العبرية، وفي مخبز (انجل) بالشطر الغربي من المدينة إلى جانب التخطيط لعمليات أسر جنود من تل أبيب وحيفا واللد. وزعم الشاباك بأنه اكتشف مخبأً سرياً في سيارة أيمن جُهز عن طريق أحد المعتقلين من أفراد الخلية لنقل الوسائل القتالية والمتفجرات. وكشفت المخابرات الإسرائيلية أيضاً بأن الخلايا الخمس اكتشفت قبل ساعات معدودة من موعد استلامها للمتفجرات التي كان من المفترض أن ينقلها مساعدون للمهندس(222).

وخططت خلية ثانية، عملت بقيادة موسى داود أحمد علامة (23 عاماً) الذي يحمل بطاقة هوية إسرائيلية أيضاً كونه مقيماً في حي رأس العامود بضواحي المدينة المقدسة، لتنفيذ هجوم بالأسلحة الرشاشة ضد حواجز وتجمعات تابعة للجيش الإسرائيلي إلى جانب وضع عبوات ناسفة في نقاط يتجمع فيها الجنود. وفيما يتعلق بالخلية الثالثة، تقول الشاباك بأنها كانت بقيادة رياض صالح دعنا الذي يسكن في بلدة أبو ديس ويعمل إماماً لأحد المساجد في البلدة القديمة، وخططت هذه الخلية لاختطاف حافلة ركاب إسرائيلية واقتيادها إلى الحدود المصرية ومن ثم اجتياز الحدود والشروع بإجراء مفاوضات لإطلاق سراح عدد من المعتقلين والأسرى في السجون الإسرائيلية. وأما الخلية الرابعة، فإنها شُكلت بهدف الحصول على أسلحة ووسائل قتالية بطرق مختلفة. ولهذا، قام أفرادها بجولات استطلاعية استعداداً لطعن جندي إسرائيلي أو مستوطن مسلح في القدس القديمة واختطاف سلاحه. كما اجتهدت الخلية في الحصول على بطاقات هوية إسرائيلية ونقل أسلحة بين المناطق المختلفة.(223)

الخلية الخامسة، كانت بقيادة أحمد محمود أحمد عريقات (28 عاماً)، وهو من سكان أبو ديس أيضاً، ونسبت إليه المخابرات الإسرائيلية ترؤس شبكة تنظيمية واسعة ضمت في عضويتها عدداً من أعضاء حركة حماس في المنطقة. وكانت مهمة هذه الخلية تجنيد المجاهدين وتدريبهم على استخدام الأسلحة الأوتوماتيكية والمسدسات، ونقل بعضهم إلى قطاع غزة لتلقي التدريب على تصنيع المتفجرات وتجهيزها(224).

3- فريق رباعي جديد

ويبقى يحيى عياش في ذاكرة الشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية مثالاً ناصعاً للجندي الذي لا يريد سوى مرضاة الله سبحانه وتعالى وجنته. فها هو يقول في رسالته الأخيرة لقادة الحركة الإسلامية، وكأنه يريد أن ينام قرير العين: «لا تنزعجوا، فلست وحدي مهندس التفجيرات، فهناك عدد كبير قد أصبح كذلك، وسيقضون مضاجع اليهود وأعوانهم بعون الله»(225).

ولم يكن المهندس مغالياً أو متكبراً فيما كتبه، فهو معروف ابتدأ بجديته في هذه المجالات، واعتادت قيادته على تلقي كلماته بكل اهتمام، إذ أنه لا يُعرف إلا باذلاً للنفس والجهد وما يملك. وما هي إلا أشهر قليلة حتى بدأت تباشير التلاميذ الذين تربوا على يد المهندس، وتلقوا علومه وورثوا إبداعاته تترك بصماتها على أرض فلسطين. ولم يكن عبد الناصر عطا الله شاكر عيسى ومحي الدين الشريف، إلا أول الغيث في قافلة المجد والعز التي تخرجت من أكاديمية المهندس العسكرية.

كان عبد الناصر من نشطاء الإخوان المسلمين منذ عام ،1982 وأميراً للكتلة الإسلامية في جامعة النجاح الوطنية بمدينة نابلس لسنتين على التوالي. ولكن أميرنا أبى إلا أن ينشر نشاطه وجهاده خارج أسوار الجامعة، فطلب الانضمام إلى العمل العسكري لحركة حماس عام 1989. وكان له ما أراد، وتشكلت خلية عسكرية لتحضير العبوات الناسفة في مخيم بلاطة، تولى قيادتها وتنظيمها إلى أن وقع في الأسر وحكم عليه بالسجن ثلاثون شهراً، ونسفت سلطات الاحتلال منزل ذويه. وعلى الرغم من السجن ومعاناة النفس والأهل، إلا أن الأمير عاد للعمل الجهادي بوتيرة أشد وفعالية أقوى حيث اتصل بالمهندس أثناء وجوده في منطقة شمال الضفة الغربية وشاركه في جولاته الجهادية إلى أن انتقل مهندس الأجيال إلى قطاع غزة(226). ولم تكن علاقة عبد الناصر بالمهندس علاقة عابرة كما تشير سجلات الاستخبارات الإسرائيلية، ولذلك تعرض منزل عطا الله شاكر عيسى للمداهمة مرتين متواليتين خلال يوم واحد فقط. وكان السؤال الذي ردده ضباط الشاباك مهددين: «أين عبد الناصر؟ إذا لم يسلم نفسه فسيتم نسف المنزل مرة ثانية»، ويحتجز الصهاينة بطاقة هويته الخضراء التي حصل عليها قبل أسبوع فقط بعد معاناة ثلاث سنوات دون بطاقة(227).

لم يكن الأمير بحاجة إلى تلك البطاقة، فقد تبع معلمه، وغادر مخيم بلاطة إلى قطاع غزة مسجلاً في الجامعة الإسلامية هناك بشكل رسمي، وفي المقعد الأول بأكاديمية المهندس. وإلى جانب الأمير، جلس تلميذ آخر من عائلة تعود أصولها إلى مدينة خليل الرحمن، ولكنها تسكن منذ فترة طويلة ضاحية بيت حنينا في مدينة القدس. ولم يكن هذا التلميذ، سوى المهندس الإلكتروني محي الدين الشريف الذي اشتهر فيما بعد باسم (المهندس رقم 2). وسوياً، تلقى الاثنان من المهندس صناعة التفجير وقواعد التخطيط وتوجيه الخلايا وتجهيز العمليات وغيرها من البرامج.

اجتمع أربعة من الثلة الصادقة التي نفرت في سبيل الله لإعلاء رايته، لتدارس البرامج الجهادية وما يمكن عمله لتحقيقها على أرض الواقع. ويومها، لم يكن المهندس وأبو خالد وعبد الناصر ومحي الدين يعيشون في أحلام وردية أو في أبراج أصحاب النجوم والنياشين يوجهون ويأمرون. إذ تم توزيع المسؤولية بحسب الظروف والإمكانات، بحيث يتولى المهندس التوجيه والتخطيط من قطاع غزة ثم ينتقل عائداً إلى الضفة الغربية بعد ترتيب المجموعات والقواعد والملاجىء. وتكون مهمة أبو خالد، تنظيم مجموعات عسكرية متخصصة في أسر الجنود الإسرائيليين، والمشاركة في التخطيط، وبخاصة فيما يتعلق بالهجمات الخاطفة والكمائن وتوفير الوسائل القتالية. وأما التلميذان، فقد طلب المهندس من الأول (عبد الناصر) أن يستأجر شقة قرب مخيم بلاطة لتكون قاعدة لتجهيز العبوات الناسفة وتوجيه العمليات. ولنفس الأهداف، توجه محي الدين إلى المدينة المقدسة حيث أقام قاعدته القسامية النوعية الجديدة. وبين الاثنين، عمل المجاهد حاتم إبراهيم عبد الرحمن إسماعيل كضابط اتصال وتنسيق إلى جانب سفره بين الضفة الغربية وقطاع غزة لنقل التعليمات والإرشادات من المهندس وأبو خالد(228).

4- لبيب يترك تل أبيب في حيرة وقلق

عاد عبد الناصر ومحي الدين إلى الضفة الغربية في الأسبوع الأول من شهر يوليو (تموز) من عام ،1995 حيث اتجه عبد الناصر إلى مدينة نابلس، بينما أقام محي الدين في المدينة المقدسة. وبناء على التعليمات، استأجر عبد الناصر شقة تجارية في عمارة من خمسة أدوار في مدينة نابلس باسم مستعار، نقل إليها المواد الكيماوية وقطع من الأنابيب المعدنية وكمية من الأدوات الكهربائية. وفي هذه الشقة التي تحولت إلى مشغل لصناعة المتفجرات وتجهيز العبوات الناسفة، عمل عبد الناصر مع مساعده عثمان سعيد أحمد بلال (20 عاماً) بنشاط، وتمكنا من تركيب عدة حقائب احتوت على قطع أنابيب معدنية معبأة بمواد شديدة الانفجار ومتصلة بأسلاك وأجهزة تفجير(229).

وبموجب توجيهات المهندس، بادر عبد الناصر وحاتم في إقامة قاعدة تنظيمية في منطقة نابلس ارتكزت في البداية على تجنيد متطوعين لتنفيذ عمليات استشهادية. ولأنهما كانا معروفين بنشاطهما في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وشاركا مرات عديدة في فعاليات جهادية، نقل المهندس إلى تلميذه اسمي لبيب أنور فريد عازم (23 عاماً) وسفيان سالم عبد ربه جبارين (26 عاماً) كمرشحين لتنفيذ العمليتين الاستشهاديتين الأولى والثانية اللتين تقرر أن يتم تنفيذهما بالتعاون بين قاعدة عبد الناصر في نابلس وقاعدة محي الدين في القدس. وبناء على البرنامج الذي تلقياه من المهندس، فقد عمل القائدان محي الدين الشريف وعبد الناصر عيسى بحرص شديد بألا يتم الكشف عن أسماء المجاهدين الذين ينفذون العمليات الاستشهادية بعد استشهادهم. واستهدف المهندس من هذا الأمر، ألا يحصل الشاباك على أي معلومات تفيده في التحقيق بعد تنفيذ العمليات وترك ضباطه وخبرائه في حيرة من أمرهم(230).

بعد شرح طبيعة الهدف وتفاصيل الخطة وطريقة تشغيل المتفجرات، قام القائد عبد الناصر بنقل المجاهد لبيب عازم وحقيبة المتفجرات التي احتوت على أربعة كيلوجرامات وكمية من المسامير، في سيارته إلى ضاحية بني براك القريبة من تل أبيب حيث استقل لبيب الحافلة رقم (20) المتجهة إلى ضاحية رامات غان. وفي نحو الساعة الثامنة وأربعين دقيقة من صباح يوم الاثنين الموافق 24 تموز (يوليو) ،1995 مرت الحافلة بالقرب من مبنى بورصة الماس وأضحت على بعد مائة متر من زاوية شارع اباهيلل-لسكوف. وعندئذٍ، وقف المجاهد لبيب في وسط الحافلة، وشغل جهاز التفجير، ليدوي انفجار هائل دمر الجانب الأيسر من الحافلة تماماً وحطم جميع النوافذ وأحدث فجوة كبيرة في السقف، وانتزع غطاء المحرك ومخزن الحقائب. وعلى الأثر، أغلقت الشرطة الإسرائيلية المنطقة وهرعت عشرون سيارة إسعاف لنقل القتلى والجرحى حيث استقر ما اعترفت به الشرطة على ستة قتلى وواحد وثلاثون جريحاً من بينهم ستة بحالة خطرة(231).

ومع تواصل ردود الفعل الغاضبة لدى الشارع الإسرائيلي والدوائر السياسية بمختلف مشاربها، وقفت أجهزة الأمن والاستخبارات عاجزة عن تحديد هوية الاستشهادي والجهة التي تقف وراء العملية. ويشكل هذا العجز ضربة قوية لمصداقية أجهزة الأمن التي اضطرت لعرض صورة تقريبية للشهيد في التلفزيون الإسرائيلي والصحف على أمل التعرف على هويته بمساعدة مصادر عربية(232). وأعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية عن خشيته من حصول عمليات لا تتبناها أي جهة، وقال في تصريح للإذاعة: «هناك ربما نوع جديد من الأعمال الإرهابية، إذ لم يعلن أي طرف مسؤوليته عن الاعتداء». وتابع اسحق رابين: «إن الصمت الذي يلزمه مرتكبو هذا الهجوم عائد ربما في رغبتهم بمراعاة السلطة الفلسطينية... قد يكون الإرهابي أتى من الخارج، لكن حتى في هذه الحالة، لا بد أنه حصل على دعم محلي»(233). ولئن توقعت مصادر استخبارية إسرائيلية أن تكون حركة حماس وراء العملية، بعد أن أشارت تقارير خبراء المتفجرات بوجود شبه كبير بين تركيبة المتفجرات المستخدمة في العملية وتلك التي استخدمت في العملية التي نفذها الشهيد صالح صوي، وظهور بصمات المهندس من خلال طريقة التنفيذ، فإن الناطق باسم الشرطة الإسرائيلية لم يستطع أن يحدد تلك المسؤولية بشكل رسمي حيث قال بأن الاتصال الهاتفي في الغالب لا يمتلك المصداقية الكافية للحسم بشأن الجهة التي نفذت العملية، حتى ولو جرى تبنيه على نحو واسع من قبل الإعلام. وانطلاقاً من ذلك، قال الميجر اريك بارشين: «إن أي تنظيم فلسطيني مناهض لعملية السلام لم يوزع حتى الآن شريط فيديو يعلن فيه مسؤوليته عن هذا الهجوم، كما حصل عادة مع العمليات الانتحارية السابقة. فالطرف المسؤول عن العمليات الانتحارية السابقة كان يذيع دائماً اسم المنتحر الذي نفذ العملية. ولذلك من بين الفرضيات أن المنتحر أجنبي إلا إذا كانت حماس تريد أن تخفي أنه من قطاع غزة لتجنب مواجهات مع السلطة الفلسطينية»(234).

كانت سلطات الاحتلال تدرك أنها بحاجة لمعرفة هوية منفذ الهجوم للبحث عن بقية أفراد الخلية التي تقف وراء العملية. ولذلك، بدأ الجيش الإسرائيلي حملة مداهمات في مناطق شمال الضفة الغربية، ثم نفذت حملة مماثلة في مناطق جنوب الضفة الغربية، غير أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فشلت في الحملتين في العثور على ما يقود إلى هوية الشهيد لبيب عازم(235).

5- مستحيل أن يحصل مثل هذا في قلب مدينة القدس

حققت العملية الاستشهادية في رامات غان بتل أبيب نجاحاً متميزاً، ترك حكومة اسحق رابين وأجهزتها الأمنية في حالة ذهول، فللمرة الأولى لم يستطع ضباط الشاباك تحديد اتجاهات التحقيق. وقد كان هذا النجاح حافزاً أمام الفريق الرباعي الجديد للاستمرار في هذا النوع من العمليات إلى جانب التخطيط لأسر جندي من منطقة حيفا وإجراء مساومة عليه في مقابل معتقلين وأسرى في السجون الإسرائيلية. ولأن المعركة الاستخبارية بين الكتائب والشاباك اشتدت بعد عملية رامات غان وارتفعت حرارتها، فقد تدخل المهندس وأبو خالد بشكل مباشر لدعم عبد الناصر ومحي الدين اللذين عكفا على رصد الهدف الجديد الذي تمثل في الحافلة رقم (26 أ) التي تسير بين حي كريات يوفيل إلى جبل سكويوس بالمدينة المقدسة حيث الجامعة العبرية مروراً بمقر القيادة القطرية للشرطة الإسرائيلية في حي الشيخ جراح.

وطبقاً للخطة الموضوعة، فقد تقرر أن يقوم عبد الناصر ومحي الدين بتجهيز حقيبة متفجرة تحتوي على أنبوبتين معدنيتين يتم حشوهما بمواد (ت.ن.ت) ومسامير وصواعق تفجير كهربائية في الورشة بمدينة نابلس(236). وبعد ذلك، قام محي الدين الذي كان يساعده المجاهدان عبد المجيد دودين (33 عاماً) ورشيد الخطيب (28 عاماً) بنقل الحقيبة إلى المدينة المقدسة تمهيداً لتسليمها إلى المجاهد الاستشهادي سفيان جبارين الذي انتقل بدوره إلى القدس قبل يومين فقط من الموعد المفترض لتنفيذ العملية. وأما عبد الناصر ومجموعته، فقد باشروا بوضع الترتيبات والخطط لأسر جندي إسرائيلي حيث خرجت المجموعة في جولات استطلاعية عديدة(237).

أقفلت السلطات العسكرية الإسرائيلية قطاع غزة، ومنعت الدخول إليه أو الخروج منه، وشددت من حصارها العسكري ابتدأ من العاشر من آب (أغسطس) ،1995 بعد أن قام المهندس وأبو خالد بتسريب معلومات موثقة بأن الكتائب تعتزم تجهيز استشهادي من قطاع غزة لتنفيذ عملية كبيرة داخل مدينة تل أبيب. وتضمن التسريب كذلك، اسم الاستشهادي ومخطط العملية حيث أبلغت أجهزة الأمن الإسرائيلية نظيرتها في الجانب الفلسطيني بأن وائل طلب صالح نصار (23 عاماً) من سكان حي الزيتون بمدينة غزة تعاونه خلية من خمسة ناشطين من حركة حماس يحاول التسلل إلى تل أبيب لتفجير سيارة مفخخة من نوع فيات خضراء اللون(238).

وهنا، دخلت أجهزة الأمن الإسرائيلية والفلسطينية في سباق مع الزمن لمنع العملية التي كانت تعتقد بأنها نجحت لأول مرة في التقاط طرف خيط لها. وتعاونت الشرطة الفلسطينية بكل ما لديها، حتى تمكنت من محاصرة الاستشهادي المفترض مع المجاهدين القساميين عوض سلمى وإبراهيم النفار في منزل الأخير بحي الشيخ رضوان يوم الجمعة الموافق 18 آب (أغسطس) 1995. وبعد تبادل إطلاق النار بين المجاهدين الثلاثة ونحو (500) عنصر من رجال شرطة الحكم الذاتي يقودهم العميد موسى عرفات (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية) تدخل مفاوضون من حركة حماس وأنهوا القضية على الشكل الذي أكمل المسرحية التي نسج المهندس وأبو خالد خيوطها. وسارع ياسر عرفات بحضور يعقوب تسور، وزير الزراعة الإسرائيلية الذي زار غزة في اليوم التالي إلى الإعلان عن نجاح الأمن الوقائي الفلسطيني في إحباط العملية الاستشهادية واعتقال الشخص الذي أشار اسحق رابين أنه الرجل (الانتحاري) الذي من المفروض أنه سينفذ العملية(239).

ومع أن قصة وائل نصار نجحت في جذب أنظار قوات الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية باتجاه قطاع غزة لنحو أسبوعين تقريباً، إلا أن المهندس وأبو خالد رأيا بأن عليهما الاستمرار في مخططهما. فقام المهندس بتجهيز عبوتين ناسفتين تنفجرا بطريقة التحكم عن بعد، وسلمهما للقائد أبو خالد الذي نقلهما بدوره إلى مجموعتين قساميتين، حيث قامت الأولى بوضع العبوة على طريق الدوريات العسكرية بين مدينة خان يونس ومستوطنات غوش قطيف، لتنفجر بعد ذلك صباح يوم الخميس الموافق 17 آب (أغسطس) 1995 أثر مرور سيارة عسكرية إسرائيلية مما أدى إلى جرح جندي وفق ما اعترف به الناطق العسكري لجيش الاحتلال(240).

وفي الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الجمعة الموافق 18 آب (أغسطس) ،1995 فجرت المجموعة الثانية عبوة ناسفة وضعتها على جانب الطريق الفاصل بين الحدود الفلسطينية - المصرية عند مخيم كندا بمدينة رفح أمام ناقلة جنود مصفحة، ولكن القيادة العسكرية الإسرائيلية تكتمت هذه المرة عن الإشارة إلى الإصابات التي لحقت بجنود الناقلة المصابة(241).

تحت عنوان (عرفات ورابين في قارب واحد) كتب المعلق السياسي في صحيفة هارتس، يوأل ماركوس معترفاً بنجاح المهندس وأبو خالد في تضليل الاستخبارات الإسرائيلية على الرغم من التعاون بين سلطة الحكم الذاتي والشاباك في هذه القضية. وجاء في تحليل ماركوس: «قبل عدة أسابيع، حصلت جهات أمنية إسرائيلية على اسم وعنوان شخص من حماس، يريد تنفيذ عملية انتحارية في إسرائيل، كانت المعلومات دقيقة بشكل لم يسبق له مثيل، بالإضافة لشريط تسجيل فيديو، يودع فيه الانتحاري هذا العالم في طريقه إلى الجنة، تم تبليغ عرفات بالمعلومات، مرفقة بتنبيه، إذا لم تلقوا القبض عليه خلال أربعة أيام، سنضطر أن نفرض طوقاً أمنياً، وفي يوم الجمعة، اعتقلت الشرطة الفلسطينية الانتحاري، ورفع الطوق الأمني الذي دام اثني عشر يوماً. بعد رفع الطوق الأمني، فتحت الأفواه الإسرائيلية وبالغت جهات عسكرية إسرائيلية بمديح السلطة الفلسطينية التي نفذت المهمة بسرعة، إذ قال ضابط من قيادة المنطقة الجنوبية: «هذا ما توقعناه من السلطة الفلسطينية، وهو استخدام الشدة ضد نشيطي حماس، ومن كان نائباً لقائد جهاز الأمن العام قبل فترة وجيزة، امتدح التعاون الاستخباري بين السلطة الفلسطينية وبين إسرائيل، وهم يستحقون كل الاحترام. ولكن لماذا كل الاحترام؟ وماذا بصدد عملية الباص رقم 26 في القدس؟»(242).

كانت الأمور تسير حسب المخطط حين غادر عبد الناصر وعثمان وحاتم مساء يوم السبت الموافق 19 آب (أغسطس) 1995 في إحدى رحلاتهم الاستطلاعية إلى منطقة حيفا. وتشاء الأقدار، أن يعتقل القائد عبد الناصر بعد أن أوصل المجاهدين إلى مكان إقامتهما حيث أوقفته دورية لجيش الاحتلال في شارع فيصل بمدينة نابلس. وينقل عبد الناصر على الفور إلى أقبية التحقيق، ويمارس الشاباك ألوان شتى من التعذيب النفسي والجسدي ضده في معتقل الجلمة القريب من حيفا. وعلى الرغم من الضغط بأساليب صعبة وقاسية كالشبح والهز والعزل الانفرادي، والحرمان من النوم والطعام والعلاج، وأوضاع عبد الناصر الصحية السيئة، إلا أن الطالب النجيب للمهندس أثبت لجلاديه صلابة المجاهد القسامي بصموده وعدم كشفه لاسم محي الدين ومجموعته مكتفياً بالإشارة إلى اتصاله بالمهندس والقائد محمد الضيف دون أن يذكر أي شيء عن العملية التي تم التخطيط لها في مدينة القدس. وجن رئيس الشاباك، الجنرال كارمي غيون حين نقل إليه محققوه بأن عبد الناصر كان يعلم بمخطط العملية الاستشهادية، وأنه لم يتكلم عنها إلا بعد أن اطمأن إلى نجاح محي الدين الشريف بتنفيذها(243). ولنحو شهرين، استمرت معاناة القائد عبد الناصر في أقبية التحقيق، وهذه المرة في سجن نابلس المركزي الذي نقل إليه، حيث أبلغ محاميه الذي زاره يوم الخميس الموافق 5 تشرين أول (أكتوبر) 1995 بأنه ما يزال يتعرض لأعمال شبح وتحقيق متواصلة لإجباره على الإدلاء باعترافات حول نشاط المهندس واتصالاته وأماكن تواجد المجموعات التي تعمل له(244).

اعتقل عثمان وحاتم في اليوم التالي، ودوهمت الورشة بعد خمسة أيام، وتوالت الاعتقالات التي طالت عدداً من نشطاء حركة حماس في مدينة نابلس. ولكن، هذه الإجراءات لم تنل من المجموعة القسامية المقدسية حيث عاود المهندس تنظيم عملية الاتصال مع محي الدين الشريف من جديد في فترة زمنية قصيرة، وطلب منه تنفيذ العملية في ذكرى جريمة إحراق العصابات الصهيونية للمسجد الأقصى المبارك. وبناء على التعليمات، قام محي الدين وعبد المجيد ورشيد بترتيب نقل المجاهد الاستشهادي سفيان جبارين في صبيحة يوم الاثنين الموافق 21 آب (أغسطس) 1995 إلى محطة الحافلات المركزية في الشطر الغربي من القدس بعد شرح طريقة تشغيل المتفجرات. وما أن وصلت الحافلة رقم (26 أ) إلى المحطة، حتى أخذ المجاهد سفيان مكانه في الجزء الخلفي منها، إذ أنها حافلة مزدوجة تتكون من شطرين موصولين بنظام خاص. وسارت الحافلة مخترقة الشوارع المزدحمة في حي رامات اشكول، وهو أول حي يهودي أقيم في القدس الشرقية بعد احتلالها عام 1967. وعند وصول الحافلة إلى مفترق ليفي اشكول في نحو الساعة السابعة وثلاثة وخمسون دقيقة، وهي ساعة الذروة الصباحية، وقف المجاهد سفيان ليكبس على جهاز التفجير مستغلاً اقتراب الحافلة رقم (9) التي تسير من جبعات رام إلى جبل الزيتون من الحافلة (26 أ)، ليدوي انفجار ضخم شطر الحافلة رقم (26 أ) إلى شطرين مدمراً الجزء الخلفي بشكل كامل، بينما لحقت أضرار بالغة في الحافلة الثانية من جراء ضغط انفجار العبوات التي قدر الخبراء زنتها بين 4 و6 كيلوجرامات. وظل المفترق حتى الساعة التاسعة والنصف أشبه بمستشفى ميداني حيث نشط موظفو شركة دفن الموتى في جمع أشلاء جثث وأجزاء من أجساد بشرية تناثرت في دائرة اتساعها عشرات الأمتار حول الحافلتين. ودفعت هذه المشاهد، ما زال بار-ناتاف، وهي شاهدة عيان أصيبت كغيرها بصدمة من هول ما شاهدته لأن تصرخ في وجه عيزرا وايزمان (رئيس الدولة) الذي حاول تهدئة الجمهور الغاضب بزيارته لموقع العملية: «مستحيل أن يحصل مثل هذا في قلب مدينة القدس.. هنا لسنا في غزة»(245).

وضعت سلطات الاحتلال كافة المستشفيات بالمدينة المقدسة في حالة استنفار وطوارىء لاستقبال القتلى والجرحى حيث أعلن الناطق العسكري الإسرائيلي عن خمسة قتلى من بينهم ضابط برتبة ميجر ومائة وسبعة جرحى صنفت جروح ثمانية منهم خطرة. ومما زاد في حالة الارتباك التي عاشتها الشاباك، صعوبة تحديد جثتين إحداهما لرجل والأخرى لامرأة. ودفع فرار شابة بدوية من خيمة أهلها ولجوءها إلى قبيلة أخرى تقطن في منطقة بيت لحم، وإبلاغ أهلها باختفائها منذ يوم الأحد، الشرطة الإسرائيلية إلى الاعتقاد بأن امرأة نفذت الهجوم(246)،واستمر هذا الاعتقاد حتى يوم الأربعاء حين اكتشفت الشاباك شريط الفيديو في مدينة نابلس.

أقامت قوات الاحتلال عدداً من الحواجز العسكرية على الطرق والمفترقات ومنعت مئات المواطنين الفلسطينيين من دخول القدس. ورغم كل الإجراءات التي اتخذتها السلطات العسكرية الإسرائيلية إلا أن المجاهد محي الدين الشريف تمكن من الاختفاء وتغيير أماكن تواجده مواصلاً العمل الجهادي على نفس النهج الذي سار عليه المهندس. وأما المجاهدان عبد المجيد دودين ورشيد الخطيب فقد وقعا في قبضة سلطة الحكم الذاتي أثناء عبورهما مدينة أريحا يوم 24 آب (أغسطس) 1995 حيث أصدرت محكمة السلطة على الأول حكماً بالسجن (12 عاماً) والثاني (7 أعوام) بتهمة المساس بمصالح السلطة الفلسطينية وترويج دعاية معادية لعملية السلام(!!)(247).

6- جنرال في مرمى الهدف

أمر اسحق رابين بصفته رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع ومشرفاً على أعمال جهاز الاستخبارات العامة (الشاباك) بتكثيف إجراءات البحث عن المهندس، وأوعز إلى ضباطه في لجنة الارتباط الإسرائيلية - الفلسطينية المشتركة بوضع أمر ملاحقة القائد القسامي على رأس القضايا الأمنية التي تُبحث مع سلطة الحكم الذاتي. ومن جهته، داهم الجيش الإسرائيلي في ساعة متأخرة من الليل (18/9/1995) قريتي رافات وقراوة بني حسان بعد محاصرتهما بشكل كبير منذ غروب الشمس، وأجرى عملية تفتيش واعتقالات في صفوف المواطنين الفلسطينيين. وتركزت أسئلة ضباط الشاباك المرافقين للقوة العسكرية على المهندس. وأما ياسر عرفات - رئيس سلطة الحكم الذاتي- فقد أصدر تعليماته الصارمة يوم الأربعاء الموافق 23 آب (أغسطس) 1995 إلى رؤساء أجهزة الأمن والاستخبارات الفلسطينية بالبحث عن يحيى عياش. وأكد اللواء نصر يوسف، قائد الشرطة الفلسطينية صدور مثل هذه التعليمات حين صرح للإذاعة الإسرائيلية: «إن عملية البحث عن يحيى عياش صعبة ولكن هناك تحركات وإجراءات حثيثة في هذا الاتجاه لا يمكن الكشف عنها في الوقت الحاضر»(248).

ولكن المهندس الذي يعمل وفق مبدأ (اعقلها وتوكل)، لم يثنه هذا التنسيق الجديد - القديم، واستمر في برنامجه الجهادي حيث أوفد المجاهد حاتم يوسف محمود زيادة (24 عاماً) وهو من مخيم جباليا القريب من مدينة غزة إلى الضفة الغربية بتعليمات للاتصال بمجموعة من المجاهدين في منطقة طولكرم بهدف إعادة إحياء منطقة شمال الضفة الغربية. ووفق المخطط، عمل حاتم على تجنيد وتنظيم عدة مجموعات ضمت خمسة عشر مجاهداً، لتنفيذ عمليات عسكرية بأساليب ونوعيات مختلفة ابتدأ من الهجمات الخاطفة والكمائن وحتى العمليات الاستشهادية، غير أن هذه المجموعات لم تباشر عملها الميداني نظراً لاعتقال حاتم في الأسبوع الثاني من شهر كانون أول (ديسمبر) عام 1995م(249).

وعاود المهندس الاتصال بالقائد محي الدين الشريف، وعمل على توجيهه نحو اثنين من المجاهدين من منطقة شمال الضفة الغربية شاركا المهندس وساعداه أثناء إقامته في منطقة رام الله، وكان لهما دور رئيس في التجهيز والإعداد للعمليتين الاستشهاديتين اللتين نفذهما سليمان زيدان وسلامة يوسف. وتبعا للاتصال والتنسيق، أضحى منصور يوسف شماسنه وراشد الحاج مسؤولين عن تجنيد نشطاء حركة حماس، وتنظيمهم في إطار مجموعات القدس التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام. ومع نجاحهما في المهمة، نقل محي الدين الشريف إليهما عبوتين ناسفتين كبيرتين ومخطط للعملية التي تم الاتفاق على تنفيذها بين المهندس وأبو خالد ومحي الدين. ولم تكن تلك العملية سوى، نسف منزل الميجر جنرال داني روتشيلد، منسق شؤون الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أثناء تواجده في داخله. وبعد عدة جولات استطلاعية، تسلل المجاهدان للمدينة المقدسة في نهاية شهر كانون أول (ديسمبر) ،1995 غير أنهما لم ينجحا في وضع العبوات الناسفة فعادا أدراجهما(250).

7- التلاميذ لا يقلون كفاءة عن المعلم

كان الصحفي الإسرائيلي ناحوم بارتي، أحد الإعلاميين القلائل الذين حاولوا تنبيه الحكومة الإسرائيلية إلى رد الفعل الذي يمكن أن يصدر عن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في أعقاب اغتيال المهندس على يد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وعملائها. فقد كتب بارني في صحيفة يديعوت أحرونوت في السابع من كانون الثاني (يناير) ،1996 أي بعد يومين فقط من اغتيال يحيى عياش في غزة قائلاً: «إن السياسيين الإسرائيليين الذي يبتهجون ابتهاجاً عظيماً الآن لعملية تصفية يحيى عياش، سيثيرون صرخات احتجاج هائلة حول الإرهاب العربي الذي سيوجه ضدنا». كما كتب المحلل في الشؤون الأمنية، روني شيكد تعليقاً تحت عنوان «تلامذة المهندس يحيى عياش لا يقلون كفاءة عنه» متوقعاً موجة عنيفة من العمليات الاستشهادية ثأراً للمهندس حيث أشار: «إن تلاميذ عديدون للمهندس لا زالوا يتواجدون في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وهؤلاء قادرون على زرع القتل والرعب في إسرائيل». وتابع شيكد: «إن يحيى عياش لم يكرس جهوده فقط في صنع السيارات المفخخة والقنابل البشرية الحية، وإنما عمل على تنشئة وتربية جيل من مكملي دربه الذين سبق أن برهنوا في العمليات الانتحارية التي وقعت في رامات اشكول في القدس، وفي رامات غان قرب تل أبيب إنهم لا يقلون كفاءة عن معلمهم»(251).

والحقيقة، إن تلاميذ المهندس ليسوا بحاجة إلى كلمات ناحوم بارني ولا إلي تعليقات روني شيكد، إذ أن حالة الرعب والذهول التي سيطرت على المجتمع والدولة في نهاية شهر شباط (فبراير) ،1996 لم يشهدها الكيان الصهيوني منذ عدة عقود مضت. فقد خسرت الدولة العبرية خلال عشرة أيام فقط ما لم تخسره في بعض معاركها مع جيوش عربية جرارة، وأصبح كل إسرائيلي بعد العمليات الاستشهادية الأربعة في القدس وعسقلان والقدس وتل أبيب مهدداً ينتظر أن يأتيه الموت في كل لحظة ومن حيث لا يدري. وبعد الخسارة الكبيرة التي تكبدها الجيش والمستوطنون الصهاينة التي تمثلت بنحو (64) قتيلاً وما يزيد على (300) جريح في العمليات الأربع التي هندسها التلاميذ النجباء: محمد الضيف ومحي الدين الشريف وحسن سلامة، خسرت الدولة العبرية عنصري الأمن والاستقرار اللذين خاضت حروباً طاحنة من أجل تحقيقهما(252).

ومع تصاعد الأصوات الغاضبة للجمهور الإسرائيلي، وقف الجنرال كارمي غيون الذي أشرف شخصياً على الوحدات العسكرية التي اشتركت في عملية اغتيال المهندس ليصف العمليات الأربع بأنها «عمل محنك جداً» معترفاً في الوقت نفسه بأن غياب جسد المهندس لا يعني فقدان الروح الجهادية التي عملت من خلال هذا الجسد حيث قال: «لا أعتقد بأن شخصاً جاداً يتوقع تصفية العنف بعد اختفاء المهندس عن الخارطة. لقد هيأ المهندس تلاميذه، ويوجد إلى جانب المهندس أشخاص آخرون سيستمرون بأعمال العنف، وأعتقد بأن لديه تلاميذاً آخرين». وأما الأدميرال عامي إيالون الذي خلف الجنرال غيون في رئاسة الشاباك، فصرح للإذاعة الإسرائيلية في أعقاب العمليات الاستشهادية الأربع: «إن كتائب عز الدين القسام تتمتع بمستوى عال من التنظيم، وهي قادرة على تحويل المدن الإسرائيلية إلى مدن أشباح، إذ أن لدى هذه الكتائب احتياطياً يضم المئات من الشبان الذين يبدون استعداداً للتحول إلى قنابل بشرية»(253).

8- ملامح من الحياة السرية

لئن وجدت أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية والفلسطينية صعوبات كبيرة في تتبع حياة المهندس وجولاته وأسلوب عمله وتنقلاته، فإنه من الصعوبة بمكان أن يحيط أي باحث مهما حاول في تفاصيل الحياة السرية ليحيى عياش. فالرجل لم يكن يترك آثاراً خلفه، ودائرة معارفه تكاد تكون مغلقة على عدد محدود من الأشخاص والمساعدين. ولكن هذا لا يمنع أن نقدم ملامح من الحياة السرية التي عاشها الشهيد الرمز أثناء إقامته في قطاع غزة، من خلال مقابلة أبو مصعب، وهو أحد مرافقي المهندس الذين عايشوه فترة من الزمن.فيقول أبو مصعب(254): «كان يعجبني في يحيى شجاعة قلبه، كان دائماً يقول لي: إن على الكريم أن يختار الميتة التي يحب أن يلقى الله بها، حتى إنه كان يغامر بالخروج في شوارع غزة بالسيارة، المرة تلو الأخرى، وكان يردد: قدر الله نافذ، ولا مفر من الموت. وفي الآونة الأخيرة كان يلاعب ابنه الصغير براء.. ويقول له: شد حيلك عشان أعلمك تصير زلمة».

ويضيف أبو مصعب: «يحيى لم يكن من النوع الذي يتحدث كثيراً، كان أغلب وقته صامتاً، إلا أنه كان يمازحنا ويمازح ابنه براء. كان كثيراً ما يفكر كيف ينفذ هجوماً هنا أو هناك، وكان يخرج متنكراً وبأشكال مختلفة، وكنا نعتقد أن يحيى معرض للخطر في كل وقت وثانية، ورغم أن الجهاز العسكري قد أوهم أجهزة الأمن الإسرائيلية أنه خرج إلى مصر إلا أن حالة الحذر ظلت قائمة. وكان تارة يخرج بجلابية طويلة وطاقية على رأسه. وتارة يخرج ببنطلون جينز وقميص قصير، وأغلب المرات كان يخرج في الليل، وحدث عدة مرات أن اجتزنا حواجز الشرطة الفلسطينية ورأينا جنود الاحتلال الإسرائيلي على طول الطريق الممتد من رفح حتى غزة، والحمد لله لم يتعرض مرة للاشتباه به». وحول شعور يحيى حينما كان يجهز أحداً من الناس للقيام بعملية استشهادية، يقول أبو مصعب: «يحيى نفسه كان يعيش الشهادة، ويتمناها، لكنه آثر أن يضرب داخل العمق الصهيوني أكبر عدد ممكن من الضربات، وكثيراً ما كان يقول: لو أنني كنت مكانه، إضافة إلى أنه كان يدقق في كل شيء وفي أصغر التفاصيل، كان الذي يسمعه حينها يظن أنه يرى الموقع أمام عينه، يحيى كان من الخبراء القلائل الذين أتقنوا فن تفخيخ السيارات، وهي ظاهرة لم يعرفها الشباب الفلسطيني منذ عهد الاحتلال، وبحق يعتبر يحيى مؤسس لمدرسة التفخيخ ورائد مدرسة الاستشهاديين. وحينما يتردد اسمه في وسائل الإعلام الإسرائيلية، كثيراً ما كان يضحك ويقول: هؤلاء جبناء. وحينما كانت بعض التقارير تتحدث عن الرعب الذي زرعه يحيى في نفوس الصهاينة، كان يذكر قوله تعالى بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. وأذكر مرة أن التلفزيون الإسرائيلي بث تقريراً حول العمليات التي قام بها المهندس رحمه الله، وكان يحيى حاضراً فإذا بيحيى يقول: لسه الحبل على الجرار، والله إن شاء الله ما أخليهم يناموا الليل ولا يعرفوا الأرض من السماء. وفي الفترة الأخيرة كان يحب تلاوة القرآن ومطالعة الكتب والاستماع إلى نشرات الأخبار، وكان أحياناً يخرج ليتجول في شوارع غزة وكان أحياناً كمن يتودع منها يقول: إن نهاية الإنسان لا بد أن تأتي ما دام قدر الله قد نفذ».

السيف عدي
07-03-2008, 08:55 AM
الفصل الثالث



المطاردة المتبادلة



من حفل تأبين المهندس في غزة

من حفل تأبين المهندس في مدينة نابلس



توطئة

مع كل عملية تفجير استشهادية تدق نوافذ الوعي الشعبي في الكيان الصهيوني، تظهر صورة يحيى عياش أو المهندس عدة مرات على كامل شاشة التلفزيون الإسرائيلي وعلى كل القنوات وأثناء البث المباشر لعملية إسعاف الجرحى، فيما يردد المذيعون اسم المهندس الذي أصبح الهاجس الأساسي لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. وغدا المهندس شبحاً أسطورياً بالنسبة للإسرائيليين بعد أن تفشت في أوساطهم الإشاعات المتناقضة حول هذا المهندس الخطير، كما أن رئيس الحكومة خرج عن العرف الدبلوماسي والمراسم المتعارف عليها دولياً بإعلانه أن المهندس هو الهدف المركزي للدولة بكافة مؤسساتها وأجهزتها وقبوله شخصياً التحدي حيث أعلن بأن مصير يحيى عياش سيكون مثل مصير (الإرهابيين) وهو الموت(1). ويؤكد الخبير العسكري، زئيف شيف، هذا الأمر في سياق تعليقه على جريمة اغتيال المهندس فيقول: «إن الشيء الذي أملى اتخاذ قرار القضاء على يحيى عياش ليس فقط حساب الدم المتعلق بعشرات القتلى والجرحى من الإسرائيليين، وإنما أولاً وقبل كل شيء حقيقة أن هذا الرجل تمكن في كل مرة من بناء قاعدة جديدة للعمليات الانتحارية الجماعية. ولذلك، تحول المهندس إلى هدف مركزي، وأعطى في حينه اسحق رابين الأمر بعمل كل شيء ممكن من أجل القضاء على يحيى عياش، وتبنى شمعون بيريز الذي خلف رابين في رئاسة الوزراء هذا التوجه».(2)




إن قدرة يحيى عياش على التحرك بحرية نسبية في الضفة الغربية وقطاع غزة والعمل بنجاح في تلك المناطق وفي المنطقة المحتلة منذ عام،1948 دون أن تتمكن المجهودات الضخمة والمكثفة التي بذلها الجيش والشرطة والوحدات الخاصة وأذرع المخابرات من إفشال أي من خططه، وعلى الرغم من الآثار السلبية والبصمات المرعبة التي خلفها نجاح المهندس على المجتمع الإسرائيلي إلا أن القادة والمعلقين الصهاينة غالباً ما وقفوا اعترافاً واحتراماً لهذه العقلية المتميزة والقدرة المتجددة. ويكفي أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي اعتبر نفسه ودولته في حالة عداء شخصي مع يحيى عياش هو الذي أطلق عليه لقب (المهندس)، إذ كتبت يديعوت أحرنوت في تحليلها بعد استشهاد عياش ما يؤكد إعجاب رابين بشخصية عدوه فتقول: «كان رئيس الحكومة رابين هو الذي أعطى يحيى عياش لقب المهندس، وقد تذكر جدعون عزرا هذه الواقعة: في إحدى المناقشات التي جرت حول عياش أعجب رابين بمواهبه، وبعد أن قصصنا عليه ما يفعله، ألصق بعياش لقب المهندس، وقد أصبح هذا اللقب اسما مرادفا لعياش منذ ذلك الوقت، وكان عيزرا قد اعتاد إبلاغ رابين بما يجري بشأنه من نشاط جار أولاً بأول حيث كان عيزرا هو الذي يقود عملية المطاردة للقبض على عياش، وكان رابين على علم بأدق تفاصيل المعلومات الاستخبارية والحملات التي يخطط لها للقبض على عياش»(3).



وفي نفس السياق، عبر الجنرال جدعون عيزرا، نائب رئيس الشباك السابق عن إعجابه بيحيى عياش رغم ما يكنه من عداوة وحقد للعمليات التي نفذها. ففي مقابلة مع صحيفة معاريف، قال الجنرال عيزرا: «إن نجاح يحيى عياش بالفرار والبقاء حولته إلى هاجس يسيطر على قادة أجهزة الأمن ويتحداهم. فقد أصبح رجال المخابرات يطاردونه وكأنه تحد شخصي لكل منهم، وقد عقدت اجتماعات لا عدد لها من أجل التخطيط لكيفية تصفيته... لقد كرهته، ولكني قدرت قدرته وكفاءته»(4). ويضيف عيزرا في مقابلة أخري مستعرضاً معاناته أثناء عمليات البحث الفاشلة عن عياش: «كنت كل يوم أحاول إلقاء القبض على يحيى عياش، وأحياناً أكثر من مرة واحدة يومياً. وليس أنا فقط، فقد كنا كثيرين وحاولنا إلقاء القبض عليه وجندنا أفضل الأشخاص لذلك، كنا على استعداد لصرف ميزانيات بلا حدود من أجل تصفيته. ولكنه كان يهرب عادة بوثائق مزورة منتحلاً شخصيات مختلفة، فيربي ذقنه حيناً ويحلقها حيناً آخر، ويغير من ملامح وجهه. ويتجول في إسرائيل وهو يرتدي قبعة يهودية مسروجة ويتحرك بسيارة وضعت عليها ملصقات تحمل شعارات مثل: الشعب مع الجولان»(5).



وتحت عنوان (اعرف عدوك: المهندس هو المطارد الأول)، نشر أليكس فيشمان مقالاً طويلاً في صحيفة معاريف بعد عملية الشهيد صالح صوى تحدث فيه عن القائد يحيى عياش جاء فيه: «أحد أبرز جوانب هذا الطالب الجامعي هو قدرته على إعداد عبوات فعالة من مواد ليست من نوعيات جيدة. هذه القدرة تحظى بالتقدير الكبير من رجال المهنة الإسرائيليين كونه استطاع التغلب على الجفاف الذي خلفته المخابرات العامة في المواد المتفجرة جيدة النوعية... لقد تعرفت المخابرات على هذه القدرة في العام 1992 حيث لم يكن عياش معروفاً عندما ضبطت سيارة ملغومة في رامات أفعال. وبالكاد عرفت أن عياش هو الذي أعد العبوة... لقد ذعر رجال المخابرات من مجرد التفكير في إمكانية وصول هذه السيارة إلى قلب تل أبيب لتنفجر في شارع ديزنغوف». ويضيف فيشمان: «خلف يحيى عياش -المطارد رقم واحد- وضعت أجهزة الأمن الإسرائيلية كل ثقلها: سيرته الذاتية، خططه، طبيعته، أسلوب عمله. ورغم أن كل ذلك أصبح معروفاً لدى رجال المخابرات، إلا أن عياش لعب معهم لعبة القط والفأر. ويزيد اسحق رابين على أجهزة المخابرات هماً وخيبة حين يبادر في بداية كل اجتماع بالسؤال: أين المهندس؟ فلا يتلقى جواباً. وعليه تحول المهندس إلى رمز لفشل إسرائيل في الإمساك بمن ينفذ العمليات وليس المنظمة وحدها. وكأن الأرض انشقت وابتلعته، كان هناك من ادعى أن الرجل فر إلى خارج البلاد، وهناك من ادعى أنه فر إلى منطقة الحكم الذاتي. ولكن في غرفة العمليات، ما تزال صورته معلقة على ملصق كبير، كتب تحتها المطلوب رقم واحد، والملف الخاص بيحيى عياش مليء ولكنه ما زال مفتوحاً. فقد اختار المهندس الهدف، التوقيت، وأسلوب العمل لخطة نسجها على مدى خمس سنوات»(6).



ويتسع نطاق إخوانه المهندس ونجاحاته النموذجية التي دفعت بالكثيرين لتقليده والسير على خطاه وجرى تخصيص موازنات إضافية لأجهزة الاستخبارات والتجسس الإسرائيلية كجزء من استراتيجية جديدة لمواجهة الخلايا العسكرية والمجموعات المساندة لها. ويعلن الجنرال يغال بريسلر -مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية لشؤون مكافحة الإرهاب- بعد اجتماع رؤساء الموساد والشباك وآمان بألم وحسرة: «إن أجهزة الأمن الإسرائيلية كادت أن تلقي القبض على المهندس في عدة مرات إلا أنه نجح في كل مرة بالإفلات بطريقة عجيبة»(7).



ولأن الحديث لم يعد يدور عن موجة طعن بالسكاكين أو عمليات بمبادرات فردية وذاتية بل يدور عن معركة ذات خطة وأهداف محددة، فإن رون بن يشاى، المعلق في صحيفة يديعوت أحرونوت، يجد في قدرة المهندس وأسلوبه ما يجعله يدق ناقوس الخطر مطالباً بأخذ الحيطة والحذر والاستعداد للمواجهة بإجراءات غير تقليدية أو عادية. ويرى بن يشاى: «سلسلة مكثفة من العمليات في قلب المناطق المكتظة بالسكان في إسرائيل تنفذ باحتراف وقدرة على التخطيط والتنفيذ لم نعهده حتى الآن: نشهد اختياراً متطوراً للأهداف والأساليب الحربية، وتشديداً يثير الذهول على السرية واختيار وإعداد دقيق للمنفذين الميدانيين الذين يبدون الاستعداد للتضحية خلال قيامهم بالعملية»(8).



أما المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فقد عانت من ضغوط شديدة، بعد أن تلقت ضربة معنوية قاسية نظراً لعدم تمكنها من متابعة تحركات المهندس وتنقلاته. ومما زاد في حرج هذه الأجهزة، انتقال المهندس إلى قطاع غزة ثم انضمام زوجته وابنه إليه وزيارة والدته السرية للقطاع ولقائها بولدها هناك، بعيداً عن أنظار القوات والأجهزة الإسرائيلية التي كانت تتابع تحركات العائلة باستمرار وتنصب الكمائن، وعلى الرغم من خضوع جميع أفراد عائلة عياش وأهالي القرية للمراقبة المستمرة(9).



ويعترف القادة العسكريون بالصعوبات التي تواجههم في متابعة البحث عن المهندس، مما يعني أيضاً اعترافاً بكفاءة «المهندس» الذي جعل الجنرالات يقرون بعدم معرفتهم بالمنطقة التي يختبىء بها. ففي مناسبتين متباعدتين زمنياً، يقر الميجر جنرال أمنون شاحك -رئيس هيئة الأركان العامة- والميجر جنرال ايلان بيران الذي كان يشغل قيادة المنطقة الوسطى ومن بينها الضفة الغربية بعدم معرفتهما بمكان إقامة يحيى عياش. ومن أروقة الكنيست، يصرح الجنرال شاحك أثر لقائه مع لجنة الخارجية والأمن بقوله: «الشاب يحيى عياش الملقب بالمهندس، أنا لا أعرف بالضبط أين هو؟!. نحن نبحث عنه منذ مدة طويلة… نحن نواصل البحث عنه حتى نقبض عليه»(10).



ويضيف شاحك: «إن قوات الجيش الإسرائيلي تبحث عنه في كل مكان، وعندما تعرف مكان تواجده فإنها ستصل إليه»(11).



وبصيغة مشابهة، يقول الجنرال بيران في مقابلة صحفية: «لزاما علينا العثور على المهندس ولم نتمكن من ذلك حتى الآن. نريد الاستمرار بمجهوداتنا والوصول إليه. وفقا لاعتقادي لا يتواجد في المنطقة الوسطى، هذا ليس سهلاً. الصعوبات كبيرة لكن يجب الاستمرار بالمحاولة»(12).



وحمّل بيران الأجهزة الأمنية مسؤولية الفشل معتبراً أن هذه الأجهزة «أصبحت عاجزة تماماً أمام الأعمال والخطط التي يضعها عياش»، وبناء على ذلك ينصح بيران بقوله: «الآن يتوجب على أجهزة الأمن حماية نفسها من هجمات عياش الانتحارية، وعليهم أن يتوقعوا المزيد من العمليات»(13).

السيف عدي
07-03-2008, 08:58 AM
أولاً: الآثار



يبالغ الإعلام الإسرائيلي عادة في التركيز على الشخصيات القيادية أو العسكرية الفلسطينية، ليكون أثر سقوطها بالغاً في نفوس الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. فبالنسبة للفلسطينيين، تريد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، أن يشعروا بفداحة الخسارة وبالتالي عدم جدوى استمرار الجهاد والمقاومة العسكرية، بينما يستهدف هذا التركيز إشعار الجمهور الإسرائيلي بكفاءة أجهزة الأمن لديهم. ولكن هذا التفسير الذي ينطبق على حالات كثيرة سابقة لم يكن ليتلائم مع اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة مع الشهيد يحيى عياش. وهذا الأمر يقودنا إلى رؤية أخرى تقول بأن الإعلام الإسرائيلي يخاطب في برامجه العبرية الجمهور اليهودي، وبالتالي فهو يعكس توجهات الشارع. ومن هنا، فإن التركيز الإعلامي الذي حظي به المهندس هو انعكاس للحيز الواسع الذي احتله في أذهان الإسرائيليين بعد العمليات النوعية التي نفذها.



وأياً، كانت الرؤية التي تنطبق على المهندس، فقد تحول عياش إلى إخوانه حقيقية في أذهان أعدائه، وكذلك الأمر بالنسبة للفلسطينيين، حتى قال أحدهم للتلفزيون الإسرائيلي: « لقد عرفنا يحيى عياش رغماً عنا، وأصبح بالنسبة لنا بطلاً من كثرة ما ركزتم عليه»(14). ويقول (شيام بهايتا) في صحيفة الاوبزيرفر البريطانية: «بالنسبة للعديد من أبناء شعبه هو خليفة القرن العشرين للقائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، الذي قضى على الصليبيين، واستعاد كرامة الأمة الإسلامية»(15).



لم يكن اسحق رابين محظوظاً، فقد واكب إبداعات المهندس العسكرية وتعرضت حكومته لاهتزازات أمنية وشعبية عنيفة طاردته حتى داخل حزبه. وبعد عدة محاولات، استخدم فيها رئيس الوزراء أساليب متطورة عديدة، بات اسحق رابين مقتنعاً بعجز قيادته الأمنية عن وقف المهندس ووضع حد للتآكل في شعبية حزب العمل لدى الجمهور الإسرائيلي. وإذا كان قرار إقالة الجنرال يعقوب بيرى عن رئاسة جهاز الشاباك هو المؤشر الأول على هذه القناعة، فإن ما لا يجب إغفاله في مقابل ذلك هو أن رابين كان مستعداً لأن يضحي ببعض قيادات الصف الأول في الأجهزة الأمنية من أجل تحقيق هدفه الذي لم يتحقق إلا بعد وفاته بثلاثة أشهر.



ومع انشغال المسؤولين الإسرائيليين، سياسيين وعسكريين في نشاطات مكثفة لاحتواء الآثار السلبية التي تركها المهندس في أوساط الجمهور الإسرائيلي، بدت حالة الارتباك واضحة على تصريحات وتصرفات أولئك المسؤولين. ولذلك، لم يستطع هؤلاء إخفاء حقيقة استنفاذهم كل ما في جعبتهم من إجراءات ضد المهندس والمجموعات الاستشهادية، إذ اعترف اسحق رابين في لقاء خاص مع لجنة رؤساء تحرير الصحف الإسرائيلية في تل أبيب بصعوبة المواجهة حين قال : «إن الإرهاب المتعصب الذي يرجع مصدره إلى الإسلام الأصولي يختلف عن الإرهاب الذي مارسته منظمة التحرير الفلسطينية من حيث لجوئه إلى العمليات الانتحارية. وتكمن المشكلة في صعوبة مواجهة الانتحاريين الفلسطينيين الذين يأتون لتنفيذ هجماتهم كونهم يدركون أنهم ذاهبون إلى الموت وأن روحهم ستصعد إلى السماء وفق اعتقادهم. هذا النوع من الهجمات لم تعرفه إسرائيل من قبل»(16). ويستدرك رابين في حديث آخر، محاولاً الدفاع عن حكومته ورد الاتهامات: «أنها حرب صعبة ضد أجهزة منظمة وضد هجمات يدعمها السكان ورجال الدين الذين لا يقلون عنهم جنوناً. ويجب أن ندرك كيف نصمد في هذه الحرب، وسيقع خلالها الضحايا. وللأسف الشديد لا أستطيع أن أقول أنه لن يقع المزيد من الضحايا»(17).



في مرات كثيرة اصطف القادة العسكريون خلف رئيس الوزراء ووزير الدفاع، بعد أن وضعهم يحيى عياش أمام السؤال الأبرز والمعادلة الصعبة. لكن، وحين يصرح الجنرال أمنون شاحك بأن «العمليات الانتحارية ستستمر، وكذلك الحرب التي نشنها ضد الإرهاب»، موضحاً بأنه «في أي حال من الصعب بل المستحيل إفشال عملية انتحارية»(18)، فإنه بذلك يزيد من حالة القلق والخوف التي سادت صفوف الإسرائيليين. ونفس الأمر ينطبق على مفتش عام الشرطة، الجنرال اساف حيفتس، الذي كان أكثر وضوحاً في اعترافه حين أشار بأن «الفلسطيني الذي يرغب بتنفيذ عملية انتحارية يستطيع المرور عبر المعابر والطرق بسهولة وهو يحمل عبوة ناسفة أو مادة متفجرة دون أن تكون عمليات التفتيش على الحواجز، ودوريات الشرطة الراجلة والمحمولة، والفحص الدقيق قادرة على الحد من هذه العمليات»(19).



وشارك الخبراء العسكريين والأمنيين في ماراثون الإشادة غير المباشرة بالمهندس وعكست أقوال الخبراء الشك الكامن في نفوس عامة الإسرائيليين، وتزايد هذا الشك في «مواجهة خصم أيديولوجي يرى في مواجهته لإسرائيل حرباً حضارية. والخصوم العقائديون عادة لا يمكن الالتقاء معهم في منتصف المسافة الفاصلة» حسب أقوال روني شيكد التي تصف الشهيد يحيى عياش(20).



وتحت عنوان (لا يستطيع أي جيش في العالم الرد علي الهوس الديني)، استعرض تسفى هرئيل الإمكانيات المتاحة أمام الجيش، وجهاز الشاباك وتوصل في النهاية إلى النتيجة التالية: «إن محاربة الانتحاريين محبطة إن لم تكن غير مجدية، فليس هناك منحه سياسية أو منطق سياسي يمكنهما أن يقتلعا الجنون المسيطر على من قرر أن يكون قنبلة حية... ليس لدى جيش الدفاع رد على المخربين الانتحاريين، وتشير التجربة أنه لا جواب على الهوس الديني فهو إرهاب من طراز جديد له حياته الخاصة وليس مشروطاً بالظروف السياسية أو الاجتماعية وهو مخيف، لمواطني إسرائيل وسكان المناطق»(21).



1- المهندس نجم السنة العبرية



لم يكن مفاجئاً أن ينقسم الجمهور الإسرائيلي في استطلاعين للرأي أجريا لحساب التلفزيون ومحطة الإذاعة الإسرائيلية بمناسبة حلول السنة العبرية الجديدة في 25 أيلول (سبتمبر) ،1995 في اختيار رجل السياسة الإسرائيلي الأول، كما أنه لم يكن مفاجئاً أن يختار أكثرية المشاركين في الاستطلاعين يحيى عياش «رجل السنة العبرية ونجمها»(22).وبعد أن عرض مذيع البرنامج، يوني بن مناحم الذي يعتبر مراسل الإذاعة والتلفزيون للشؤون الفلسطينية، سيرة حياة المهندس توجه إلى المشاهدين قائلاً: «كان من الواضح لدي وجوب اختيار المهندس كرجل هذا العام، فقد قمت بالتجول بين كبار المسؤولين في الإذاعة وأنا أحمل ورقة كتب عليها المهندس وفي النهاية اختاره الجميع». وأضاف بن مناحم: «عرضت الاختيار على والد نحشون فاكسمان الجندي الذي اختطف من قبل خلية من حماس وعلى أشخاص أصيبوا في عمليات فوافقوا على هذا الاختيار لأن عياش يمثل العنف بنظر الإسرائيليين. والعنف هو الذي حدد النفسية الوطنية والعامة لهذا العام، كما أن المهندس يؤثر فعلاً على مدى الإحساس الأمني لكل شخص في إسرائيل. واختياره يؤدي إلى الإحساس بالمأساة لدى ثلاثة أرباع الإسرائيليين»(23).



2- غضب وخوف



كتب مراسل صحيفة معاريف بشيء من التسليم أمام مناظر الرعب التي خلفها انفجار الحافلة في رامات أشكول بمدينة القدس«هناك انطباع بأن الأمر أصبح مألوفاً... انطباع بروتينية الموت. فالحياة والموت يتعايشان باستمرار عندنا والباص يتحول إلى وحش، إلى روليت، إلى وسيلة نقل محتملة للموت». ويتابع المراسل قائلاً: «كنا نعرف أن ذلك سيحصل عاجلاً أم آجلاً... لقد عادت الحياة إلى مجراها الطبيعي... وإلى الحلقة المقبلة»(24).



والحقيقة أن المراسل الصحفي الإسرائيلي أجاد التعبير ووصف الحالة التي سادت في أوساط الشارع اليهودي. فقد نجح المهندس والكتائب الاستشهادية ليس في توجيه الضربات فحسب وإنما في إثارة حالات مثيرة من الذعر والرعب الشديدين بين الإسرائيليين، وبخاصة أولئك القاطنين في المناطق والمدن التي كانت حتى فترة قريبة تعد بأنها أكثر تحصناً ومناعة في مواجهة المقاتلين الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، دأب سكان مدينة تل أبيب وضواحيها منذ زمن طويل على المراقبة من بعيد ومشاهدة المجابهة العسكرية بين المنظمات والجيش الإسرائيلي على الحدود أو في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن، مع دخول المهندس إلى المواجهة، غدت مشاعر سكان تل أبيب والعفولة والخضيرة، وغيرها من المدن الساحلية تمتزج بخليط من الخوف والغضب في آن واحد. فبعد كل عملية استشهادية، يتجمع المئات من المتظاهرين بالقرب من مكان الانفجار وهم يهتفون ضد رئيس حكومتهم، مستقبلين المسؤولين الحكوميين بصيحات الاستنكار والغضب. وفي كل مرة، تحدث اضطرابات ومصادمات مع الشرطة، وغالباً ما حالت هتافات وشتائم الجماهير الغاضبة دون المسؤولين الإسرائيليين من زيارة أماكن الانفجارات، إذ اضطر رئيس الدولة العبرية (عزرا وايزمان) إلى مغادرة المكان في رامات أشكول قبل إتمام كلمته رغم أنه توسل للجمهور لكي يحتفظوا بهدوء أعصابهم(25).



في أعقاب عمليتي العفولة والخضيرة البطوليتين، انتشرت موجة من الذعر اثر مكالمات هاتفية من مجهول تلقتها عدة مؤسسات في مدينتي بيسان وطبريا حول هجمات استشهادية وشيكة يعتزم المهندس تنفيذها في المدينتين. كما تلقت العيادة الطبية الرئيسة في مستوطنة (بيت شان) وثلاث مؤسسات عامة أخرى اتصالات مماثلة وحملت نفس المضمون، وقد أدى ذلك إلى حالة من الفوضى عمت المناطق المشمولة بالتهديد حيث امتنع المئات عن مغادرة منازلهم فيما ألغى البعض مواعيدهم ولزموا أماكنهم(26).



وترك المهندس بصماته أيضاً على قطاع العمل حيث امتنع الكثير من الإسرائيليين بعد العمليات الاستشهادية في تل أبيب والقدس عن الذهاب للعمل هناك. ويقول عامل البناء نير دوروني الذي شهد عمليتي بيت ليد ورامات غان مبرراً ذلك: «إن من الخطر العمل هنا، إنني أخشى من مجرد ركوب أي باص». وتضيف ايف باومغرتن، الموظفة في بورصة تل أبيب: «إنه أمر مخيف أن تخرج في طريقك للعمل»، ويشهد موظف آخر بالبورصة نفسها حاول إخفاء مشاعره فيقول: «لست خائفاً لأنني مازلت أرفض تصديق حدوث ذلك هنا، ولكن بكل تأكيد لن أستقل أي باص بعد الآن»(27). ولم يكن أصحاب الشهادات السابقة وحدهم الذين أحجموا عن ركوب الحافلات العامة، فقد سجلت شركات سيارات الأجرة في مدينتي القدس وتل أبيب زيادة عدد الإسرائيليين الذين يسافرون في سيارات الأجرة عوضاً عن السفر في الحافلات. وقد رصدت الصحف العبرية هذه الظاهرة، وعزت السبب الرئيسي إلى خشية الركاب من السفر في الحافلات بعد سلسلة العمليات الاستشهادية، ونقلت يديعوت أحرونوت عن سائقي سيارات الأجرة أن الركاب يطلبون سيارات أجرة حتى في الحالات التي تقتصر على مسافة قصيرة جداً خشية أن يتعرضوا للاختطاف على يد الفدائيين. وقد أدت هذه الظاهرة إلى انخفاض أرباح شركة ايجد عام 1994 على سبيل المثال بنسبة 32% بالمقارنة مع العام السابق، وتكبدت الشركة خسائر مالية بلغت نحو 15 مليون شيكل (5 ملايين دولار) خلال شهري تموز وآب من عام ،1995 وهما الشهران اللذان شهدا وقوع عمليتي رامات أشكول ورامات غان(28).



والطريف أن بعض المراهقين الإسرائيليين استغلوا هلع الأجهزة الأمنية والجمهور من اسم المهندس، فقاموا بوضع كيس بطريقة تثير الشبهات بالقرب من إحدى محطات نقل الركاب في رامات اشكول بشمال القدس. وحين أخلت السلطات العسكرية المنطقة وباشر خبراء المتفجرات بتفحص الكيس وجدوا بداخله عشرات الطلقات ورسالتان تدعوان إلى مواصلة العمليات بالقدس تحملان توقيع يحيى عياش(29).



3- انخفاض معنويات ونوبات عصبية



ساهمت العمليات الاستشهادية في الكشف عن عدة ظواهر موجودة منذ أمد بعيد يمكن استثمارها لصالح الطرف الفلسطيني. وما نعنيه في هذا المجال اثر هذه العمليات على الجنود الإسرائيليين الذين من المفترض أنهم يحمون الجمهور ويبثون الهدوء والطمأنينة في صفوفهم. فعلى الرغم من زيادة وتعزيز التدابير الأمنية في المفترقات التي يستخدمها الجنود وحول الحواجز العسكرية ومنها إقامة سواتر ترابية كبيرة وزرع العديد من حقول الألغام، بهدف حماية أولئك العسكريين وإزالة المخاوف وعناصر الرعب التي انتشرت في أوساطهم بعد سلسلة العمليات الاستشهادية، إلا أن الأطباء وعلماء النفس الذين تجولوا في القواعد العسكرية وبين الجنود فشلوا في إحداث أي تغيير على بعض الحالات النفسية والعصبية مما اضطر الضباط المتخصصين في مجال الصحة النفسية إلى تحويل العشرات إلى المشافي(30).



وتنقل وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن الجنود يسارعون بعد وقوع كل عملية استشهادية إلى الاتصال بذويهم الذين لا تقل حالتهم توتراً وذلك من أجل طمأنتهم. ففي أعقاب عمليات الثأر في نتساريم وكفار دروم، نقل مراسل صحيفة يديعوت احرونوت: «بعد وقت قصير من وقوع هجوم كفاردروم، وبينما كنا نحن الصحافيين نشق طريقنا إلى مكان الهجوم، أوقفنا جنود متوترون عند حواجز الجيش، وعلى لسانهم طلب واحد: دعونا نتصل من هواتفكم ببيوتنا لطمأنة أمهاتنا، ولنقول أن كل شيء على ما يرام»(31). وينقل المراسل أيضاً حديثاً دار مع جنديين، قال أحدهما ورمز لاسمه بالحرف (ص): «أنت لا تعرف من أين يأتيك المخرب، إنهم انتحاريون لا يحسبون لشيء ولا يبالون بشيء... إنهم يريدون الموت، أما نحن فلا نريد أن نموت، ولذلك فإن هذا يبعث على الخوف». ويضيف الجندي الذي يبلغ من العمر (19 عاماً): «إن كل سيارة عربية تمر أمامنا تثير خوفنا، وكل حركة مشبوهة تجعلك تقفز من مكانك ووراء كل شجرة قد يكون هناك مسلح يختبىء في انتظارك... أضف إلى ذلك القلق الذي يعانيه آباؤنا وأمهاتنا الذين يحضرون أبناءهم لبوابة المعسكر، وبعضهم زود أبناءه بهواتف متنقلة، حتى يكونوا على اتصال مباشر معهم في لحظات الأزمة»(32).



أما في بيت ليد، فقد عانى الجنود الناجون من نوبات هستيرية وعاش آخرون في حالة خوف مستمرة، وبعضهم لم يتمكن من العودة إلى مراكزهم، وطلب عدد منهم أن ينقلوا إلي ثكنات ومعسكرات بعيدة. كما أعرب آخرون عن الجزع الذي ينتابهم كلما اقتربوا من (مفترق الموت) على حد تعبيرهم. وقال أحد الجنود في رسالة وجهها إلى قائده مطالباً بنقله: «لا يمكنني أن أمر صباحاً أمام المكان الذي سقط فيه رفاقي، إذ تعود إلى ذاكرتي المناظر الفظيعة». ويضيف جندي آخر: «لا يمكنني بعد الآن الخدمة قرب بيت ليد فهذا المفترق يزرع الخوف في نفسي»، بينما أفاد جندي ثالث أنه يعاني من كوابيس مزمنة وأنه لا يستطيع الخلود إلى النوم منذ 22 كانون الثاني، موضحاً أن المشاهد الصعبة التي رآها تعود إليه من حين لآخر وأنه لم يعد يفلح في استعادة قدرته على الانتظام في حياته وخدمته العسكرية. وقد أطلقت الصحافة الإسرائيلية على هذه الظواهر وصف (مرض بيت ليد)(33).



4- لوثات أمنية



مع مرور الوقت ظهرت على جنود الاحتلال بوادر نفسية جديدة عبرت عن الحالة المعنوية المتردية التي وصلوا إليها. فمن تفجير أي سيارة يرتاب بها جندي مار بالصدفة أو ضمن دورية خشية أن تكون مفخخة إلى سرعة الضغط على الزناد وإطلاق النار على الأبرياء عند حاجز ايرز لمجرد الاشتباه أو الخوف أن يتحول الكيس الذي يحوي وجبة الفطور والغداء للعامل الفلسطيني إلى عبوات ناسفة تجعل من حامله (قنبلة بشرية) قادمة باتجاههم(34). ففي يوم 3/11/،1994 أغلقت تعزيزات كبيرة لحرس الحدود الشارع الرئيسي المار وسط مدينة نابلس، وقام خبير المتفجرات بإجراء فحوصات على سيارة من نوع مرسيدس كانت تقف في محيط المستشفى الوطني ومن ثم فجر السيارة عن بعد. وفجر خبراء المتفجرات سيارة أخرى كانت متوقفة قرب تجمع للسيارات في مدينة طولكرم يوم 4/6/1995 بواسطة رجل آلي متحرك بعد الاشتباه بأنها مفخخة، ولكن الخبراء لم يعثروا على شيء داخل السيارة (35). وتكررت هذه الممارسات في مدن ومواقع كثيرة، وفي كل مرة يجري تفجير السيارة ويعود الخبراء خائبين بعد فشلهم في تحقيق أي هدف في مرمى المهندس.



وامتدت حالة الهوس الأمني الذي عانى منه جنود الاحتلال إلى اعتقال وتعذيب أي فلسطيني يشبه في ملامح وجهه أو صورته القائد القسامي يحيى عياش. وسجلت وسائل الإعلام الإسرائيلية والفلسطينية الحالتين التاليتين:

أ- أوقف جنود الحاجز العسكري المقام على طريق نابلس - القدس يوم السبت الموافق 10/12/1994 سيارة عربية وأنزلوا الشاب عبد الله محمد مصطفى الخطيب (28 عاماً) وهو من قرية الزاوية بعد أن تيقن الجنود بأنه المهندس حيث بدت الفرحة على وجوههم، فأسرعوا إلى إبلاغ الضباط المسئولين بأنهم ألقوا القبض على المطلوب يحيى عياش. وفي الحال حضرت تعزيزات كبيرة بالإضافة إلى ضابط مخابرات وكلب بوليسي، وتم نقل الشاب إلى المسكوبية، واخضع لتحقيق وتعذيب شديدين لمدة يومين إلى أن تم استدعاء عميل يعرف المهندس شخصياً أنقذ عبد الله الخطيب. وبررت سلطات الاحتلال هذا (الخطأ) إلي اعتقاد جنودها بأن الشاب كان يحمل هوية مزورة(36).



ب- يوم الجمعة الموافق 5/5/1995 أوقفت وحدة عسكرية خاصة الشاب أمجد حجازي الجعبري (33عاماً) على نحو مباغت ثم طلبت حضور وحدات تعزيز من الجيش. وقامت سلطات الاحتلال بنقل الشاب إلى مقر الحكم العسكري في مدينة الخليل حيث باشر المحققون استجوابه باعتبار أنه يحيى عياش. وقد ارتسمت الدهشة على وجوه هؤلاء بعد أن اطلعوا على شخصيته واكتشفوا أنه ليس المهندس، فافرجوا عنه بعد ساعة.



وإلى جانب اعتقال الذين يشبهون المهندس، جرى تفتيش الفتيات المحجبات بشكل ملفت بحجج ومزاعم استهدفت إثارة الفلسطينيين ضد المهندس وحركة حماس. ففي أعقاب عملية بيت ليد، أوقف جنود الاحتلال سيارة عربية عند مفترق وادي الباذان، وألقى أحد الجنود نظرة داخلها، ثم أخذ يهتف: «حماس.. حماس... المهندس... المهندس». ويقول سائق السيارة، جلال خضر، وفي لمح البصر أسرع الجنود نحو السيارة، وشهروا أسلحتهم في وقفة استعداد لإخلاء النار مطالبين بأن تغادر شابة ترتدي الزي الشرعي السيارة، وإلا فإنهم سيدمرون السيارة بمن فيها. وبعد أن ضربوا شقيق الفتاة، واقتادوا جميع الركاب إلى مسافة عشرين متراً عن السيارة، أمروا الشابة بالخروج، فخرجت وقاموا بتفتيش حقيبتها. وبعد عدة دقائق، حضرت مجندة إسرائيلية، وفتشت الشابة الفلسطينية التي رفضت أن تنزع الخمار أمام الجنود. وغادرت الدورية العسكرية الإسرائيلية تجر أذيال الخيبة بعد أن اكتشفت أن الفتاة المحجبة لم تكن المهندس المطلوب(37).



وتكررت هذه الحادثة مرة أخرى، وهذه المرة مع الشاب عواد محمد سعادة وزوجته اللذان أوقف حاجز عسكري على طريق جنين -نابلس سيارة الأجرة التي استقلاها مع ركاب آخرين يوم 16/9/1995. وبعد أن رفضت الزوجة الاستجابة لطلب الجنود بكشف وجهها كونه يتنافى مع تعاليم الإسلام، أوقف الضابط المسؤول عن الحاجز جميع الركاب إلى أن حضرت مجندة وتأكدت بأن الزوجة ليست يحيى عياش كما أدعى الضابط في حديثه مع قيادته(38).



وفي المرة الثالثة، أطلقت قوات الاحتلال النار على سائقة محجبة اعتقاداً بأنها يحيى عياش. ويروى المواطن ناجي رؤوف زايدة تلك الحادثة: «خلال توجهي لمركز عملي سمعت أن نجلي صيب في حادث سير على مفترق نابلس- طولكرم. فذهبت وزوجتي بسيارتنا باتجاه الموقع، وطلبت من زوجتي التي ترتدي الخمار والزي الشرعي قيادة السيارة لأني لا أقدر على ضبط أعصابي، فانطلقت مسرعة. وفي مفترق عجه-جنين، كانت ترابط دورية عسكرية بين الأشجار لم ننتبه لأفرادها أو طلبها لنا بالتوقف، حيث فوجئنا بهم يطلقون النار بشكل جنوني. وبدت زوجتي بالصراخ، وفقدت السيطرة على السيارة وانحرفت إلى جانب الرصيف واصطدمت بشجرة زيتون. ولكن رحمة الله سبحانه وتعالي كانت كبيرة، إذ أصيبت زوجتي بالإغماء وأنا بخدوش بسيطة. وخلال ذلك، هجم الجنود علينا مشهرين الأسلحة، وهددوا الإمكانات النار علينا إن تحركنا. وفي دقائق معدودة حاصرت قوات كبيرة من الجيش المنطقة، وعرضت عليهم مساعدة زوجتي لأنني اعتقدت أنها أصيبت بالأذى، ولكن أهملوني، ووجهوا أسلحتهم نحوي وأجبروني على رفع يداي ثم القوني على الأرض. وبدأوا باستجوابي عن اسم سائق السيارة - أبلغتهم أنها زوجتي وهي بحاجة لعلاج. فضربوني واستدعوا خبير المتفجرات، وقالوا: أنت مساعد يحيى عياش الذي يجلس داخل السيارة. أكدت لهم أنها زوجتي وأن إهمال إنقاذها سيؤدي إلى وفاتها، ولكنهم كذبوني ووجهوا الأسلحة نحو السيارة، ثم اقتحموها وأخرجوا زوجتي... حاولت منعهم من كشف الخمار عن وجهها، إلا أنهم أوسعوني ضرباً وقالوا: امسكنا يحيى عياش. وعندما اكتشفوا أنها ليست عياش، صادروا هويتي وطلبوا مني مراجعة الإدارة المدنية»(39).



5- تآكل شعبية رابين والمطالبة برحيله



رسخت العمليات الاستشهادية تناقضاً شديداً بين السلطة السياسية الإسرائيلية وآراء ورغبات معظم الجمهور اليهودي. وكنتيجة حتمية لذلك، أظهرت استطلاعات الرأي العام تقدم بنيامين نتنياهو -زعيم تكتل الليكود- بشكل كبير على رئيس الوزراء وزعيم حزب العمل الذي كان يتبوأ دفة الحكم منذ يونيو (حزيران) 1992. وجاء ارتفاع شعبية نتنياهو الذي أظهر استطلاع أجراه معهد (هوتجي) تقدمه على رابين باثنين وعشرين نقطة إثر العمليات الاستشهادية في القدس وتل أبيب وبيت ليد(40). ولعل هذا ما دفع بالدكتور حاييم آسا، المستشار الاستراتيجي الأسبق لاسحق رابين، إلى إطلاق أبواق التحذير في اجتماع للرأي دعا له سكرتير عام حزب العمل وحضره مجموعة من الخبراء والعسكريين والمستشرقين من أن الحزب قد يفقد السلطة في انتخابات الكنيست الرابعة عشرة بسبب موجة الهجمات الاستشهادية المتصاعدة التي ستؤدي -حسب رأيه- إلى تقويض مسيرة السلام وعرقلتها(41).



هذه المعطيات أدت إلى احتدام الجدل في الأوساط السياسية وداخل كتلة حزب العمل نفسه حول عدد من القضايا المتمثلة بكيفية مكافحة هذا النوع من العمليات التي ينفذها المهندس وتلاميذه. وتجلى الصراع السياسي بين الحكومة والمعارضة بخطوات متسارعة اتخذتها المعارضة، ومن هذه الخطوات القيام بمظاهرات وإضرابات أمام مكتب رابين بمشاركة أعضاء كنيست من كتلتي تسوميت وموليدت(42).

وصعد الليكود بالتعاون مع أحزاب اليمين والحركات الدينية من وتيرة معارضتهم بتقديم ثلاث مذكرات بحجب الثقة عن الحكومة في 24/7/1995 مطالبين بوقف عملية السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقال بنيامين نتنياهو في معرض تشكيكه بإجراءات حكومة اسحق رابين: «كفى،إلى متى نقول الأمر مروع وفظيع. الكل يقول كفى، فلتفعلوا شيئاً. وهذا يعني حكومة مختلفة أو سياسة مختلفة تبدأ في حماية أرواح مواطنينا»(43).



وعبرت كتابات الباحثين السياسيين والمحللين عما يجول في خاطر الجمهور الغاضب الذي خرج عدة مرات وفي مناسبات متعددة مطالباً باستقالة رئيس الحكومة. فكتب أرييه كاسبى مقالاً في صحيفة هآرتس، دعا فيها إلى عقد هدنة مع حركة حماس. وبرر كاسبى هذه الرغبة بأن «الطريقة الوحيدة لتهدئة الساحة الداخلية هي توقيع اتفاق هدنة لفترة محددة، لنصف سنة مثلاً. فنحن محتاجون فترة لالتقاط الأنفاس وتهدئة الخواطر... فترة تمكن الحكومة من العمل بدون الهستيريا التي تسببها كل عملية». وأشار الباحث الإسرائيلي بأنه من الممكن الوصول إلى تفاهم مع حركة حماس شبيه بما تم التوصل إليه مع حزب الله في لبنان(44).



وذهب حاييم مشغاف ويوسى أولمرت إلى ابعد من ذلك، إذ دعا مشغاف إلى استمرار المظاهرات ضد سياسة الحكومة حتى تجري انتخابات مبكرة، واختتم مقاله بالقول: «يجب استمرار الاحتجاجات الجماهيرية، بدون كلل أو ملل، وبعزيمة، وهذا ما ينجح في كل مكان، حتى توافق بطانة رابين على إعادة تقييم قوتها بالانتخابات، وليس بعد عام». وأما يوسى أولمرت، فقد طالب رابين بالاعتراف بفشله وعدم قدرته على الإيفاء بوعده وضع حد للعمليات الاستشهادية. ومما جاء في مقال أولمرت الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في أعقاب عملية رامات أشكول الاستشهادية: «لقد تعهدوا لنا في الثالث عشر من أيلول بإنهاء مئة سنة من الإرهاب، أوهموا الناس أن المسيرة السياسية الجديدة تضع حداً للإرهاب، على اعتبار أن الإرهاب تصاعد في ظل الجمود السياسي. ولكن من الواضح حالياً عدم إمكانية تحقيق هذا الوهم، لأن الأوهام تظل دائماً أوهاماً... يتوجب على حكومة أخفقت في هذا الجانب المركزي أن ترحل... فهل تنهض الحكومة لتقول: جربنا، يبدو أننا قد أخطأنا»(45).

السيف عدي
07-03-2008, 08:59 AM
ثانياً: إجراءات الحرب المضادة



مما يلفت انتباه أي متتبع ليوميات المهندس وورشة المقاومة التي عمل فيها، استخدام سلطات الاحتلال لأساليب إرهابية متعددة ومتنوعة استهدفت التأثير على الروح الجهادية للقائد القسامي ومجموعاته الاستشهادية أو التأثير على المواطنين الفلسطينيين بهدف ضمان تراجعه. ولأنهم يعتبرونه (مخرباً خطيراً ومفزعاً) ترك بصماته الظاهرة على الجمهور والجيش والسياسيين على حد سواء، فقد أرسلت وحدات خاصة في أثره ونصبت كمائن له في كل مكان سواء في القدس، أو في مخيمات اللاجئين وقرى الضفة الغربية. ولم يترك الإسرائيليون قرية أو جبلاً أو كهفاً أو بيتاً مهجوراً، إلا وداهمته وحدة مختارة من الجيش برفقة مستعربين ورجال مخابرات مزودين بصور مختلفة ليحيى عياش(46).



وكما هو الحال بالنسبة لكل شخصية أسطورية، تعاملت وسائل الإعلام الإسرائيلية مع يحيى عياش باعتباره ظاهرة أرقت أجهزة الأمن والاستخبارات والمجتمع الإسرائيلي على حد سواء، حتى اعتبر مناحيم ديغلى في مقال نشره بعد استشهاد المهندس أن مهمة القضاء على هذه الظاهرة تعد مهمة قومية. وقال ديغلي في تحليله الذي حمل عنوان (عياش نقطة في سلسلة): «إن الجهود الكبيرة التي بذلت لإلقاء القبض على المهندس والبيانات التي صدرت عن قادة أجهزة الأمن وعلى لسان السياسيين الإسرائيليين والحملة الإعلامية التي رافقت عملية المطاردة والحوادث التي تمكن من الفرار منها في اللحظات الأخيرة، كل هذه الأمور ولدت إحساساً بأن الأمر يتعلق بعملية انتقام على مستوى وطني. ولكنها تنطوي على كرامة مجروحة، ولذلك يجب أن نذكر بأننا نتحدث هنا عن حرب طويلة وقائمة واستنزافية هدفها الرئيسي هو المهندس الذي للأسف مارس تضليلاً محكماً للغاية على جهاز الأمن الإسرائيلي»(47).



وأما تسفى غيلات وموشيه زوندر اللذان كتبا تحليلاً بعد استشهاد المهندس أيضاً، فقد استعرضا تاريخ المهندس والعمليات المتتالية التي أعدها وخطط لها. وتحت عنوان (يوميات مطاردة: رابين أمر بإنهاء القصة)، قال الكاتبان: «لقد تحول المهندس لأكثر من عامين إلى كابوس يسيطر على قادة أجهزة الأمن الإسرائيلي، وتمكن خلالها من نثر عشرات القتلى الإسرائيليين في طريقه. وتمكن من تخطيط وتنفيذ عمليات تعتبر الأكثر إيلاماً وقتلاً، وبالمقابل تحول إلى رمز وطني فلسطيني وإلى نموذج يحتذى من قبل مؤيدي حماس والجهاد الإسلامي. غير أن هذا النموذج تحطم في الأسبوع الماضي في عملية مخطط لها وناجحة، وقد صرح جدعون عيزر نائب رئيس الشاباك سابقاً، والمسؤول عن عملية المطاردة وراء المهندس خلال العامين الماضيين قائلاً: تحول عياش إلى رمز يحظى بتعاطف واسع بين الفلسطينيين، ليس فقط بسبب الخسائر الكبيرة التي سببها للإسرائيليين وإنما أيضاً بسبب قدرته على الفرار باستمرار من بين أيدي أجهزة الأمن الإسرائيلية، وتضخمت صورته كرمز، فهو لم يكن يخطط ويعد العمليات فقط، وإنما كان يضلل المخابرات الإسرائيلية أيضاً. كان بيته في قرية رافات محاطاً بنقاط المراقبة، وكان الجنود وأفراد حرس الحدود يقتحمون البيت ويقلبونه رأساً على عقب يومياً، وقد تم استدعاء أخويه ووالديه مرات ومرات للتحقيق، غير أن عياش ببساطة لم يكن يأتي للبيت. وعندما تم اعتقال المقربين منه، كانت المعلومات التي أعطوها رهيبة، ففي حالة مثل حالة عياش كانت المخابرات الإسرائيلية بحاجة إلى معلومات حول الزمن الحقيقي، وحينما كانوا يتحدثون في المخابرات عن مبدأ القنبلة التي تستعد للانفجار فإنهم كانوا يقصدون يحيى عياش شخصياً»(48).



1- الضغط على العائلة



اللجنة القيادية الخاصة التي شكلها رابين لتنسيق عمليات المطاردة والبحث عن المهندس بين وحدات الجيش المختلفة وجهاز المخابرات العامة (الشاباك) وقوات الشرطة أوصت بتشكيل قوة مشتركة من المظليين وقوات المستعربين وضباط من الشاباك تكون مهمتها الرئيسة والوحيدة نصب الكمائن بشكل شبه يومي حول منزل المهندس في رافات ومداهمة منزل والديه وإجراء حملات بحث وتفتيش وتحقيق مستمرة مع العائلة، والتنكيل بأفرادها كلما استدعى الأمر لحملهم على التعاون. وزودت هذه القوة بصور مختلفة ليحيى عياش بعد أن تم مصادرة كافة الصور التي عثر عليها في منزل الشيخ عبد اللطيف عياش(49). وعمل في خدمة هذه القوة، عشرات المراقبين والمخبرين العرب من عملاء الشاباك الذين تخصصوا في المراقبة الدقيقة لمنزل المهندس ورصد تحركات عائلته، حتى أضحى كثرة هؤلاء مثاراً لسخرية الأهالي بعد أن انتشرت الحمير في الأحراش والأراضي المجاورة للقرية حيث نشرت سلطات الاحتلال هذه الدواب لاستخدامها من قبل المخبرين(50).

ومن الأمثلة البارزة على دور هؤلاء العملاء في المراقبة الشديدة وعلى مدار الساعة، قيام أحد العملاء بتسريب معلومة أن يحيى عياش يخطط لزيارة ذويه في أحد الأيام من شهر أيار (مايو) 1995. وعندئذ قام مئات من الجنود بمحاصرة القرية بأكملها بعد فرض حظر التجول، ثم فتش الجنود برفقة ضابط من الشاباك المنازل، وقاموا بتمشيط الحقول، وعاثوا فساداً في البساتين، ولكن المهندس لم يظهر هذه المرة(51).



مداهمة منزل المهندس ووالديه والتعرض لسكانهما شكل ممارسة شبه يومية لقوات الاحتلال استناداً لما يقوله الشيخ عبد اللطيف عياش (أبو يحيى). ففي التحقيق الصحفي الذي أجراه مراسل صحيفة يروشاليم العبرية، أوضح أبو يحيى معالم من الضغوط التي تعرضت لها العائلة، ومما جاء على لسانه: «لقد هددوا بنسف البيت بالصواريخ إن لم أكشف لهم أين يوجد يحيى، و لقد جاءوا إلى البيت عشرات المرات وهم لا يأتون في موعد محدد يأتون في الصباح وفي ساعات الظهر وفي المساء وعند منتصف الليل. وفي كل مرة يجبرون العائلة كلها على الخروج من البيت لعدة ساعات وأحياناً يرغمونني على الدخول معهم للبيت للبحث عن يحيى فهم يخشون من أن يكون داخله ويباغتهم الإمكانات النار، ولذلك فهم يستخدمونني كدرع تحسباً لذلك». ويضيف أبو يحيى أيضاً: «أنا أعلم أن اليهود يريدون قتله بأي ثمن، فجميع الضباط الذين زاروني في البيت قالوا لي أن يحيى يعتبر في عداد الأموات... إنهم يريدون الانتقام من كل أبناء العائلة، فشقيقا يحيى يقبعان في السجن، كما أن السلطات العسكرية صادرت تصاريح العمل. وأحد أفراد المخابرات الإسرائيلية قال لي، إنهم سيحولونني إلى متسول»(52).



ومن خلال رصد الاعتداءات والمضايقات التي تعرض لها والدا المهندس وشقيقاه بالإضافة إلى ابنه، فإن وسائل الإعلام المحلية والإسرائيلية والعربية قد دونت الأحداث والحوادث التالية:



أ- داهمت القوات الخاصة الإسرائيلية منزل المهندس للمرة الأولى في 25/4/،1993 وبعد تفتيش المنزل سلمت ذويه إشعار باسم يحيى عياش لمراجعة الإدارة المدنية. وعاودت قوات الاحتلال اقتحام المنزل مرة ثانية في 1/5/،1993 ثم في 8/5/1993 حيث قام الجنود بتكسير أثاث ومحتويات المنزل. كما داهمت قوات ضخمة قدرت بمئات الجنود تقلهم حوالي (60) سيارة عسكرية قرية رافات مساء يوم 21/6/،1993 وحاصرت منزلي المهندس ووالده بالإضافة إلى منزل ابن عمه، الدكتور فتح الله عياش، وأجبرت قوات الاحتلال الجميع على الخروج، ثم اقتحم الجنود المنازل الثلاث وقاموا بإتلاف محتوياتها وتكسير النوافذ وتخليع البلاط وتفجير غرفة من صفيح تحتوي على مولد للكهرباء يستخدمه الدكتور في عيادته عند انقطاع الكهرباء. وبعد انسحاب القوة المقتحمة، سلم ضابط الشاباك إشعارات لاثني عشر مواطناً من عائلة عياش لمقابلة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في قلقيلية(53).



ب- عادت قوات عسكرية إسرائيلية مرة أخرى وحاصرت القرية ثم اقتحمتها يوم الثلاثاء الموافق 6/7/1993. وعبث الجنود بمحتويات منزل أبو يحيى، وقام بعضهم بتكسير الأثاث انتقاماً من المهندس. وتعرض شقيقا المهندس، مرعي ويونس للضرب المبرح على يد جنود الاحتلال، فيما سلم ضابط الإدارة المدنية أبو يحيى بطاقة هوية خضراء لمدة ست أشهر(54).



جـ- اعتقلت سلطات الاحتلال شقيق المهندس، مرعي، وهو متزوج ولديه أطفال يوم 30/10/،1993 وأصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية في نابلس عليه حكماً بالسجن لمدة (19) شهراً بتهمة التقائه مع أخيه في أحد المصانع بمدينة رام الله وتقديم خدمات ومساعدة له(55).

د- اعتقلت الشاباك الشقيق الثاني للمهندس، يونس، وهو طالب في السنة الأولى بجامعة بيرزيت يوم 11/12/1993 بتهمة لقاء أخيه في الجامعة. وقد حكمت المحكمة العسكرية الإسرائيلية على يونس بالسجن لمدة (24) شهراً(56).



هـ- اقتحمت الوحدات الخاصة الإسرائيلية منزل المهندس يوم السبت الموافق 5/11/،1994 واعتدى الجنود على والده البالغ من العمر (60 عاماً) بالضرب المبرح وشتم آخرون والدته المسنة بألفاظ نابية، وأيقظوا طفله (براء) بركلاتهم، وصوبوا بنادقهم تجاه رأس ابن العامين مهددين بقتله. وحاول أحد المجرمين إلقاء الطفل من نافذة المنزل، بينما هدد ضابط القوة زوجة يحيى قائلاً: «قريباً سنفجر رأسه مثلما يقتل زوجك رجالنا»(57).



و- وللمرة الثانية خلال أسبوعين، بات مجموعة من الجنود الإسرائيليين باللباس المدني ليلة 11/11/1994 داخل منزل عائلة المهندس في محاولة لمباغتة يحيى وإلقاء القبض عليه إذا ما حاول زيارة ذويه. وشكا آل عياش من أسلوب الجنود وضغوطهم على العائلة من أجل إقناع المهندس لتسليم نفسه. وكان جنود من الوحدات الخاصة تنكروا بصفة رجال صحافة قد مكثوا في المنزل قبل أسبوعين من هذا التاريخ للهدف نفسه(58).



ز- داهمت قوة عسكرية مساء يوم الخميس الموافق 15/12/1994 منزل المهندس، ومكث الجنود في المنزل لفترة طويلة، وقد عبث أحد الجنود في المزرعة التابعة للمنزل(59).



ح- داهمت قوات الجيش الإسرائيلي قرية رافات مرتين خلال يوم واحد، إذ أجرى الجنود وأفراد الشاباك حملة تفتيش في المرتين طالت غالبية المنازل يوم الثلاثاء الموافق 14/2/1995. واستغل الشاباك هذه الحملة لتحطيم بعض محتويات منزل والد المهندس(60).

ط- اقتحم الجيش الإسرائيلي، وللمرة الثالثة خلال أسبوع، قرية رافات يوم الأحد الموافق 16/4/1995. وداهم الجنود برفقة ضابط الشاباك منزل المهندس وأجروا فيه عملية تفتيش دقيقة حطموا خلالها الأثاث ونوافذ الغرف، واعتدوا بالضرب على الشيخ عبد اللطيف عياش، وحققوا معه حول مكان تواجد زوجة يحيى ووالدته اللتان غادرتا القرية منذ عدة أيام(61).



ى- فرحة العائلة بالإفراج عن مرعي عياش بعد أن أنهى مدة محكوميته يوم 17/5/،1995 وقرب الإفراج عن الشقيق الثاني لم تدم طويلاً، إذ داهمت قوات كثيفة من الجيش والشاباك عند آذان الفجر في نحو الساعة الرابعة من صباح يوم الأربعاء الموافق 20/9/1995 منزل العائلة واعتقلت بشكل استفزازي والدة المهندس بعد أن وضعت عصابة خاصة على عيناها وقيدت يداها بالقيود الحديدية، تماماً مثل أي معتقل دون مراعاة لكبر سنها ووضعها الصحي الصعب كونها تعاني من عدة أمراض مزمنة كالسكري والضغط وأزمة بالقلب وتتنفس برئة واحدة (اثر عملية جراحية أجريت لها قبل عدة سنوات)(62).



وأمضت أم يحيى 43 يوماً في تحقيق قاس ومتواصل حيث أودعت في زنزانة انفرادية مغلقة وسيئة التهوية في سجن المسكوبية، وأثر سوء حالتها الصحية نقلت يوم 4/10/1995 إلى مستشفى شعارى تصيدق بالقدس لتلقى العلاج، ولكنها تعرضت لمعاملة سيئة من قبل الأطباء والممرضات بعد معرفتهم هويتها حيث وجهوا لها شتائم بذيئة واستفزوها بالكلام(63).



وأعادت سلطات الاحتلال أم يحيى إلى الزنزانة بعد تحسن حالتها الصحية، ثم نقلت يوم 9/10/1995 إلى قسم الغرف في المعتقل بعد أن أكد محاميها بأن استمرار احتجازها في الزنازين يشكل خطراً على حياتها(64).



تقول المجاهدة أم يحيى: «كان التحقيق معي قاسياً مثل التحقيق مع أي شاب فلسطيني... وقد وضعت في زنزانة مغلقة وكان المحققون يوجهون لي الشتائم والإهانات بشكل مستمر ويبصقون عليَّ.وكنت أشعر بضيق في التنفس وقد ازدادت حالتي سوءاً واشتدت علي الأمراض. ولكني تحملت كل ذلك. وكان السؤال الوحيد الذي يوجهه المحققون لي: أين يحيى... دلينا على مكانه... أنت ذهبت عنده وتعرفين مكانه، ولم يصدقوا أنني لا أعرف أين ذهبت ولا أين مكانه»(65).



واشتملت لائحة الاتهام التي قدمت للمحكمة العسكرية في رام الله على عدة تهم وُجهت لأم المهندس، تضمنت: «أولاً استخدام وثائق مزورة للخروج من منطقة عسكرية مغلقة، وقد ساعدها في ذلك أحد أعضاء حركة حماس ويدعى حاتم إسماعيل. وثانياً، توجهت بطلب من ابنها يحيى إلى السجن المركزي في نابلس حيث التقت بأحد أعضاء حركة حماس هناك ويدعى أنور عياش، وطلبت منه الكشف عن مكان وجود مسدس أبلغها ابنها المهندس أنه موجود لديه»(66).



وأضافت الإذاعة الإسرائيلية إلى ما سبق، أن أم المهندس اعترفت أنها التقت بابنها وزوجته وابنه في غزة قبل خمسة أشهر ونصف(67).



وأخيراً تم الإفراج عن أم يحيى بكفالة مالية قدرها عشرة آلاف شيكل (3،3 آلاف دولار) إضافة إلى عشرين ألف شيكل كتعهد وقع عليه الشيخ عبد اللطيف. وقد اشترط القاضي للموافقة على الكفالة بأن تلتزم أم يحيى بالإقامة الجبرية الشديدة داخل بيتها، وحظر عليها الخروج من المنزل تحت أي ظرف من الظروف. وهكذا، انتقلت عائشة عياش إلى منزلها يوم 30/10/،1995 ورغم ذلك استمرت معاناتها الصحية التي تضاعفت بسبب العزلة عن العالم تماماً، فهي لا تعرف ما يحدث في القرية أو الشارع وحتى عند عتبة بيتها. وازدادت المعاناة باعتقال طبيبها الخاص، الدكتور فتح الله عياش، لمدة ثلاث أشهر إدارياً في معتقل مجدو. كما منعت سلطات الاحتلال الوالدة من مغادرة المنزل بعد أن شعرت بألم شديد في أحد أضراسها، وفشلت كل المحاولات للحصول على إذن للذهاب إلى طبيب الأسنان. فاضطر الشيخ عبد اللطيف إلى إحضار طبيب الأسنان يوم 11/12/1995 إلى المنزل للقيام بعملية خلع الضرس(68).



ك- فيما كان الشيخ عبد اللطيف وابنه مرعي منشغلان بمتابعة اعتقال أم يحيى ويحاولان عبر المحامي التخفيف من معاناتها، فوجئت العائلة بمداهمة قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي يوم السبت الموافق 23/9/1995 المنزل حيث قام الجنود باعتقال مرعي والاعتداء بالضرب المبرح على والده. ولم يكتف هؤلاء بهذه الهمجية، بل قاموا بجر الشيخ الكبير على الأرض إلى الموقع الذي تتواجد فيه سيارات الجيب العسكرية ثم تركوه ملقى على الأرض بعد أن هدده الضابط بالعودة واعتقال كل أقارب المهندس، وقال متحدياً: «سنجعلك تذوق الموت البطيء». وقد أدت هذه الاعتداءات إلى كسر في كتف أبو يحيى وفقدانه السمع في إحدى أذنيه إلى جانب عدم قدرته على الوقوف من شدة الألم والضرب الذي تعرض له حيث نقل لعيادة الدكتور فتح الله التي تعرضت أيضاً للمداهمة من قبل ضابط الشباك بحجة معرفة الأدوية التي تتلقاها أم يحيى التي كانت معتقلة في ذلك الوقت(69).



أما شقيق المهندس، مرعي فقد مدد اعتقاله بغياب المحامي، وأصدرت محكمة إسرائيلية أمراً حظر عليه الالتقاء بأي محام بدعوى متطلبات التحقيق معه. وتعرض مرعي إلى أسلوب تحقيق عنيف من قبل ضباط الشاباك في قسم تابع للمخابرات في بتيح تكفا حيث أبقي مقيداً وفي أوضاع جسدية مؤلمة، وفي حالة شبح مع وضع كيس يغطي رأسه، كما أنهم لم يسمحوا له بالنوم لفترات طويلة. وشكا مرعي بأنه تعرض للإهانة وضغوط نفسية شديدة عن طريق استخدام اعتقال والدته كوسيلة لإرغامه على الاعتراف بتهم وإفشاء معلومات لا علم له بها حول مكان اختباء المهندس(70).



ل- الحقد الأعمى على عائلة المهندس استمر حتى بعد استشهاد القائد القسامي حيث داهمت قوة إسرائيلية في نحو الساعة العاشرة مساء يوم الجمعة الموافق 1/3/1996 منزل الشهيد يحيى عياش وفتشته بحجة البحث عن مواد ممنوعة ثم قامت بتحطيمه بشكل كامل. وغادرت القوة المنزل في نحو الساعة الثالثة من صباح اليوم التالي. وعاودت سلطات الاحتلال حصار قرية رافات ثم اقتحامها واعتقال الشيخ عبد اللطيف وولديه يونس ومرعي يوم الأربعاء الموافق 6/3/1996 أثر العمليات الاستشهادية الأربعة التي نفذتها حركة حماس ثأراً للشهيد يحيى عياش. وقد أمضى الشيخ عبد اللطيف (35 يوماً) في معتقل مجدو بينما اعتقل يونس ومرعي لمدة ستة أشهر في سجن مجدو أيضاً. وكان اعتقالهما إدارياً، إذ لم توجه لهما أي تهمة سوى أنهما شقيقا المهندس(71).



ولم تكن هذه الوقائع آخر المعاناة لعائلة المهندس، فقد نسفت السلطات العسكرية منزل الشهيد عياش بالديناميت يوم الخميس الموافق 14/3/1996 في إطار حملة لمعاقبة أسر وعائلات المجاهدين الاستشهاديين. وتطايرت الحجارة في الهواء بعد أن ضغط خبراء المتفجرات على زر التفجير، ليتحول المنزل الذي كانت تعيش فيه زوجة الشهيد وطفلاه إلى كومة من التراب(72). وعلى الرغم أن قرية رافات تقع في المنطقة (ب) وفق تصنيفات اتفاقية طابا، إلا أن العدو الصهيوني رفض السماح بإعادة بناء منزل الشهيد لأسباب أمنية حسب قول المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي. وأوضح المتحدث العسكري الإسرائيلي بأن «عملية هدم منزل عائلة يحيى عياش تمت لأسباب أمنية بموجب أمر رسمي صدر عن قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي وبتصديق من وزير الدفاع. ولذلك لن تسمح الحكومة بإعادة بناء بيوت الإرهابيين التي دمرت بمقتضى أوامر هدم ومصادرة»(73).



2- الانتقام من رافات



كان والد يحيى وزوجته وشقيقاه يدركون أنهم تحت المراقبة الشديدة من قبل القوات الإسرائيلية المزودة بأحدث معدات المراقبة والتجسس، ولذلك فإنهم قيد الاعتقال في المنزل ، وعندما كانوا يخرجون إلى بوابة المنزل الأمامية، فإنهم يخرجون فقط لإطعام الدجاج والعناية بأشجار الزيتون التي تعد المصدر الوحيد لدخل العائلة بعد منع سلطات الاحتلال الوالد والشقيقان من العمل في المناطق المحتلة منذ عام 1948. وقياساً على هذه الأوضاع، وبناء على حديث أهل القرية الذين لم يجرؤوا على مغادرة منازلهم بعد مغيب الشمس، فإن كل منزل في رافات كانا خاضعاً للمراقبة أيضاً، وتحدث السكان كذلك عن مواجهتهم كمائن ليلية نصبها رجال المخابرات الذين بذلوا مجهودات مكثفة لمنع وجود علاقة بين عائلة يحيى وبقية السكان. وعلى الرغم من ذلك، لم يبتعد أهل رافات عن عائلة المهندس، وإنما استمروا في الذهاب لمنزل الشيخ عبد اللطيف في زيارات خاطفة وفي مجموعات لأن السير في مجموعة يعد أكثر أمناً(74).



سلطات الاحتلال وخلال الأعوام الثلاث من المطاردة التي لم تخل من تبادل المواقع بين المهندس والكيان الصهيوني، عاقبت جميع سكان قرية رافات من خلال الحصار والمداهمات المستمرة وتفتيش المنازل والتحقيق مع أصحابها. وامتد هذا العقاب ليشمل جميع الحواجز العسكرية المقامة في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية والدوريات الراجلة في شوارع المدن الفلسطينية، فقد كثف الجنود من عمليات التفتيش والاستجواب عندما كانوا يكتشفون حقيقة الشخص المار على الحواجز بأنه من قرية رافات أو عائلة عياش. وكثيراً ما تشدد الجنود في فحص بطاقات الهوية والأمتعة الشخصية، ووصلت الأمور في بعض الأحيان إلى احتجاز الشخص بضع ساعات، وكل ذلك لأنه من رافات(75).



وفي إطار حملتها المحمومة ضد قرية رافات، اعتقلت قوات الاحتلال جميع طلبة المدرسة الثانوية في القرية وعددهم (27) مع بداية العام الدراسي الجديد، فيما تعرض الدكتور فتح الله عياش، إلى مضايقات كثيرة حيث اعتقل إدارياً لمدة ثلاثة أشهر لأنه ابن عم المهندس. وليس هذا فحسب، بل تعرض لعملية تنكيل أثناء نقله إلى معتقل مجدو حيث تم إجباره على النوم في إحدى السيارات العسكرية في الليلة الأولى لوصوله المعتقل وضرب على رأسه(76).

وحدث نفس الأمر مع حوالي (50) شاباً من القرية بتهمة إجراء اتصال مباشر أو غير مباشر مع المهندس(77).

وتعرض للاعتقال أيضاً كل من كان له علاقة بيحيى قبل مطاردته، بحجة أن بعضهم سمح للمهندس بالمبيت في منازلهم وآخرين قدموا له الطعام. إذ أن، أحد شبان القرية اعترف وكأنه يفشي سراً خطيراً أنه طرح مرة السلام على يحيى وهو بعيد عنه فسجن بسبب هذه الجريمة عاماً كاملاً، وآخر حكم بالسجن ستة عشر شهراً لأنه أخذ ليحيى الطعام مع شاب آخر. وهناك ثالث، نام يحيى في بيته ليلتين متتاليتين، فكان جزاؤه السجن أربع سنوات ونصف فقط. وحتى مسجد القرية لم يسلم من الاقتحام حيث حاصرت قوة من الجيش الإسرائيلي المسجد بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 2/12/،1994 وفاجئت المصلين أثناء خروجهم باعتقال شابين بتهمة تقديمهما المساعدة للمهندس(78).



ولم يحل استشهاد المهندس من استمرار فرض العقاب على قرية رافات، فقد حاصرت قوات الاحتلال القرية في أعقاب العمليات الاستشهادية الأربعة في شباط (فبراير) وآذار (مارس) 1996 وفرضت على سكانها حظراً للتجول لأكثر من شهرين متواصلين عانت خلالهما القرية من نقص شديد في المواد الغذائية، كما تكبد الأهالي خسائر باهظة لعدم تمكنهم من الوصول إلي مزارعهم(79).



وبدعوى صلة القرابة التي تربطهما بالمهندس، تدخلت قوات الاحتلال لمنع شقيقين من عائلة عياش من إقامة حفلة زفافهما، وهددت السلطات العسكرية التي قالت بأن لها ثأراً مع القرية، بقطع المياه عن رافات وحظر إعطاء سكانها تصاريح للعمل كخطوات انتقامية إذا ما استمر حفل الزفاف(80).



3- حملات اعتقال وتفتيش مكثفة



بزعم «شن حرب محكمة ضد الإرهاب تشمل الإرهابيين أنفسهم ومن يساندهم على حد سواء» وفق تصريحات نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية الإسرائيلية، شمعون بيريز في معرض دفاعه عن إجراءات الحكومة في الكنيست، شارك الآلاف من الجنود وعناصر قوات الأمن والاستخبارات في أوسع حملة مطاردة للمهندس(81). فمن إقامة الحواجز العسكرية وعمليات التفتيش في الأحياء والشوارع العامة في مدينة نابلس وقرى دير بلوط وكفر الديك وبروقين وطمون وقراوة بني حسان وعقربا وروجيت وكفر قليل وسالم وغيرها، إلى شن حملة اعتقال عشوائية ومفاجئة لعابري السبيل من مطلقي اللحى في الشوارع أو عبر الحواجز المقامة بين المدن الفلسطينية بصورة ثابتة أو بشكل مؤقت ومباغت. واتسعت الحملات الإسرائيلية لإلقاء القبض على المهندس لتمتد إلي المناطق المحتلة منذ عام ،1948 حيث ذكرت الصحف الإسرائيلية يوم 24/10/1994 بأن قوات الجيش والشرطة ووحدات الشاباك أقامت حواجز تفتيش على طريق وادي عارة في منطقة المثلث. وأشارت الصحف كذلك، بأن أفراداً من الشرطة يرتدون سترات واقية من الرصاص انتشروا يوم الأحد الموافق 23/10/1994 على عدد كبير من حواجز التفتيش التي أقيمت لهذا الغرض. وقال أحد أفراد الشرطة الذين شاركوا في حراسة الحواجز: «إن عياش شاب خطير وقد يطلق النار علينا في كل لحظة، ولذلك لا بد من الحذر»(82).



وقد اعترفت مصادر جهاز الشاباك بأن (1500) من نشطاء حركة حماس في الضفة الغربية قد اعتقلوا في الفترة ما بين شهري تشرين أول (أكتوبر) من عام 1994 وكانون الثاني (يناير) من عام 1995(83).



ولكن الجنرال ايلان بيران - قائد المنطقة الوسطى- رفع عدد المعتقلين ليصل إلى (2600) من بينهم ما يزيد عن ألف تم اعتقالهم بعد عملية بيت ليد(84).



وفي سياق التبريرات السياسية والعسكرية لهذه الاعتقالات الواسعة، كتب رون بن يشاي، الذي يعمل معلقاً عسكرياً في صحيفة يديعوت أحرونوت:



«توفر الاعتقالات الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في أوساط مؤيدي حركة حماس أفضليات لأذرع الأمن التي تقوم بمحاربة أعمال العنف وحتى إذا كان المعتقلون من أعضاء الجهاز التنظيمي للحركة ولا يوجد بينهم حتى شخصاً واحداً ينتمي للخلايا التي تقوم بعمليات، فإن عمليات الاعتقال هذه يمكن أن تؤدي إلى التشويش على العمليات إذ تؤدي إلى المس بمعنويات الأعضاء الميدانيين وتوفر معلومات استخبارية كبيرة من أجل مواجهة الحركة. ولكن أما الاعتبار الأكثر أهمية والذي رجح كفة الميزان لصالح موجة الاعتقالات الكبيرة فقد تمثل بالاعتبارات العملية، إذ أثبتت موجة العنف الأخيرة مرة أخرى مدى صعوبة تغلغل المخابرات الإسرائيلية العامة «الشاباك» في صفوف الخلايا التي تقوم بعمليات. ولهذا السبب بالذات لا تؤدي عمليات ضد نقاط محددة إلى الأهداف المرجوة منها». وأضاف بن يشاي: «إعداد سيارة ملغومة يحتاج إلى نشاطات تنظيمية معقدة جداً، يشارك فيها أشخاص يقدمون مساعدات كثيرة وعمليات الاعتقال يمكن أن تؤدي إلى التشويش على إجراءات شراء مواد كيماوية وإنتاج مواد متفجرة وتشوش على عمليات شراء السلاح وربما تؤدي إلى الحيلولة دون سرقة سيارات وإعدادها من أجل تفجيرها. ويؤدي اعتقال المحرضين والذين يقدمون المواعظ في المساجد إلى وضع عقبات أمام استغلال الأماكن الإعلامية لنجاح العمليات وسيؤدي اعتقال المحاسبين إلى التشويش على توزيع الأموال على أعضاء هذه المنظمة وعلى عائلات الأعضاء وتمويل المؤسسات التي تؤهل الكوادر»(85).



ولم تكتف سلطات الاحتلال بالاعتقالات الجماعية والعشوائية لإرباك مخططات وخطط المهندس، إذ امتدت الإجراءات الإرهابية إلى مداهمة الجبال والكهوف والقرى إلى جانب توزيع المئات من المنشورات الورقية على المواطنين في مدينة نابلس، تضمنت الصور الشخصية للمجاهدين المطاردين وبعضها احتوى على اسم كل مطلوب وصورته الشخصية بالإضافة إلى توجيه إنذار بمعاقبة كل من يقوم بتقديم مساعدة لهؤلاء المجاهدين(86). وبحجة البحث عن يحيى عياش، تعرضت قراوة بني حسان إلى حظر تجول شبه دائم، واقتحمت قوات الاحتلال منزل الشيخ عزيز مرعي، والد القائد عدنان مرعي (أبو مجاهد)، عدة مرات، ووصل الأمر إلى مداهمة المنزل بمعدل مرتين أسبوعياً وفي ساعة متأخرة من الليل، ويقول الشيخ: «لقد بلغ الأمر حداً لا يطاق، لقد خلعوا البلاط وحطموا الأثاث والخزائن ومزقوا الكنبات بالسكاكين، وفي كل مرة ينبشون كل شيء في المنزل ويخلطون الأشياء بعضها ببعض»(87).



وفتشت قوات الاحتلال بحثاً عن المهندس عشرات المنازل بعد إخراج أصحابها منها في بلدة ياسوف يوم الاثنين الموافق 26/12/،1994 واعتدى الجنود بالضرب المبرح على العديد من الشبان(88).



وواصلت القوات الإسرائيلية استخدام نفس الأسلوب في حي المخفية بمدينة نابلس وقرية مردة الواقعة إلى الشمال من المدينة يوم 26/2/،1994 حيث رابط الجنود على مداخل القرية ولم يسمحوا للمواطنين بالدخول أو الخروج منها. وقد استمرت أعمال التفتيش طوال الليل، إذ قام الجنود بإطلاق القنابل المضيئة في سماء القرية. كما تعرضت قريتي سالم وعزموط إلى نفس الإجراءات الإرهابية وفي نفس اليوم. وتعرضت عشرات المنازل للمداهمة في قرية كفر الديك يوم الثلاثاء الموافق 28/3/1995 وحطم أثاث بعض المنازل(89).



أما المعتقلين من هذه القرى، فقد تشددت المحاكم العسكرية في الأحكام التي أصدرتها بحقهم بدعوى تقديم مأوى أو مساعدة للمهندس ومجموعاته. فالطالب الجامعي فتحي عبد الفتاح الحايك، وهو من زيتا - جماعين، صدر عليه حكم بالسجن سبع سنوات نصفها فعلي والباقي مع وقف التنفيذ بتهمة تقديم مأوى وخدمات للمهندس(90). كما حكم على الشابين عصام ومعتصم صبري موقدة (35 و25 عاماً على التوالي) بالسجن الفعلي لمدة عام بتهمة تقديم خدمات للمهندس، وعاودت سلطات الاحتلال اعتقالهما يوم 5/11/،1994 وفتشت منزليهما مستخدمة كلاب الأثر. وأدانت المحكمة العسكرية يوم 11/6/1995 شابين من قرية زيتا - جماعين هما ناصر الحايك وناهد إسماعيل بتهمة تقديم مساعدة للمهندس، وقضت المحكمة بسجن الأول تسعة أشهر ودفع غرامة مالية قدرها ألف شيكل، بينما نال الثاني حكماً بالسجن لمدة اثني عشر شهراً ودفع غرامة مالية قدرها ألف شيكل أيضاً(91).



4- تعذيب عنيف لمعتقلي حماس



لم يخف المسؤولون الإسرائيليون أن أهم وسيلة يحاربون بها المهندس ومجموعاته الاستشهادية هي الحرب الاستخبارية. ولذلك وجه الشاباك الذي عجز عن الحد من نشاط المهندس جل غضبه إلى معتقلي حركة المقاومة الإسلامية (حماس)،وأخضعهم لعمليات تعذيب شديدة وضغوط جسدية منتظمة من أجل انتزاع الاعترافات منهم. وبرر اسحق رابين، الذي كان مسؤولاً عن أعمال الشاباك بحكم منصبه، هذه الأساليب التي تتعارض تماماً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وميثاق جنيف لمعاملة الأسرى والمعتقلين اللذين صادقت الحكومة الإسرائيلية عليهما بقوله: «إن العمليات الانتحارية ليست من فعل شخص واحد، بل من فعل شبكة كاملة تدرب الانتحاري وتعد له العبوة المتفجرة وتنقله إلى مكان الهجوم.. لا يمكن منع الانتحاري من الوصول إلى هدفه لأنه مستعد للموت، ولكن يمكن بل ويجب كشف كل العناصر التي تحيط به. وهذه الخطوة تحتاج إلى إجراء تحقيق ناجح ومفيد من قبل المخابرات الإسرائيلية. ومن يعتقد أنه يجب أن نتوقف عن استخدام هذه الأساليب يكون مخطئاً وسيتحمل مسؤولية تقليص قدرة جهاز المخابرات على مواجهة الهجمات الانتحارية ضد أهداف إسرائيلية»(92).



وبناء على طلب الجنرال كارمي غيون -رئيس الشاباك- منحت اللجنة المصغرة في الحكومة الإسرائيلية المعنية بمتابعة شؤون جهاز الشاباك محققي المخابرات تصاريح خاصة لاستخدام أساليب تحقيق عنيفة جداً وعمليات تعذيب منظم أثناء التحقيق مع معتقلي كتائب الشهيد عز الدين القسام. كما منحت اللجنة أولئك المحققين حرية أوسع للعمل دون قيود أثناء إجراء التحقيقات مع المعتقلين الذين يشتبه بانتمائهم لكتائب القسام(93).



زاهر جبارين الذي اعتقل في فترة مبكرة من بدء نشاط المهندس العسكري، تعرض لتحقيق قاس وعومل معاملة سيئة أدت إلى تردي حالته الصحية وانخفاض وزنه من 75 كيلو غرام إلى 45 كيلو غرام. وعلى الرغم من صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد بالإضافة إلى أربعين عاماً أخرى، إلا أن سلطات الاحتلال أعادته إلى سجن نابلس المركزي في 15/10/1995 للتحقيق معه من جديد حيث أخضع للتعذيب الشديد على خلفية اتهامه بالاتصال من سجنه مع تلاميذ المهندس، عبد الناصر عيسى وعثمان سعيد بلال. وقد تبين بأن سلطات الاحتلال استهدفت أيضاً الحصول منه على معلومات إضافية حول المهندس وشخصيته(94).



وأما المهندس عباس السيد وهو أحد نشطاء حركة حماس في مدينة طولكرم، فقد منع من النوم طوال عشرة أيام إلى جانب تعرضه للشبح ويديه مكبلة للخلف على كرسي صغير جداً مربوطة بالأرض، فيما وضع كيس مغلق على رأسه، وتعرض للضرب باتجاه الصدر والرقبة باستمرار إلى أن فقد قواه وأصيب نتيجة ذلك بضيق مزمن في التنفس(95).



وكان المعلم الأكثر تميزاً في التعذيب الذي أوعزت حكومة رابين إلى الشاباك بالعمل على تطبيقه على كل من اشتبه باتصاله أو تقديمه العون للمهندس هو أسلوب الهز الذي يشكل خطراً على حياة الإنسان. وقد أدى هذا الأسلوب بالفعل إلى استشهاد المعتقل عبد الصمد حريزات بعد عشرين ساعة فقط من اعتقاله. وقد أكد البروفيسور ابينوم رافس من قسم الأعصاب في مستشفى هداسا - عين كارم بالقدس بأن «من شأن أسلوب الهز أن يؤدي إلى احتقان الدماغ وضرر دماغي ناجم عن الحركة بين الدماغ والجمجمة من شأنه تدمير خلايا الدماغ، ويزداد الضرر تدريجياً خلال عدة ساعات وخطورته مرتبطة بالمواصلة في الهز ودرجته. وإذا استمر الهز لفترة طويلة فإنه يسبب الموت. وفي حالة الضرر الجزئي فإن الشخص الذي يتعرض لأسلوب الهز سيعاني من آلام الرأس والدوار وحتى صعوبات في التنفس والسمع»(96). ويضيف الدكتور غورم فاغز، الأستاذ المساعد في جامعة كوبنهاجن الدانمركية، الذي زار مدينة القدس ضمن بعثة طبية لمنظمة العفو الدولية (امنستي) محذراً من استمرار استعمال طريقة الهز كأسلوب تعذيب: «طلبت من معتقل سابق أن يهزني مثلما هزوه ولكني أوقفته بعد 3 ثواني وكنت لا أزال أشعر بآثار هذا الهز حتى بعد 12 ساعة»(97).



وحول ما يتركه أسلوب الهز على المعتقلين، كتب المحامي اليهودي اندريه روزنطايل الذي دافع عن المجاهد المعتقل أيمن حجازي بعد زيارته لموكله في معتقل المسكوبية إلى قسم الالتماسات في النيابة العامة الإسرائيلية محذراً من الخطر على حياة أيمن الذي قال لمحاميه بأنه مضطر إلى الاعتراف بكل ما يريده المحققون نظراً لأنه سيواجه الموت أثناء التحقيق. ومما جاء في أقوال أيمن: «إن المحقق بنيامين أمسكني من ملابسي وكتفي وهزني خلال عشر دقائق (5 - 6) مرات، وفي نفس الوقت تعرضت للضرب على ظهري. وطوال خمسة دقائق لم أستطع أن أرى شيئاً، فيما عانيت من ألام شديدة في رأسي استمرت لعدة أيام. وقد حذرني المحققون أن التحقيق حتى الآن لا يساوي شيئاً مقابل ما سأواجهه في الليل»(98).



وأما الطالب في جامعة بيرزيت، أحمد إبراهيم سعيد، والذي اعتقل يوم 29/6/،1994 فقد ظل في جناح التحقيق بسجن عسقلان ما يزيد على 43 يوماً تعرض خلالها لتعذيب وتحقيق قاسيين بتهمة أنه نقل رسالة إلى يحيى عياش. ويقول أحمد في تصريح مشفوع بالقسم لمندوب منظمة العفو الدولية: «عصبوا عيني ووضعوني في سيارة عسكرية أنا ومعتقلاً آخر، وانطلقوا بنا من سكن الطلاب إلى سجن رام الله، وفي الطريق كانوا يضربوننا على أرجلنا ورؤوسنا... فقاموا بنقلنا إلى جهة كانت غير معروفة لدينا وهي سجن أشكلون المركزي... حيث قابلنا أو قابلتُ ضابط المخابرات وأبلغنا بأننا في سجن أشكلون، وأن عليّ قضايا كثيرة يجب أن أعترف بها، فعندما قلت له ليس عندي شيء وأن هذا لا أساس له من الصحة، قام بضربي ضربات متتالية وسريعة على صدري، وأخذ بالصياح والشتم. وبعد ذلك جعلني أجلس وأقف في أوضاع مؤلمة مدة من الزمن، واستمر هذا الحال طوال اليوم ليلاً ونهاراً.



وعندما كنا في جلسة التحقيق استقبلنا بنفس الأساليب: بالضرب عند الصدر والأصابع، والجلوس القرفصاء لمدة تتراوح أو تصل إلى ساعة، والوقوف في الشمس ثلاث أو أربع ساعات. وبين جلسات التحقيق هذه كنا نجلس على كرسي صغير من الخشب في وضع مؤلم، حيث أن رجلي الكرسي الأماميتين أقصر من الخلفيتين، وظهر الكرسي موضوع بشكل مائل بحيث لا يسع الظهر على حافة الكرسي، ونبقى على هذه الحال خمس ليالِ، والأيام التالية كنا نذهب إلى الزنازين. ونخرج إلى التحقيق من صباح الأحد حتى صباح الجمعة، واستمر هذا الحال طيلة شهرين ونصف، وبعد ذلك أصبحوا يعذبوننا يوم الجمعة. واستمر هذا الحال إلى أن حصل حادث الانفجار في ميدان «ديزنغوف» بتل أبيب، إذ وقفت 20 ساعة بدلاً من أربع ساعات في اليوم.وزاد الجلوس (القرفصاء) من ساعة إلى أربع ساعات، وأصبحوا يستخدمون أساليب أشد قسوة من التعذيب الجسدي، من قبيل الضغط على المعدة وعلى العمود الفقري وعلى مفاصل القدم. وكانوا يهددونني بالعقم باستمرار، ويذكرونني بأسماء أشخاص معتقلين سابقين استشهدوا في التحقيق أو خرجوا بعاهة من السجن. وبعد حادث التفجير في ميدان «ديزنغوف».. قضينا 11 يوماً متواصلاً بدون نوم».



ويضيف أحمد أنه أُجبر أثناء حرمانه من النوم، على أن ينبطح على كرسي في وضع مؤلم ويداه مقيدتان، ثم دفعه المحققون فانقلب على الأرض. كما أدخلوه زنزانة فيها أشخاص ذكروا أنهم يتعاطفون معه، وطلبوا منه تسليمهم «الرسالة» التي قيل أنه يحملها بغرض تهريبها إلى خارج السجن، وعندما رفض ذلك ضربوه. وطبقاً لتقرير منظمة العفو الدولية الذي تضمن الشهادة السابقة، فقد قُدِّم أحمد سعيد للمحاكمة يوم 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 متهماً بالحيازة غير المشروعة لمسدس ونقله من شخص لآخر، وبنقل الرسائل الخاصة للمهندس، وحُكم عليه بالحبس 30 شهراً، منها 23 شهراً مع إيقاف التنفيذ، ثم أفرج عنه يوم 12 يناير/ كانون الثاني 1995(99).



5- دراسة وتحليل شخصية المهندس



كان الشهيد محور العديد من الدراسات والأبحاث التي حاولت تحليل شخصيته من مختلف الجوانب، واشتملت الدراسات التي أعدها جهاز المخابرات الإسرائيلية على محاولة تحديد طريقة عمل القائد القسامي وكيف يوجه مجموعاته وكيف يختار العناصر.



ولعل أبرز ما نشر من هذه الدراسات، الندوة المفتوحة التي بثها التلفزيون الإسرائيلي (القسم العبري) من الساعة التاسعة وحتى العاشرة من مساء يوم الأربعاء الموافق 25/1/1995. ففي تلك الندوة استضاف التلفزيون أربعة خبراء إسرائيليين، اثنان من الجامعة العبرية، وثالث من الصحفيين المتخصصين في الشؤون العربية، وخبير رابع من الضباط السابقين في جهاز الشاباك. وتناول الخبراء الأربعة شخصية المهندس والجهود المبذولة لإلقاء القبض عليه أو التخلص منه إلى جانب تناول الصورة التي ارتسمت له في أذهان الإسرائيليين، ثم بث التلفزيون شريط مصور عن عائلة عياش والبيئة التي نشأ فيها (100) .



أيهود يعاري، المعلق في التلفزيون الإسرائيلي، كتب بدوره أن لكل مرحلة من مراحل «النضال الفلسطيني» رموزها، وأنه مثلما شكل عماد عقل رمز العمل العسكري في حركة «حماس» إبان الانتفاضة، فإن يحيى عياش يمثل الآن رمز العمل العسكري «الانتحاري» للحركة في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية. ومن جهته، أعرب رجل المخابرات الأسبق شمعون رومح بأنه لا يرى أن الصورة المرتسمة للمهندس مجرد وهم وخيال صنعته وسائل الإعلام من العدم، فلهذا الرجل سر في النجاح، كما يقول رومح. ويضيف الخبير الأمني «مع أسفي الشديد فلا بد لي أولاً أن أعرب عن تقديري وإعجابي بقدراته وخبرته وإلمامه إزاء كل ما يتصل بإعداد المتفجرات.. بعد ذلك لا بد من إبداء التقدير إزاء حقيقة أن هذا المطلوب لا زال نشيطاً لا يستكين ولا يهدأ.. يعمل بلا توقف.. يجند خلية تلو الأخرى.. يجدد النشاطات ويبعث فيها روح الحياة بعد كل ضربة.. وأخيراً لا بد من إبداء التقدير والإعجاب إزاء قدرة هذا الرجل على الاستمرارية والبقاء.. فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أنه يفكر ويعمل بصورة صحيحة»(101).



أما أهارون كلاين، فيصف طريقة عمل المهندس في مقال نشره في صحيفة عال همشمار العبرية بقوله: «أنها ورشات صغيرة منتشرة في يهودا والسامرة وغزة، تصدر العمليات العدوانية... إنها عدد من المصانع المفصولة عن بعضها يوفر خط الإنتاج فيها مخرب مصمم على الانتحار وقتل أكثر عدد من اليهود». ويضيف كلاين مشيداً بيحيى عياش: «صنع المهندس متفجرات شديدة الانفجار، من مواد كيماوية. وانتج مادة متفجرة مماثلة للمتفجرات المعيارية»(102).



ووفقاً للوائح الاتهام التي قدمت ضد عدد من المجاهدين الذين اتهموا بمساعدة المهندس وعملوا معه، فبالإمكان استنتاج أساليب عمل يحيى عياش حيث استبدل مساعديه بين فترة وأخرى، إلى جانب اهتمامه بالانتقال من مكان إلى آخر بكثرة(103).



6- مطاردة بكل الوسائل المتاحة



لم يبق أمام اسحق رابين وحكومته من إجراءات لعرقلة نشاط المهندس ومجموعاته سوى الأمر بتشكيل لجنة أمنية أعطيت صلاحيات واسعة لاستخدام كافة الوسائل والإمكانات المتوفرة بغية تقديم خطط ومقترحات معنية أساساً بتحصين المناطق اليهودية. وكانت اللجنة برئاسة وزير الشرطة وعضوية كلا من: رئيس الشاباك، والمفوض العام للشرطة، ونائب رئيس الأركان، ومدير عام وزارة الخارجية، ورئيس شعبة التخطيط في هيئة الأركان، وقائد الجبهة الداخلية، ونائب مأمور الميزانيات في وزارة المالية، ومستشار رئيس الوزراء لشؤون الإرهاب، بالإضافة إلى منسق أعمال الحكومة في الضفة وغزة، وعدد آخر من كبار الموظفين والمستشارين. وأوضح وزير الشرطة الذي أعلن عن تشكيل اللجنة أمام الكنيست أنه تم أيضاً تعيين طاقم اقتصادي برئاسة وزير المالية يتولى بحث الأبعاد الاقتصادية للمقترحات، مؤكداً أنه «لا يعقل أن تخشى الأمهات الإسرائيليات على حياة أبنائهن في وسط البلاد»(104).



وبعد نحو شهر من تشكيل اللجنة الأمنية، أقر اسحق رابين مبادىء خطة الفصل التي أعدتها اللجنة والتي تتكلف نحو نصف مليار دولار، وتتضمن إقامة حاجز أمني وسياج وما بين (8-10) نقاط عبور على امتداد خط الفصل مع نشر قوات وإقامة أبراج مراقبة وشبكة إنذار مبكر، واستمرار حصار القدس ومنع أبناء الضفة والقطاع من دخولها، وتنص المبادىء الأمنية في خطة الفصل كذلك على وصف (مجال الفصل) إلى الشرق من الخط الفاصل، وهو مجال يرابط فيه جنود من الجيش وقوات حرس الحدود الذين ينتشرون على امتداده(105).



وبناء على خطة موشيه شاحل، يتم وضع مجسات وعيون إلكترونية تبث أشعة لايزر وترسل هذه الأشعة إشارات إلى مركز مراقبة إذا قام أناس باجتياز المنطقة. وفي الأماكن الاستراتيجية، يكون هناك مواقع مراقبة وأبراج حراسة تزود بأجهزة ومعدات للمراقبة في ساعات الليل والنهار شبيهة بتلك التي يتم استخدامها على الحدود مع سورية ولبنان. وبالإضافة لتلك الأجهزة يتم الاستعانة بدوريات أرضية متنقلة مثل سيارات الجيب والتراكتورات والمدرعات الخفيفة(106). وفي الأماكن الوعرة، يستخدم إضافة إلى الدوريات الراجلة سيارات خاصة،بينما تقترح الخطة إيجاد موجات حجرية بارتفاع عدة أمتار وحفر عميقة في المناطق الصعبة كالوديان العميقة، إلى جانب دوريات جوية لحراسة الخط الفاصل وإجراء مسح كل متر على طول الخط المقترح(107).



وأدخلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية كلاباً هجومية أمريكية تعتبر الأفضل تدريباً في العالم على اكتشاف المواد المتفجرة إلى حيز الخدمة في نطاق الشبكة الدفاعية على امتداد الخط الفاصل وفي مدينة القدس كذلك(108).



7- دور سلطة الحكم الذاتي



تفهمت سلطة الحكم الذاتي المحدود المشكلات الأمنية التي واجهت الكيان الصهيوني أثر العمليات الاستشهادية التي نفذها المهندس ومجموعاته القسامية، وقد صب في هذا السياق تصريح ياسر عرفات لصحيفة يديعوت أحرونوت، والذي أكد فيه «أن التعاون بيننا وبينكم سيحسن من القدرة على منع وقوع هجمات إرهابية، وأنا أطالب رابين منذ وقت طويل تشكيل لجنة مشتركة لمنع عمليات الإرهاب»(109).



وإلى جانب تأكيد رئيس الحكومة الإسرائيلية من جهته للتعاون بين جهاز الشاباك وجهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة في كل أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة وليس فقط في مناطق الحكم الذاتي، ومع تمتع أفراد جهاز الأمن الفلسطيني بحرية نسبية في العمل والتنقل من جانب الإدارة الإسرائيلية، فإن المفوض العام للشرطة الإسرائيلية -اساف حيفتس- اعترف أيضاً بوجود تعاون في مجال تبادل المعلومات الاستخبارية والإرشاد المهني(110).



وفي ضوء تعهد ياسر عرفات بمواصلة سلطته التعاون مع العدو الصهيوني من أجل منع تكرار العمليات الاستشهادية، وهو الإعلان الذي جاء في أعقاب العملية الاستشهادية في رامات اشكول بمدينة القدس في شهر آب (أغسطس) عام ،1995 فقد جرت عدة لقاءات بين قادة أجهزة الأمن والاستخبارات من الطرفين للتنسيق في مكافحة كتائب الشهيد عز الدين القسام. وبدأت هذه اللقاءات حين التقى اسحق رابين كل من: اللواء نصر يوسف (قائد الشرطة الفلسطينية)، والعميد أمين الهندي (رئيس المخابرات العامة)، والعقيد محمد دحلان (رئيس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة). بينما التقى ياسر عرفات قائدي المنطقة الجنوبية والقوات الإسرائيلية في قطاع غزة(111).



وعقد لقاء آخر في 16/9/1995 بفندق هليتون في منتجع طابا المصري، مثل الجانب الإسرائيلي فيه شمعون بيريز (وزير الخارجية)، والجنرال ايلان بيران (قائد المنطقة الوسطى)، والجنرال عوزي ديان (رئيس شعبة التخطيط)، والجنرال كارمي غيون (رئيس جهاز الشاباك). ومن الجانب الفلسطيني، حضر ياسر عرفات وأحمد قريع وصائب عريقات والعقيدان جبريل الرجوب ومحمد دحلان. وبعد المداولات، وقع الجانبان بروتوكولاً أعده الجنرالان بيران وغيون(112). وأما اللقاء الثالث، فقد عقد مساء السبت الموافق 7/10/1995 في حاجز ايرز، تعهد خلاله الجانب الفلسطيني بزيادة وتعزيز الجهود ضد مجاهدي الكتائب المطلوبين لسلطات الاحتلال، والتعاون لمنع وقوع العمليات التي ينفذها يحيى عياش ومحمد الضيف(113).



ومن نتائج هذه اللقاءات، برز بشكل ملفت إصدار أمر من قبل رئيس السلطة الفلسطينية لكافة الأجهزة والقوى الشرطية والاستخبارية بالقبض على المجاهدين يحيى عياش ومحمد الضيف باعتبار أنهما الرأس المدبر لعمليات كتائب الشهيد عز الدين القسام. فبعد الاجتماع الذي عقده ياسر عرفات مع قادة الشرطة يوم الخميس الموافق 24/8/1995 خرج اللواء نصر يوسف ليعلن أمام مراسلي وكالات الأنباء العالمية: «تلقينا أوامر من ياسر عرفات بملاحقة يحيى عياش ومحمد الضيف وإلقاء القبض عليهما»(114).



ويضيف قائد الشرطة الفلسطينية: «أعطى الرئيس تعليمات في هذا المجال للأجهزة، والآن البحث جاري. ونحن معنيون بشكل أساسي وحازم ألا تكون مناطقنا لا منطلق ولا مكان عمل داخلي ولا منطلق لعمل خارجي متطرف. وكل الإجراءات هي قيد السرية، ومن السابق لأوانه الحديث في هذا الأمر، وإن شاء الله نصل إلى نتائج إيجابية في هذا الموضوع. ولكن، بلا شك بالنسبة ليحيى عياش هو عبارة عن شخص واحد، وعملية البحث عن شخص يشبه البحث عن إبرة في كومة قش. ولذلك نحتاج جهد مكثف ونحتاج شيء من الدقة في التحرك والبحث»(115).



ويؤكد العميد موسى عرفات، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، ما صرح به اللواء نصر، ويضيف في مقابلة صحفية: «وردت إلينا أخبار عن وجود يحيى عياش في غزة، ونحن نقوم حالياً بالتحقق منها. وقد سمع العالم كله أن الرئيس عرفات أصدر توجيهات في هذا الخصوص»(116).



وذهب اللواء زكريا بعلوشة، رئيس جهاز الأمن العام الفلسطيني، بدوره إلى أبعد من ذلك حين وصف الشهيد يحيى عياش بالأسطورة المزيفة. ولكن ما يهمنا هو الأوامر التي أصدرها ياسر عرفات حيث نسبت الإذاعة الإسرائيلية للواء بعلوشه قوله: «إن عرفات أمرنا بالعمل على إلقاء القبض على يحيى عياش بسرعة رغم أنه لم تتوفر للآن أية معلومات حول مكان وجوده وإذا ما توفرت هذه المعلومات سنعتقله فوراً.. يجب إلقاء القبض عليه لإيصال هذه الأسطورة إلى نهايتها، ولا يجب أن يعيش مثل هؤلاء الأشخاص بين أوساط الشعب الفلسطيني»(117).



أما من ناحية عملية، فقد أوكل ياسر عرفات إلى حكم بلعاوي (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومنسق الشؤون الأمنية في سلطة الحكم الذاتي) مهمة ملاحقة المهندس وكلفه بتشكيل غرفة عمليات خاصة بهذه المهمة الدقيقة بعد أن فشلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية في تصفية القائد القسامي أو إلقاء القبض عليه، أو حتى حصر أماكن تواجده(118). وإلى جانب هذا التوكيل، شكل رئيس السلطة الفلسطينية جهازاً أطلق عليه (دائرة العمل الخاص) بقيادة الرائد مازن الجرتلي (أبو علاء) الذي كان مسؤولاً عن أمن منظمة التحرير الفلسطينية في أوروبا الشرقية، واتبع هذا الجهاز بالمخابرات العامة التي يقودها العقيد طارق أبو رجب، وضمت الدائرة إلى جانب الرائد أبو علاء حوالي ثمانين ضابطاً وعنصراً معروفين بالقسوة والعنف، وتركز عمل الدائرة على اختراق الكتائب القسامية واعتقال مجاهديها حيث كان لها دور بارز في إطلاق النار على المجاهدين المطاردين واعتقال عدد منهم إلى جانب المشاركة في انفجار حي الشيخ رضوان والذي أسفر عن استشهاد القائد كمال كحيل(119).



وعلى أرض قطاع غزة، حاصرت الشرطة الفلسطينية يوم 9/1/1995 أحد المنازل في منطقة (جباليا/ النزلة) بعد الاشتباه بوجود يحيى عياش فيه، ولكن الحصار انتهى دون أن تعرف السلطة ما إذا كان المهندس موجوداً في البيت أم لا. وعاودت قوات كبيرة من الشرطة الانتشار في شوارع وأحياء ومخيمات القطاع للتفتيش والتدقيق في الأشخاص والسيارات يوم 23/8/1995 بحثاً عن المهندس بعد ورود معلومات أمنية إسرائيلية بأنه يتنقل متخفياً ومتنكراً في قطاع غزة ويحمل هوية مزورة وينسق مع محمد الضيف. وفي يوم الثلاثاء الموافق 29/8/،1995 داهمت قوات معززة من جهازي الأمن الوقائي وأمن الرئاسة (القوة 17) حي الأمل بخان يونس. وحاصرت الشرطة منزلاً بجوار مسجد الرحمة، واقتحمته بعد تحطيم أبوابه ثم أطلقت النار بكثافة في الهواء واعتقلت ثلاثين شخصاً بعد أن فشلوا في العثور على المهندس داخل المنزل(120).



وفي سجون السلطة وزنازينها، ذاق المعتقلون ويلات العذاب والتحقيق الشديد والذي فاق ما تعرض له المجاهدون في معتقلات وسجون الاحتلال الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، يقول المعتقل كمال أبو جلاله من سكان مخيم البريج، وكان معروفاً بانتمائه لحركة فتح ونشاطه بتزويد (صقور فتح) بالأسلحة بأنه اعتقل وحقق معه في سجون السلطة بتهمة بيع سيارة المجاهد حاتم إسماعيل -مساعد المهندس وضابط الاتصال مع عبد الناصر عيسى- ويضيف أبو جلاله: «حققوا معي بشكل جنوني حيث أدخلوني لزنزانة يوجد بها شناكل وربطوا يدي من الخلف ورفعوني إلى أعلى عن طريق بكرة وضربوني بوحشية، وشددوا الكلبشات الحديدية حتى نزفت دماً وظهرت جروح كبيرة في جميع أنحاء جسمي»(121).

السيف عدي
07-03-2008, 09:01 AM
الفصل الرابع



خالد بجهاده



أولاً: جمعة الشهادة



إنه يوم الجمعة المباركة، الخامس من كانون الثاني (يناير) 1996م، وهو أيضاً 15 شعبان 1416من الهجرة النبوية الشريفة. وهذه الجمعة، لم تكن كأي جمعة، إذ فاضت المدينة المقدسة والمسجد الأقصى المبارك بالآلاف الذين تزاحموا، كل يريد شرف الصلاة في الصف الأول. فقد خرج الشيخ عز الدين القسام من أحراش يعبد، وحضر عبد القادر الحسيني من بيادر القسطل، وسار خلفهما الشهداء أفواجاً وجماعات وأسراب يملؤون المسجد الأقصى وساحاته وحدائقه وعند المداخل وفوق البوابات منذ ساعات الفجر الأولى، ويتجمهرون تغمرهم الفرحة بمشاركة فلسطين عرس ابنها الذي رسم البسمة، بسمة البطولة والثأر، على شفاه الصبايا والنساء والأطفال والشيوخ والشباب.



وطالت ساعات ثقيلة كما لم يكن من قبل، حتى صدحت الطيور الخضر من غزة هاشم نشيد الابتهال الجميل: جاء البطل، صانع الشهداء وأميرهم.. جاء السيف المدجج بعشق فلسطين، وهوى الشهادة. فاستعاد الشيخ الجليل عز الدين القسام وقع الصدى، ووقف ليهتف وتردد الجموع من خلفه: إنه جهاد نصر أو استشهاد.



وفي غزة هاشم، تجمع فتيان قبية ودير ياسين، وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا. وبعد صلاة الضحى، خرجوا مع الفارس الكبير في موكب جميل أضاء سماء فلسطين، وعبثاً حاولت الجبال والوديان، فقد أودع الفتى الوسيم تلاميذه الراية، ونثر حكايته الأروع في طابور الشهادة الممتد في أرجاء الوطن.



في ذلك الصباح، توقف القمر الذي اعتاد أن يغيب زمناً ثم يعود حاملاً الموت لقتلة الأطفال، في مدارس يوسف عليه السلام. وطاف مودعاً الياسين والرنتيسي وصلاح وزاهر وعبد الناصر، ومئات آخرين حفظوا صورته وهو يلف الكوفية حول عنقه ويرسم على فمه ابتسامة خجولة حين ظهر نحشون فاكسمان في حلم حريتهم الجميل. وكالعادة، قالوا: إنه لا بد عائد.



وفوق أسوار القدس، اصطف الشهداء الأبرار يرقبون طلعة أميرهم الكبير وإمامهم في صلاة البطولة والأبطال عند منبر صلاح الدين. وأما عبد الرحمن وبشار فقد اصطحبا مهندسهما حتى الأقصى المبارك، وساروا به نحو محراب التحدي بين الصفوف التي كانت تهتف: أنت قائدنا وإمامنا يا صانع الشهداء.



1- التفجير باللاسلكي



عملية التفجير باللاسلكي تعتبر إحدى أحدث وأخطر وسائل الحروب السرية التي تستخدم فيها أسلحة غير تقليدية كالطائرات والمدفعية والجيوش، وهي وسيلة فعالة للقضاء على الخصم دون حاجة لمواجهة مباشرة. وعلى الرغم أنها تضمن الفاعلية وأمن المنفذين ووجودهم بعيداً عن مكان التفجير، إلا أنها أكثر تعقيداً من عمليات التفجير العادية، لأنها تحتاج إلى مراقبة مسبقة وإلى تحديد طرق سير الخصم، وأدق التفاصيل المتعلقة بتنقلاته. كما يضمن التفجير باللاسلكي، أو الموجه عن بعد، وقوع الانفجار في اللحظة المناسبة التي يكون فيها الهدف ضمن مدى تأثير الانفجار. ولذلك، تستخدم هذه الوسيلة لضرب الأهداف المتحركة والثابتة على حد سواء، أو الأشخاص الذين لا يتواجدون في الأهداف الثابتة بشكل دائم أو منتظم، ويبدلون باستمرار أوقات قدومهم إلى المكان وخروجهم منه، وقد استخدمت الموساد عمليات التفجير باللاسلكي وعمليات التفجير اللاسلكية في حربها المعلنة ضد قادة المقاومة الفلسطينية وبعض مسؤوليها(1).



ويمكن القول، وبأسلوب مبسط أن نظام التفجير باللاسلكي يتألف من الأجزاء التالية:

أ- جهاز لاسلكي (مُرسل) يبث موجات لاسلكية ذات ترددات معينة ووفق شيفرة خاصة. ويعمل هذا الجهاز المتطور ضمن مدى يتراوح بين كيلومتر واحد إلى عدة كيلومترات.



ب- جهاز لاسكلي (مُستقبل) يعمل على ترددات الجهاز المرسل ذاته، ويقوم بتحليل الموجات المستقبلة واستبعاد الموجات اللاسلكية غير المرغوبة (كموجات الإرسال الإذاعي والموجات الأخرى الموجودة في الجو على ترددات الجهاز المرسل). وعندما يتلقى الجهاز المستقبل الإشارة اللاسلكية وفق الشيفرة المحددة يحولها إلى جهد كهربائي يؤدي إلى تفجير الصاعق الكهربائي المتصل مع الجهاز.

ج- عبوة ناسفة بأحجام وأشكال تعتمد على طبيعة الهدف والحاجة.

د- صاعق كهربائي موجود داخل العبوة الناسفة ومربوط مع الجهاز المستقبل.

هـ- فخ لمنع فك الجهاز المستقبل أو العبوة في حالة اكتشافها. وقد نجح خبراء المتفجرات في تصميم أجهزة تنفجر عند اكتشافها من قبل الخصم.

و- راصد يستطيع رؤية الهدف أو تحديده، ويكون على اتصال مباشر مع الجهاز المرسل، سواء كان الاتصال لاسلكياً أم بالنظر أم بأية وسيلة اتصال ضوئية أخرى(2).



2- خطة اغتيال المهندس



أُثير الكثير من التساؤلات والتكهنات حول جريمة اغتيال المهندس، والمتآمرون المشتركون في تنفيذ الجريمة الغادرة، فقد نشرت وسائل الإعلام تفاصيل غامضة وتقارير متضاربة في بعض الأحيان. ولئن ما تزال قضية اغتيال مهندس الأجيال تتفاعل وتثير الكثير من علامات الاستفهام، خصوصاً حول الشخصية التي تقف حقيقة خلف عملية الاغتيال وكيف استطاعت الوصول إلى المهندس واختراق الجدار الأمني الذي أحاط به. إذ أن الجريمة، وبشهادة خبراء الاستخبارات كانت معقدة فنياً واحتملت وفق الشواهد الكثيرة التي أحاطت بها نسبة عالية من المجازفة والمخاطرة. ولكن جهاز الشاباك والسلطة السياسية الإسرائيلية التي أعطت الضوء الأخضر بالتنفيذ لم يجدا مفراً من قبول هذه النسبة، فالهدف ثمين ولم يتم الاقتراب منه بهذه الدرجة من قبل.



عمليات البحث والمقارنة التي أجريناها بعد جمع كافة ما نشر حول الجريمة، وبخاصة القصة التي رواها أسامة حماد، صاحب المنزل الذي استشهد فيه المهندس وآخر شخص شاهده على قيد الحياة، إلى جانب تقارير وسائل الإعلام الإسرائيلية من صحف وتلفاز وإذاعة، ومن خلال التفاصيل التي أمكن التحقق من صحتها، فإننا نقدم السيناريو التالي الذي نتوقع بأنه يمكن الاعتماد عليه:



1- أسامة حماد، عضو حركة حماس الذي يقيم مع عائلته في منزل من طابقين على بعد مئة متر من المفوضية العامة للشرطة الفلسطينية في بيت لاهيا يعرف المهندس منذ عام 1987. فقد كان أسامة طالباً في جامعة بيرزيت وسكن مع الطالب يحيى عياش في قرية أبو قش القريبة من الجامعة. وبعد أن تخرج أسامة من الجامعة في صيف العام ،1995 وعاد إلى قطاع غزة في شهر آب (أغسطس)، اتصل به المهندس للمساهمة في تقديم المساعدة والخدمات له، وبخاصة في مجال الاتصالات مع الضفة الغربية بعد أن انكشف أمر الهاتف الذي كان يستخدمه يحيى في مخيم النصيرات(3).



2- الاستخبارات العسكرية الفلسطينية التي يتزعمها العميد موسى عرفات هي التي اكتشفت علاقة أسامة بالمهندس في شهر أيلول (سبتمبر)، وقيام الأخير بإجراء الاتصالات من منزل والدة الأول. وحتى تلك اللحظة، لم تكن أجهزة الأمن الإسرائيلية على علم بهذه التفاصيل، ولكن مصدر مطلع في جهاز الأمن العام الفلسطيني يؤكد بأن العميد موسى عرفات المعروف بقربه من الشاباك، أبلغ عميلاً مزدوجاً قيل أنه كمال حماد (خال أسامة)(4).



3- وعلى وجه السرعة، نقل العميد المعلومات القيمة إلى قيادة الشاباك. وبعد أن اطمأن الجنرال كارمي غيون لصحة المعلومات الواردة عبر شبكة العملاء الواسعة التي يحتفظ فيها بمدينة غزة، أبلغ شمعون بيريز بصفته رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع. وفي الاجتماع العاجل والطارىء الذي دعى له بيريز، أعاد رئيس الوزراء الجديد تأكيد الأوامر والتعليمات التي أعطاها سلفه بالقيام بكل ما هو ممكن للقضاء على المهندس. واتفق قادة الموساد وآمان والشاباك على وضع خطة محكمة لاغتيال المهندس تشترك الأجهزة الثلاث في عمليات التنسيق وتبادل المعلومات والتنفيذ حيث أسندت القيادة الميدانية للجنرال كارمي غيون نفسه(5).



4- بعد تحديد الوسيلة المنوي استخدامها، وجد الجنرال غيون أن نقطة الضعف التي يمكن النفاذ من خلالها تكمن في سكن أسامة مع والدته في بيت لاهيا، وهي أولاً، منطقة قريبة من مستوطنة نتساريم، وثانياً، خال أسامة المدعو كمال حماد. ومن المعروف أن كمال حماد (45 عاماً) هذا يتعامل مع سلطات الاحتلال منذ عام 1970 حيث كان له ضلع في الوشاية بعدد من الفدائيين في ذلك الوقت، وهو يمتلك شركة مقاولات كبيرة قامت بأعمال عديدة لصالح الإدارة المدنية الإسرائيلية ونفذت مشاريع إسكانية كثيرة بعد أن سلمته سلطات الاحتلال أراضي حكومية وأملاك غائبين(6). وقد سافر هذا العميل قبيل انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة إلى تونس حيث التقى مع ياسر عرفات وموسى عرفات وأبو علي شاهين ومحمد دحلان ورشيد أبو شباك وعرض عليهم تقديم بعض الأراضي ومشروع إسكان على سبيل الهدية مقابل غض الطرف عن عمالته وحمايته من أيدي حماس والجهاد الإسلامي. إذ تبرع العميل بشقة سكنية في الطابق الثالث من بناية (برج النصر) إلى العميد موسى عرفات. وفي مقابل ذلك، زوده قائد الاستخبارات العسكرية باثنين من العناصر المزودين برشاش كلاشنكوف لحراسته، تولى حماد دفع رواتبهما(7).



5- طلب الشاباك من كمال حماد التقرب من ابن أخته وإغرائه بالعمل لديه. ولأن أسامة الذي أنهى تعليمه مؤخراً وحصل على شهادة بكالوريوس لغة عربية ودبلوم تربية بدون عمل، فقد قبل دون تردد الوظيفة التي عرضها خاله، وهي الإشراف على تعليم أطفاله الأربعة عشر(8). ويوماً بعد يوم، تقرب كمال من ابن إبلاغهما محاولاً توثيق العلاقة معه حيث قام بإهدائه تليفون خلوي. وطبقاً لتعليمات الجنرال غيون، عاد كمال إلى ابن أخته طالباً الجهاز ليوم أو ليومين. وتكررت هذه الطلبات ما بين أربع وست مرات، وفي كل مرة كان يتذرع بأعذار مختلفة(9). ومن البديهي أن نستنتج أن الهدف من ذلك هو أن يعتاد أسامة على طلبات خاله، ولا تساوره الشكوك إذا ما عاد واستعار التليفون أثناء وجود المهندس. ورغم ذلك، يؤكد أسامة، بأن المهندس كان حذراً، إذ أنه كان يخشى استخدام هذا النوع من الأجهزة في اتصالاته لمعرفته بسهولة التنصت على المكالمات التي تجري من خلالها وإمكانية التحكم فيها من قبل العدو الصهيوني. وإذا ما اضطر إلى استخدام إحداها، كان يحيى عياش يفحص الجهاز ويطلب من غيره التأكد أيضاً(10).



6- تمكنت الشاباك من تتبع مكالمة تليفونية أجراها الشيخ عبد اللطيف مع ابنه، ومن خلال تلك المكالمة، اتضح للجنرال غيون بأن والد المهندس سيتصل بابنه على الهاتف العادي بمنزل أسامة حماد في الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة الموافق 5/1/1996(11).



7- وضع الجنرال غيون ومساعدوه خطة تفصيلية لاغتيال المهندس، بعد أن انتقل إلى موقع متقدم في مستوطنة نيسانيت القريبة من بيت لاهيا للإشراف بشكل مباشر على عملية التنفيذ حيث أقيمت غرفة قيادة أمنية ذات تجهيزات فنية عالية. وفي ذلك الموقع، استعان رئيس جهاز الشاباك بخبراء وفنيين قاموا بتركيب بطارية خاصة صنعها القسم الفني بالموساد في جهاز التليفون الخلوي الذي استعاده كمال حماد من ابن أخته في أواخر كانون أول (ديسمبر) 1995. والبطارية الجديدة كانت في الحقيقة بنصف حجمها العادي حيث وضعت المتفجرات التي يتراوح وزنها بين 40 و 50 غراماً في النصف الآخر. وكان كمال حماد قد دأب على التوجه إلى المستوطنة(12).



8- حاولت زوجة المهندس أن تستذكر الساعات الأخيرة للشهيد القائد، فتقول: «اشتاق كثيراً لقريته وأهله وعائلته. وكان يقول دائماً بأنه يريد العودة إلى هناك. وحدد وقتاً لذلك، قبيل عيد الفطر». وتضيف أم البراء، بأنه ودعها وطفليه صباح يوم الخميس، أي قبل يوم من استشهاده، وخرج من المنزل الذي يختبىء فيه بجنوب قطاع غزة للقيام بمهمة ليلية هامة جداً، وكان من المفترض عودته يوم السبت. ولذلك، طلب المهندس من زوجته أخذ ابنه عبد اللطيف صباح يوم الجمعة لختانه حيث فعلت، ولم تعلم أم البراء عن استشهاد زوجها إلا في ساعات المساء عندما حضر أصدقاؤه(13).



9- انتقل المهندس إلى منزل أسامة حماد في نحو الساعة (30:4) من فجر يوم الجمعة الموافق 5/1/،1996 وقام بتأدية صلاة الفجر ثم ذهب للنوم. وحسب القصة التي يرويها أسامة حماد بعد ذلك، فإنه كان من المفترض أن يتصل والد المهندس على تليفون المنزل في نحو الساعة الثامنة غير أن اتصالاً غريباً جرى في ذلك الوقت حين اتصل كمال حماد في الساعة الثامنة طالباً من ابن أخته فتح جهاز التليفون الخلوي لأن شخصاً يريد الاتصال به ثم قطع الخط الهاتفي، ولم يكن في خط الهاتف البيتي حرارة بعد هذا الاتصال. وفي نحو الساعة التاسعة، اتصل والد المهندس مستخدماً الهاتف الخلوي حيث رفعت زوجة أسامة السماعة وسلمتها لزوجها الذي كان نائماً مع يحيى في نفس الغرفة. فأيقظ أسامة المهندس ثم أعطاه السماعة. وبعد (15) ثانية تقريباً، وفيما كان أسامة يهم بالخروج من باب الغرفة تاركاً المهندس ليحدث والده، سمع دوي انفجار، فالتفت على الفور فرأي يد الشهيد القائد تهوي إلى أسفل، وغطى الغرفة دخان كثيف، ليتبين بعد ذلك أن المهندس قد استشهد(14).



10- طائرة مروحية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي حامت فوق المنزل في ذلك الوقت، يعتقد أنها كانت تقل ضابط الشاباك المسؤول عن تفجير الشحنة الناسفة التي زرعت داخل جهاز الهاتف النقال. فما أن تأكد الضابط من تشخيص صوت المهندس عبر أجهزة الرصد حين قال لوالده: «كيف حالك يا أبي، دير بالك على صحتك ولا تظل تتصل على الهاتف»، حتى ضغط على زر جهاز الإرسال لإرسال ذبذبة معينة لانفجار العبوة الناسفة لاسلكياً، فوقع الانفجار(15).



11- اتصل كمال حماد بعد ذلك بوالدة أسامة وسألها عن حالة ابنها، وإن كان بخير وفي صحة جيدة ولم يمسه سوء. فأخبرته أنه بخير، فقال لها: «معلش أمر الله نافذ»(16).



12- لم يعرف أسامة من هول الصدمة ما يفعله، إلا أنه تدارك نفسه سريعاً ومنع أياً من أفراد عائلته من الاقتراب من الغرفة التي كان فيها جثة الشهيد، واتصل أسامة ببعض أصدقاء المهندس من كتائب عز الدين القسام، وروى لهم كل شيء بالتفصيل، فأخذ المجاهدون جثة المهندس في ساعات الظهر وانطلقوا بها. وبعد ذلك قرروا وضع الجثة في مستشفى الشفاء(17).



13- عدد من قادة حركة حماس توافدوا على المستشفى لمعاينة جثة الشهيد، ومنهم الصحفي فايد أبو شمالة الذي يعرف المهندس منذ أيام الدراسة الجامعية. وقال فايد بأن الجهة اليمنى من وجه المهندس (من أذنه وحتى منتصف وجهه) كان مهشماً تماماً، وكذلك يده اليمنى، بينما لم يتأثر بقية جسمه إطلاقاً بالانفجار(18).



14- أكد أسامة بأن الشهيد كان يتمنى الشهادة وكان دائماً يردد «بأن على كل فلسطيني أن يتدرب على السلاح وأن يجاهد». ويضيف أسامة بأنه صباح يوم الجمعة وقبل صلاة الفجر بقليل عبر المهندس لصديقه بأنه يشعر بدنو أجله(19).

15- بيان الكتائب أكد ضلوع أطراف من السلطة الفلسطينية في التمهيد والتعاون وتسهيل مهمة منفذي الجريمة الغادرة بحق المهندس. وأشار بيان الكتائب أيضاً، أنه وحسب التقارير المرفوعة إلى قيادة الجهاز العسكري لحركة حماس، فقد أكد مسؤول الوحدة المكلفة بحماية الشهيد أن مجموعته نجحت قبل أسبوعين من الجريمة في ترتيب مغادرة الشهيد لموقع كان يتواجد فيه قبل مداهمة أجهزة استخبارات وشرطة السلطة بنحو نصف ساعة(20).



16- هرب كمال حماد إلى المناطق المحتلة منذ عام 1948 فور وقوع الجريمة حيث وصل عند المسؤولين عنه في جهاز الشاباك بمستوطنة نيسانيت، ثم نقل بعد ذلك إلى مدينة يافا حيث ما يزال يقيم هناك(21).



3- توقيت جريمة الاغتيال



لنحو أربع سنوات، وضع اسحق رابين الذي تعامل مع المهندس بصفته خصماً له، ملف تصفية القائد القسامي على رأس أولويات حكومته السياسية والأمنية، ولكن إحدى مفاجآت هذا الملف كانت في مقتل رابين على أيدي متطرف يهودي قبل أن تتمكن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من اغتيال المهندس. وبذلك، أضيفت فضيحة أخرى لملفات تلك الأجهزة التي كانت تصورها الدعاية الصهيونية بأنها أجهزة خارقة تكتشف الأحداث قبل وقوعها، وتستطيع الوصول إلى ما تريد بأقل جهد وأسرع وقت. وكان لاهتزاز ثقة الشارع الإسرائيلي بتلك الأجهزة، آثاراً مقلقة على القيادات الأمنية والعسكرية، فلا هي تمكنت من حماية رئيس الوزراء وأهم شخصية في البلاد، ولم تستطع القبض أو قتل عدوها الأول الذي أثار الهلع في قلوب الإسرائيليين(22).



وللخروج من حالة انعدام الوزن الذي أوقف أجهزة الأمن الإسرائيلية على حوافها، كان لا بد من القيام بفعل خارق يعيد الاعتبار لتلك القيادات داخل المؤسسة السياسية والأمنية في الدولة العبرية. ولعل هذا ما يفسر رفض شمعون بيريز استقالة الجنرال كارمي غيون أثر اغتيال رابين مباشرة، ثم قبولها بعد يومين فقط من تنفيذ جريمة اغتيال المهندس(23).



وفي الوقت الذي اعتبرت فيه جريمة اغتيال المهندس سببا في إعادة الثقة في أجهزة الأمن الإسرائيلية وتطمين الشارع الإسرائيلي بأن عدوه الأول قد جرى الانتهاء منه، وأن الانتقام قد حصل ممن أراق الدم اليهودي كما يردد قادة الاحتلال دائماً، فإن هناك هدفاً لا يقل أهمية، بل كان أكثر أهمية. وهذا الهدف يتمثل في جعل مقتل المهندس عنواناً لمرحلة جديدة، لا (مخربين) فيها، خاصة أن اغتيال عياش قد سبقه تصفية قادة عديدين مثل فتحي الشقاقي وهاني عابد وكمال كحيل وإبراهيم النفار ومحمود الخواجه وغيرهم. وعليه، كان ثمة رسالة صهيونية خلف جريمة اغتيال المهندس، خلاصتها أن زمن الفدائيين والأبطال قد انتهى، وأن هذا هو زمن القبول بإسرائيل والتعامل معها بواقعية(24).



وعلى الرغم مما روجت له السلطات الإسرائيلية، فإن هناك كثيرين في الجانب الإسرائيلي لم يكونوا مقتنعين بأن اغتيال المهندس سيوقف الجهاد والمقاومة وينهي الكفاح المسلح. وعلى الصعيد الفلسطيني، فإن جريمة الاغتيال أعطت حركة حماس فرصة لاستعادة نشاطها العسكري. فالصهاينة هم المعتدون، وهم الذين صعدوا، والاغتيال نفذ في غزة. وانطلاقاً من كل ذلك، فإن معسكر المقاومة قد ربح رغم الخسارة الكبيرة بفقدان الشهيد. ولعل تنفيذ تلاميذ المهندس للعمليات الاستشهادية الأربع خلال فترة زمنية قصيرة (عشر أيام) يعد تأكيداً لما سبق.



4- الأمريكيون يؤكدون دور السلطة الفلسطينية



بمجرد أن قطعت الإذاعة الإسرائيلية نشرة أخبارها لتكون أول من يعلن عن اغتيال المهندس ويورد أنباء الجريمة أشارت أصابع الاتهام على الفور إلى تواطؤ سلطة الحكم الذاتي في قطاع غزة ودورها سواء في إطلاق يد عملاء الشاباك ومطاردة المهندس والتضييق عليه وحتى التعاون المباشر مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في تنفيذ الجريمة. وقد ظهرت خيوط هذا التواطؤ فور وقوع الجريمة، وتأكد الدور الرئيسي للعميد موسى عرفات ومقسم الهاتف في مدينة غزة. ومع ذلك، نجد أنه من المهم أن حماس لم تكن لوحدها في كشف تواطؤ سلطة الحكم الذاتي في تنفيذ الكيان الصهيوني لجريمة اغتيال المهندس. فهناك أيضاً، الإدارة الأمريكية التي رعت مؤتمر السلام والمفاوضات بين قيادة ياسر عرفات والعدو الصهيوني. إذ نقلت صحيفة نيوزداي التي تصدر في لونج ايلاند نيويورك عن مسؤول بمكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) قوله: «إن إسرائيل لم تتمكن من تحديد مكان عياش الذي يُعرف بلقب المهندس لمهارته في صنع القنابل رغم عامين من البحث. ولكن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي رصدت في نهاية الأمر منزل زميل سابق لعياش في قطاع غزة حيث كان يختبىء أكثر الأشخاص الذين تطالب إسرائيل بالقبض عليهم»(25). وتضيف الصحيفة الأمريكية بأن متحدثاً إسرائيلياً امتنع عن التعقيب على التقرير الذي نشرته حيث قال يوري درومي، كبير المتحدثين الرسميين باسم الحكومة الإسرائيلية: «ربما يجب أن تسألوا السلطة الفلسطينية»(26).

السيف عدي
07-03-2008, 09:02 AM
رائع أنت يا صانع الشهداء، رائع في حياتك وأروع عند استشهادك. فها أنت تجمع فلسطين كلها في يوم عرسك الجميل. ففي الشهادة تماماً كما في الحياة، كنت رمزاً لعظمة الأمة بتضحياتها وانتصاراتها. وخاب ظن القتلة والمنهزمون، فقد تعطرت الأرض بفوح من دم يحيى المتفجر، لتدب سخية معطاء تشحن نبض المقاومة في عروق كل تلك الجماهير من المحيط إلى الخليج، فتسري في شرايينها وتجدد دماءها، وتعطيها نفحة الأمل والقوة وتشد من عزيمتها وإصرارها على مواصلة دعوة الجهاد بعد أن كاد طوفان شعارات المتصهينيين أن يغرقها.



ها هي الجماهير تخرج مودعة، معلنة بيعتها للمقاومة والتحاقها والتفافها حول الكتائب المجاهدة التي خرجت طارق وياسر وعدنان وعلي وكمال ويحيى الذين كشفوا عن القلوب الغمة، وعن العيون غشاوة رانت على الأبصار دهراً.



لم يمت المهندس إذن، بل بشهادته تفجرت نشوة الحياة من جديد في واقع كاد أن يموت، ولئن كانت فلسطين تعلم أن الرجل الذي طارد الشهادة مثلما كانت سلطات الاحتلال الصهيوني تطارده لا بد راحل نحو مقعد صدق عند مليك مقتدر، غير أن للفاجعة وقعها الأليم لا تخففه احتمالات وقوعها الأكيدة. فما أن أعلنت القناة العبرية في التلفزيون الإسرائيلي ومن ثم الإذاعة نبأ الاغتيال حتى اهتزت أرجاء فلسطين، ودبت قشعريرة وسرى شعور حزين، وحاولت القلوب الفزعة أن تكذب أو تشكك. واهتزت الكلمات في الحناجر حين أعلنت حماس: توقف عقل الفتى العاشق وسكنت نبضات قلبه. فبكى كل شيء في فلسطين حتى كاد طوفان الدمع أن يغرق شوارع غزة وحارات نابلس وطولكرم والخليل.



ومر ليل الجمعة الباكية ثقيلاً على الجبال والوديان والناس بينما سكنت الأمواج في انتظار حزين. وفي الصباح، تراكض الباحثون عن وطن نحو رافات يعانقون جدران منزل المهندس متوعدين بالثأر، ومؤمِّنين على دعاء أم يحيى: «قلبي وربي رضيانين عليك». وكم تمنى أولئك لو أنهم تشرفوا بتشيعه أو على الأقل مشاهدة وجهه أو ملامسة كفه، فيتعلمون كيف يضرب وكيف يصنع لنا الحياة.



الشعب كله صار أهل يحيى، وصار يحيى هو الشعب كله، فعظمة الشهادة والإنجاز، أبت أن يكون المهندس ابن رافات وحدها، ولا ابن حماس دون غيرها. فكما كان عمله وحياته لكل فلسطين -من بحرها لنهرها- جاء استشهاده ليملأ كل فلسطين بالأمل والرجاء، تماماً كالبرق ليست انطفاءته إلا ميلاداً للحياة. وهذا الكلام ليس عاطفة أو تحيزاً، فها هو الصحفي فايد أبوشمالة ينقل لنا المشاعر التي سادت، وقد كان من أوائل الذين ألقوا نظرة على جثة الشهيد بعد نقلها لمستشفى الشفاء. إذ يقول أبو شمالة: «لا أستطيع وصف تلك اللحظات التي اختلط فيها الحابل بالنابل وخرج الناس من هول الصدمة وفداحة الخطب إلى الشوارع وكلهم يأمل آلا يكون الخبر صحيحاً، وبالنسبة لي فقد تلقيت النبأ كالصدمة ولم أستطع تصديقه في الساعات الأولى والتي كان فيها الخبر في حكم الإشاعة، وخرجت لأتحقق من صحته بنفسي وتجولت في الشارع وتوجهت إلى بيت لاهيا وبدأنا نبحث مع زملائنا من الصحفيين ونحن كالمشدوهين وتملكتنا جميعاً مشاعر عصبية ولم أعد أطق أن أسمع أحداً يسأل إن كان الخبر صحيحاً. كنت في قرارة نفسي أشعر أن اغتياله ممكن، لكن كانت مشاعري ترفض التصديق وتتمنى آلا يكون ذلك صحيحاً وأن يخسأ أعداؤه الذين كانوا يفرحون لاستشهاده.. ورغم أن المؤكدات بدأت تتوالى والقصة بدأت تتضح إلا أنني بقيت أصارع الحقائق بمشاعر الرفض للتصديق(27).



التجاوب الشعبي المدهش الذي ولده استشهاد المهندس يؤكد أكثر من معنى ويشير إلى أكثر من دلالة: فهو أولاً- استفتاء عفوي بأن خيار الجهاد والمقاومة لا يزال في قلوب أبناء فلسطين. وثانياً، أثبت الشعب الفلسطيني بأن من يعطي فلسطين بإخلاص وأمانة كعماد عقل ويحيى عياش يجد صدى أفعاله لدى الجماهير مجسداً في مسيرة عماد ويحيى. وأما ثالثاً، فإن كرة اللهب البشرية التي اندفعت لوداع المهندس هي في إحدى صورها تعبير صريح عن حالة الغضب ومشاعر الاحتقان التي يكنها الفلسطينيون لعدوهم رغم كل الاتفاقات والترويج لحالة الصداقة الجديدة.



1- فلسطين تعلن الحداد العام



«لست وحدي التي تفاجأت باستشهاد يحيى عياش، ولكن جميع الشعب تفاجأ أيضاً باستشهاده، فالناس توقعوا أن يظل المهندس حي، ويسمعوا عن عملياته.. نحن لسنا وحدنا الذين خسرنا يحيى عياش، وإنما خسره كل شعب فلسطين لأنه أشفى غليل كل طفل ويتيم، ومسح دموع كل أرملة وكل أم فقدت ابناً أو زوجاً، وانتقم للأيتام، الجميع خسروه وبكوا عليه»(28).



بهذه العبارات أجابت هيام عياش (أم البراء) وزوجة المهندس واصفة مشاعرها وانطباعاتها عن جنازة الشهيد ومهرجانات التأبين الكبيرة التي جرت له. ولم تكن زوجة الشهيد وحدها تحمل هذه المشاعر، فها هي أم البطل، تتحدى مراسل صحيفة معاريف العبرية الذي زار القرية لمقابلة العائلة، فتقول له: «في كل يوم تقام ليحيى زفة، في كل أنحاء الضفة والقطاع ما زالوا يقيمون مهرجانات التأبين له. يحيى ابني رجل فريد من نوعه، إنني فخورة به، وأزداد فخراً عندما أرى أن كل الشعب الفلسطيني هو يحيى»(29).



ما أن علت مكبرات الصوت في مساجد الضفة الغربية وقطاع غزة بتلاوة بيان النعي والتمجيد بجهاد الشهيد القائد، ثم استمرار حماس في إذاعة نداءاتها حتى ساعة متأخرة من الليل، حتى صعد الآلاف من المواطنين -شيباً وشباباً- إلى أسطح المنازل للاستماع إلى آخر البيانات بعد أن وقع نبأ الاغتيال عليهم كالصاعقة وإن كان الجميع توقعوا هذه النهاية للمهندس. وبات الناس تلك الليلة ولا حديث لهم سوى اغتيال المهندس(30). ومع بزوغ الفجر، توجه الناس إلى أكشاك بيع الصحف والباعة المتجولين لشراء الصحف التي أبرزت على صدر صفحاتها صور الشهيد وتقارير موسعة عن جريمة استشهاده وردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسرائيلية والعالمية.وقد نفذت جميع نسخ الصحف في وقت مبكر من ذلك اليوم(31). ولوحظ خلو أوسع الصحف انتشاراً، وهي صحيفة القدس المقدسية من إعلانات التعزية باغتيال القائد القسامي بعد أن حظر الرقيب العسكري الإسرائيلي عليها نشر أية إعلانات رافضاً في الوقت نفسه أي حلول وسط كشطب بعض الكلمات والألفاظ(32).



ولثلاثة أيام، أعلنت الضفة الغربية وقطاع غزة الحداد العام، ورفعت الرايات السوداء، وأغلقت المحال التجارية أبوابها وخرجت الجماهير الغاضبة إلى الشوارع منادية بالثأر. وجرت مهرجانات التأبين والمسيرات الشعبية بمشاركة جميع القوى السياسية الفلسطينية وممثلين عن سلطة الحكم الذاتي. وعلقت الدراسة في الجامعات والمدارس، وأقيمت صلاة الغائب على روح الشهيد في العديد من المناطق، وبخاصة المدن الرئيسة(33).



ففي حين عم الإضراب الشامل مدينة القدس وضواحيها، وألصقت صور يحيى عياش في الشوارع، ووقعت صدامات ومواجهات عنيفة بين المتظاهرين وجنود الاحتلال، شهدت مدينة رام الله أيضاً إضراباً عاماً ومسيرة جماهيرية حاشدة في صباح يوم السبت، شارك فيها أكثر من (30) ألف رددوا الهتافات والشعارات الإسلامية والوطنية وأحرقوا الأعلام الإسرائيلية. وقد شارك في المسيرة إلى جانب حركة حماس، كافة الفصائل الفلسطينية ومحافظ المدينة وعدد كبير من قادة وكوادر القوى والأحزاب السياسية وضباط في الشرطة الفلسطينية حيث ألقيت كلمات باسم حركة فتح وحزب الشعب والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحركة الجهاد الإسلامي والكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، بالإضافة إلى كلمة حركة حماس ألقاها الشيخ حسن يوسف(34).



وعلى نفس الصعيد، انطلقت بعد صلاة ظهر يوم السبت مسيرة حاشدة من مسجد أريحا الجديد نحو مركز المدينة بمشاركة كافة الفصائل. وتجمهر أكثر من ألفي متظاهر أمام منصة البلدية حيث أشعلت النيران في أعلام إسرائيلية وألقيت العديد من الكلمات من قبل مختلف القوى السياسية(35). كما ساد الحداد والإضراب مختلف أنحاء مدينة نابلس، وأغلقت جميع المحلات في المدينة والضواحي أبوابها، وعمت المسيرات الشعبية مناطق عديدة، ندد المشاركون فيها بالإرهاب الصهيوني مطالبين بالثأر للشهيد. وواصلت مكبرات الصوت في مساجد المدينة بث آيات من القرآن الكريم وبيانات النعي داعية إلى التوجه إلى مقر جمعية التضامن الخيرية لتقديم التعازي باستشهاد المهندس للحركة الإسلامية. وأوقفت محطات التلفزة المحلية بالمدينة البث، واستعاضت عنه بإذاعة القرآن الكريم والأناشيد الإسلامية والوطنية وبيانات النعي، وبعضها بث فيلم عمر المختار. وفيما علق مجلس الطلبة في جامعة النجاح الوطنية الدراسة بالتنسيق مع إدارة الجامعة، انطلقت مسيرة كبرى ضمت ثلاثة آلاف في جنازة رمزية وهم يحملون تابوتاً عليه علم فلسطين، طافت شوارع نابلس مرددة الهتافات، والشعارات الإسلامية(36).



وما أن أعلن نبأ استشهاد المهندس، حتى خرج آلاف المواطنين من سكان محافظة طولكرم في مسيرة حاشدة جابت شوارع المدينة ومخيم طولكرم، ردد خلالها المتظاهرون الهتافات المؤيدة لحماس وكتائب الشهيد عز الدين القسام منددين بالكيان الصهيوني وبمفاوضات السلام، ومعاهدين الشهيد على مواصلة الجهاد حتى دحر الغزاة المحتلين. واتجه المتظاهرون نحو الشارع الرئيسي (طولكرم - نابلس) الذي يعتبر مسلكاً للدوريات الفلسطينية - الإسرائيلية المشتركة وأغلقوه لبعض الوقت، ومن ثم توجهوا نحو مركز المدينة حيث ألقى الشيخ محمود الحصري إمام مسجد الروضة كلمة نعى فيها الشهيد، مؤكداً أن الشعب الفلسطيني هو يحيى عياش. كما ألقيت كلمات باسم الجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية وحزب الشعب بالإضافة إلى محافظ مدينة طولكرم(37).



وفي مدينة قلقيلية المجاورة، عم الإضراب الشامل وانطلقت مسيرة من جانب بيت الشهيد أبو علي في وسط قلقيلية ضمت عشرات الآلاف من أبناء المدينة والقرى المحيطة في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم السبت. وشارك في المسيرة التي حملت جنازة رمزية للمهندس كافة المؤسسات الإسلامية والوطنية وأجهزة سلطة الحكم الذاتي ورافقتها فرق الكشافة حيث زُين النعش بالشعارات والأكاليل والبطاقات، وفتحت حركة حماس بيت عزاء للشهيد يحيى عياش في مقر الغرفة التجارية. وشهدت القرى المحيطة بمدينة قلقيلية مواجهة عنيفة بين المتظاهرين وقوات الاحتلال. ففي قرية حبلة التي تقع ضمن المنطقة (ج) حسب خطة إعادة الانتشار واتفاقية أوسلو، وقعت مواجهات بين حرس الحدود والمواطنين الفلسطينيين، فرضت أثرها سلطات الاحتلال نظام منع التجول على القرية(38).



أما مدينة خليل الرحمن، فقد أعلنت الإضراب الشامل حداداً على المهندس، وتعطلت حركة المواصلات العامة ولم ينتظم الطلاب في مدارسهم كالمعتاد. وغطت الشعارات التي تنعى الشهيد كافة أنحاء المدينة وجدران المنازل والمحلات التجارية، فيما علقت الأعلام السوداء فوق أسطح المباني. وأعلن نشطاء من حركة حماس، خلال استعراض عسكري قاموا به، حالة من الاستنفار العام في صفوف الحركة مؤكدين أن دم الشهيد لن يذهب هدراً(39).



وعلى غرار خليل الرحمن، عم الإضراب والحداد الشاملين مدينة بيت لحم والمناطق المجاورة لها، وشوهدت العديد من الشعارات التي تنعى الشهيد. وقد أكد العديد من المراقبين أن المدينة لم تشهد مثل هذا الإضراب في قوته والالتزام التام به من قبل جميع التجار والمواطنين منذ مدة طويلة(40).



وفي مدينة جنين، نظمت الفعاليات الوطنية والإسلامية مسيرات حاشدة تقدمتها جنازة رمزية وذلك يومي السبت والأحد. وطافت المسيرة الأولى التي شارك فيها حوالي عشرة آلاف مواطن شوارع وأحياء المدينة ومخيمها، حيث رفع المشاركون اللافتات والأعلام ورددوا الهتافات المنددة بالاحتلال وبعملية الاغتيال. وفي وسط المدينة، تحولت المسيرة إلى مهرجان جماهيري تحدث فيه الشيخ خالد سليمان والشيخ جمال عبد السلام وممثلين عن الجبهتين الشعبية والديمقراطية، أشادوا بالشهيد ومناقبه ودوره في مسيرة الجهاد وعاهدوه على التمسك بالقيم التي زرعها. كما انطلقت مسيرات شارك فيها مئات من الطلبة من مدارس جنين ومخيمها بعد أن أعلنت إدارات المدارس عن تعطيل الدراسة، وهتف المشاركون ضد الاحتلال وجريمته معلنين العهد والوفاء للمهندس. وافتتحت القوى والفصائل الوطنية والإسلامية ولجنة بلدية جنين بيت عزاء في قاعة البلدية لمدة يومين حيث أمته وفود تمثل الفعاليات والمؤسسات المختلفة(41).



وفي قطاع غزة، عم الإضراب الشامل وتوقفت جميع النشاطات فيما أخذت المساجد تذيع آيات القرآن الكريم، وعلقت الجامعة الإسلامية الدراسة، ونظم مجلس الطلبة مهرجاناً خطابياً شارك فيه ممثلون عن كافة الكتل الطلابية. وقال الصحافي علاء الدين أسعد صفطاوي واصفاً المشاعر التي سادت القطاع: «إن الشارع الفلسطيني أصيب بصدمة عنيفة إزاء نباء استشهاد الجنرال الإسلامي يحيى عياش. ليس هيناً على شعبنا أن يتقبل بصمت استشهاد هذا البطل. فهو شخصية وطنية كبيرة وليس رجلاً عادياً»(42).



ولم تكن الحركة الوطنية والإسلامية الأسيرة في سجون الاحتلال الصهيوني بعيدة عن التأثر بهذا الحدث الجلل. فقد اندفع المعتقلون في كافة السجون، وفور سماعهم لنبأ الجريمة، إلى الساحات العامة منظمين التظاهرات والمسيرات التي نددت بالاحتلال وأعوانه معربين عن سخطهم وغضبهم الشديد. ورفض أسرى الحرية الانصياع لتعليمات إدارة السجون التي أعلنت الاستنفار وفرضت حظر التجول على معتقل النقب بعدما هاجم الأسرى أبراج المراقبة العسكرية ورشقوها بأدواتهم وأغراضهم. كما قرر المعتقلون والأسرى، إعلان الحداد والإضراب عن الزيارات لمدة أسبوع، ورفعوا الرايات السوداء، ونظموا مهرجانات تأبينية حاشدة شاركت فيها كافة القوى(43).



لقد أظهرت جريمة اغتيال المهندس إجماع جميع شرائح المجتمع الفلسطيني وقواه السياسية في النظر نحو يحيى عياش بأنه يستحق بحق التمجيد والافتخار. فقد تابع المواطنون نشرات الأخبار عبر الإذاعات والتلفاز بغية الحصول على آخر مستجدات الجريمة. ووزع نشطاء حركة حماس ملصقات وصور حديثة للشهيد، فيما قام أصحاب المحلات التجارية والمواطنون بإلصاقها على مداخل محلاتهم وفي صدر منازلهم. كما أدى المواطنون صلاة الغائب في غالبية مساجد الضفة الغربية ترحماً على روح المهندس، فيما دعا الوعاظ والعلماء المسلمين إلى التوجه إلى قرية رافات وبيوت العزاء في المدن للتعبير عن تضامن الشعب مع أسرة الشهيد. وتقول إحدى عائلات مدينة نابلس، بأن نجليها (6 و4 سنوات) رفضا تناول الطعام يوم السبت تأثراً وحزناً، وبقيا أمام شاشة التلفاز لمشاهدة أحداث جنازة المهندس(44).



2- شد الرحال إلى قرية رافات



خيمت حالة من الحزن والذهول على قرية رافات، مسقط رأس الشهيد القائد، واكتظت بممثلي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية ومصوري شبكات التلفزة، بينما توجه الآلاف من المواطنين إلى منزل المهندس فور إذاعة أنباء جريمة الاغتيال. فقد هرع سكان القرية في أسى وألم إلى منزل الشيخ عبد اللطيف، وجلس الرجال في إحدى الغرف والنساء في غرفة أخرى في جو لفه الحزن والحداد، وكانوا يستمعون إلى الإذاعة كل دقيقة على أمل أن يعرفوا شيئاً عن تفاصيل الاغتيال(45).



وجاءت أنباء استشهاد المهندس في الوقت الذي كان فيه أفراد الأسرة يحتفلون مع أبناء القرية بالإفراج عن مرعي عياش بكفالة مالية مقدارها 3500 شيكل حيث خرج يوم الخميس الموافق 4/1/1996 بعد اعتقال دام ثلاثة شهور وعشرة أيام في معتقل مجدو بتهمة إجراء اتصالات مع شقيقه(46).



ولذلك، وجد الصحفيون صعوبة بالغة في إجراء مقابلات مع أقرباء الشهيد لتأثرهم بشخصية المهندس، حتى أن صحفياً أمريكياً بكى أثناء مقابلته والدة الشهيد، بينما أبدى صحفي أجنبي آخر تعاطفه مع أفراد العائلة. وأبلغ مصور شبكة تلفزيون عالمية الشيخ عبد اللطيف إنه كان يتمنى الالتقاء بيحيى والتعرف عليه عن قرب «فلقد كان عياش أسطورة عالمية» على حد تعبيره. ورد أبو يحيى، وهو يتمالك نفسه: «إن كان يحيى قد مات، فهذه ليست النهاية، فهو ليس سوى واحد من آلاف الفلسطينيين للمضي على الدرب نفسه». وأضاف الشيخ الصابر: «لقد تمنيت الشهادة لابني كي يذهب إلى الجنة. مات يحيى ولكن فلسطين وشعبها لن يموتا»(47).



أما والدة المهندس التي سقطت مغشياً عليها من أثر الصدمة فور سماعها نبأ الجريمة، فقد احتبست دموعها بعد أن عادت إلى هدوئها وطلبت من زوار المنزل عدم البكاء على يحيى، قائلة لهم بصوت وعبارات واضحة: «أرجو الله أن تكون الجنة مثواه، يحيى شهيد، والشهداء لا يبكى عليهم أحد»(48). ولكن يونس، الشقيق الأصغر للمهندس، لم يستطع حبس الدموع في عينيه وهو يسمع عبارات والدته، وبرر ذلك بقوله: «شعوري مزيج من الفرحة والحزن، الفرحة لأن يحيى دخل الجنة، والحزن لأن الفلسطينيين فقدوا واحداً من أبطالهم»(49).



ويضيف يونس: «إنه قطعة من قلبي، فهل يستطيع الإنسان العيش دون قلبه»(50).



أما رافات، القرية، فقد وصفها أحد الصحافيين الأجانب في تقرير كتبه: «عندما تدخل قرية رافات الصغيرة ستجد أنها هذه المرة قد اختلفت عما قبل، في شكلها وفي سحنات وجوه أهلها.. فجدرانها تغص بصورة المهندس حتى لم تدع حائطاً ولا عمود كهرباء إلا وتربعت صورة المهندس عليه. والجدران تراكمت عليها الشعارات، شيء كتب بالأحمر وآخر بالأزرق، حتى تظن أن جدران رافات عبارة عن سبورة لأطفال المدرسة الابتدائية. وعندما تتجول في أزقة القرية ترى الأطفال ينظرون إليك ويشيرون بإصبعهم إلى صورة المهندس ليلفتوا نظرك إليها. أحد الأطفال الصغار اقترب مني وقال: أتمنى أن أكون مثله، وطفل آخر قال لي أن أمه بكت كثيراً في البيت عندما سمعت نبأ استشهاد المهندس.

كان اسم يحيى يتردد على كل لسان وفي كل مجلس، وكما يقول الحاج سعد الدين: «إن يحيى هو ابن القرية لقد افتخرنا به جميعاً، لقد رفع رؤوسنا». وأما السيد محمد سعيد فيقول: «إن خبر استشهاد يحيى كان كالزلزال في القرية، لا تجد أحداً إلا وهو يبكي عليه حتى أن بعض النساء أخذن يصرخن عليه بصوت عال حتى اضطررنا لإسكاتهن». ويضيف السيد محمد سعيد: «إن يحيى كان محبوباً في قريتنا لقد كان معروفاً عنه الأدب والحياء». ويقول الطالب يوسف (18 عاماً): «إن يحيى أصبح مثالاً لطلاب كثيرين، وقد أصبحوا يلصقون صورته على حقائبهم وكراساتهم وخصص بعض المعلمين في المدرسة حصة من حصصهم للحديث مع الطلاب حول المهندس». وفي المدارس التي درس فيها يحيى كانت صوره تملأ الجدران واسمه كتب بالخط العريض على طول الجدار يحيى.. لن ننساك مهندس الأجيال يحيى الشهيد الحي»(51).



الجيش الإسرائيلي أعلن حالة التأهب القصوى في صفوف قواته العاملة في الضفة الغربية وكثف من تواجده حول رافات والقرى المجاورة، ونصب الحواجز العسكرية الثابتة على مدخل القرية. ولكن الوفود المعزية بالشهيد التي تدفقت مستخدمة الحافلات والسيارات الخصوصية وبعضها مشياً على الأقدام استمرت بالتدفق على بيت الشيخ عبد اللطيف طوال ساعات النهار وحتى ساعات متأخرة من الليل(52).



وكان لهذا التجاوب الشعبي أثره العميق على عائلة المهندس، إذ أن بيت المهندس لم يخلو من الزائرين الذين وفدوا من كل فج وصوب، فمن نابلس والخليل وأريحا وحتى من مدن فلسطين المحتلة منذ عام 1948. ولم يبق أحد من الناس سواء من رؤساء البلديات، والوجهاء، أو المخاتير إلا وأم البيت يعزي بالمهندس البطل. ويقول أحد الزائرين من مدينة أريحا : «لقد جئت إلى هنا لأن يحيى هو ابن الشعب الفلسطيني، إن المدن الفلسطينية جميعاً حزنت على يحيى». ويضيف مواطن آخر جاء من رام الله: «إن حضورنا للتعزية في هذا البطل هو واجب»(53).



ويصف لنا الحاج ساطي عياش (90 عاماً)، جد الشهيد القائد، الذي توسط جلسة العزاء، مشاعره والآثار التي خلفتها تلك الوفود فيقول: «يا ليتنا خلفنا خمسين مثل أبو البراء، يحيى إنسان مؤمن وحافظ للقرآن، والذين قتلوه لا يحبون السلام»(54). وكما قال أحد جيرانه: «إن اسم رافات لم يظهر إلى العالم إلا بعد بروز اسم يحيى. إنه يمثل لنا تاريخاً مشرقاً، إنه حقاً رمز لهذا الشعب وليس من رمز آخر يضاهيه»(55). وأما مرعي -شقيق المهندس- الذي لم يتوقف عن مصافحة الناس طوال تلك الفترة، فقد رفع ذلك من عزيمته ومعنوياته حيث صرح: «أرادوا تحطيم معنوياتنا بحرماننا من وداعه، لكنها مرتفعة مثل الجبل الذي تقع عليه القرية»(56).



ولعل أشمل ما يؤرخ لما شهدته قرية رافات أثر استشهاد المهندس، ما كتبه عطا عياش -عم المهندس- الذي يقيم في الأردن بعد زيارته للقرية، إذ يقول: «وصلت إلى قرية رافات بعد يومين من استشهاد يحيى عياش وتوجهت نحو بيت والده، فوجدت الجموع الحاشدة والمئات من الرجال والنساء ما بين رائح وغاد.. سيارات تنزل حمولتها وسيارات تنقل العائدين من تقديم واجب العزاء.



جميع رجال القرية كانوا متواجدين، صافحتهم كأي واحد من غير أبناء القرية ولم ينتبه لي إلا عدد قليل منهم بسبب كثرة القادمين. وصافحت والدي الذي لم أره منذ سنوات. وصافحت اخوتي أعمام الشهيد وأولاد أخي أشقاء الشهيد، كانت لحظات لا تُنسى اختلطت فيها مشاعر الشوق بمشاعر الحزن ومشاعر الفخر.



وكفكفت دموعي وتمالكت قدر استطاعتي، وتلوت قول الله تعالى على مسامع الحاضرين (^إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن). في اليوم التالي، ومنذ الصباح الباكر أخذت الجموع تتوافد من القرى والمدن والمدارس والجامعات. وكان الجميع يهتف: «كلنا يحيى عياش» و«الله أكبر ولله الحمد»... الوفود تتوالى وكل وفد يضم عدداً كبيراً من الناس بلغ أحياناً أكثر من خمسمائة، ويحرص كل قادم على مصافحة آل الشهيد ولسان حال الجميع جملة واحدة «يحيى ليس ابنكم وحدكم، بل هو ابن الشعب الفلسطيني وابن الأمة الإسلامية». ويقف المتحدثون والخطباء ليذكروا الشهيد بما هو له أهل وكانت أجهزة تكبير الصوت تنقل الكلمات إلى أبعد مدى. وقد غطت محطات التلفزة المحلية التي تبث داخل الضفة الغربية بعض هذه الكلمات والزيارات، وكانت الأغاني الحماسية والأناشيد الإسلامية تصدح من حين لآخر.



ومن الوفود التي تركت زيارتها لآل الشهيد الأثر الكبير وفد مدينة خليل الرحمن الذي ضم أكثر من (350) شخصاً تمكنوا من الوصول من أصل (1000) شخص.



وإن نسيت فلن أنسى لحظة وصول والد الشهيد قادماً من غزة بصحبة والدته وأفراد أسرته بعد المشاركة في تشييع جثمان الشهيد، هتاف «الله أكبر» شق عنان السماء، ثم خنقت الجميع العبرات وانهمرت القبلات على رأس والد الشهيد.



وأخذ والد الشهيد يشرح بعض ما رأى وما سمع في غزة، وكان مما قال: إن عدد من خرج في جنازة الشهيد يقارب نصف مليون، كل أبناء قطاع غزة خرجوا. وبلغ طول الجنازة (12) كم. ولم أجد تفسيراً لخروج هذه الجموع الحاشدة إلا أن الله قد أحب هذا الشهيد فألقى محبته في قلوب أهل الأرض والسماء»(57).



3- أضخم جنازة في تاريخ فلسطين



ودع الشعب الفلسطيني جثمان الشهيد يحيى عياش باحتفال يليق بالأبطال، ولو قدر لأهلنا في الضفة الغربية وفي الشتات المشاركة، لفاق عدد المشاركين المليون. ورغم ذلك، خرج قطاع غزة من أقصى الجنوب في رفح وحتى أقصى الشمال في بيت حانون برجالهم ونسائهم، وشيبهم وشبابهم، وبأطفالهم وفتياتهم، ليودعوا المهندس الذي أرق على مدى السنوات الأربع الأخيرة مضاجع المؤسسة السياسية والأمنية في الكيان الصهيوني. وقدرت وسائل الإعلام عدد المشاركين بأربعمائة ألف شخص، في حين ذكرت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي أن عدد المشيعين بلغ ثلاثمائة ألف شخص(58). ورغم هذا الفارق في التقدير إلا أنه يبقى أكبر موكب تشييع شهدته فلسطين، إذ استغرقت مسيرة الموكب أكثر من أربع ساعات، وحين وصل الجثمان مقبرة شهداء الانتفاضة، كان آخر موكب التشييع ما زال عند مسجد فلسطين على بعد عشرة كيلو مترات(59).



استيقظ قطاع غزة في صباح السبت الموافق 6/1/1996 على مكبرات الصوت في المساجد وهي ترتل آيات القرآن الكريم، ولم يبق مسجد أو مصلى إلا وصدحت فيه آيات الذكر الحكيم. وفي الساعة العاشرة والنصف، بدأت الجموع تتوافد إلى مسجد فلسطين -أكبر مساجد غزة. وغصت باحة المسجد والساحة التي حولها بالآلاف عند اقتراب عقارب الساعة من الحادية عشرة، ولم يتسع المسجد والمنطقة لكل المشيعين الذين اضطر عدد كبير منهم للصلاة في الشارع. وأقبلت مظاهرة ضخمة بلغ تعدادها حوالي خمسة آلاف طالب سارت من الجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر إلى مسجد فلسطين، ثم أقبلت مظاهرة أخرى من جهة مخيم جباليا وبيت لاهيا وشمال قطاع غزة ترفع اللافتات وصور المهندس، وحمل المتظاهرون أعلاماً خضراء ورايات سوداء إلى جانب الأعلام الفلسطينية وأكاليل الزهور(60). وكان مجلس طلبة الجامعة الإسلامية قد نظم في وقت سابق مهرجاناً خطابياً في الجامعة أحرق خلاله الطلاب أعلاماً إسرائيلية وهتفوا «الانتقام.. الانتقام يا كتائب القسام» داعين الجهاز العسكري لحركة حماس إلى «الانتقام بأسرع وقت لدماء يحيى عياش»، ثم انتظموا في مسيرة نحو مسجد فلسطين(61).



وهكذا بدأت المنطقة تمتلىء شيئاً فشيئاً حتى لم يعد هناك موطىء لقدم، مما اضطر العاملون في شبكات الإعلام والتلفزة العالمية إلى التناثر بين الجموع وهم يحركون آلات التصوير والأقلام بصعوبة بالغة لتسجيل أقوال الذين تجمعوا لوداع المهندس. وشقت دراجتان ناريتان تصاحبهما سيارة شرطة تابعة لسلطة الحكم الذاتي وتتبعهما سيارة إسعاف طريقها وسط الجموع الغفيرة. وما أن وقفت سيارة الإسعاف التي أقلت جثمان الشهيد، حتى هجمت عليها الجموع بعدما رأت النعش داخلها، وتعالت الهتافات: «الله أكبر.. الله أكبر» و«كلنا يحيى عياش.. كلنا يحيى عياش» و«لا تفرح يا بيريز كلنا يحيى عياش» و«الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا». وبصعوبة بالغة وشديدة أُخرج النعش من السيارة وأُدخل إلى المسجد، وتزاحمت عليه الجموع التي وقفت في ذهول شديد، فالبعض جلس على الأرض وأخذ يبكي بحرارة، والبعض أخذ يصرخ «الانتقام.. الانتقام يا كتائب القسام» و«فرحتك لن تكتمل يا بيريز». وألقيت المنشورات التي تحمل توقيع كتائب عز الدين القسام بالإضافة إلى صور الشهيد القائد من سطح المسجد، ثم جاء عدد من مجاهدي الكتائب وأخذوا يطلقون النار بغزارة، فاهتاجت الجماهير وأخذت تهتف «تحية لكتائب عز الدين»(62).



وكثر الهرج والمرج داخل المسجد، فقد تدافع المئات حول نعش المهندس، كلهم يريد أن يلقي النظرة الأخيرة على الشهيد، ولم تنفع محاولات الشيخ محسن أبو عيطة والدكتور محمود الزهار اللذين كانا على المنبر، وقد بح صوتهما وهما يناديان الجموع الغفيرة أن تبتعد عن النعش، ولكن أحداً لم يسمع، وكأنهم لم يصدقوا أن هذا المسجى أمامهم هو المهندس الذي دوخ دولة بأكملها. وتسببت حالة الإرباك والفوضى في تأخير صلاة الظهر أكثر من مرة. ولم يستطع القائمون على شؤون الجنازة السيطرة على الوضع إلا بعدما أعلن الشيخ محسن أبو عيطة بأن والد المهندس قد وصل من الضفة الغربية. فاندفع المئات نحو الشيخ عبد اللطيف عياش، وحملوه على الأكتاف، وداروا به حول المسجد وهم يهتفون: «كلنا يحيى عياش». ومن كتف إلى آخر، نقلت الجماهير والد المهندس وأدخلته إلى المسجد. وبعد معاناة شديدة، أقيمت صلاة الظهر ثم صلاة الجنازة على الشهيد(63).



دقيقة صمت سادت بعد الصلاة على الشهيد، ترقرقت فيها عيون الرجال والنساء بالدموع، وشوهد أحد رجال الشرطة الفلسطينية ممسكاً بمنديله وهو يبكي، وكان يقول: «كيف لا نبكي على مثل هؤلاء الأبطال». ولم تلبث هذه الأجواء المفعمة بالحزن والبكاء أن شحنت بالحماس حين أخرج الشباب نعش المهندس إلى شاحنة كبيرة لنقله إلى مقبرة الأوقاف الإسلامية (شهداء الانتفاضة) الواقعة إلى الشرق من حي الشجاعية بمدينة غزة. فقد انطلق مئات الألوف وراء الجثمان وهم ينشدون «اليوم يوم الغضب والثورة نار ولهب» وأخذ موكب الجنازة تتقدمه سيارات شرطة وقادة حركة حماس وممثلون عن كافة الفصائل والتيارات السياسية في قطاع غزة ومسؤولين من سلطة الحكم الذاتي، يشق طريقه ببطء شديد نتيجة الحشود البشرية غير المعهودة التي حرصت على المشاركة في زف الشهيد إلى مثواه الأخير، رغم المسافة الطويلة التي قطعتها مشياً على الأقدام. فقد امتلأت الشوارع والطرقات والأزقة وأسطح المنازل والشرفات، ولم يعد هناك شارع واحد يمكن المرور فيه، والكل كان يبكي -رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً- وهم يرددون الهتافات والتكبيرات التي تعكس المشاعر الغاضبة والساخطة. ولأكثر من أربع ساعات، لم يستطع الموكب أن يصل إلى المقبرة، وإن كان قد استطاع أن يصل إلى شارع الوحدة -النصر مروراً بشارع عمر المختار الذي يعد أكبر شوارع قطاع غزة(64).



وعند نهاية شارع الوحدة، التفت الجماهير حول سيارة وفدت من أحد الشوارع الفرعية كانت تضم خمسة من قادة كتائب عز الدين القسام. واندفعت الجماهير تحمل المجاهدين الخمسة على الأكتاف باتجاه الشاحنة حيث قام المجاهدون بإطلاق النار تحية للمهندس. ثم حمل الشباب براء يحيى عياش على الأكتاف، ووضعوا بين يديه بندقية وساعدوه في الضغط على الزناد، بينما رددت الجماهير على الفور «الله أكبر»(65).



اقترب موعد صلاة المغرب، ولم تتمكن الشاحنة التي أقلت جثمان الشهيد من الوصول إلى المقبرة من كثرة حشود المشيعين، فاضطر أحباب المهندس إلى حمل الجثمان على الأكتاف. وعندئذ، اندفعت آلاف الأيدي تريد أن تنال شرف وثواب حمل جثمان الشهيد، وأدى كثرة المتزاحمين إلى تهلهل التابوت وتفكك عراه. وبعد جهد، وعناء شديدين تمكن المشرفون على الجنازة من إدخال الجثمان إلى المقبرة حيث اصطفت ثلة من الشرطة الفلسطينية، أطلق أفرادها (21) طلقة ثم قاموا بأداء التحية العسكرية للشهيد القائد. وقبل مواراة جثمان المهندس الثرى في مثواه الأخير، رفعت الجماهير وهي تهلل وتكبر وتصرخ بالثأر، الشيخ عبد اللطيف على الأكتاف وأوصلته إلى الجثمان، لإلقاء النظرة الأخيرة عليه وتوديعه. كما وضعت الوالدة الصابرة أم يحيى القبلة الأخيرة على جبين المهندس، مما أثار حماس الجماهير، فأخذت تهتف في سماء غزة «الله أكبر.. الله أكبر.. يحيى لن يموت.. يحيى لن يموت». وأطلق القساميون زخات كثيفة من الرصاص عند إنزال الجثمان للقبر، وعندئذ صدح عريف الموكب: «إن مرشحنا هو يحيى عياش، وإننا نفتح باب الترشيح لمن أراد أن يخلف المجاهد الشهيد يحيى عياش». فانطلقت آلاف الألسن تهتف: «نبايع على الشهادة.. نبايع على الموت في سبيل الله»(66).



وعادت الجماهير إلى حمل والد المهندس على الأكتاف وأوصلته إلى شاحنة كبيرة ثبت عليها مكبرات للصوت. وخاطب أبو يحيى مئات الآلاف من المشيعين قائلاً: «يا أهل غزة هاشم نحييكم ونشكركم على هذه المسيرة.. الشهيد ابنكم، منكم وإليكم.. ضحى من أجلكم وأجل وطنه الغالي، وهذا هو يحيى مات في أرضكم... هنيئاً لكم يحيى.. كلكم أبنائي وكلكم يحيى.. الله أكبر ولله الحمد.. إن يحيى ليس ابني لوحدي، فهو ابن كتائب عز الدين القسام». وأما والدة المهندس، فقد بادرت الجماهير بالزغاريد مرددة: «كلكم يحيى، كلكم أبنائي.. الله يحميكم ويحمي جميع الشباب.. يحيى أغاظ في حياته اليهود، وليس هناك ما هو أجمل من الشهادة»، ثم رفعت أم يحيى يدها ودعت قبل أن يغمى عليها بسبب الإجهاد والحزن: «الله يرضى عليك يا يحيى يا ابني.. أقبل يحيى شهيد يا رب.. الله يرضى عليك يا يحيى مع الشهداء.. جميعكم يحيى عياش»(67).



بآيات من الذكر الحكيم تلاها المقرىء الشيخ بسام الصيفي، ابتدأ كلمات التأبين حيث كان جمال زقوت -أمين سر حركة فدا- أول المتحدثين، ثم ألقى الشيخ نافذ عزام، أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي كلمة تبعه الشيخ أحمد بحر، فالشيخ محمد طه وأخيراً ألقى الدكتور محمود الزهار كلمة باسم حركة حماس(68).



4- مهرجانات عزاء وتأبين في كل مدينة



ما حصل خلال الساعات الأربع أو الخمس، وهي الفترة الزمنية التي استغرقتها زفة الشهيد يحيى عياش من مسجد فلسطين وحتى مواراة جثمانه الطاهر في مقبرة الشهداء، من أمور وأحداث ومشاهدات لا يمكن لعدسة آلة التصوير أن تسجلها بدقة. فلئن سجل شريط الفيديو كيف كانت أمواج البشر تتقاذف النعش قبل أن يوارى الثرى، وكيف كان الشباب يتسابق ليلقي نظرة على جثمان الشهيد أو لمس النعش على الأقل، إلا أن الأشرطة لم تلاحظ عياناً كيف يكرم الله الشهداء وذويهم في الدنيا قبل الآخرة. ففي غزة، وكما يُحدث والد الشهيد، كان يحرص كثير من الناس على تقبيل يده، ولما كان يمتنع أو يرفض ذلك يقسمون عليه أنه إذا لم يقبلوا يده فسيقبلون قدمه. وفي نابلس، تجمع أكثر من ثمانين ألفاً من أبناء فلسطين في أكبر ميادين جبل النار ليشاركوا في تأبين المهندس، والسعيدة من النساء من كانت تلمس كتف والدة الشهيد أو تلقي نظرة على وجهها من بعيد لأنها لم تتمكن من مصافحتها. وعندما كان والد الشهيد يقف ملوحاً بيديه لتحية الجماهير، تنطلق الهتافات تهز الجبال «الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد كلنا يحيى عياش»(69).



وفي الضفة الغربية، قدم عشرات الآلاف واجب العزاء لقادة الحركة الإسلامية هناك. ففي جنين، افتتح بيت عزاء بمبنى البلدية حيث أمه العديد من الوفود الشعبية والنقابية. وافتتح في قاعة الغرفة التجارية الصناعية في مدينة رام الله بيت عزاء آخر، أمه أعداد كبيرة من المواطنين والعديد من ممثلي الفصائل والمؤسسات ووفد من العلماء المسلمين ورجال الدين المسيحي ومجموعة من كبار الضباط والمسؤولين في سلطة الحكم الذاتي. كما قام الآلاف بتقديم واجب العزاء والمواساة لشقيقي المهندس وأعمامه في قرية رافات، وزارت وفود طلابية وأكاديمية منزل الشهيد، وقدموا لذويه التعازي نيابة عن المجالس الأكاديمية والهيئات الإدارية ومجالس الطلبة وكافة العاملين(70).



وما أن انتهت أيام الحداد الثلاث، حتى بادرت المدن الفلسطينية إلى تنظيم مهرجانات التأبين التي جذبت عشرات الآلاف من عشاق المهندس وحماس، وكانت البداية في ساحة المهد بمدينة بيت لحم. فقد شهدت الساحة، احتفالاً تأبينياً حضره آلاف المواطنين، وشاركت فيه سلطة الحكم الذاتي بمختلف أجهزتها، وألقيت خلال المهرجان الذي نظم مساء يوم الثلاثاء الموافق 9/1/،1996 عدة كلمات من بينها كلمة الحركة الإسلامية ألقاها الشيخ غسان هرماس تبعه العميد أبو خالد اللحام، مستشار ياسر عرفات، ثم كلمات أخرى مثلت عدداً من القوى الفلسطينية مثل حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية. كما نظم النادي الثقافي في جامعة بيت لحم حفلاً تأبينياً آخر يوم الأحد الموافق 11/2/،1996 حضره حشد كبير من طلبة الجامعة والفعاليات الوطنية والإسلامية ورجال الدين الإسلامي والمسيحي إضافة إلى والد الشهيد ووالدته وشقيقه وزوجته وابنه براء. وقد تخلل الاحتفال العديد من الأناشيد والعروض الرياضية، واختتم بتكريم عائلة الشهيد من خلال تقديم الهدايا الرمزية(71).



وفي حفل التأبين الذي نظمته الحركة الإسلامية في لواء سلفيت عقب الجنازة المهيبة للمهندس في قطاع غزة، شهدت قرية رافات تجمعاً حاشداً فاق الثلاثة آلاف مشارك، على الرغم من الحواجز المكثفة للجيش الإسرائيلي في محيط القرية والقرى المجاورة والتي منعت مئات السيارات من الوصول إلى رافات واحتجزت اثني عشر حافلة كبيرة وفدت من عدة مدن فلسطينية. ولأن المكان المعد للمهرجان لم يتسع للحضور، فقد اضطر العشرات للصعود على أسطح المنازل وسطح المسجد. وقد بدأ المهرجان في نحو الساعة (45:12) من بعد ظهر يوم الثلاثاء الموافق 9/1/،1996 بوقوف الحضور وتقديمهم التحية العسكرية للشهيد القائد ثم هتف المشاركون بالتحية للشيخ أحمد ياسين والشيخ عز الدين القسام. ووزع أهالي القرية كميات كبيرة من التمر على الحضور، بينما حمل مئات الأطفال والشباب صور المهندس ولوحوا بها وشاركهم العشرات من كبار السن والعجائز بالتلويح بالحطة والعقال. وبعد كلمتي الحركة الإسلامية وعائلة الشهيد اللتين ألقاهما الشيخ ماهر الخراز وعم المهندس، تم ذبح كبشين (عقيقة) عن المولود الجديد -يحيى الصغير ثم جرت مسيرة كبيرة طافت شوارع القرية وهي ترفع الأعلام والرايات وصور المهندس وانتهت إلى بيت الشهيد.وكان عبد الحميد عاصي -شقيق الشهيد علي عاصي- بين شقيقي المهندس طوال فترة المهرجان (72).



عند عودة والد ووالدة المهندس برفقة زوجته وطفلاه من قطاع غزة، كان في انتظارهم استقبال حاشد من الجمهور الفلسطيني كله حفاوة واحترام شارك فيه المئات. ورغم دلائل الإنهاك والتعب الشديد على وجه العجوزين، إلا أنهما لم يمكثا لوحدهما على الإطلاق، حتى بعد انتهاء أيام الحداد السبع التقليدية. ولفترة طويلة، استقبلت أسرة المهندس مئات المعزين الوافدين من مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة(73). وفي عيد الفطر، وهو العيد الأول بعد استشهاد المهندس، تدفقت الوفود من كل مدن وقرى الضفة الغربية لزيارة بيت المهندس في وقفه تضامنية مما كان له أبلغ الأثر في التخفيف عن آل عياش. وتسابق الزوار على حمل البراء، نجل المهندس، وأخذ الصور التذكارية معه. ويقول يونس، الشقيق الأصغر ليحيى، أن هذا العيد هو الأول الذي يكون فيه وشقيقه مرعي خارج السجن منذ مطاردة العدو للمهندس. ويضيف يونس بأنه لم يتمكن من الخروج من بيت العائلة بسبب كثافة الوفود الزائرة(74).



ولئن تحولت مدينة خليل الرحمن إلى ثكنة عسكرية لكثرة عدد الجنود الذين يجوبون شوارعها والحواجز العسكرية التي أقيمت عند مفترقات الطرق مما حال دون تنظيم أي نشاط جماهيري تكريماً للمهندس الذي مسح دموع أيتام الحرم الإبراهيمي، إلا أن الحركة الإسلامية في بلدتي دورا وبني نعيم نظمتا مهرجاني تأبين. فقد اشترك ما يزيد على سبعة آلاف فلسطيني في مسيرة احتجاجية طافت معظم الشوارع في دورا، لتستقر بعد ذلك أمام مسجد دورا الكبير حيث افتتح الشيخ نايف الرجوب المهرجان التأبيني للشهيد. وكانت كلمة حركة (حماس) للشيخ فتحي عمرو الذي تحدث عن كرامات الشهيد ثم تحدث أحد ضباط شرطة الحكم الذاتي في البلدة حيث وجه التحية إلى الحركة الإسلامية وأبطالها. وبعد كلمة بلدية دورا، تحدث مندوب عن حركة الجهاد الإسلامي ومندوب عن الجبهة الشعبية ومندوب عن حركة فتح. وأختتم المهرجان بكلمة حركة حماس في بلدة دورا ثم كلمة الحركة الإسلامية في مدينة الخليل. وأما المهرجان التأبيني والمسيرة الحاشدة التي نظمتها الحركة الإسلامية في بلدة بني نعيم، فقد ضمت ثلاثة آلاف مواطن، وشاركت أيضاً جميع الاتجاهات السياسية في إلقاء الكلمات التأبينية(75).



وفي وسط مدينة نابلس، وبحضور عائلة المهندس وممثلي الفصائل والمؤسسات الفلسطينية، شارك نحو ثمانين ألف مواطن في المهرجان التأبيني المركزي الذي نظمته حركة (حماس) في نابلس ومخيماتها وقراها. وابتدأ المهرجان بمظاهرة حاشدة سارت في شوارع المدينة وهي تحمل نعشاً فارغاً تعبيراً عن السخط والغضب لعدم المشاركة في وداع الابن البار لفلسطين. وقد حمل المتظاهرون أيضاً، براء يحيى عياش على أكتافهم، وخلال الكلمات التي ألقاها ممثل الحركة الإسلامية في نابلس ومندوبي الفصائل والاتجاهات السياسية، بثت كلمة المهندس إبراهيم غوشة -الناطق الرسمي لحركة حماس- عبر الهاتف من عمان بالأردن(76).



وبمناسبة مرور أربعين يوماً على استشهاد المهندس وتكريماً لشهداء جنين - علان أبو عرة وعبد الرحيم جرادات وطارق منصور- نظمت الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح الوطنية بنابلس مهرجان (عرس الشهداء) حضره عشرة آلاف شخص بالإضافة إلى عائلة يحيى عياش وذوي الشهداء الثلاثة. وافتتح المهرجان الذي جرى على أرض الجامعة يوم السبت الموافق 10/2/1996 بتلاوة عطرة من القرآن الكريم تلاه الاستعراض والكشافة الذين رفعوا الأعلام والرايات وصور شهداء كتائب القسام ثم ألقى الشيخ ماهر خراز كلمة تحدث فيها عن كرامة الشهداء عند الله مطالباً بوضع اسم المهندس فوق جميع كليات الهندسة في الجامعات الفلسطينية. وجدد جمال منصور في كلمته معارضة حماس للاتفاقيات والانتخابات، وندد بمقتل عناصر حركة الجهاد الإسلامي في غزة الأسبوع الماضي على يد الشرطة الفلسطينية.وبعد كلمة شقيق الشهيد علان أبو عرة، قام الشيخ جمال سليم بتوزيع الدروع التقديرية على عائلات الشهداء وسط تصفيق وهتاف الجماهير، بينما قام عدد من الشبان بحمل والد الشهيد ونجله براء على الأكتاف فوق المنصة(77).



أما مدينة غزة التي احتضنت جثمان الشهيد وودعته بما يليق بالقادة الأبطال، فقد أبت إلا أن تحيي المهندس بمهرجان تأبيني أعلنت من خلاله أنها قبلت التحدي. ففي يوم الجمعة الموافق 12/1/،1996 ضاق ملعب اليرموك بأكثر من عشرين ألف من أبناء فلسطين، ولم يعد هناك موطىء قدم. وبدأ الحفل بآيات من الذكر الحكيم ثم انطلق صوت عريف الحفل الشيخ محسن أبو عيطة هادراً ومعلناً لترتفع صور الشهيد يحيى عياش، فانطلقت البالونات وهي تحمل صور الشهيد صاعدة إلى السماء كما صعدت روح الشهيد. وهنا، رفع الآلاف صور الشهيد عالياً، وقام شبان ملثمون بإحراق علم الكيان الصهيوني. ومع بداية المهرجان، أرسل الشيخ محسن أبو عيطة برقية عاجلة إلى بيريز معلناً: «أننا قبلنا التحدي، ودفعنا ضريبة التحدي ولكن فاتورة الحساب لم تغلق، بل لم تفتح بعد. إننا على موعد لأن دمنا غال. ولن يذهب هدراً، فالدم يطلب الدم». وهنا، ظهر ملثمون من حركة حماس وهم يحملون صور المهندس، ويقفون فوق العلم الإسرائيلي، ويؤدون التحية العسكرية للشهيد القائد(78).



وتقدمت شقيقة الشهيد صلاح جاد الله برسالة نيابة عن زوجة المهندس مؤكدة أن يحيى لم يمت فهو حي في السماء وشبحه على الأرض يلاحق الأعداء. وأضافت ابنة حماس بأن يحيى طارده جيش بأكمله، وطارد هو جيشاً بأكمله، وتساءلت من انتصر، عياش أم الجيش؟ وهنا، هتف آلاف المواطنين بصوت واحد: عياش. وفي هذه اللحظات، تقدمت عناصر ملثمة ومكشوفة من كتائب عز الدين القسام، ودخلت بين الأجساد المتلاصقة لتصعد إلى المنصة وتؤدي التحية العسكرية للشهيد القائد وسط زخات من الرصاص والزغاريد والهتاف باختلاط عجيب، لم يعد المرء معه أن يفرق بينها. وقال أحد عناصر الكتائب: «لقد جئنا لنقول للمسؤولين في جهاز المخابرات الإسرائيلية ولزعماء دولة اليهود أنكم ستدفعون ثمن إرهابكم غالياً. نعم، لقد قتلتم المهندس، ولكنه ترك خلفه طابوراً من المهندسين». وعاهدت الكتائب الجماهير بألا يهدأ لهم بال حتى يصلوا لما يرض هذه الجماهير ويشف صدورها.وتحدث المهندس إبراهيم غوشة عبر الهاتف، ثم ألقى الدكتور محمود الزهار كلمة نيابة عن حركة حماس في قطاع غزة، تبعه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي عبر الهاتف من دمشق، فقال الدكتور رمضان شلح: «إننا نبارك للشهيد ولوالدته وزوجته، ولحماس وللشعب الفلسطيني وأمتنا وأبارك جوهرة فلسطين وتاج الأمة، المهندس يحيي عياش». كما تحدث عبر الهاتف من دمشق أيضاً، أحمد جبريل -الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة)- فأكد أن الحديث عن رجل مثل يحيى عياش صعب وأن تضحياته وما قدمه من أجل فلسطين وعزتها قد جعله في مقدمة الرجال(79).



وعاشت منطقة رام الله واللواء في عرس حاشد حيث نظمت الحركة الإسلامية مهرجانات تأبينية للشهيد يحيى عياش في مدينة رام الله والبيرة ومخيم الأمعري. ففي يوم الجمعة الموافق 12/1/،1996 أقام مركز شباب الأمعري مهرجاناً تأبينياً في ساحة المركز ألقيت فيه كلمات عددت مناقب الشهيد. وتخلل المهرجان أيضاً الأناشيد الإسلامية والوطنية وعروض الكشافة(80).



وعبر أجواء حماسية، ووسط هتافات التحية للمهندس الذي تناثرت صوره الفوتوغرافية الملصقة على الصدور، تجمع أكثر من أربعين ألفاً في ساحة مدرسة الفرندز للبنين، يميناً وشمالاً وعلى جميع أسطح البنايات وحول الأسلاك الشائكة المحيطة بالملعب، من أجل المشاركة في إحياء مهرجان التقدير والاحترام للشهيد القائد وإعزازاً وإكباراً ومؤازرة لأهله وذويه. وقد بدأ المهرجان الذي جرى يوم السبت الموافق 13/1/،1996 بمسيرة كشفية انطلقت من مدرسة بنات البيرة الثانوية وسار خلفها شباب مدينتي رام الله والبيرة الذين تجمعوا من أجل تقديم واجبهم الإسلامي والوطني، وصاحب ذلك أيضاً عروض لمجموعة من الخيالة أطلق عليها (خيالة عياش). ثم افتتح المهرجان بتلاوة عطرة من آيات الذكر الحكيم، تبعها كلمة الكتلة الإسلامية في جامعة بير زيت، فكلمة المفوض السياسي لشرطة رام الله. كما تحدث المهندس إبراهيم غوشة عبر مكالمة هاتفية مسجلة بثت في المهرجان أكد فيها بأن دم الشهيد لن يذهب هدراً، وأن المجرمين الصهاينة سيدفعون الثمن آجلاً أم عاجلاً. ومن جهته، ألقى الدكتور محمد صرصور -نائب رئيس جامعة بيرزيت للشؤون المالية والإدارية- كلمة حيا فيها أهل الشهيد وأشاد به معدداً المناقب التي امتاز بها منذ تقدمه بطلب الالتحاق بالجامعة عام ،1984 ونقل تعازي رئيس الجامعة والطلبة لذوي الشهيد وأبناء الحركة الإسلامية(81).



وألقى والد الشهيد كلمة شكر فيها الحضور وكل الشعب الفلسطيني، وقال مخاطباً الجمهور: «في كل مرة حدثت فيها عملية عسكرية كانوا يقولون لي: مات عياش فيها، ولكني كنت أقول لهم: الله يرضى عليه،إن الشعب كله عياش». فتعالت الهتافات من قبل الجمهور: «كلنا يحيى عياش، بالروح بالدم نفديك يا عياش». وهنا، وقفت زوجة الشهيد تخاطب الجماهير قائلة: «والله إني لأعتز وأفتخر أن أكون زوجة للشهيد البطل يحيى عياش، وأقول لليئا رابين الحمد لله الذي جعلها تخسر زوجها قبل أن يهنأ بمقتل زوجي، إنها الآن حزينة على فراق زوجها، أما أنا فإني فخورة باستشهاد زوجي». فكانت هذه الكلمات وقوداً إضافياً لحماس الجماهير(82). وألقت لجنة المؤسسات الوطنية والإسلامية في مدينتي رام الله والبيرة كلمة في المهرجان أشادت فيها بالمهندس كرمز من رموز الحركة الوطنية والإسلامية، تبعها كلمة حركة حماس ألقاها الشيخ حسن يوسف، أعقبها تكريم لأهالي الشهداء(83).



ولم تتخلف مدينة جنين عن عرس الشهيد، فأقامت الحركة الإسلامية يوم الثلاثاء الموافق 16/1/1996 مهرجاناً تأبينياً حاشداً حضره نحو خمسين ألفاً من الرجال والنساء بالإضافة إلى ممثلين عن كافة الفصائل الفلسطينية وأهالي الشهداء يحيى عياش ورائد زكارنة وعمار عمارنة. وأكد الشيخ جمال سليم في الكلمة التي ألقاها باسم حركة حماس أن يحيى عياش احتل المرتبة الأولى في قلوب وضمائر الناس وأن استشهاده وحد الشعب الفلسطيني الذي هتف بأكمله باسم يحيى عياش. وفيما وجه المفوض السياسي للسلطة الفلسطينية في جنين تحيات الإجلال والإكبار للشهيد وكافة شهداء الشعب الفلسطيني، اعتبر عدنان الصباح في كلمته باسم الجبهتين الشعبية والديمقراطية أن الشعب موحد خلف شهداءه. كما تحدث الدكتور همام سعيد -النائب في البرلمان الأردني- عبر الهاتف، مؤكداً أن حركة الإخوان المسلمين في الأردن ستبقى تدعم نهج الجهاد وأنها لا تعترف باتفاقيات السلام. وألقى الشيخ جمال أبو الهيجاء، الناطق باسم الحركة الإسلامية في جنين، كلمة أيضاً تبعه خالد سعيد بقصيدة رثاء للشهيد يحيى عياش. وعبرت زوجة المهندس في كلمة عاطفية ألقتها في المهرجان أنها تفتخر بأن تكون زوجة ليحيى وأنها تحتسبه عند الله تعالى. وتخلل الاحتفال أناشيد وهتافات ورفعت فيه لافتات ضخمة رسمت عليها صور الشهيد(84).



وفي ذكرى أربعين الشهيد يحيى عياش، نظمت الكتلة الإسلامية في جامعة القدس مهرجان (عرس الشهادة) ضمن فعاليات (أسبوع العهد والوفاء) في قاعة كلية العلوم والتكنولوجيا بأبو ديس يوم 14/2/1996. وبدأ المهرجان بتلاوة آيات من الذكر الحكيم ثم كلمة الشيخ حسن يوسف، تبعه الشاعر خالد السعيد الذي استعرض عدة خواطر وأبيات كتبها في استشهاد المهندس. وعدد شقيق الشهيد في كلمته مناقب المهندس شاكراً القائمين على المهرجان وكافة الحضور، ثم ألقى أحد الطلبة كلمة الكتلة الإسلامية. وفي نهاية المهرجان الذي حضره جموع من المواطنين والشخصيات والطلاب وتخلله الأناشيد والهتافات، قدمت الكتلة الإسلامية الدروع لوالد الشهيد وبإصرار عياش ونجل الشهيد زهير فراح بالإضافة إلى درع شهيد مجزرة الحرم الإبراهيمي حاتم الفاخوري(85).



وبتجمع ما يقرب من أربعين ألفاً في ساحة الشهداء بوسط مدينة قلقيلية، أقام أنصار حركة (حماس) يوم الجمعة الموافق 23/2/1996 مهرجاناً تأبينياً للمهندس يحيى عياش بحضور العديد من الشخصيات التي تمثل مختلف الفصائل الفلسطينية، حيث رفعت الأعلام واللافتات وأطلقت الشعارات التي تندد بسياسة الاحتلال. وألقى الشيخ حسن يوسف كلمة حماس، فدعا إلى ضرورة إطلاق سراح المعتقلين في السجون الإسرائيلية وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين(86).



5- المواليد الجدد يحملون اسم يحيى عياش



تحول اسم (يحيى عياش) إلى أحد الأسماء المحبوبة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تخليداً لذكرى المهندس الأسطورة،إذ قامت (25) عائلة فلسطينية بإطلاق اسم (يحيى عياش) على مواليدها الذين ولدوا أيام الجمعة والسبت والأحد. ونقلت الصحف العبرية عن ذوي ثلاثة مواليد ذكور ولدوا في مشافي قطاع غزة يومي السبت والأحد وأطلق عليهم اسم (يحيى عياش) قولهم إن المهندس يحيى عياش يعتبر «قائداً فذاً وبطلاً قومياً وشعبياً والإفراج به». وذكر والد أحد هؤلاء الأطفال، وهو عضو في حركة فتح: «لست عضواً في حماس، إنني فلسطيني فخور جداً ببطولة المهندس... لقد أصبح شهيداً وهو يرقد الآن في جنان الخلد، لقد قررت إعطاء ابني هذا الاسم تخليداً لذكرى يحيى عياش، وآمل أن يصبح ابني مثله»(87).



6- أهالي الجولان يعزون بالمهندس



نظمت الفعاليات الشعبية والوطنية والبلديات في مرتفعات الجولان السورية المحتلة وفداً، قام بزيارة منزل عائلة الشهيد يحيى عياش في قرية رافات لتقديم التعازي نيابة عن أهالي الهضبة لآل عياش. وقد أعلن الوفد خلال الزيارة تضامن أهل الجولان الكامل مع عائلة المهندس، واستنكارهم لعملية الاغتيال. كما عبر الوفد عن استيائه للتصعيد الخطير من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وسياسة التصفية الجسدية التي تقوم بها ضد المجاهدين الفلسطينيين. وجاء في كلمة رئيس الوفد بأن المهندس يعتبر نموذجاً للكفاح الفلسطيني وظاهرة جديدة حازت على ثقة الشعب الفلسطيني(88).



7- غضب شعبي في الأردن



أصابت الشارع الأردني حالة من الذهول في أعقاب الإعلان عن اغتيال المهندس، وسادت حالة من الحزن والشعور بالألم والمرارة في الأوساط الشعبية التي رأت في استشهاده خسارة كبيرة. وقد أظهر التعاطف الواسع مع الشهيد يحيى عياش وعائلته أنه لم يعد حكراً على حركة حماس أو الشعب الفلسطيني، بل تكرس كأسطورة ورمز وبطل وطني وقومي. فمظاهر الحزن كانت واضحة على وجوه المواطنين الذين تابعوا باهتمام كبير عبر وسائل الإعلام تفاصيل جريمة الاغتيال. ووقفت الفعاليات الأردنية الشعبية والحزبية وقفة تستحق التقدير، إذ توافدت هذه الفعاليات بالعشرات و المئات على بيوت العزاء ومهرجانات التأبين في عمان والزرقاء واربد، وسجل معظمهم كلماتهم المعبرة عن موقفهم إزاء الشهيد والحادث الجلل. كما أفردت الصحافة مساحات واسعة من صفحاتها لتغطية تفاصيل الجريمة التي احتلت صدر صفحاتها الأولى، بعد أن كانت تتابع باهتمام بالغ، ومنذ عدة شهور أخبار المهندس قبل استشهاده(89).



ففي مدينة عمان، توافد عشرات الآلاف من أبناء العشائر الأردنية والمخيمات الفلسطينية على بيت العزاء الذي أقامه ممثل حركة حماس بالأردن للتعبير عن تأييدهم للخط الجهادي الذي سارعليه الشهيد وعن إدانتهم للجريمة الغادرة. وكان من بين المشاركين رؤساء حكومات سابقون ووزراء، وقادة وأعضاء المكاتب السياسية، واللجان المركزية للأحزاب السياسية إضافة إلى ممثلين عن القوى والهيئات والنقابات والاتحادات الطلابية والجمعيات الخيرية في المملكة الأردنية(90).

وقام وفد من المجلس الوطني الفلسطيني بتقديم التعازي، وكتب سليم الزعنون في سجل التعازي العبارات التالية: «عندما عجزت الجيوش أن تقتل من الإسرائيليين -بل قتل الإسرائيليون مئات الآلاف زيادة عما قتلنا، وعندما عجز الفدائيون أن يقتلوا من الإسرائيليين، بل قتل الإسرائيليون أضعاف ما قتلنا جاء هذا الرجل الذي لم يتجاوز الثلاثين من العمر ليثأر لنا جميعاً.. ثأر للجيوش، وثأر للفدائيين، وثأر للأقدمين، وأعطى مثالاً حياً، وأعطى خوفاً ورعباً، وأعطى سجلاً في التاريخ سيبقى على مدى الدهر»(91).



كما أقيمت صلاة الغائب بعد صلاة يوم الجمعة الموافق 12/1/1996 وتليت أدعية على روح الشهيد وأرواح شهداء الإسلام. وأطلق على أحد مساجد عمان، اسم (مسجد الشهيد يحيى عياش) بدلاً من الاسم الذي كان يحمله، وهتف عدة مئات من جمهور كرة القدم في العاصمة بحياة الشهيد، أثناء مسيرة قصيرة عقب خروجهم من ستاد عمان الدولي مساء يوم الجمعة الموافق 12/1/،1996 ودعوا في هذه الهتافات أيضاً إلى الثأر والانتقام من قتلة الشهيد(92).



وأقامت جماعة الإخوان المسلمين مهرجاناً تأبينياً في مسجد الجامعة الأردنية تحدث فيه كل من المحامي عبد المجيد ذنيبات (المراقب العام) والنائبين أحمد الكوفحي وإبراهيم زيد الكيلاني. وقد اتسم المهرجان الذي حضره آلاف المصلين الذين ضاقت بهم جنبات المسجد وساحاته الخارجية بالإشادة بالشهادة والشهداء(93).



أما في مدينة الزرقاء، فقد استقبل أعمام الشهيد الزوار المهنئين في استشهاد المهندس يوم الثلاثاء الموافق 9/1/،1996 حيث تجمهر عدد كبير جداً وحضرت شخصيات إسلامية ووطنية عدة بالإضافة إلى نواب حزب جبهة العمل الإسلامي وممثلي حركتي حماس والجهاد الإسلامي بالأردن(94).



وأقام حزب جبهة العمل الإسلامي (فرع مأدبا) حفلاً تأبينياً للشهيد شارك فيها كل من النائب همام سعيد والأستاذ عبد الحفيظ علاوي يوم الثلاثاء الموافق 15/1/1996(95). كما أقامت الحركة الإسلامية في مدينة اربد جنازة رمزية ومسيرة، وتحدث في الجمهور الحاشد كل من الدكتور على العتوم والنائب أحمد الكوفحي(96). وأقام اتحاد الطلبة في جامعة اليرموك حفلاً تأبينياً للشهيد القائد في ذكرى مرور أربعين يوماً على الجريمة. وقدر عدد الحضور بنحو (700) طالب وطالبة(97).



وكان هناك العديد من الفعاليات التي لم تر النور، ومنها على سبيل المثال، الحفل التأبيني الذي دعت إليه نقابة المهندسين الأردنيين تكريماً للشهيد الذي أطلق اسمه على قاعة المحاضرات الرئيسة في مقر النقابة. ويذكر بأن الشهيد يحيى عياش يعد عضواً في نقابة المهندسين الأردنيين تحت رقم (7418) بقسم هندسة الكهرباء منذ عام 1993(98).



8- غضب وحداد يجتاح مخيمات لبنان



وداع المهندس في جنبات المخيمات الفلسطينية بلبنان لم يكن أقل غضباً من وداعه في شتى بقاع الزمان والمكان الفلسطينية. فقد نامت آلاف العيون الفلسطينية المثقلة بمرارات الشتات واللجوء اليومية وهي تكذب الخبر، لتصحو من جديد متسوحة بالحداد والفرح، حيث امتزج حزن الناس بفرحهم، واختلطت الدموع بالزغاريد في خضم مشاعر متناقضة أصبحت على مر فصول الحكاية الفلسطينية حكراً على الفلسطينيين وحدهم. فشاتيلا، وبرج البراجنة، ومار الياس، وعين الحلوة والبص، والرشيدية، ونهر البارد والبداوي وغيرها من المخيمات ازدانت جدرانها بصور الشهيد القائد، فيما علقت الرايات السوداء، والرايات الخضراء المزينة بالشهادتين على أسطع المنازل، وامتلأت ساحات الجدران بعبارات مثل: «عياش لم يكن الأول ولن يكون الأخير»، و«لن نقبل بأقل من رأس بيريز أو شاحال.. قسماً سنثأر» و«تلاميذ القائد عياش يعاهدون على الانتقام الموجع والسريع للشهيد القائد»، و«عياش.. سيد الشهداء وليس أخرهم»(99).



المخيمات لم تتردد لحظة بالحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام. ففي مخيم برج البراجنة، أقيم في نادي الأقصى عزاءً مركزياً للشهيد أمه الآلاف من أبناء المخيمات حيث جرى تعليق عشرات الصور للشهيد وتصدرت لوحة ضخمة للشهيد عز الدين القسام صدر القاعة. ووقف مصطفى اللداوي -ممثل حماس في لبنان- لاستقبال المعزين والمهنئين ومنهم عشرات القادة الفلسطينيين من ممثلي الفصائل واللجان والروابط الشعبية في المخيمات الفلسطينية بالإضافة إلى حشد كبير من الشخصيات اللبنانية. وأكد جميع المتحدثين على إدانتهم للجريمة وتحميلهم سلطة الحكم الذاتي جانباً من المسؤولية. كما أجمع الشباب والشيوخ والأطفال الذين حضروا العزاء أن الشهيد القائد الذي أقض مضاجع الاحتلال سيخلفه تلاميذه في الانتقام له والمقاومة ضد الاحتلال(100).



وأقام تحالف القوى الفلسطينية في لبنان مجلس عزاء وتبريك بذكرى ثالث المهندس يحيى عياش في قاعة الشهداء بمخيم مار الياس شاركت فيه وفود حزبية لبنانية وحشد من أبناء المخيمات. كما أقامت الجماعة الإسلامية في منطقة صيدا احتفالاً تأبينياً للمهندس في مخيم عين الحلوة يوم الأحد الموافق 7/1/،1996 حضره الآلاف من أبناء المخيم، وتحدث فيه كل من الشيخ ماهر حمود -عضو تجمع العلماء المسلمين- والأستاذ علي الشيخ عمار -مسؤول الجماعة الإسلامية- ومصطفى اللداوي(101).



وفي مدينة طرابلس، أقامت الجماعة الإسلامية مهرجاناً حاشداً لتأبين الشهيد في قاعة كبيرة بأحد المساجد العمرية وسط المدينة، وتحدث خلال المهرجان كل من مصطفى اللداوي والشيخ سعيد شعبان -أمير حركة التوحيد الإسلامية- والنائب الدكتور فتحي يكن حيث أثنوا على بطولات الشهيد والشعب الفلسطيني. وطالبوا أبناء الشعب الفلسطيني بالثأر ومواصلة الجهاد حتى التحرير وطرد الاحتلال(102).



وفي إطار التضامن والمؤازرة، أبرق حزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي وحركة التوحيد الإسلامية وتجمع اللجان والروابط الشعبية في المخيمات والفصائل الفلسطينية وعدد من النواب في مجلس النواب اللبناني إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) معزين باستشهاد المهندس(103).



وفي ذكرى مرور أسبوع على استشهاد يحيى عياش، أقام حزب الله مهرجاناً حاشداً في حسينية السيدة فاطمة الزهراء ببيروت حضره الشيخ حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، والشيخ فيصل مولوي (الأمين العام للجماعة الإسلامية)، ومحمد نزال (ممثل حركة حماس في الأردن) وعدد من كبار الشخصيات السياسية في حزب الله والفصائل الفلسطينية في لبنان بالإضافة إلى سفير إيران في بيروت. وألقى الشيخ حسن نصر الله كلمة أكد فيها أن المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال تقف على خط تماس بين أكبر مشروعين يتصارعان على أرضنا، المشروع الغازي المستعمر والمستبد الذي تتغير قياداته ومواقعه ويبقى مضمونه على امتداد التاريخ ومشروع الصحوة والنهضة الذي يريد أن يحافظ على البلاد والعباد والخيرات والمقدرات والسيادة والكرامة والهوية. وأكد محمد نزال من جهته بأن المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني ومقاومة حماس يجمعها خندق واحد، وأن العدو لا يفهم إلا لغة واحدة هي لغة القوة(104). وكانت الصحف اللبنانية ووسائل الإعلام قد أفردت جزءاً كبيراً من صفحاتها، ونشراتها الإخبارية لتغطية جنازة الشهيد في قطاع غزة، وتفاعلات القضية على الساحة الفلسطينية واللبنانية أيضاً.

السيف عدي
07-03-2008, 09:04 AM
أخيرا : أصداء إسرائيلية



«باتت إسرائيل تتنفس بشكل أفضل بعد إعلان وفاته، لقد ألحق الأذى بالعديد من الإسرائيليين، كان يعيش على السيف وبالسيف مات»، هكذا لخص موشيه شاحل الذي كان يشغل منصب وزير الأمن الداخلي في الحكومة الإسرائيلية الأجواء بعد اغتيال يحيى عياش، والذي كان مجرد ذكر اسمه كفيلاً بجعل الإسرائيليين يرتعدون. وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية أول من بث نبأ استشهاد المهندس باعتراف صريح بأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية هي التي نفذت العملية، وهو أمر لم يحصل على سبيل المثال في اغتيال الشهيدين أبو جهاد وفتحي الشقاقي. وهذا يفسر على أنه محاولة لإعادة بث الثقة في صفوف الجمهور الإسرائيلي، خاصة وأن المهندس يعتبر مسؤولاً عن عمليات أسفرت عن سقوط أكثر من أربعمائة إسرائيلي بين قتل وجريح(105).



1- ارتياح سياسي



مظاهر الفرح والارتياح سادت الأوساط السياسية والحزبية، حكومة ومعارضة على حد سواء. ورغم محاولات شمعون بيريز -رئيس الوزراء ووزير الدفاع- إخفاء هذه الحقيقة عبر منع أعضاء حكومته من الإدلاء بأي تصريحات بهذا الخصوص خشية أن تلحق تصريحات من ليست لديه معلومات مفصلة بهذا الشأن الضرر بالدولة العبرية. إلا أن الشواهد كانت أكبر من هذه المحاولات. ففي حين رفض معظم الوزراء الذين سئلوا عن جريمة اغتيال القائد يحيى عياش الإجابة أو الإدلاء بأي تصريح أو تعقيب مكتفين بالقول: «لا تعليق ولست معنياً بالتطرق لهذا الموضوع»، ظهر أربعة منهم على شاشة التلفاز وقد بدا عليهم أجواء الارتياح، لم يستطيعوا معها سوى التصريح بما يشعرون به(106).



يهودا باراك -وزير الخارجية- قال في تعليقه بأن عملية الاغتيال ستمنع المزيد من سفك الدماء على المدى البعيد. واكتفى الوزير يعقوب تسور بالقول: «أزال الله كل أعدائنا»، بينما كان أفرايم سنية أكثر جرأة حين عبر عن سعادته لغياب المهندس قائلاً: «أنا فرح لأنه قتل ولم يعد موجوداً في هذه الحياة»(107). وأما وزير الأديان الإسرائيلي، شمعون شتريت، فقد أشاد بالمسؤولين عن تنفيذ الاغتيال، واعترف في تصريح إذاعي بأنه علم بمقتل المهندس قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية. وأضاف الوزير شتريت: «نحن على علم بأنه قتل. إنه يوم سنتذكره، لأنه الرجل المسؤول عن عدد كبير جداً من الهجمات الانتحارية»(108).



ونقلت الصحف الإسرائيلية التي أفردت صفحات عديدة لنشر تقارير وتحليلات مطولة عن المهندس وردود الفعل الفلسطينية والإقليمية والدولية على جريمة الاغتيال مقابلات مع أعضاء كنيست من مختلف الأطياف السياسية. فقال ايلي دايان -نائب وزير الخارجية- في تعليقه: «إن المهندس يستحق كل عقاب، فأيديه ملطخة بدماء الكثير من اليهود». وأعلن رئيس كتلة حزب العمل في الكنيست، رعنان كوهين من جهته بأن «كل من تلطخت يديه بدم اليهود يجب أن يتذكر بأننا لن نتركه لحظة واحدة، واليوم هو يوم عيد بالنسبة لنا»(109).



ودافع نيسيم زفيلي -الأمين العام لحزب العمل- عن قتل يحيى عياش في قطاع غزة الذي يتمتع بحكم ذاتي وخارج نطاق الإدارة الإسرائيلية، وقال للصحفيين خلال زيارته لفرنسا: «إذا انتظرت حتى يقود شخص سيارته الملغومة أو يستقل حافلة فسيكون الوقت قد فات. ولهذا السبب، لم ينته دور أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وأي فلسطيني كان مطلوباً من قبل لهذه الأجهزة ما زال مطلوباً». ومضي زفيلي قائلاً: «الاستخبارات ظلت تبحث عن المهندس لعدة سنوات دون أن تحرز أي نجاح.. أعرف أنها عملت بجهد كبير من أجل ذلك، وفي بعض الأحيان يحالفك الحظ»(110).



وأذاع راديو الجيش الإسرائيلي مقابلة مع الجنرال أوري أور - نائب وزير الدفاع وعضو الكنيست عن حزب العمل- هاجم فيها بشدة السياسيين الذين أصدروا تصريحات تعقيباً على اغتيال المهندس، ومما جاء في كلامه: «ها أنا أسمع عدد من أعضاء الكنيست الذين لا يعرفون شيئاً، يوزعون الثناء والمديح، من الأفضل لنا أن نصمت. لقد مات وانتهى، وكان للسلطة الفلسطينية مصلحة في ذلك أيضاً». ورغم هذه الكلمات، لم يستطع الجنرال أور لجم لسانه، فاندفع مفتخراً: «سمعت أن المهندس قتل -هناك العديد من الطرق للموت، ولكن ما يهم هو أن هذا الرجل قتل»(111).



كما بارك حجاي ميروم -رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست- للشعب اليهودي تصفية المهندس قائلاً: «إن مقتل المهندس عياش هي بمثابة هدية كبيرة لعملية السلام، وإصابة قاتلة وخطيرة للإرهاب الذي ترتكبه حركة حماس»(112). واتفق رعنان كوهين الذي كان يرأس كتلة حزب ميرتس في الكنيست مع رؤية حجاي ميروم، إذ «أن اغتيال أخطر الإرهابيين لمسيرة السلام يعني إبعاد عقبة رئيسة لاستمرار المسيرة السلمية» على حد تعبيره(113).



وساد الارتياح كذلك في أوساط مختلف الأحزاب الإسرائيلية وممثليها في الكنيست. ففور سماعه لنبأ اغتيال المهندس، سارع بنيامين نتنياهو -زعيم تكتل الليكود- إلى الإعلان «أنه إذا كانت تلك عملية اغتيال فيجب أن نبارك الذين قاموا بالعمل، وقدموا خدمة هامة للغاية لدولة إسرائيل. فالشخص المذكور قتل الكثير من الإسرائيليين ويستحق الموت، وهذه هي الطريقة الوحيدة لمحاربة الإرهاب، ونأمل أن تكون نهاية رفاق عياش مثل نهايته». وبارك رحبعام زئيفى زعيم حركة موليدت- أيضاً عملية اغتيال المهندس الذي وصفه بأن يديه ملطخة بدم الكثير من اليهود. وكان رفائيل ايتان -زعيم حركة تسوميت- أكثر زعماء المعارضة حماساً بدعوته قادة أجهزة الأمن والاستخبارات لمطاردة المجاهدين في كل مكان وفي أي وقت، حيث أختتم تصريحه بالقول: «إذا كان المهندس قتل من قبل رجالنا، فإنهم قدموا خدمة ممتازة للأمن الوطني في إسرائيل وجعلوا المخربين يخشون على حياتهم أينما كانوا»(114).



أما ليئا رابين، زوجة رئيس الوزراء السابق، فقد أعربت عن أسفها لأن اسحق رابين «لم يعش ليرى موت هذا الإرهابي»، إذ أنه اغتيل على يد متطرف يهودي قبل شهرين من مقتل المهندس(115).



2- استنفار عسكري



على الرغم من هذا الابتهاج ومظاهر الارتياح التي سادت الأوساط السياسية والجمهور الإسرائيلي على حد سواء، إلا أن قادة أجهزة الأمن والخبراء والمعلقين العسكريين حذروا من الإفراط في الفرح منبهين بأن المهندس ترك وراءه العشرات من التلاميذ لا يقلون كفاءة عنه. فبعد أن بارك رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست عملية اغتيال المهندس، حذر الشعب الإسرائيلي بألا ينسى أن «المهندس خلف وراءه جيلاً شاباً من المهندسين الذين تعلموا منه نظرية تصنيع المتفجرات، ولذلك يجب أن نستعد جيداً لمنع العمليات الانتحارية ومواصلة نشاطات تصفية تلاميذ المهندس في الضفة الغربية وقطاع غزة»(116).



وفي نفس سياق التحذير، دق الجنرال يعقوب بيري -رئيس الشاباك السابق- ناقوس الخطر حين قال: «إنني أحذر من أن نصاب بحالة من النشوة والغرور، بحيث نعتقد بأن قتل المهندس سيضع حداً للعمليات المسلحة والعبوات الناسفة والعمليات الانتحارية». وأضاف الجنرال بيري بأن عملية الاغتيال «لن تكون الضربة القاضية ولا نهاية المطاف للهجمات الانتحارية التي أبدع المهندس في شق طريقها، وترك وراءه العشرات من تلاميذه الذين لا يقلون كفاءة وقدرة عنه في مواصلة الطريق». ولأن عدد هؤلاء التلاميذ غير معروف، فإن رئيس الشاباك السابق يطالب بتعاون السلطة الفلسطينية مع أجهزة الأمن الإسرائيلية لمواجهة التلاميذ الذين تركهم يحيى عياش في أرجاء الأراضي الفلسطينية، واختتم بيري تحذيره بذكر مناقب الشهيد القائد، وهي الصفات التي أورثها لتلاميذه، فيقول: «إن كفاءة وأهلية المهندس تمثلت بالأساس في خبرته ومعرفته المدهشة والواسعة في مجال إعداد القنابل المفخخة، سواء بواسطة سيارات مفخخة أو عبوات جسمية بشرية، بالإضافة إلى مقدرته العالية على الإفلات من عمليات المطاردة، والتملص من ملاحقة دورية ومستمرة له من جانب جهاز المخابرات العامة وأجهزة الأمن الإسرائيلية الأخرى.



ولذلك، كان عياش أخطر المطلوبين الفلسطينيين لأجهزة الأمن الإسرائيلية التي بذلت جهوداً مضنية من أجل إلقاء القبض عليه خلال السنوات الأخيرة. وإن زوال المهندس وضع حداً لأخطر وأعنف المحاربين الذين عرفناهم»(117).



ومع أن الجنرال جدعون عيزرا -مستشار وزير الشرطة- الذي شغل في السابق منصب نائب رئيس الشاباك ومنسق عمليات البحث عن المهندس تفاخر «إن قتل عياش عملاً عظيماً، وعملاً صهيونياً كبيراً، فأنا لا أذكر مخرباً مسؤولاً عن قتل هذا العدد الكبير من اليهود»، معتبراً أن «هذه هي اللغة التي يفهمها الإسلام المتطرف»، إلا أنه أكد -كسابقه- بأن هناك الكثيرين مثل يحيى عياش. ولهذا، يرى الجنرال عيزرا بأن على الدولة العبرية الاستعداد لمواجهة المزيد من العمليات (الانتحارية) على حد تعبيره(118).



أما روني شيكد، الضابط السابق والمعلق المقرب من أجهزة الأمن، فقد أوضح في تحليل نشره تحت عنوان (من يكون وريث عياش؟) أن «يحيى عياش لم يكرس جهوده فقط في صنع السيارات المفخخة والقنابل البشرية الحية، وإنما عمل على تنشئة جيل من مكملي دربه الذين سبق أن برهنوا في العمليات الانتحارية التي وقعت في رامات اشكول بالقدس، وفي رامات غان قرب تل أبيب أنهم لا يقلون كفاءة عن معلمهم وقادرون على زرع القتل والرعب في إسرائيل. وقائد هذه الخلايا محمد الضيف، الصديق المقرب من المهندس، أوفد مقاتلين من أتباعه للضفة الغربية ويدير خلايا مسلحة لا زالت تنشط وتتواجد في قطاع غزة والضفة الغربية». ويحذر شيكد الجمهور الإسرائيلي فيختتم تصريحه قائلاً: «لقد تغيرت قواعد اللعبة، فالمهندس كان يمثل بالنسبة لحماس رمزاً للكفاح العسكري ضد إسرائيل، وتصفيته تشكل أيضاً نهاية أسطورة. ولذلك، فقد تعهد رفاقه وتلاميذه بالانتقام، ولا بد من أخذ هذه التهديدات على محمل الجد»(119).



شمعون بيريز ترأس فور تلقيه نبأ تنفيذ عملية الاغتيال في الساعة التاسعة صباحاً جلسة ضمت كبار ضباط الشاباك والموساد والاستخبارات العسكرية، وتباحث المجتمعون في الإجراءات اللازمة لمواجهة موجة الغضب التي توقعوا أن تجتاح المناطق الفلسطينية إلى جانب الوسائل الاحترازية الكفيلة بإحباط عمليات الانتقام والثأر التي تخطط لها كتائب الشهيد عز الدين القسام(120).



وفي أعقاب المداولات، اتخذت الهيئة الأمنية العليا التدابير التالية:



أ- إعلان حالة تأهب قصوى في صفوف قوات الجيش والشرطة وحرس الحدود ووحدات المخابرات، وفرض طوق عسكري شامل ومشدد على كامل مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، كما تم تعزيز القوات والدوريات داخل المناطق المحتلة منذ عام ،1948 وفي مدينة القدس

251

وضواحيها بشكل خاص، وطلب من تلك القوات زيادة الدوريات وأعمال تفتيش الأشخاص والسيارات مع إبداء أقصى درجات اليقظة. وفي الإطار ذاته، ألغى الجيش الإسرائيلي الدوريات المشتركة مع الشرطة الفلسطينية في مدن الضفة الغربية التي شملها الحكم الذاتي للحيلولة دون عمليات خطف محتملة للجنود الإسرائيليين(121).

ب- منع عمال الضفة الغربية وقطاع غزة من دخول المناطق المحتلة منذ عام ،1948 وحظر دخول الإسرائيليين إلى مناطق الحكم الذاتي خشية تعرض حياتهم للخطر(122).

ج- تحذير الإسرائيليين والمستوطنين منهم بالضفة الغربية وقطاع غزة على وجه التحديد، والطلب إليهم التزام أقصى درجات اليقظة والحذر(123).

د- تعزيز الحراسة في خطوط المواصلات والأماكن العامة في مختلف أنحاء فلسطين المحتلة. واستخدام كلاب مدربة على اكتشاف المواد المتفجرة في عمليات التفتيش والدورية، إلى جانب تشكيل وحدة خاصة من (400) شرطي مزودين بأسلحة خفيفة (مسدسات وبنادق) لحماية خطوط حافلات الركاب ومحطات النقل العام(124).



هـ- ولتفادي انفجار سيارات مفخخة، أوصى خبراء المتفجرات رجال الشرطة باعتبار سيارات الفلسطينيين المتوقفة بطريقة غير منتظمة وفي مكان غير معهود أو تلك التي تنقل أجساماً غريبة أو أسطوانات غاز أو المتوقفة في نفس المكان منذ زمن مشبوهة ويجب تفتيشها من قبل خبراء المتفجرات(125).



و- تشديد التدابير والرقابة الأمنية حول السفارات والممثليات والمؤسسات الإسرائيلية في مختلف أنحاء العالم تحسباً لوقوع أي هجمات انتقامية محتملة(126).



3- أسئلة حول التوقيت



تركت عملية اغتيال الشهيد يحيى عياش أثرها العميق على الأجواء العامة في الأراضي الفلسطينية وفي الدولة العبرية على حد سواء. ففلسطينياً، فتحت العملية الباب واسعاً لإجراء قراءات وتكهنات كثيرة، إذ أنها جاءت بعد تنفيذ عملية انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية، وقبيل إجراء الانتخابات العامة للمجلس التشريعي الفلسطيني. وأما إسرائيلياً، فقد أثارت العملية عدداً كبيراً من التعليقات حيث استعرض الكتاب زوايا مختلفة ومحاور وقراءات سياسية وعسكرية واستخبارية وإعلامية. وما نحن الآن بصدده، هو تلك التعليقات حول توقيت الاغتيال ومدى ملاءمته للظروف السياسية والأمنية.

المعلق حامي شكيف، أحد كتاب الأعمدة في صحيفة معاريف، لم يستطع الجزم إن كانت العملية قد جاءت في وقت ملائم، وإن كان قد أشار أن شمعون بيريز الذي أمر شخصياً بتنفيذ العملية كان بحاجة ماسة إلى تعزيز مكانته في الشارع الإسرائيلي، لأن الانطباع السائد عنه أنه متهاون مع العرب، وعلى استعداد لتقديم تنازلات لهم أكثر مما كان سيوافق عليه اسحق رابين لو كان حياً على حد تعبيره. ويضيف شكيف: «الاغتيال كشف عن القبضة الحديدية لبيريز، فرئيس الوزراء أراد إسكات اليمين الذي يتهمه بالتخلي عن أمن إسرائيل بجعل المدن التي انسحبت منها قوات الجيش ملاذاً لأفراد حركتي حماس والجهاد الإسلامي. واغتيال المهندس جاء ليثبت بأن مناطق الحكم الذاتي غير آمنة لهم والانسحاب لا يحول دول الوصول إليهم»(127). ويشير شكيف إلى أن بيريز كان بحاجة إلى الدعم الشعبي وكامل الثقل السياسي لتخفيف حمى الانتخابات الإسرائيلية العامة ولإقناع حزبه بأن تسريع المفاوضات وبخاصة مع السوريين لا يعني تقليص الفرص للفوز في انتخابات الكنيست القادمة(128).



وفي مسألة التوقيت، تساءل المعلق العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت فيما إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي استطاعت فيها أجهزة الأمن الإسرائيلية الاقتراب من المهندس بهذا القدر، وإذا لم يكن الأمر كذلك، يتساءل أليكس فيشمان: لماذا تقرر إنزال الإصبع عن الزناد في المرات السابقة؟ وإن كان قد تقرر في السابق تأجيل تصفيته لأسباب تتعلق بتوقيت غير ملائم، سياسياً أو تنفيذياً، فلماذا تقرر اغتياله الآن بالذات، حيث أن هذا الموعد حساس للغاية بالنسبة لإسرائيل وبالنسبة للسلطة الفلسطينية؟ وهل كان هناك من اعتقد بأن الأمر يتعلق بفرصة لن تتكرر، ودفع بذلك، جميع الاعتبارات الأخرى جانباً؟». ويضيف فيشمان: «لم يكن ذلك مجرد اغتيال لقاتل أهدر دمه من قبل رئيسي حكومة بل كان اغتيالاً محكماً بأسلوب كان يحيى عياش نفسه سيفرح لو سجله في كراسة عمله، لقد خاطبوه بلغته وبأدواته. إن «المهندس» الذي حصل على هذا اللقب في مداولات هيئة المناطق لدى وزير الدفاع اسحق رابين في حينه، اغتيل، وليس كل مطلوب حظي بالاهتمام من قبل رئيس الحكومة، ولكي يعلن عن المخرب أن دمه مهدور، أي هدف معلن للتصفية، فعليه أن يكون رمزاً تخدم تصفيته سياسة ردع معينة، ثمة تصفيات هادئة لا تصل إلى وسائل الإعلام وهدفها قضم القدرة التنفيذية لهذا التنظيم أو ذاك، وثمة تصفيات علنية مخصصة لوسائل الإعلام بهدف إرسال تلميح ردعي واضح: ليس لأي من قادة الإرهاب حصانة.



إن ضرورة تصفيته كانت واضحة، ولكن ضمن هذه الصيغة ثمة مجهول واحد: اختيار التوقيت فهل كانت هذه المرة الأولى التي يجلس فيها عياش على أهبة الاستعداد؟ وإذا كان لا، لماذا تعذر رفع الإصبع عن الزناد في المرات السابقة؟ هل تقرر في السابق تأجيل تصفيته لأسباب تتعلق بعدم ملاءمة الوقت أو الظروف السياسية أو الميدانية، لماذا يتم اغتياله الآن فقط، عشية الانتخابات للسلطة الفلسطينية التي تعتبر بالنسبة لإسرائيل والسلطة الفلسطينية موعداً حساساً على وجه الخصوص وحجر الزاوية في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين؟ هل هناك من آمن بوجود فرصة تاريخية لن تتكرر ولهذا السبب ألقى بكل الاعتبارات جانباً؟ أو ربما كان ثمة قرار حرك العملية التي لا يمكن وقفها؟



إن اغتيال عياش إنجاز ميداني مثير وجدير بالتقدير والثناء، ولكن مسألة التوقيت يكتنفها الغموض بصورة لا تقل عن الغموض الذي يكتنف العملية نفسها»(129).



أما يوسي ميلمان، الخبير في شؤون الاستخبارات، فقد اعتبر أنه «حين تقررت تصفيته أخذ خطر استئناف الاعتداءات في الاعتبار». ولكن ميلمان يضيف «توفرت فرصة لذلك، وتمت الاستفادة منها لتصفية حساب قديم مع شخص يداه ملوثتان بهذا القدر من الدماء الإسرائيلية». ومن جهته، اعتبر البروفيسور ارييل ميراري، الأستاذ في جامعة تل أبيب والخبير في شؤون الإرهاب، أن «حماس ستسعى للقيام باعتداءات مثيرة حفاظاً على صورتها، ولتظهر أن قدراتها لم تتأثر بقتل عياش». ويختتم البروفيسور ميراري تعليقه بالتأكيد أن اغتيال المهندس «لن يغير شيئاً في سياسة هذه المنظمة التي لم تتخل يوماً عن اللجوء إلى قوة السلاح»(130).



وتحت عنوان (توازن الرعب)، يعلق يوسي لبيد في صحيفة معاريف على اغتيال المهندس، فيبرر توقيت العملية حيث جاء في مقاله: «إن اغتيال عياش ربما لم يكن عملاً ذكياً، ولكنه كان ضرورياً، لم يكن ذكياً لأن قتل المهندس يقوي حركة حماس ويثير نزعة الانتقام ويشوش على عملية الانتخابات في المناطق، ويمس بالتعايش مع الفلسطينيين، ولو كانت النظرة السياسية هي التي تحسم الموقف لما تم تصفية عياش. ولكن الاعتبارات الأمنية هي التي حسمت الموقف هنا، وليس الاعتبارات السياسية. إن قتل المهندس كان ضرورياً لأن إسرائيل لا تستطيع التسليم ببقاء فلسطينياً قام بقتل عشرات اليهود وبجرح المئات حراً طليقاً وبطلاً بين شعبه. ولذلك فإن الحديث هنا يجري عن انتقام بكل معنى الكلمة: فالعدالة يجب أن تحل، والعلاقات بيننا وبين أعدائنا يجب أن تستند إلى توازن الرعب، وقاتل اليهود يجب أن يعرف أنه سيعاقب»(131).

ومن بين الذين عارضوا توقيت عملية الاغتيال، آلون بن مئير الذي كتب مقالاً بعنوان (اغتيال يحيى عياش لم يخدم عملية السلام)، جاء فيه: «يتوجب على الحكومة الإسرائيلية التي كانت كما يبدو وراء عملية اغتيال يحيى عياش الملقب بـ «المهندس» أن تفكر بشكل جدي إذا ما كانت هذه العملية حكيمة ومناسبة في هذه المرحلة من العملية السلمية الفلسطينية - الإسرائيلية، والجواب بالطبع هو «لا» كبيرة.



لقد عملت الاستراتيجية الإسرائيلية لمناهضة العنف والتي تقضي بتصفية منفذيه بشكل جيد عبر السنوات، وحسب أقوال مصدر من الاستخبارات الإسرائيلية، منعت هذه السياسة وقوع عمليات لأن رجال المنظمات علموا بأن أي ظرف سياسي لن يمنع العملاء السريين الإسرائيليين من ملاحقتهم. لكن على الرغم من نجاح هذه الاستراتيجية، فإن اغتيال عياش قبل الانتخابات الفلسطينية الأولى وفي وقت يقف فيه الشعبان على مفترق طرق تاريخي، يعتبر عملاً أحمقاً ومدمراً.



ومن المسلم به أن عياش قد سبب خسائر وألماً ومعاناة للكثير من الإسرائيليين، لكن السؤال ليس فيما إذا كان عياش يستحق الموت، بل السؤال هو إن كان موته «سيشفي» بعد الجروح التي تسبب بها أو سيكلف الكثير من الإسرائيليين معاناة أكبر وأعظم. وفوق ذلك فإن من الصعب إدراك المنطق الذي يقول بأن موت عياش قد يعزز الهدف المشترك في المصالحة بين الجانبين، ومن الواضح جداً أن رئيس الشاباك المتحمس أكثر من اللازم هو الذي أقنع بيريز بوضع استراتيجية الملاحقة التي لا تكل ولا تمل فوق الاعتبارات السياسية العملية. وبعد أن أقيل من منصبه بسبب فشله في منع اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين، سعى رئيس المخابرات العامة إلى رد الاعتبار لنفسه ولجهازه قبل تخليه عن منصبه بالقيام بعمل أخير، عمل يتعلق أكثر بكرامته الجريحة من أن يبرهن على بصيرته الجيدة في خدمة بلده.



لقد زاد الاغتيال غير الحكيم لعياش من الشكوك الجدية والخطيرة بين الفلسطينيين حول التزام إسرائيل بالعملية السلمية، كما ألحقت عملية الاغتيال ضرراً بالحوار بين السلطة الفلسطينية وحماس، ذلك الحوار الذي توصل الطرفان من خلاله إلى تفاهم بعدم تشويش الانتخابات، وهو التفاهم الذي كان سيتطور أخيراً إلى اتفاق. كما سببت عملية الاغتيال خيبة أمل للكثيرين من أعضاء حماس المعتدلين الذين كانوا على استعداد لإعطاء السلام فرصة، كما أنها أحرجت السلطة الفلسطينية، وبدلاً من أن تضعف حماس، زادتها قوة. وقد زادت عملية الاغتيال من مصداقية المتطرفين الذين قالوا بأن إسرائيل تريد تدميرهم بغض النظر عما يفعلون. وأخيراً، جددت عملية الاغتيال ديناميكية الغضب بين الفلسطينيين، مما جعلهم يتبنون موقفاً سلبياً من العملية السلمية وتزعزعت ثقتهم بكلا الطرفين.



إن استراتيجية إسرائيل المناهضة للعنف والتي تعتمد اعتماداً كبيراً على قدرتها الاستخبارية المكلفة في جمع المعلومات وتكنولوجيتها المتطورة وضرباتها الانتقامية السريعة، قد نجحت بالتأكيد في خفض مستوى أعمال العنف ضد إسرائيل، وفي جعل رجال المنظمات في حال هروب دائم، لكن فعالية ونجاعة هذه الاستراتيجية تختفي اختفاء حاداً عندما تفشل في التكيف مع المناخ السياسي المتغير.



إن من الحماقة أن تعتقد الحكومة الإسرائيلية بأنها تستطيع إجبار حماس على الاستسلام أو أن تتخلى رسمياً عن أعمال العنف، فذلك لن يحدث مع حماس. فاغتيال عياش لن يؤدي سوى إلى استفزاز حماس للقيام بهجوم انتقامي، وبذلك تتجدد دورة العنف لتحصد أرواح المزيد من الإسرائيليين ممن سيموتون بسبب قصر نظر حكومتهم. وسواء اتخذ بيريز قرار اغتيال عياش لأنه أراد تبديل الرأي القائل بأنه متهاون تجاه القضايا المتعلقة بالأمن القومي، أو لأنه استسلم لحاجة ورغبة رئيس جهاز الاستخبارات في إنقاذ سمعته المحطمة، فإن نتيجة هذا العمل ستحدث ضرراً لإسرائيل والفلسطينيين»(132).

السيف عدي
07-03-2008, 09:07 AM
الهوامش :

1) الإذاعة الإسرائيلية، 17/4/،1995 نشرة 30:1. ومعاريف، 29/10/1994 نقلاً عن الدستور، العدد ،9780 13/11/،1994 ص11.

(2) زئيف شيف، «هدف مركزي للشباك»، هآرتس، 7/1/1996.

(3) يديعوت أحرونوت، 7/1/1996 نقلاَ عن صحيفة الشعب (مصر)، العدد ،1027 23/1/،1996ص7.

(4) معاريف، 12/1/1996.

(5) هآرتس، 9/1/1996 نقلاً عن الرأي، العدد ،9265 10/1/،1996 ص 34.

(6) معاريف، 23/10/1994 نقلاً عن السبيل، العدد ،54 8/11/،1994 ص 14.

(7) يديعوت أحرونوت، 22/10/1994.

(8) يديعوت أحرونوت، 23/10/1994نقلاً عن السبيل، العدد ،54 8/11/،1994 ص14.

(9) يروشاليم، 13/10/1995 نقلاً عن القدس المقدسية، العدد ،9386 14/10/،1995 ص3.

(10) الإذاعة الإسرائيلية، 13/4/،1995 نشرة 30:8.

(11) الإذاعة الإسرائيلية، 12/4/،1995 نشرة 30:12.

(12) معاريف، 3/10/1995 نقلاً عن القدس المقدسية، العدد ،9377 5/10/،1995 ص9.

(13) صوت المرأة (الأردن)، العدد 57- ،34 1/11/،1995 ص14.

(14) الراية (المغرب)، العدد ،159 29/،1995ص11.

(15) الاوبزيرفر البريطانية، 11/6/1995.

(16) معاريف، 4/12/1994 نقلاً عن الرأي، العدد ،8871 5/12/،1994 ص22.

(17) الإذاعة الإسرائيلية12،/4/،1995 نشرة 30:12. والإذاعة الإسرائيلية، 13/4/،1995 نشرة 30:7.

(18)الحياة، العدد ،11738 11/4/،1995 ص5.

(19) هآرتس، 25/7/1995 نقلاً عن الرأي ، 26/7/1995.

(20) الرأي، العدد ،8828 23/10/،1994 ص 48.

(21) هآرتس، 27/1/1995 نقلاً عن القدس العربي، العدد 1742 ، 28/1/1995 ص10.

(22) السبيل، العدد ،97 19/9/،1995 ص1.

(23) المحرر (باريس)، العدد 81/،323 2/10/،1995 ص 16.

(24) معاريف، 22/8/1995 نقلاً عن القدس المقدسية، العدد ،9334 23/8/،1995 ص6.

(25) الدستور، العدد ،10055 22/8/،1995 ص18.

(26) الرأي، 21/4/1994.

(27) الحياة، العدد ،11842 25/7/،1995 ص4.

(28) يديعوت أحرونوت، 25/4/1995. ودافار، 21/9/1995 نقلاً عن النهار المقدسية، العدد ،3042 23/9/،1995 ص10.

(29) الإذاعة الإسرائيلية، 21/1/،1995 نشرة 30:9.

(30) الإذاعة الإسرائيلية، 25/11/1994.

(31) يديعوت أحرونوت، 11/4/1995 نقلاً عن القدس العربي، العدد ،1783 12/4/،1995 ص4.

(32) المرجع السابق.

(33) معاريف، 13/2/1995 نقلاً عن الشرق الأوسط، العدد ،5922 14/2/،1995 ص3.

(34) الدستور، العدد ،9802 5/12/،1994 ص25.

(35) الرأي، العدد ،9045 4/6/،1995 ص21.

(36) الوطن (غزة)، العدد ،5 5/1/،1995 ص2.

(37) صوت الحق والحرية، 23/6/1995.

(38) المحرر (باريس)، العدد 80/،322 25/9/،1995 ص5.

(39) صوت الحق والحرية، 10/11/،1995 ص5.

(40) معاريف، 27/1/1995 نقلاً عن الحياة، العدد ،11666 28/1/،1995 ص5.

(41) صوت الشعب، العدد ،4164 14/12/،1994 ص14.

(42) الدستور، العدد ،10060 27/8/،1995 ص27.

(43) الشرق الأوسط، العدد ،1933 26/7/،1995 ص5.

(44) هآرتس، 1/2/1995.

(45) معاريف، 23/8/1995 ويديعوت أحرونوت، 22/8/1995 نقلاً عن القدس العربي، العدد ،1958 24/8/،1995 ص10.

(46) يروشلايم، 25/6/1995 نقلاً عن الرأي، العدد ،9130 28/8/،1995 ص36.

(47) مناحيم ديغلي في صحيفة معاريف، 7/1/1996 ترجمة نواف الزرو.

(48) تسغى غيلات وموشيه زوندر في معاريف، 12/1/1996 ترجمة نواف الزرو.

(49) المحرر (باريس)، العدد ،284 26/12/،1994 ص2.

(50) هآرتس، 4/9/1995.

(51) الأوبزيرفر البريطانية، 11/6/،1995 ص14.

(52) الرأي، العدد ،9130 28/8/،1995 ص36. والرأي، العدد ،9261 6/1/،1996 ص20.

(53) الدستور، العدد ،9278 23/6/،1993 ص24.

(54) صوت الشعب، العدد ،3669 8/7/1993.

(55) الوطن (غزة)، العدد ،14 19/3/،1995 ص6. والرأي، العدد ،9041 31/5/،1995 ص34.

(56) الوطن (غزة)، العدد ،14 9/3/،1995 ص6. والسبيل، العدد ،78 2/5/،1995 ص12.

(57) الرأي، 7/11/1994. والمحرر (باريس) العدد 284/ ،42 26/12/،1994 ص2.

(58) الرأي، العدد ،8849 13/11/،1994 ص48.

(59) الدستور، 18/12/1994.

(60) الوطن (غزة)، العدد ،12 23/2/،1995 ص16.

(61) القدس المقدسية، العدد ،9209 18/4/،1995 ص3.

(62) السبيل، العدد ،98 26/9/،1995 ص1.

(63) يروشاليم نقلاً عن النهار المقدسية، العدد ،3063 14/10/1995.

(64) القدس المقدسية، العدد ،9382 10/10/،1995 ص1.

(65) مقابلة مع مجلة عبير، العدد ،42 السنة،9 كانون الثاني ،1996 ص37. والنهار المقدسية، العدد ،3079 30/10/،1995 ص8.

(66) النهار المقدسية، العدد ،3079 30/10/،1995 ص8.

(67) المرجع السابق.

(68) الرأي، العدد ،9236 12/12/،1995 ص33.

(69) القدس العربي، العدد ،1985 25/9/،1995 ص5. والرأي، العدد ،9159 26/9/،1995 ص29.

(70) القدس المقدسية، العدد ،9383 11/10/،1995 ص3.

(71) القدس المقدسية، العدد ،9563 10/4/،1996 ص3. والدستور، العدد ،10431 6/9/،1996 ص17.

(72) الدستور، العدد ،10259 15/3/،1996 ص20.

(73) الرأي، العدد ،9439 6/7/،1996 ص23.

(74) الأوبزيرفر البريطانية، 11/6/،1995 ص14.

(75) الدستور، العدد ،10085 21/9/5991P ص24.

(76) الوطن (غزة)، العدد ،30 2/11/،1995 ص5.

(77) السبيل، العدد ،102 24/10/،1995 ص6. والرأي، العدد ،9166 26/9/،1995 ص40.

(78) مجلة عبير، العدد ،42 السنة ،9 كانون الثاني ،1996 ص26 وص29.

(79) القدس المقدسية، العدد ،9559 6/4/،1996 ص1.

(80) الرأي، العدد ،9446 13/7/،1996 ص56.

(81) الإذاعة الإسرائيلية، 12/4/،1995 نشرة 30:13.

(82) معاريف، 24/10/1994.

(83) الوطن (غزة)، العدد ،8 السنة الأولى، 26/1/،1995 ص3.

(84) دافار، 14/4/1995 نقلاً عن الرأي، العدد ،8999 15/4/،1995 ص22.

(85) يديعوت أحرونوت نقلاً عن الأسواق (الأردن)، العدد ،254 3/5/،1994 ص18.

(86) الرأي، العدد ،8385 31/7/،1993 ص18.

(87) القدس المقدسية، العدد ،8930 9/7/،1994 ص4.

(88) الرأي، 27/12/1994.

(89) الرأي، العدد ،8983 30/3/،1995 ص34.

(90) الرأي، العدد ،9490 26/8/،1996 ص43.

(91) الرأي، العدد ،9053 12/6/،1995 ص42.

(92) الإذاعة الإسرائيلية، 30/7/،1995 نشرة 30:12.

(93) يديعوت أحرونوت، 13/11/1994.

(94) النهار المقدسية، 16/10/1994.

(95) الرأي، العدد ،8922 25/1/،1995 ص18.

(96) النهار المقدسية، العدد ،3014 26/8/،1995 ص8.

(97) بيان صحفي باسم منظمة العفو الدولية (امنستي) التي تتخذ من لندن مقراً لها نشر بتاريخ 17/8/1995.

(98) القدس المقدسية، العدد ،9353 11/9/،1995 ص2.

(99) «حقوق الإنسان: عام الآمال الضائعة»، تقرير منظمة العفو الدولية - الأمانة الدولية، مايو/ أيار ،1995 رقم الوثيقة: MDE 15/07/95، ص ص14-16.

(100) الرأي، العدد ،8926 29/1/،1995 ص25. والسبيل، العدد ،65 24/1/،1995 ص15.

(101) مجلة العالم (لندن)، العدد ،529 نيسان (إبريل) ،1995 ص11.

(102) عال همشمار، 24/1/1995 نقلاً عن القدس العربي، العدد ،1741 27/1/،1995 ص10.

(103) الدستور، العدد ،9940 25/4/،1995 ص33.

(104) القدس العربي، العدد ،1746 3/2/،1995 ص5.

(105) الرأي، العدد ،8971 18/3/،1995 ص26.

(106) الأسواق، العدد ،495 12/2/،1995 ص14.

(107) رؤوبين شابيرا في هآرتس، 8/2/،1995 نقلاً عن القدس العربي، العدد ،1753 11/2/،1995 ص10.

(108) يديعوت أحرونوت، 3/12/1995 نقلاً عن الأسواق، العدد ،744 5/12/،1995 ص18.

(109) يديعوت أحرونوت، 28/3/1995.

(110) يديعوت أحرونوت، 19/9/1994. والإذاعة الإسرائيلية، 15/12/1994.

(111) الحياة، العدد ،11797 10/6/،1995 ص4. والحياة، العدد ،11871 23/8/،1995 ص6.

(112) هآرتس، 8/10/1995.

(113) هآرتس، 10/10/1995.

(114) الحياة، العدد ،11873 25/8/،1995 ص4.

(115) الإذاعة الإسرائيلية، 24/8/،1995 نشرة 30:12. والرأي، العدد ،9161 28/9/،1995 ص16.

(116) الأهرام المصرية، العدد ،39725 30/8/1995.

(117) الرأي، العدد ،9128 26/8/،1995 ص49.

(118) المجد (الأردن)، العدد ،73 4/9/،1995 ص1.

(119) المجد، العدد ،75 18/9/،1995 ص1.

(120) الحياة، العدد ،11878 30/8/،1995 ص4. والدستور، العدد ،10063 30/8/،1995 ص24.

(121) السبيل، العدد ،99 2/10/،1995 ص7.





هوامش الفصل الرابع



(1) مجلة الوطن العربي، العدد ،134 ص32.

(2) المرجع السابق، ص ص 32 - 33.

(3) الأنوار اللبنانية، العدد ،12474 6/1/،1996 ص1. والرأي الأردنية، العدد ،9263 8/1/1996.

(4) المجد (الأردن)، العدد ،91 8/1/،1996 ص1.

(5) الحياة (لندن)، العدد ،12007 8/1/1996.

(6) الدستور، العدد ،10195 9/1/،1996 ص20.

(7) المجد، العدد ،92 15/1/،1996 ص1.

(8) كل العرب (الناصرة)، العدد ،422 12/1/،1996 ص32.

(9) الرأي، العدد ،9263 8/1/1996.

(10) كل العرب، العدد ،422 12/1/،1996 ص32. والسبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص3.

(11) الديار اللبنانية، العدد ،2644 8/1/،1996 ص1.

(12) السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص6. والدستور، العدد ،10197 11/1/،1996 ص16.

(13) القدس المقدسية، العدد ،9479 15/1/،1996 ص3.

(14) القدس المقدسية، ،9472 8/1/،1996 ص3.

(15) الأسواق (الأردن)، العدد ،774 9/1/،1996 ص19. والبيادر السياسي، العدد ،643 13 كانون ثاني ،1996 ص24.

(16) السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص3.

(17) الديار، العدد ،2644 8/1/،1996 ص11.

(18) النهار المقدسية، العدد ،3146 6/1/،1996 ص ص 1و7.

(19) القدس العربي، العدد ،2073 8/1/،1996 ص5.

(20) منبر الحق - ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص14.

(21) الرأي، العدد ،9266 11/1/،1996 ص28.

(22) الحدث (الأردن)، العدد ،28 10/1/،1996 ص8.

(23) المرجع السابق، ص8.

(24) العالم (لندن)، العدد ،539 شباط (فبراير) ،1996 ص13.

(25) عن الرأي، العدد ،9273 18/1/،1996 ص21.

(26) الغارديان، 18/1/،1996 نقلاً عن السبيل، العدد ،115 23/1/1996.

(27) مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص13.

(28) مقابلة نشرت في مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثالث، السنة ،14 آذار (مارس) 1996.

(29) سعيد بدران في معاريف، 14/1/1996.

(30) منبر الحق - ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص2.

(31) المرجع السابق، ص7.

(32) فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص7.

(33) البيادر السياسي، العدد ،643 13 كانون ثاني ،1996 ص6.

(34) السبيل، العدد ،113 السنة الثالثة، 9/1/،1996 ص7.

(35) المرجع السابق، ص7. والأسواق، العدد ،772 7/1/،1996 ص18.

(36) السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص7. ومنبر الحق -ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص7.

(37) الرأي، العدد ،9261 6/1/،1996 ص21. والسبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص7.

(38) منبر الحق - ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص7.

(39) الأسواق، العدد ،772 7/1/،1996 ص18.

(40) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص6.

(41) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص5.

(42) الشرق الأوسط، العدد ،6248 6/1/،1996 ص4.

(43) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص5.

(44) المرجع السابق، ص7.

(45) النهار المقدسية، العدد ،3146 6/1/،1996 ص23.

(46) القدس المقدسية، العدد ،9471 7/1/،1996 ص6.

(47) الأنوار اللبنانية، العدد ،12474 6/1/،1996 ص15.

(48) الأسواق، العدد ،772 7/1/1996. ومنبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص3.

(49) الرأي، العدد ،9261 6/1/،1996 ص20.

(50) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص6.

(51) عن السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص10.

(52) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص6.

(53) السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص10.

(54) الأسواق، العدد ،775 10/1/،1996 ص18.

(55) السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص10.

(56) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص6.

(57) السبيل، العدد ،128 7/5/،1996 ص14.

(58) مجلة كل العرب (الناصرة)، العدد ،422 12/1/،1996 ص33.

(59) البيادر السياسي، العدد ،643 13 كانون الثاني ،1996 ص4. والديار اللبنانية، العدد ،2643 7/1/،1996 ص1.

(60) السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص6. والديار اللبنانية، العدد ،2643 7/1/،1996 ص1.

(61) الشرق الأوسط، العدد ،6249 7/1/،1996 ص3.

(62) تقرير غازي حمد في السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص6.

(63) المرجع السابق، ص6. والشرق الأوسط، العدد ،6249 7/1/،1996 ص3. والقدس المقدسية، العدد ،9471 7/1/،1996 ص23.

(64) السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص6. والبيادر السياسي، العدد ،643 13 كانون الثاني ،1996 ص4.

(65) الديار، العدد ،2643 7/1/،1996 ص1 وص11.

(66) السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص6.

(67) مجلة كل العرب، العدد،422 12/1/،1996 ص33. ومنبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص3.

(68) المرجع السابق. والسفير، العدد ،7281 8/1/1996.

(69) عطا عياش، «ذكريات الشهادة (3)»، السبيل، العدد ،129 14/5/،1996 ص14.

(70) القدس المقدسية، العدد ،9472 8/1/،1996 ص3.

(71) الأسواق، العدد ،803 12/2/،1996 ص14.

(72) فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص8.

(73) معاريف، 14/1/1996.

(74) السبيل، العدد ،119 27//،1996 ص16.

(75) منبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص6.

(76) القدس المقدسية، العدد ،9476 12/1/،1996 ص1.

(77) القدس المقدسية، العدد ،9506 11/2/،1996 ص1 وص22. والدستور الأردنية، العدد ،10228 11/2/،1996 ص21.

(78) السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص10.

(79) المرجع السابق، ص10.

(80) القدس المقدسية، العدد ،9477 13/1/،1996 ص4.

(81) الحياة الجديدة (غزة)، العدد ،148 السنة الأولى، 14/1/،1996 ص4. والقدس المقدسية، العدد ،9478 14/1/،1996 ص23.

(82) الحياة الجديدة (غزة)، مرجع سابق، ص4. والسبيل، العدد ،129 14/5/،1996 ص14.

(83) الحياة الجديدة، مرجع سابق، ص4.

(84) القدس المقدسية، العدد ،9481 17/1/،1996 ص3.

(85) الأسواق الأردنية، العدد ،806 15/2/،1996 ص15.

(86) الرأي، العدد ،9308 24/2/،1996 ص15.

(87) معاريف، 8/1/1996 نقلاً عن مجلة كل العرب، العدد ،422 12/1/،1996 ص3. ومنبر الحق ملحق صوت الحق والحرية (أم الفحم)، 12/1/،1996 ص6.

(88) السبيل، العدد ،115 23//،1996 ص7.

(89) المجتمع (الكويت)، العدد ،1184 16/1/،1996 ص26.

(90) السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص1.

(91) مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص14.

(92) المجد (الأردن)، العدد ،92 15/1/،1996 ص1.

(93) مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص15. والسبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص2.

(94) المرجع السابق، ص10.

(95) الرأي، العدد ،9298 14/1/،1996 ص3.

(96) السبيل، العدد ،114 16/1/،1996 ص4.

(97) المجد، العدد ،99 4/3/،1996 ص2.

(98) المرجع السابق، ص2.

(99) السبيل، العدد ،113 9/1/،1996 ص6.

(100) مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص17.

(101) السفير اللبنانية، العدد ،7282 9/1/1996.

(102) مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص18.

(103) السفير اللبنانية، العدد ،7282 19/1/1996.

(104) الحياة، العدد ،12014 15/1/،1996 ص3.

(105) السفير، 6/1/،1996 ص1. والدستور، العدد ،10192 6/1/،1996 ص33.

(106) معاريف، 7/1/1996.

(107) دافار، 7/1/1996 نقلاً عن القدس المقدسية، العدد ،9472 8/1/1996.

(108) الشرق الأوسط، العدد ،6248 6/1/،1996 ص4.

(109) دافار، 7/1/1996 نقلاً عن فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص21.

(110) الحياة، العدد ،12026 27/1/،1996 ص4.

(111) القدس المقدسية، العدد ،9472 8/1/1996. والرأي، العدد ،9261 6/1/،1996 ص21.

(112) الإذاعة الإسرائيلية، نشرة 30:،12 7/1/1996.

(113) المرجع السابق.

(114) دافار، 7/1/1996. والقدس المقدسية، العدد ،9472 8/1/1996.

(115) الحياة، العدد ،12007 8/1/،1996 ص4.

(116) دافار، 7/1/1996 نقلاً عن فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص21.

(117) الرأي الأردنية، العدد ،9263 8/1/،1996 ص18.

(118) دافار، 7/1/1996 نقلاً عن مجلة فلسطين المسلمة، العدد الثاني، السنة ،14 شباط (فبراير) ،1996 ص21.

(119) يديعوت أحرونوت، 7/1/1996 نقلاً عن الرأي، العدد ،9263 8/1/،1996 ص18.

(120) البيادر السياسي، العدد ،643 13 كانون الثاني ،1996 ص24.

(121) الحياة، العدد ،12007 8/1/،1996 ص4.

(122) الرأي، العدد ،9263 8/1/،1996 ص19.

(123) هآرتس، 14/1/1996.

(124) البلاد (رام الله)، العدد ،13 9/1/،1996 ص ص1 و15.

(125) المرجع السابق، ص15.

(126) الحياة، العدد ،12008 9/1/،1996 ص4.

(127) البيادر السياسي، العدد ،643 13 كانون الثاني ،1996 ص ص 24 - 25.

(128) الرأي، العدد ،9263 8/1/،1996 ص18.

(129) يديعوت أحرونوت، 7/1/1996 نقلاً عن القدس العربي، العدد ،2073 8/1/،1996 ص10.

(129) الحياة، العدد ،12007 8/1/،1996 ص4.

(130) معاريف، 7/1/1996.

(131) القدس المقدسية، العدد ،9488 24/1/،1996 ص13.





صدر من منشورات «فلسطين المسلمة»



1- حرب الأيام السبعة

<غسان دوعر>

2- لمن نحمل الرصاص (مجموعة قصصية)

<جهاد الرجبي>

3- القسام (رواية)

<عبد الله الطنطاوي>

4- هكذا أبعدوني

<غسان هرماس>

5- عماد عقل : أسطورة الجهاد والمقاومة (الطبعة الثانية)

<غسان دوعر>

6- شعارات الانتفاضة

<طارق محمد وإبراهيم محمد>

7- حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية (الطبعة الثانية - مزيدة ومنقحة)

<د. صلاح الخالدي>

8- اتفاق أوسلو وتداعياته

<منير شفيق>

9- سجل المبعدين في مرج الزهور

<بإشراف د. عبد الفتاح العويسي>

10- الطريق إلى القدس

<د. محسن محمد صالح>

11- موعد مع الشاباك

<غسان دوعر>

12- الأرض المقدسة بين الماضي والحاضر والمستقبل

<إبراهيم العلي>

13- المهندس .. قصة الشهيد الرمز يحيى عياش

<غسان دوعر>

14- اتفاق أوسلو المسار والمآل

<منير شفيق>

** حوار المرحلة مع الشيخ راشد الغنوشي

<إعداد وتقديم ياسر الزعاترة>

نسمة بلادي
07-03-2008, 06:30 PM
رااااااااااااائع

موضوع يستحق التثبيت

ذاك الزمن زمن العياش ما أجمله من زمن

رجل أحيا في قلوبنا التصميم والارادة

افتخرت به فلسطين بل العالم أجمع

رحلت عنااا يا قااائدنا ونحن نتمنى أن تعود أيامك

المشرقة المكللة بالعطاء للوطن ...

لكن هؤلاء هم رجال الامة يقدمون ويضحون بأنفسهم فدا لله عز وجل أولا

ثم للوطن فيرحلون بسرعة ... وتتجدد فلسطين بانبات أشبالا يحملون

اسم العياش فحب الوطن يعيش فينا ....

بارك الله فيك أخيـ موضوع متعوب عليه

لي عودة لتكملة قرائة الموضوع

وبوركت جهود الاستاذ الفاضل (* ياسر زعاترة*)

السيف عدي
07-03-2008, 10:32 PM
رااااااااااااائع

موضوع يستحق التثبيت

ذاك الزمن زمن العياش ما أجمله من زمن

رجل أحيا في قلوبنا التصميم والارادة

افتخرت به فلسطين بل العالم أجمع

رحلت عنااا يا قااائدنا ونحن نتمنى أن تعود أيامك

المشرقة المكللة بالعطاء للوطن ...

لكن هؤلاء هم رجال الامة يقدمون ويضحون بأنفسهم فدا لله عز وجل أولا

ثم للوطن فيرحلون بسرعة ... وتتجدد فلسطين بانبات أشبالا يحملون

اسم العياش فحب الوطن يعيش فينا ....

بارك الله فيك أخيـ موضوع متعوب عليه

لي عودة لتكملة قرائة الموضوع

وبوركت جهود الاستاذ الفاضل (* ياسر زعاترة*)


تسلمي اختي على الكلمات الرائعة ،، والحقيقة الشهيد يحيى عياش انسان مناضل

ومن اللي وظفوا مهنتهم في الجهاد وهو اسمى انواع الجهاد ،، جهاد بالعلم والمال والنفس..

وانا كملت تعديل المشاركه ميشان تكون ادق وبشكل اكمل .

في ملاحظة صاحب الكتاب مش ياسر الزعاترة .. ياسر الزعاتره هو مؤلف اخر مرجع في الفهرس.

اتمنى تكون المشاركه هلا بشكل ادق واوضح.